الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إنَّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكم بِهِ إنَّ اللهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكم فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهَ والرَسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وشَهْرُ بْنُ حَوْشَبَ، وابْنُ زَيْدٍ، هَذا خِطابٌ لِوُلاةِ المُسْلِمِينَ خاصَّةً. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهُوَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ وأُمَرائِهِ، ثُمَّ يَتَناوَلُ مَن بَعْدَهم. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ (p-٥٨٦)وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ خاصَّةً في أمْرِ مِفْتاحِ الكَعْبَةِ حِينَ أخَذَهُ مِن عُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أبِي طَلْحَةَ العَبْدَرِيِّ، ومِنِ ابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمانَ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، فَطَلَبَهُ العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ لِتَنْضافَ لَهُ السِدانَةُ إلى السِقايَةِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ الكَعْبَةَ فَكَسَرَ ما كانَ فِيها مِنَ الأوثانِ، وأخْرَجَ مَقامَ إبْراهِيمَ، ونَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآيَةِ، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: وخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وهو يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، وما كُنْتُ سَمِعْتُها قَبْلُ مِنهُ، فَدَعا عُثْمانَ وشَيْبَةَ فَقالَ لَهُما: « "خُذاها خالِدَةً تالِدَةً لا يَنْزِعُها مِنكم إلّا ظالِمٌ"،» وحَكى مَكِّيُّ أنَّ شَيْبَةَ أرادَ ألّا يَدْفَعَ المِفْتاحَ، ثُمَّ دَفَعَهُ وقالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: خُذْهُ بِأمانَةِ اللهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: واخْتَلَفَ الرُواةُ في بَعْضِ ألْفاظِ هَذا الخَبَرِ زِيادَةً ونُقْصانًا، إلّا أنَّهُ المَعْنى بِعَيْنِهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الآيَةُ في الوُلاةِ بِأنْ يَعِظُوا النِساءَ في النُشُوزِ ونَحْوِهِ، ويَرُدُّوهُنَّ إلى الأزْواجِ، والأظْهَرُ في الآيَةِ أنَّها عامَّةٌ في جَمِيعِ الناسِ، ومَعَ أنَّ سَبَبَها ما ذَكَرْناهُ فَهي تَتَناوَلُ الوُلاةَ فِيما إلَيْهِمْ مِنَ الأماناتِ في قِسْمَةِ الأمْوالِ، ورَدِّ الظُلاماتِ وعَدْلِ الحُكُوماتِ وغَيْرِهِ، وتَتَناوَلُهم ومَن دُونَهم مِنَ الناسِ في حِفْظِ الوَدائِعِ والتَحَرُّزِ في الشَهاداتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، كالرَجُلِ يَحْكُمُ في نازِلَةٍ ما ونَحْوِهِ، والصَلاةُ والزَكاةُ والصِيامُ وسائِرُ العِباداتِ أماناتٌ لِلَّهِ تَعالى، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ يُرَخِّصِ اللهُ لِمُوسِرٍ ولا مُعْسِرٍ أنْ يُمْسِكَ الأمانَةَ. (p-٥٨٧)وَ"نِعِمّا" أصْلُهُ: نِعْمَ ما، سُكِّنَتِ الأُولى وأُدْغِمَتْ في الثانِيَةِ، وحُرِّكَتِ العَيْنُ لِالتِقاءِ الساكِنَيْنِ، وخُصَّتْ بِالكَسْرِ إتْباعًا لِلنُّونِ، و"ما" المُرْدَفَةُ عَلى "نِعْمَ" إنَّما هي مُهَيِّئَةٌ لِاتِّصالِ الفِعْلِ بِها، كَما هي في "رُبَّما" و"مِمّا" في قَوْلِهِ: « "وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِمّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ"» وكَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ وإنّا لَمِمّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً عَلى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِسانَ مِنَ الفَمِ ونَحْوِهِ، وفي هَذا هي بِمَنزِلَةِ "رُبَّما"، وهي لَها مُخالِفَةٌ في المَعْنى، لِأنَّ "رُبَّما" مَعْناها التَقْلِيلُ، و"مِمّا" مَعْناها التَكْثِيرُ، ومَعَ أنَّ "ما" مُوَطِّئَةٌ فَهي بِمَعْنى "الَّذِي" وما وطَّأتْ إلّا وهي اسْمٌ، ولَكِنَّ القَصْدَ إنَّما هو لِما يَلِيها مِنَ المَعْنى الَّذِي في الفِعْلِ. وحَسُنَ الِاتِّصافُ بَعْدَ هَذِهِ المُقَدِّماتِ بِالسَمْعِ والبَصَرِ لِأنَّها في الشاهِدِ مُحَصِّلاتُ ما يَفْعَلُ المَأْمُورُ فِيما أُمِرَ بِهِ. وقوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ﴾، لَمّا تَقَدَّمَ إلى الوُلاةِ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، تَقَدَّمَ في هَذِهِ إلى الرَعِيَّةِ، فَأمَرَ بِطاعَتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وهِيَ: امْتِثالُ أوامِرِهِ ونَواهِيهِ، وطاعَةُ رَسُولِهِ، وطاعَةُ الأُمَراءِ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ: أبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ زَيْدٍ، وغَيْرِهِمْ، وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ومُجاهِدٌ، وجَماعَةٌ: أُولُو الأمْرِ: أهْلُ القُرْآنِ والعِلْمِ، فالأمْرُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ، إشارَةٌ إلى القُرْآنِ والشَرِيعَةِ، أيْ: أُولِي هَذا الأمْرِ وهَذا الشَأْنِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: الإشارَةُ هُنا بِأُولِي الأمْرِ إلى أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ خاصَّةً، وحُكِيَ عن عِكْرِمَةَ أنَّها إشارَةٌ إلى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما خاصَّةً، وفي هَذا التَخْصِيصِ بُعْدٌ. وحَكى بَعْضُ مَن قالَ: "إنَّهُمُ الأُمَراءُ": أنَّها نَزَلَتْ في أُمَراءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وكانَ السَبَبُ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ سَرِيَّةً (p-٥٨٨)فِيها عَمّارُ بْنُ ياسِرٍ، وأمِيرُها خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، فَقَصَدُوا قَوْمًا مِنَ العَرَبِ، فَأتاهم نَذِيرٌ فَهَرَبُوا تَحْتَ اللَيْلِ، وجاءَ مِنهم رَجُلٌ إلى عَسْكَرِ خالِدٍ، فَدَخَلَ إلى عَمّارٍ فَقالَ: يا أبا اليَقْظانِ، إنَّ قَوْمِي قَدْ فَرُّوا، وإنِّي قَدْ أسْلَمْتُ، فَإنْ كانَ يَنْفَعُنِي إسْلامِي بَقِيتُ، وإلّا فَرَرْتُ، فَقالَ لَهُ عَمّارٌ: هو يَنْفَعُكَ فَأقِمْ، فَلَمّا أصْبَحُوا أغارَ خالِدٌ فَلَمْ يَجِدْ سِوى الرَجُلِ المَذْكُورِ، فَأخَذَهُ وأخَذَ مالَهُ، فَجاءَ عَمّارٌ فَقالَ: خَلِّ عَنِ الرَجُلِ فَإنَّهُ قَدْ أسْلَمَ، وإنَّهُ في أمانٍ مِنِّي، فَقالَ خالِدٌ: وأنْتَ تُجِيرُ؟ فاسْتَبّا وارْتَفَعا إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأجازَ أمانَ عَمّارٍ، ونَهاهُ أنْ يُجِيرَ الثانِيَةَ عَلى أمِيرٍ، واسْتَبّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ خالِدٌ: يا رَسُولَ اللهِ، أتَتْرُكُ هَذا العَبْدَ الأجْدَعَ يَسُبُّنِي؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ "يا خالِدُ، لا تَسُبَّ عَمّارًا، فَإنَّهُ مَن سَبَّ عَمّارًا سَبَّهُ اللهُ، ومَن أبْغَضَ عَمّارًا أبْغَضَهُ اللهُ، ومَن لَعَنَ عَمّارًا لَعَنَهُ اللهُ"، فَغَضِبَ عَمّارٌ فَقامَ فَذَهَبَ، فَتَبِعَهُ خالِدٌ حَتّى اعْتَذَرَ إلَيْهِ، فَتَراضَيا، فَأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ قَوْلَهُ: ﴿أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ﴾»، وطاعَةُ الرَسُولِ هِيَ: اتِّباعُ سُنَّتِهِ، قالَهُ عَطاءٌ وغَيْرُهُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الآيَةِ: وأطِيعُوا الرَسُولَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: يُرِيدُ وسُنَّتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. "فَإنْ تَنازَعْتُمْ"، المَعْنى: فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِيما بَيْنَكُمْ، أو أنْتُمْ وأُمَراؤُكُمْ، ومَعْنى التَنازُعِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ يَنْتَزِعُ حُجَّةَ الآخَرِ ويُذْهِبُها. (p-٥٨٩)والرَدُّ إلى اللهِ: هو النَظَرُ في كِتابِهِ العَزِيزِ، والرَدُّ إلى الرَسُولِ: هو سُؤالُهُ في حَياتِهِ، والنَظَرُ في سُنَّتِهِ بَعْدَ وفاتِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، هَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ، والأعْمَشِ، وقَتادَةَ، والسُدِّيِّ، وهو الصَحِيحُ، وقالَ قَوْمٌ: مَعْناهُ: قُولُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَهَذا هو الرَدُّ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ بَعْضُ وعِيدٍ، لِأنَّ فِيهِ جَزاءَ المُسِيءِ العاتِي، وخاطَبَهم بِـ ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ﴾ وهم قَدْ كانُوا آمَنُوا، عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ، لِيَتَأكَّدَ الإلْزامُ. و"تَأْوِيلًا" مَعْناهُ: مَآلًا، عَلى قَوْلِ جَماعَةٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: أحْسَنُ جَزاءً. قالَ قَتادَةُ، والسُدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى أحْسَنُ عاقِبَةً. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: إنَّ اللهَ ورَسُولَهُ أحْسَنُ نَظَرًا وتَأوُّلًا مِنكم إذا انْفَرَدْتُمْ بِتَأوُّلِكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب