الباحث القرآني
* بابُ ما أوْجَبَ اللَّهُ تَعالى مِن أداءِ الأماناتِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ اخْتَلَفَ أهْلُ التَّفْسِيرِ في المَأْمُورِينَ بِأداءِ الأمانَةِ في هَذِهِ الآيَةِ مَن هم، فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ ومَكْحُولٍ وشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أنَّهم وُلاةُ الأمْرِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: " إنَّها نَزَلَتْ في عُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ، أمَرَ بِأنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ مَفاتِيحُ الكَعْبَةِ " .
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ: " هو في كُلِّ مُؤْتَمَنٍ عَلى شَيْءِ "؛ وهَذِهِ أوْلى؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ﴾ خِطابٌ يَقْتَضِي عُمُومُهُ سائِرَ المُكَلَّفِينَ فَغَيْرُ جائِزٍ الِاقْتِصارُ بِهِ عَلى بَعْضِ النّاسِ دُونَ بَعْضٍ إلّا بِدَلالَةٍ؛ وأظُنُّ مَن تَأوَّلَهُ عَلى وُلاةِ الأمْرِ ذَهَبَ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ لَمّا كانَ خِطابًا لِوُلاةِ الأمْرِ كانَ ابْتِداءُ الخِطابِ مُنْصَرِفًا إلَيْهِمْ؛ ولَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ إذْ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ أوَّلُ الخِطابِ عُمُومًا في سائِرِ النّاسِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ خاصًّا في وُلاةِ الأمْرِ عَلى ما ذَكَرْنا في نَظائِرِهِ في القُرْآنِ وغَيْرِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: ما اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الإنْسانُ فَهو أمانَةٌ، فَعَلى المُؤْتَمَنِ عَلَيْها رَدُّها إلى صاحِبِها؛ فَمِنَ الأماناتِ الوَدائِعُ وعَلى مُودَعِيها رَدُّها إلى مَن أوْدَعَهُ إيّاها، ولا خِلافَ بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ أنَّهُ لا ضَمانَ عَلى المُودَعِ فِيها إنْ هَلَكَتْ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهِ الضَّمانُ، ذَكَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ أنَسٍ قالَ: " اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بِضاعَةً فَضاعَتْ مِن بَيْنِ ثِيابِي، فَضَمَّنَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ " .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا حامِدُ بْنُ (p-١٧٣)مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا شُرَيْحٌ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ هِشامِ بْنِ حَسّانَ عَنْ أنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: " اُسْتُودِعْتُ سِتَّةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فَذَهَبَتْ، فَقالَ لِي عُمَرُ: ذَهَبَ لَكَ مَعَها شَيْءٌ ؟ قُلْتُ: لا، فَضَمَّنَنِي " .
ورَوى حَجّاجٌ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ: أنَّ رَجُلًا اسْتُودِعَ مَتاعًا فَذَهَبَ مِن بَيْنِ مَتاعِهِ، فَلَمْ يُضَمِّنْهُ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقالَ: هي أمانَةٌ. وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ الفَضْلِ قالَ: حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «مَنِ اسْتُودِعَ ودِيعَةً فَلا ضَمانَ عَلَيْهِ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ هاشِمٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُبَيْهٍ الحَجَبِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا ضَمانَ عَلى راعٍ ولا عَلى مُؤْتَمَنٍ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ ﷺ: «لا ضَمانَ عَلى مُؤْتَمَنٍ» يَدُلُّ عَلى نَفْيِ ضَمانِ العارِيَّةِ؛ لِأنَّ العارِيَّةَ أمانَةٌ في يَدِ المُسْتَعِيرِ؛؛ إذْ كانَ المُعِيرُ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْها؛ ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في نَفْيِ ضَمانِ الوَدِيعَةِ إذا لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ المُودَعُ. وما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ في تَضْمِينِ الوَدِيعَةِ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ المُودَعُ اعْتَرَفَ بِفِعْلٍ يُوجِبُ الضَّمانَ عِنْدَهُ، فَلِذَلِكَ ضَمَّنَهُ.
* * *
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ضَمانِ العارِيَّةِ بَعْدَ اخْتِلافٍ مِنَ السَّلَفِ فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وجابِرٍ وشُرَيْحٍ وإبْراهِيمَ: " أنَّ العارِيَّةَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ " . ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ: " أنَّها مَضْمُونَةٌ " . وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ: " هي غَيْرُ مَضْمُونَةٍ إذا هَلَكَتْ " وهو قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ. وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: " المُسْتَعِيرُ ضامِنٌ لِما اسْتَعارَهُ إلّا الحَيَوانَ والعَقْلَ؛ فَإنِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ في الحَيَوانِ والعَقْلِ الضَّمانَ فَهو ضامِنٌ " .
وقالَ مالِكٌ: " لا يَضْمَنُ الحَيَوانَ في العارِيَّةِ ويَضْمَنُ الحُلِيَّ والثِّيابَ ونَحْوَها " . وقالَ اللَّيْثُ: " لا ضَمانَ في العارِيَّةِ ولَكِنَّ أبا العَبّاسِ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ كَتَبَ إلَيَّ بِأنْ أُضَمِّنَها فالقَضاءُ اليَوْمَ عَلى الضَّمانِ ": وقالَ الشّافِعِيُّ: " كُلُّ عارِيَّةٍ مَضْمُونَةٌ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: والدَّلِيلُ عَلى نَفْيِ ضَمانِها عِنْدَ الهَلاكِ إذا لَمْ يَتَعَدَّ فِيها أنَّ المُعِيرَ قَدِ ائْتَمَنَ المُسْتَعِيرَ عَلَيْها حِينَ دَفَعَها إلَيْهِ، وإذا كانَ أمِينًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمانُها؛ لِأنّا رَوَيْنا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا ضَمانَ عَلى مُؤْتَمَنٍ» وذَلِكَ عُمُومٌ في نَفْيِ الضَّمانِ عَنْ كُلِّ مُؤْتَمَنٍ.
وأيْضًا لَمّا كانَتْ مَقْبُوضَةً بِإذْنِ مالِكِها لا عَلى شَرْطِ الضَّمانِ لَمْ يَضْمَنها كالوَدِيعَةِ. وأيْضًا قَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى نَفْيِ ضَمانِ الثَّوْبِ المُسْتَأْجَرِ مَعَ شَرْطِ بَذْلِ المَنافِعِ إذا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ ضَمانَ بَدَلِ المَقْبُوضِ، فالعارِيَّةُ أوْلى أنْ لا تَكُونَ مَضْمُونَةً؛ إذْ لَيْسَ فِيها ضَمانٌ مَشْرُوطٌ (p-١٧٤)بِوَجْهٍ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ المَقْبُوضَ عَلى وجْهِ الإجارَةِ مَقْبُوضٌ لِاسْتِيفاءِ المَنافِعِ ولَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا، فَوَجَبَ أنْ لا تُضْمَنَ العارِيَّةُ؛ إذْ كانَتْ مَقْبُوضَةً لِاسْتِيفاءِ المَنافِعِ.
وأيْضًا لَمّا كانَتِ الهِبَةُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلى المَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأنَّها مَقْبُوضَةٌ بِإذْنِ مالِكِها لا عَلى شَرْطِ ضَمانِ البَدَلِ وهي مَعْرُوفٌ وتَبَرُّعٌ وجَبَ أنْ تَكُونَ العارِيَّةُ كَذَلِكَ؛ إذْ هي مَعْرُوفٌ وتَبَرُّعٌ. وأيْضًا قَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ العارِيَّةَ لَوْ نَقَصَتْ بِالِاسْتِعْمالِ لَمْ يَضْمَنِ النُّقْصانَ، فَإذا كانَ الجُزْءُ مِنها غَيْرَ مَضْمُونٍ مَعَ حُصُولِ القَبْضِ عَلَيْهِ وجَبَ أنْ لا يَضْمَنَ الكُلَّ؛ لِأنَّ ما تَعَلَّقَ ضَمانُهُ بِالقَبْضِ لا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الكُلِّ والبَعْضِ، كالغَصْبِ والمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فاسِدٍ؛ فَلَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ الجُزْءَ الفائِتَ بِالنُّقْصانِ غَيْرُ مَضْمُونٍ وجَبَ أنْ لا يُضْمَنَ الجَمِيعُ كالوَدائِعِ وسائِرِ الأماناتِ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في ألْفاظِ حَدِيثِ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ في العارِيَّةِ، فَذَكَرَ بَعْضُهم فِيهِ الضَّمانَ ولَمْ يَذْكُرْهُ بَعْضُهم. ورَوى شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمَيَّةَ عَنْ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: «اسْتَعارَ النَّبِيُّ ﷺ مِن صَفْوانَ أدْراعًا مِن حَدِيدٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقالَ لَهُ: يا مُحَمَّدُ مَضْمُونَةٌ فَقالَ: مَضْمُونَةٌ فَضاعَ بَعْضُها، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: إنْ شِئْتَ غَرِمْناها لَكَ فَقالَ: لا، أنا أرْغَبُ في الإسْلامِ مِن ذَلِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ» . ورَواهُ إسْرائِيلُ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ، قالَ: «اسْتَعارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ أدْراعًا فَضاعَ بَعْضُها، فَقالَ: إنْ شِئْتَ غَرِمْناها لَكَ فَقالَ: لا يا رَسُولَ اللَّهِ» . فَوَصَلَهُ شَرِيكٌ وذَكَرَ فِيهِ الضَّمانَ وقَطَعَهُ إسْرائِيلُ ولَمْ يَذْكُرِ الضَّمانَ.
ورَوى قَتادَةُ عَنْ عَطاءٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعارَ مِن صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ دُرُوعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقالَ لَهُ: أمُؤَدّاةٌ يا رَسُولَ اللَّهِ العارِيَّةُ ؟ فَقالَ: نَعَمْ» . ورَوى جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُناسٍ مِن آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوانَ قالَ: أرادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَغْزُوَ حُنَيْنًا؛ وذَكَرَ الحَدِيثَ مِن غَيْرِ ذِكْرِ ضَمانٍ. ويُقالُ إنَّهُ لَيْسَ في رُواةِ هَذا الحَدِيثِ أحْفَظُ ولا أتْقَنُ ولا أثْبَتُ مِن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الحَمِيدِ، ولَمْ يَذْكُرِ الضَّمانَ، ولَوْ تَكافَأتِ الرُّواةُ فِيهِ حَصَلَ مُضْطَرِبًا.
وقَدْ رُوِيَ في أخْبارٍ أُخَرَ مِن طَرِيقِ أبِي أُمامَةَ وغَيْرِهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «العارِيَّةُ مُؤَدّاةٌ» .
وإنْ صَحَّ ذِكْرُ الضَّمانِ في حَدِيثِ صَفْوانَ فَإنَّ مَعْناهُ ضَمانُ الأداءِ، كَما رُوِيَ في بَعْضِ ألْفاظِ حَدِيثِ صَفْوانَ أنَّهُ قالَ: «هِيَ مَضْمُونَةٌ حَتّى أُؤَدِّيَها إلَيْكَ»، وكَما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا الفِرْيابِيُّ قالَ: حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ قالَ: حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي هِنْدٍ: أنَّ أوَّلَ ما ضُمِنَتِ العارِيَّةُ أنَّ رَسُولَ (p-١٧٥)اللَّهِ ﷺ «قالَ لِصَفْوانَ: أعِرْنا سِلاحَكَ وهي عَلَيْنا ضَمانٌ حَتّى نَأْتِيَكَ بِها»، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ إنَّما شَرَطَ لَهُ ضَمانَ الرَّدِّ وذَلِكَ لِأنَّ صَفْوانَ كانَ حَرْبِيًّا كافِرًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَظَنَّ أنَّهُ يَأْخُذُها عَلى جِهَةِ اسْتِباحَةِ مالِهِ كَسائِرِ أمْوالِ الحَرْبِيِّينَ، ولِذَلِكَ«قالَ لَهُ: أغَصْبًا تَأْخُذُها يا مُحَمَّدُ ؟ فَقالَ: لا، بَلْ عارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتّى أُؤَدِّيَها إلَيْكَ وعارِيَّةٌ مُؤَدّاةٌ»؛ فَأخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أنَّهُ يَأْخُذُها عَلى أنَّها عارِيَّةٌ مُؤَدّاةٌ وأنَّهُ لَيْسَ يَأْخُذُها عَلى سَبِيلِ ما تُؤْخَذُ عَلَيْهِ أمْوالُ أهْلِ الحَرْبِ؛ وهو كَقَوْلِ القائِلِ: أنا ضامِنٌ لِحاجَتِكَ، يَعْنِي القِيامَ بِها والسَّعْيَ فِيها حَتّى يَقْضِيَها؛ قالَ الشّاعِرُ يَصِفُ ناقَةً:
؎بِتِلْكَ أُسَلِّي حاجَةً إنْ ضَمِنتَها وأُبْرِئُ هَمًّا كانَ في الصَّدْرِ داخِلا
قالَ أهْلُ اللُّغَةِ في قَوْلِهِ: " إنْ ضَمِنتَها " يَعْنِي إنْ هَمَمْتَ بِها وأرَدْتَها.
وأيْضًا فَإنّا نُسَلِّمُ لِلْمُخالِفِ صِحَّةَ الخَبَرِ بِما رُوِيَ فِيهِ مِنَ الضَّمانِ، ونَقُولُ: إنَّهُ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى مَوْضِعِ الخِلافِ وذَلِكَ لِأنَّهُ قالَ: «عارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» فَجَعَلَ الأدْراعُ الَّتِي قَبَضَها مَضْمُونَةً، وهَذا يَقْتَضِي ضَمانَ عَيْنِها بِالرَّدِّ لا ضَمانَ قِيمَتِها،؛ إذْ لَمْ يَقُلْ أضْمَنُ قِيمَتَها؛ وغَيْرُ جائِزٍ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الحَقِيقَةِ إلى المَجازِ إلّا بِدَلالَةٍ. وأيْضًا فِيما ادَّعى المُخالِفُ إثْباتَ ضَمِيرٍ في اللَّفْظِ لا دَلالَةَ عَلَيْهِ وهو ضَمانُ القِيمَةِ، ولا يَجُوزُ إثْباتُهُ إلّا بِدَلالَةٍ؛ ويَدُلُّ عَلى أنَّها لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً ضَمانَ القِيمَةِ عِنْدَ الهَلاكِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا فَقَدَ مِنها أدْراعًا قالَ لِصَفْوانَ: «إنْ شِئْتَ غَرِمْناها لَكَ»، فَلَوْ كانَ ضَمانُ القِيمَةِ قَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ لَما قالَ: «إنْ شِئْتَ غَرِمْناها لَكَ»
وهُوَ غارِمٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الغُرْمَ لَمْ يَجِبْ بِالهَلاكِ وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّما أرادَ أنْ يَغْرَمَها إذا شاءَ ذَلِكَ صَفْوانُ مُتَبَرِّعًا بِالغُرْمِ ألا تَرى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا اسْتَقْرَضَ مِن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ ثَلاثِينَ ألْفًا في هَذِهِ الغَزاةِ أيْضًا ثُمَّ أرادَ أنْ يَرُدَّها إلى عَبْدِ اللَّهِ أبى عَبْدُ اللَّهِ أنْ يَقْبَلَها فَقالَ لَهُ: " خُذْها فَإنَّ جَزاءَ القَرْضِ الوَفاءُ والحَمْدُ " ؟ فَلَوْ كانَ الغُرْمُ لازِمًا فِيما فُقِدَ مِنَ الأدْراعِ لَما قالَ: «إنْ شِئْتَ غَرِمْناها لَكَ» .
ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ ضامِنًا لِقِيمَةِ ما فُقِدَ أنَّهُ قالَ: لا، فَإنَّ في قَلْبِي اليَوْمَ مِنَ الإيمانِ ما لَمْ يَكُنْ قَبْلُ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّها لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةَ القِيمَةِ؛ لِأنَّ ما كانَ مَضْمُونًا لا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ في الإيمانِ والكُفْرِ.
وقالَ بَعْضُ شُيُوخِنا: إنَّ صَفْوانَ لَمّا كانَ حَرْبِيًّا جازَ أنْ يَشْرِطَ لَهُ ذَلِكَ؛ إذْ قَدْ يَجُوزُ فِيما بَيْنَنا وبَيْنَ أهْلِ الحَرْبِ مِنَ الشُّرُوطِ ما لا يَجُوزُ فِيما بَيْنَنا بَعْضِنا لِبَعْضٍ ألا تَرى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَرْتَهِنَ مِنهُمُ الأحْرارَ ولا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِيما بَيْنَنا ؟ وكانَ أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيُّ يَأْبى هَذا التَّأْوِيلَ (p-١٧٦)ويَقُولُ: لا يَصِحُّ شَرْطُ الضَّمانِ لِأهْلِ الحَرْبِ فِيما لَيْسَ بِمَضْمُونٍ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ شَرَطْنا لَهم ضَمانَ الوَدائِعِ والمُضارَباتِ ونَحْوِها لَمْ يَصِحَّ ؟
واحْتَجَّ مَن قالَ بِضَمانِ العارِيَّةِ بِما رَواهُ شُعْبَةُ وسَعِيدُ بْنُ أبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنِ الحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلى اليَدِ ما أخَذَتْ حَتّى تُؤَدِّيَهُ» ولا دَلالَةَ في هَذا الحَدِيثِ أيْضًا عَلى مَوْضِعِ الخِلافِ؛ لِأنَّهُ إنَّما أوْجَبَ رَدَّ المَأْخُوذِ بِعَيْنِهِ ولَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ ضَمانِ القِيمَةِ عِنْدَ هَلاكِهِ، ونَحْنُ نَقُولُ إنَّ عَلَيْهِ رَدَّ العارِيَّةِ، فَهَذا لا خِلافَ فِيهِ ولا تَعَلُّقَ لَهُ أيْضًا بِمَوْضِعِ الخِلافِ؛ واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
بابُ ما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ مِنَ الحُكْمِ بِالعَدْلِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ [النحل: ٩٠] وقالَ تَعالى: ﴿وإذا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ [الأنعام: ١٥٢] وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسى بْنُ أبِي عُثْمانَ قالَ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ بْنُ حُبابٍ الحُلِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي الرِّجالِ عَنْ إسْحاقَ بْنِ يَحْيى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ ثابِتٌ الأعْرَجُ: أخْبَرَنِي أنَسُ بْنُ مالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا تَزالُ هَذِهِ الأُمَّةُ بِخَيْرٍ ما إذا قالَتْ صَدَقَتْ وإذا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وإذا اسْتُرْحِمْتُ رَحِمَتْ» .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ المُقْرِي عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الأسْلَمِيِّ قالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبّاسٍ، فَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ: " إنَّكَ لَتَشْتُمَنِي وفِيَّ ثَلاثُ خِصالٍ: إنِّي لَآتِي عَلى الآيَةِ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى فَلَوَدِدْتُ بِاَللَّهِ أنَّ النّاسَ كُلَّهم يَعْلَمُونَ مِنها ما أعْلَمُ، وإنِّي لَأسْمَعُ بِالحاكِمِ مِن حُكّامِ المُسْلِمِينَ يَعْدِلُ في حُكْمِهِ فَأفْرَحُ بِهِ ولَعَلِّي لا أُقاضى إلَيْهِ أبَدًا، وإنِّي لَأسْمَعُ بِالغَيْثِ قَدْ أصابَ البَلَدَ مِن بِلادِ المُسْلِمِينَ فَأفْرَحُ بِهِ وما لِي مِن سائِمَةٍ " .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا الحارِثُ بْنُ أبِي أُسامَةَ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ القاسِمُ بْنُ سَلّامٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: " إنَّ اللَّهَ أخَذَ عَلى الحُكّامِ ثَلاثًا: أنْ لا يَتَّبِعُوا الهَوى، وأنْ يَخْشَوْهُ ولا يَخْشَوُا النّاسَ، وأنْ لا يَشْتَرُوا بِآياتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ثُمَّ قَرَأ: ﴿يا داوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأرْضِ فاحْكم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوى﴾ [ص: ٢٦] الآيَةَ؛ وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا﴾ [المائدة: ٤٤] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَخْشَوُا النّاسَ واخْشَوْنِ ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلا ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤] .
{"ayah":"۞ إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّوا۟ ٱلۡأَمَـٰنَـٰتِ إِلَىٰۤ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُوا۟ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا یَعِظُكُم بِهِۦۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِیعَۢا بَصِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق