الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأَماناتِ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ۝﴾ [النساء: ٥٨]. أمَرَ اللهُ بأداءِ الأماناتِ إلى أهلِها، وهم مُستحِقُّوها، والأمانةُ تُذكَرُ في القرآنِ مُطْلقةً مِن غيرِ أنْ تُعَدّى ولا تُضافَ، وتُذكَرُ مُتعدِّيةً ومُضافةً: فتُطلَقُ كما في قولِه تعالى: ﴿إنّا عَرَضْنا الأَمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأَرْضِ والجِبالِ﴾ [الأحزاب: ٧٢]. وتُذكَرُ مُتعدِّيةً كما في هذه الآيةِ. والأصلُ عندَ إطلاقِها: العمومُ، فيدخُلُ فيها حقُّ اللهِ وأمانتُه، وهو توحيدُهُ وإفرادُهُ بالعبادةِ وطاعتُه، ويدخُلُ فيها حقُّ خَلْقِهِ فيما بينَهم ممّا فُطِرُوا عليه مِن حُبِّ العدلِ والإنصافِ وبُغْضِ الظُّلْمِ، والعملُ بهذه الفِطْرةِ. وعندَ تَعْدِيَتِها وإضافتِها، فبحسَبِ نوعِ الإضافةِ، فإنْ أُضِيفَتْ وعُدِّيَتْ إلى فاعِلِيها، فهي عامَّةٌ في كلِّ أمانةٍ، كما في قولِه تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۝﴾ [الأنفال: ٢٧]، وقولِه في سورةِ المؤمنونَ والمعارجِ: ﴿والَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ ۝﴾ [المؤمنون: ٨، والمعارج: ٣٢]، وإنْ عُدِّيَتْ وأُضِيفَتْ إلى مُستحقِّيها كما في هذه الآيةِ، فهي في الحقوقِ بينَ الناسِ كما في الآيةِ. حقوقُ الناسِ، وأداءُ الأماناتِ: والمقصودُ بالأماناتِ في الآيةِ هي حقوقُ الناسِ، وهي عظيمةٌ، إذْ جعَلَ اللهُ الحقَّ فيها لأصحابِها، لا تَذهَبُ الحقوقُ إلاَّ بأدائِها أو عفوِ أصحابِها عنها، فأعظَمُ الخواتيمِ منزلةً خاتمةُ الشهيدِ، فيُكفَّرُ عنه كلُّ ذنبِهِ إلاَّ الأماناتِ والحقوقَ، فقد روى زاذانُ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: «الشهادةُ تُكفِّرُ كلَّ ذنبٍ إلاَّ الأمانةَ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٨٥).]]. وإنْ لم يَختلِفِ السلفُ في وجوبِ أداءِ الأماناتِ عامَّةً إلى أهلِها، فقد اختلَفُوا في المُخاطَبِ بهذه الآيةِ: فقيل: كلُّ أمانةٍ وحقٍّ، وهذا ظاهرُ ما جاء عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عبّاسٍ والربيعِ وغيرِهم. وجاء عن بعضِ السلفِ: أنّ الخِطابَ للأمراءِ أنْ يَعِظُوا النِّساءَ بحفظِ حقوقِ أزواجِهِنَّ، ويأمُرُوا الناسَ بالحقِّ والعدلِ. ورُوِيَ نحوُ هذا عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ورواهُ عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ عن ابنِ عبّاسٍ، وقال به زيدُ بنُ أسلَمَ، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٨٦).]]. وهذا هو الأظهَرُ، أنّ الخِطابَ لكلِّ أحدٍ، ولكنْ خُوطِبَ فيه الأُمَراءُ والحُكّامُ والقُضاةُ، لأنّ اللهَ ذكَرَ الحُكْمَ بعدَ ذلك للمُخاطَبِينَ، والحُكْمُ لا يكونُ إلاَّ في الحُكّامِ والسلاطِينِ، وذلك في قولِه تعالى: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾. ويَعْضُدُ أنّ الخِطابَ للأمراءِ والحُكّامِ: أنّ اللهَ أمَرَ بطاعتِهم فيما بعدَ ذلك في الآيةِ التاليةِ: ﴿أطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]. تعظيمُ العَدْلِ مع كلِّ أحدٍ: والعدلُ واجبٌ ولو مع الكافِرِ والفاجِرِ. ولا يكونُ العدلُ إلاَّ بما أمَرَ اللهُ به وقَضاهُ، ولِعِظَمِ العدلِ وجريمةِ الظُّلْمِ: جعَلَ اللهُ الفِطْرةَ دالَّةً عليه، كما تدُلُّ الفِطْرةُ على وجودِ الخالِقِ سبحانَه ووحدانيَّتِهِ، فأعظَمُ الأحكامِ وأجَلُّ العِلْمِ ما دلَّتْ عليه الفِطْرةُ، وأكَّدَتْهُ الشِّرْعَةُ، لأنّ الأصلَ في ذلك: أنّه لا يُعذَرُ أحدٌ بجهلِهِ ولو لم يَبْلُغْهُ الدليلُ، فحُرْمةُ السرقةِ والغَصْبِ والسَّلْبِ والقتلِ والتعدِّي على الأعراضِ معلومةٌ بالفِطْرةِ، تنزلُ الأسماءُ والأحكامُ على فاعِلِهِ ولو لم يَبْلُغْهُ الوحيُ، لأنّه قام فيه قائمُ الفِطْرةِ، ولا يدخُلُ في هذا ما يحتاجُ ثبوتُهُ إلى وحيٍ مِن الحقوقِ، كأنواعِ الرِّبا وبيوعِ الجَهالَةِ والغَرَرِ والقِمارِ والمَيْسِرِ، لأنّ بعضَ النفوسِ الصحيحةِ قد تَرْضاها، فاحْتِيجَ إلى ثبوتِ الوحيِ، لرفعِ الجهلِ وقيامِ الحُجَّةِ. ويُعرَفُ العدلُ بدَلالةِ الشَّرْعِ ودلالةِ الطَّبْعِ، فلا تُطبَعُ النفوسُ إلاَّ على حبٍّ للعَدْلِ وكُرْهٍ للظُّلْمِ، فاللهُ أمَرَ بالحُكْمِ بالعدلِ لمعرفةِ دليلِهِ بداهةً، وفي بعضِ الآياتِ يأمُرُ اللهُ بالحُكْمِ بما أنزَلَ اللهُ، لأنّ العدلَ لا يخرُجُ عن حُكْمِ اللهِ، كما في قولِه تعالى: ﴿فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٨]، وقولِه: ﴿وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩]. تعارُضُ الطبعِ والشرعِ في الظاهِرِ: وإنْ وُجِدَ تعارُضٌ بينَ نصِّ الشرعِ وبينَ الطبعِ، ففي أحدِهما تبديلٌ، إمّا أنْ يكونَ نصُّ الشرعِ مُبدَّلًا ومُحرَّفًا، فليس نصًّا للشرعِ حقيقةً، وإمّا أنْ يكونَ الطبعُ مبدَّلًا، وإذا كان النصُّ صحيحًا صريحًا مُحْكَمًا، فالطبعُ مبدَّلٌ منحرفٌ عن الحقِّ، إمّا بهَوى النفسِ الخاصِّ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿فاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦]، وإمّا بهَوى النفوسِ الأُخرى، فيَمِيلُ مجاملةً ومحاباةً، كما حذَّرَ اللهُ نبيَّه في قولِهِ: ﴿وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ [المائدة: ٤٩]. التشريعُ من دونِ اللهِ: وحُكْمُ اللهِ والعدلُ مُتلازِمانِ، ويُقطَعُ أنّ العدلَ فيما أنزَلَ اللهُ، ولذا حَكَمَ اللهُ بكفرِ مَن جعَلَ العدلَ ملازمًا لغيرِ حُكْمِهِ، قال: ﴿ومَن لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ۝﴾ [المائدة: ٤٤]، أو شرَّعَ تشريعًا أو قانونًا يُخالِفُ حُكمَ اللهِ وتشريعَهُ، فأحَلَّ ما حرَّمَ اللهُ، وحرَّمَ ما أحَلَّ اللهُ، فهذا شركٌ وكفرٌ في الأُلوهيَّةِ مُستلزِمٌ للشِّرْكِ والكفرِ في الربوبيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ، فمَن جعَلَ مشرِّعًا غيرَ اللهِ، صَرَفَ الحُكْمَ لغيرِ اللهِ واتَّخَذَ معبودًا غيرَهُ، قال تعالى: ﴿إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيّاهُ﴾ [يوسف: ٤٠]، وأمّا استلزامُهُ للكفرِ بالربوبيَّةِ والإشراكِ بها، فمُقتضى كمالِ العدلِ: الخَلْقُ والعِلْمُ، فالعدلُ فرعٌ عن العِلْمِ بالمعدولِ به، فلا يَعدِلُ إلاَّ مَن أتَمَّ العِلْمَ بما قَضى فيه، ومُقتضى كمالِ العِلْمِ وتمامِهِ: الخَلْقُ للمحكوماتِ مِن أعيانٍ ماديَّةٍ ومعلوماتٍ ذهنيةٍ، ولذا ربَطَ اللهُ العِلْمَ بالخَلْقِ، فقال: ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ﴾ [الملك: ١٤]، فمَن جعَلَ العدلَ التامَّ لغيرِ اللهِ، أو جعَلَ غيرَ اللهِ مساويًا للهِ، فضلًا عمَّن يجعَلُ حُكْمَ غيرِ اللهِ أعدَلَ مِن حُكْمِ اللهِ كلِّه أو في بعضِهِ ولو في مسألةٍ واحدةٍ، فقد أشرَكَ وكفَرَ في ربوبيَّةِ اللهِ وألوهيَّتِهِ وأسمائِهِ وصِفاتِه، لأنّ كمالَ العدلِ وأحقيَّتَهُ يَقتضي كمالَ العِلْمِ بالمعدولِ فيه، وكمالُ العِلْمِ يَقتضي الخَلْقَ، وأمّا الشِّرْكُ في الأسماءِ والصِّفاتِ، فإنّ اللهَ واحدٌ في أسمائِه وصِفاتِه، ومِن أسمائِه: العليمُ والحَكَمُ والحكيمُ، والخالقُ والخبيرُ، وهذا إشراكٌ مع اللهِ فيها. وقولُه تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ۝﴾، أيْ: نِعْمَ ما يَعِظُكُمُ اللهُ به، ويسمعُ ما تفعلونَ وتَحْكُمُون، ويُبصِرُ ما تَفعلون، وهذا تنبيهٌ لأمرِ العدلِ مع إخلاصٍ، وترهيبٌ مِن الفِرارِ بالظُّلْمِ مِن سمعِ المخلوقِينَ وبَصَرِهم، فاللهُ لا يُفَرُّ مِن إحاطتِهِ وسمعِهِ وبصرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب