الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى وعَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ والعاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ حالِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ كَلَّفَهُ بِالإمامَةِ، وهَذا شَرْحُ التَّكْلِيفِ الثّانِي، وهو التَّكْلِيفُ بِتَطْهِيرِ البَيْتِ، ثُمَّ نَقُولُ: أمّا البَيْتُ فَإنَّهُ يُرِيدُ البَيْتَ الحَرامَ، واكْتَفى بِذِكْرِ البَيْتِ مُطْلَقًا لِدُخُولِ الألِفِ واللّامِ عَلَيْهِ، إذا كانَتا تَدْخُلانِ لِتَعْرِيفِ المَعْهُودِ أوِ الجِنْسِ، وقَدْ عَلِمَ المُخاطَبُونَ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الجِنْسَ فانْصَرَفَ إلى المَعْهُودِ عِنْدَهم وهو الكَعْبَةُ، ثُمَّ نَقُولُ: لَيْسَ المُرادُ نَفْسَ الكَعْبَةِ، لِأنَّهُ تَعالى وصَفَهُ بِكَوْنِهِ ”أمْنًا“ وهَذا صِفَةُ جَمِيعِ الحَرَمِ لا صِفَةُ الكَعْبَةِ فَقَطْ والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ إطْلاقُ البَيْتِ والمُرادُ مِنهُ كُلُّ الحَرَمِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائِدَةِ: ٩٥] والمُرادُ الحَرَمُ كُلُّهُ لا الكَعْبَةُ نَفْسُها، لِأنَّهُ لا يُذْبَحُ في الكَعْبَةِ، ولا في المَسْجِدِ الحَرامِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٨]، والمُرادُ واللَّهُ أعْلَمُ مَنعُهم مِنَ الحَجِّ حُضُورَ مَواضِعِ النُّسُكِ، وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٦٧] وقالَ اللَّهُ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى مُخْبِرًا عَنْ إبْراهِيمَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ [ إبْراهِيمَ: ٣٥] فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ وصَفَ البَيْتَ بِالأمْنِ فاقْتَضى جَمِيعَ الحَرَمِ، والسَّبَبُ في أنَّهُ تَعالى أطْلَقَ لَفْظَ البَيْتِ وعَنى بِهِ الحَرَمَ كُلَّهُ أنَّ حُرْمَةَ الحَرَمِ لَمّا كانَتْ بِالبَيْتِ جازَ أنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ البَيْتِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثابَةً لِلنّاسِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: أصْلُهُ مِن ثابَ يَثُوبُ مَثابَةً وثَوْبًا إذا رَجَعَ يُقالُ: ثابَ الماءُ إذا رَجَعَ إلى النَّهْرِ بَعْدَ انْقِطاعِهِ، وثابَ إلى فُلانٍ عَقْلُهُ أيْ رَجَعَ وتَفَرَّقَ عَنْهُ النّاسُ، ثُمَّ ثابُوا: أيْ عادُوا مُجْتَمِعِينَ، والثَّوابُ مِن (p-٤٣)هَذا أُخِذَ، كَأنَّ ما أخْرَجَهُ مِن مالٍ أوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رَجَعَ إلَيْهِ، والمَثابُ مِنَ البِئْرِ: مُجْتَمَعُ الماءِ في أسْفَلِها، قالَ القَفّالُ قِيلَ: إنَّ مَثابًا ومَثابَةً لُغَتانِ مِثْلُ: مَقامٍ ومَقامَةٍ وهو قَوْلُ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ، وقِيلَ: الهاءُ إنَّما دَخَلَتْ في مَثابَةٍ مُبالَغَةً كَما في قَوْلِهِمْ: نَسّابَةٌ وعَلّامَةٌ، وأصْلُ مَثابَةٍ مَثُوبَةٌ [عَلى وزْنِ] مَفْعُلَةٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ أنَّهم يَثُوبُونَ إلَيْهِ في كُلِّ عامٍ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ: أنَّهُ لا يَنْصَرِفُ عَنْهُ أحَدٌ إلّا وهو يَتَمَنّى العَوْدَ إلَيْهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ﴾ [إبْراهِيمَ: ٣٧] وقِيلَ: مَثابَةً أيْ يَحُجُّونَ إلَيْهِ فَيُثابُونَ عَلَيْهِ، فَإنْ قِيلَ: كَوْنُ البَيْتِ مَثابَةً يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ عَوْدِهِمْ إلَيْهِ، وذَلِكَ يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ لا بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى، فَما مَعْنى قَوْلِهِ ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ﴾ قُلْنا: أمّا عَلى قَوْلِنا فَفِعْلُ العَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى فَهَذِهِ الآيَةُ حُجَّةٌ عَلى قَوْلِنا في هَذِهِ المَسْألَةِ، وأمّا عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ فَمَعْناهُ أنَّهُ تَعالى ألْقى تَعْظِيمَهُ في القُلُوبِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ داعِيًا لَهم إلى العَوْدِ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، وإنَّما فَعَلَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ لِما فِيهِ مِن مَنافِعِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، أمّا مَنافِعُ الدُّنْيا فَلِأنَّ أهْلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ يَجْتَمِعُونَ هُناكَ، فَيَحْصُلُ هُناكَ مِنَ التِّجاراتِ وضُرُوبِ المَكاسِبِ ما يَعْظُمُ بِهِ النَّفْعُ، وأيْضًا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ السَّفَرِ إلى الحَجِّ عِمارَةُ الطَّرِيقِ والبِلادِ، ومُشاهَدَةُ الأحْوالِ المُخْتَلِفَةِ في الدُّنْيا. وأمّا مَنافِعُ الدِّينِ فَلِأنَّ مَن قَصَدَ البَيْتَ رَغْبَةً مِنهُ في النُّسُكِ والتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ تَعالى، وإظْهارِ العُبُودِيَّةِ لَهُ، والمُواظَبَةِ عَلى العُمْرَةِ والطَّوافِ، وإقامَةِ الصَّلاةِ في ذَلِكَ المَسْجِدِ المُكَرَّمِ والِاعْتِكافِ فِيهِ، يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ ثَوابًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بَعْضُ أصْحابِنا في وُجُوبِ العُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ﴾ ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ﴾ إخْبارٌ عَنْ أنَّهُ تَعالى جَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ كَوْنِهِ مَثابَةً لِلنّاسِ، لَكِنْ لا يُمْكِنُ إجْراءُ الآيَةِ عَلى هَذا المَعْنى لِأنَّ كَوْنَهُ مَثابَةً لِلنّاسِ صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِاخْتِيارِ النّاسِ، وما يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيارِ النّاسِ لا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِالجَبْرِ والإلْجاءِ، وإذا ثَبَتَ تَعَذُّرُ إجْراءِ الآيَةِ عَلى ظاهِرِها وجَبَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى الوُجُوبِ لِأنّا مَتى حَمَلْناهُ عَلى الوُجُوبِ كانَ ذَلِكَ أفْضى إلى صَيْرُورَتِهِ كَذَلِكَ مِمّا إذا حَمَلْناهُ عَلى النَّدْبِ، فَثَبَتَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ عَلَيْنا العَوْدَ إلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، وقَدْ تَوافَقْنا عَلى أنَّ هَذا الوُجُوبَ لا يَتَحَقَّقُ فِيما سِوى الطَّوافِ، فَوَجَبَ تَحَقُّقُهُ في الطَّوافِ، هَذا وجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وأكْثَرُ مَن تَكَلَّمَ في أحْكامِ القُرْآنِ طَعَنَ في دَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا المَطْلُوبِ، ونَحْنُ قَدْ بَيَّنّا دَلالَتَها عَلَيْهِ مِن هَذا الوَجْهِ الَّذِي بَيَّنّاهُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأمْنًا﴾ أيْ مَوْضِعَ أمْنٍ، ثُمَّ لا شَكَّ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا﴾ خَبَرٌ، فَتارَةً نَتْرُكُهُ عَلى ظاهِرِهِ ونَقُولُ إنَّهُ خَبَرٌ، وتارَةً نَصْرِفُهُ عَنْ ظاهِرِهِ ونَقُولُ إنَّهُ أمْرٌ. أمّا القَوْلُ الأوَّلُ: فَهو أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى جَعَلَ أهْلَ الحَرَمِ آمِنِينَ مِنَ القَحْطِ والجَدْبِ عَلى ما قالَ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٦٧] وقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهم حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القَصَصِ: ٥٧] ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ الإخْبارَ عَنْ عَدَمِ وُقُوعِ القَتْلِ في الحَرَمِ، لِأنّا نُشاهِدُ أنَّ القَتْلَ الحَرامَ قَدْ يَقَعُ فِيهِ، وأيْضًا فالقَتْلُ المُباحُ قَدْ يُوجَدُ فِيهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ فَإنْ قاتَلُوكم فاقْتُلُوهُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٩١] فَأخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ القَتْلِ فِيهِ. القَوْلُ الثّانِي: أنْ نَحْمِلَهُ عَلى الأمْرِ عَلى سَبِيلِ التَّأْوِيلِ، والمَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ النّاسَ بِأنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ المَوْضِعَ أمْنًا مِنَ الغارَةِ والقَتْلِ، فَكانَ البَيْتُ مُحْتَرَمًا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعالى، وكانَتِ الجاهِلِيَّةُ مُتَمَسِّكِينَ (p-٤٤)بِتَحْرِيمِهِ، لا يَهِيجُونَ عَلى أحَدٍ التَجَأ إلَيْهِ، وكانُوا يُسَمُّونَ قُرَيْشًا: أهْلَ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ، ثُمَّ اعْتُبِرَ فِيهِ أمْرُ الصَّيْدِ حَتّى أنَّ الكَلْبَ لَيَهُمُّ بِالظَّبْيِ خارِجَ الحَرَمِ فَيَفِرُّ الظَّبْيُ فَيَتْبَعُهُ الكَلْبُ فَإذا دَخَلَ الظَّبْيُ الحَرَمَ لَمْ يَتْبَعْهُ الكَلْبُ، ورُوِيَتِ الأخْبارُ في تَحْرِيمِ مَكَّةَ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وإنَّها لا تَحِلُّ لِأحَدٍ قَبْلِي ولا تَحِلُّ لِأحَدٍ بَعْدِي وإنَّما أُحِلَّتْ لِي ساعَةً مِن نَهارٍ، وقَدْ عادَتْ حُرْمَتُها كَما كانَتْ» “، فَذَهَبَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى أنَّ المَعْنى: أنَّها لَمْ تَحِلَّ لِأحَدٍ بِأنْ يَنْصُبَ الحَرْبَ عَلَيْها وأنَّ ذَلِكَ أُحِلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأمّا مَن دَخَلَ البَيْتَ مِنَ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الحُدُودُ فَقالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّ الإمامَ يَأْمُرُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ بِما يُؤَدِّي إلى خُرُوجِهِ مِنَ الحَرَمِ، فَإذا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ في الحِلِّ، فَإنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتّى قُتِلَ في الحَرَمِ جازَ، وكَذَلِكَ مَن قاتَلَ في الحَرَمِ جازَ قَتْلُهُ فِيهِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَجُوزُ، واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أمَرَ عِنْدَما قُتِلَ عاصِمُ بْنُ ثابِتِ بْنِ الأفْلَحِ وخُبَيْبٌ بِقَتْلِ أبِي سُفْيانَ في دارِهِ بِمَكَّةَ غِيلَةً إنْ قُدِرَ عَلَيْهِ، قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وهَذا في الوَقْتِ الَّذِي كانَتْ مَكَّةُ فِيهِ مُحَرَّمَةً فَدَلَّ أنَّها لا تَمْنَعُ أحَدًا مِن شَيْءٍ وجَبَ عَلَيْهِ وأنَّها إنَّما تُمْنَعُ مِن أنْ يُنْصَبَ الحَرْبُ عَلَيْها كَما يُنْصَبُ عَلى غَيْرِها، واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، والجَوابُ عَنْهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأمْنًا﴾ لَيْسَ فِيهِ بَيانُ أنَّهُ جَعَلَهُ أمْنًا فِيماذا فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ أمْنًا مِنَ القَحْطِ، وأنْ يَكُونَ أمْنًا مِن نَصْبِ الحُرُوبِ، وأنْ يَكُونَ أمْنًا مِن إقامَةِ الحُدُودِ، ولَيْسَ اللَّفْظُ مِن بابِ العُمُومِ حَتّى يُحْمَلَ عَلى الكُلِّ، بَلْ حَمْلُهُ عَلى الأمْنِ مِنَ القَحْطِ والآفاتِ أوْلى لِأنّا عَلى هَذا التَّفْسِيرِ لا نَحْتاجُ إلى حَمْلِ لَفْظِ الخَبَرِ عَلى مَعْنى الأمْرِ وفي سائِرِ الوُجُوهِ نَحْتاجُ إلى ذَلِكَ، فَكانَ قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أوْلى. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ: ”واتَّخِذُوا“ وبِكَسْرِ الخاءِ عَلى صِيغَةِ الأمْرِ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ بِفَتْحِ الخاءِ عَلى صِيغَةِ الخَبَرِ. أمّا القِراءَةُ الأُولى: فَقَوْلُهُ: ﴿واتَّخِذُوا﴾ عَطْفٌ عَلى ماذا، وفِيهِ أقْوالٌ. الأوَّلُ: أنَّهُ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾، ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ . الثّانِي: أنَّهُ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا﴾ والمَعْنى أنَّهُ لَمّا ابْتَلاهُ بِكَلِماتٍ وأتَمَّهُنَّ، قالَ لَهُ جَزاءً لِما فَعَلَهُ مِن ذَلِكَ: ﴿إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا﴾ وقالَ: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أمَرَ بِهَذا ولَدَهُ، إلّا أنَّهُ تَعالى أضْمَرَ قَوْلَهُ وقالَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وظَنُّوا أنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ﴾ [الأعْرافِ: ١٧١] . الثّالِثُ: أنَّ هَذا أمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أنْ يَتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى، وهو كَلامٌ اعْتَرَضَ في خِلالِ ذِكْرِ قِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكَأنَّ وجْهَهُ: ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا واتَّخِذُوا﴾ أنْتُمْ مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى والتَّقْدِيرُ أنّا لَمّا شَرَّفْناهُ ووَصَفْناهُ بِكَوْنِهِ مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا فاتَّخِذُوهُ أنْتُمْ قِبْلَةً لِأنْفُسِكم، والواوُ والفاءُ قَدْ يُذْكَرُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في هَذا الوَضْعِ وإنْ كانَتِ الفاءُ أوْضَحَ، أمّا مَن قَرَأ: ”واتَّخَذُوا“ بِالفَتْحِ فَهو إخْبارٌ عَنْ ولَدِ إبْراهِيمَ أنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِن مَقامِهِ مُصَلًّى، فَيَكُونُ هَذا عَطْفًا عَلى: ”جَعَلْنا البَيْتَ“ واتَّخَذُوهُ مُصَلًّى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى ”وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ“ وإذِ اتَّخَذُوهُ مُصَلًّى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا أقْوالًا في أنَّ مَقامَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أيُّ شَيْءٍ هو: القَوْلُ الأوَّلُ: إنَّهُ مَوْضِعُ الحَجَرِ قامَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ هَؤُلاءِ ذَكَرُوا وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: (p-٤٥)أنَّهُ هو الحَجَرُ الَّذِي كانَتْ زَوْجَةُ إسْماعِيلَ وضَعَتْهُ تَحْتَ قَدَمِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ فَوَضَعَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ وهو راكِبٌ فَغَسَلَتْ أحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِن تَحْتِهِ وقَدْ غاصَتْ رِجْلُهُ في الحَجَرِ فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الرِّجْلِ الأُخْرى فَغاصَتْ رِجْلُهُ أيْضًا فِيهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى مِن مُعْجِزاتِهِ وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ. وثانِيها: ما رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَبْنِي البَيْتَ وإسْماعِيلُ يُناوِلُهُ الحِجارَةَ ويَقُولانِ: ﴿رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [البَقَرَةِ: ١٢٧] فَلَمّا ارْتَفَعَ البُنْيانُ وضَعُفَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْ وضْعِ الحِجارَةِ قامَ عَلى حَجَرٍ وهو مَقامُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ مَقامَ إبْراهِيمَ الحَرَمُ كُلُّهُ وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ. الثّالِثُ: أنَّهُ عَرَفَةُ والمُزْدَلِفَةُ والجِمارُ وهو قَوْلُ عَطاءٍ. الرّابِعُ: الحَجُّ كُلُّهُ مَقامُ إبْراهِيمَ وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، واتَّفَقَ المُحَقِّقُونَ عَلى أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أوْلى ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: ما رَوى جابِرٌ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا فَرَغَ مِنَ الطَّوافِ أتى المَقامَ وتَلا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ فَقِراءَةُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عِنْدَ ذَلِكَ المَوْضِعِ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ اللَّفْظَةِ هو ذَلِكَ المَوْضِعُ ظاهِرٌ. وثانِيها: أنَّ هَذا الِاسْمَ في العُرْفِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ المَوْضِعِ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ سائِلًا لَوْ سَألَ المَكِّيَّ بِمَكَّةَ عَنْ مَقامِ إبْراهِيمَ لَمْ يُجِبْهُ ولَمْ يَفْهَمْ مِنهُ إلّا هَذا المَوْضِعَ. وثالِثُها: ما رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَرَّ بِالمَقامِ ومَعَهُ عُمَرُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ألَيْسَ هَذا مَقامَ أبِينا إبْراهِيمَ ؟ قالَ: بَلى. قالَ: أفَلا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى ؟ قالَ: لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ مِن يَوْمِهِمْ حَتّى نَزَلَتِ الآيَةُ» . ورابِعُها: أنَّ الحَجَرَ صارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ في رُطُوبَةِ الطِّينِ حَتّى غاصَتْ فِيهِ رِجْلا إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذَلِكَ مِن أظْهَرِ الدَّلائِلِ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى ومُعْجِزَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَكانَ اخْتِصاصُهُ بِإبْراهِيمَ أوْلى مِنِ اخْتِصاصِ غَيْرِهِ بِهِ، فَكانَ إطْلاقُ هَذا الِاسْمِ عَلَيْهِ أوْلى. وخامِسُها: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ ولَيْسَ لِلصَّلاةِ تَعَلُّقٌ بِالحَرَمِ ولا بِسائِرِ المَواضِعِ إلّا بِهَذا المَوْضِعِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَقامُ إبْراهِيمَ هو هَذا المَوْضِعَ. وسادِسُها: أنَّ مَقامَ إبْراهِيمَ هو مَوْضِعُ قِيامِهِ، وثَبَتَ بِالأخْبارِ أنَّهُ قامَ عَلى هَذا الحَجَرِ عِنْدَ المُغْتَسَلِ ولَمْ يَثْبُتْ قِيامُهُ عَلى غَيْرِهِ فَحَمْلُ هَذا اللَّفْظِ، أعْنِي: مَقامَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى الحَجَرِ يَكُونُ أوْلى قالَ القَفّالُ: ومَن فَسَّرَ مَقامَ إبْراهِيمَ بِالحَجَرِ خَرَّجَ قَوْلَهُ: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ عَلى مَجازِ قَوْلِ الرَّجُلِ: اتَّخَذْتُ مِن فُلانٍ صَدِيقًا وقَدْ أعْطانِي اللَّهُ مِن فُلانٍ أخًا صالِحًا ووَهَبَ اللَّهُ لِي مِنكَ ولِيًّا مُشْفِقًا وإنَّما تَدْخُلُ ”مِن“ لِبَيانِ المُتَّخَذِ المَوْصُوفِ وتُمَيِّزُهُ في ذَلِكَ المَعْنى مِن غَيْرِهِ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿مُصَلًّى﴾ وُجُوهًا: أحَدُها: المُصَلّى المُدَّعى فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّلاةِ الَّتِي هي الدُّعاءُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ [الأحْزابِ: ٥٦] وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ، وإنَّما ذَهَبَ إلى هَذا التَّأْوِيلِ لِيَتِمَّ لَهُ قَوْلُهُ: إنَّ كُلَّ الحَرَمِ مَقامُ إبْراهِيمَ. وثانِيها: قالَ الحَسَنُ: أرادَ بِهِ قِبْلَةً. وثالِثُها: قالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ: أُمِرُوا أنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ. قالَ أهْلُ التَّحْقِيقِ: هَذا القَوْلُ أوْلى لِأنَّ لَفْظَ الصَّلاةِ إذا أُطْلِقَ يُعْقَلُ مِنهُ الصَّلاةُ المَفْعُولَةُ بِرُكُوعٍ وسُجُودٍ ألا تَرى أنَّ مُصَلّى المِصْرِ وهو المَوْضِعُ الَّذِي يُصَلّى فِيهِ صَلاةُ العِيدِ وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ: المُصَلّى أمامَكَ، يَعْنِي بِهِ مَوْضِعَ الصَّلاةِ المَفْعُولَةِ، وقَدْ (p-٤٦)دَلَّ عَلَيْهِ أيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِلصَّلاةِ عِنْدَهُ بَعْدَ تِلاوَةِ الآيَةِ ولِأنَّ حَمْلَها عَلى الصَّلاةِ المَعْهُودَةِ أوْلى لِأنَّها جامِعَةٌ لِسائِرِ المَعانِي الَّتِي فَسَّرُوا الآيَةَ بِها وهَهُنا بَحْثٌ فِقْهِيٌّ وهو أنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوافِ فَرْضٌ أمْ سُنَّةٌ ؟ يُنْظَرُ إنْ كانَ الطَّوافُ فَرْضًا فَلِلشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ والأمْرُ لِلْوُجُوبِ. والثّانِي: سُنَّةٌ «لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْأعْرابِيِّ حِينَ قالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُها، قالَ: لا إلّا أنْ تَطُوفَ» وإنْ كانَ الطَّوافُ نَفْلًا مِثْلَ طَوافِ القُدُومِ فَرَكْعَتاهُ سُنَّةٌ والرِّوايَةُ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ مُخْتَلِفَةٌ أيْضًا في هَذِهِ المَسْألَةِ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في فَضائِلِ البَيْتِ: رَوى الشَّيْخُ أحْمَدُ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ شُعَبِ الإيمانِ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: ”«قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلى الأرْضِ أوَّلًا ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ، قالَ: قُلْتُ ثُمَّ أيٌّ ؟ قالَ: ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُما ؟ قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً فَأيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ فَهو مَسْجِدٌ» “ أخْرَجاهُ في الصَّحِيحَيْنِ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما قالَ: خُلِقَ البَيْتُ قَبْلَ الأرْضِ بِألْفَيْ عامٍ ثُمَّ دُحِيَتِ الأرْضُ مِنهُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”أوَّلُ بُقْعَةٍ وُضِعَتْ في الأرْضِ مَوْضِعُ البَيْتِ ثُمَّ مُدَّتْ مِنها الأرْضُ، وإنَّ أوَّلَ جَبَلٍ وضَعَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى وجْهِ الأرْضِ أبُو قُبَيْسٍ ثُمَّ مُدَّتْ مِنهُ الجِبالُ“ . وعَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قالَ: إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أُهْبِطَ إلى الأرْضِ اسْتَوْحَشَ مِنها لِما رَأى مِن سَعَتِها ولِأنَّهُ لَمْ يَرَ فِيها أحَدًا غَيْرَهُ فَقالَ: يا رَبِّ أما لِأرْضِكَ هَذِهِ عامِرٌ يُسَبِّحُكَ فِيها ويُقَدِّسُ لَكَ غَيْرِي. فَقالَ اللَّهُ تَعالى: إنِّي سَأجْعَلُ فِيها مِن ذُرِّيَّتِكَ مَن يُسَبِّحُ بِحَمْدِي ويُقَدِّسُ لِي وسَأجْعَلُ فِيها بُيُوتًا تُرْفَعُ لِذِكْرِي فَيُسَبِّحُنِي فِيها خَلْقِي وسَأُبَوِّئُكَ مِنها بَيْتًا أخْتارُهُ لِنَفْسِي وأخُصُّهُ بِكَرامَتِي وأُوثِرُهُ عَلى بُيُوتِ الأرْضِ كُلِّها بِاسْمِي وأُسَمِّيهِ بَيْتِي أُعَظِّمُهُ بِعَظَمَتِي وأحُوطُهُ بِحُرْمَتِي وأجْعَلُهُ أحَقَّ البُيُوتِ كُلِّها وأوْلاها بِذِكْرِي وأضَعُهُ في البُقْعَةِ الَّتِي اخْتَرْتُ لِنَفْسِي فَإنِّي اخْتَرْتُ مَكانَهُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّماواتِ والأرْضَ، أجْعَلُ ذَلِكَ البَيْتَ لَكَ ولِمَن بَعْدَكَ حَرَمًا آمِنًا أُحَرِّمُ بِحُرْمَتِهِ ما فَوْقَهُ وما تَحْتَهُ وما حَوْلَهُ فَمَن حَرَّمَهُ بِحُرْمَتِي فَقَدْ عَظَّمَ حُرْمَتِي ومَن أحَلَّهُ فَقَدْ أباحَ حُرْمَتِي، ومَن أمَّنَ أهْلَهُ اسْتَوْجَبَ بِذَلِكَ أمانِي ومَن أخافَهم فَقَدْ أخافَنِي ومَن عَظَّمَ شَأْنَهُ فَقَدْ عَظُمَ في عَيْنِي ومَن تَهاوَنَ بِهِ فَقَدْ صَغُرَ في عَيْنِي سُكّانُها جِيرانِي وعُمّارُها وفْدِي وزُوّارُها أضْيافِي أجْعَلُهُ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ وأُعَمِّرُهُ بِأهْلِ السَّماءِ والأرْضِ، يَأْتُونَهُ أفْواجًا شُعْثًا غُبْرًا: ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحَجِّ: ٢٧] يَعُجُّونَ بِالتَّكْبِيرِ عَجًّا إلَيَّ ويَثُجُّونَ بِالتَّلْبِيَةِ ثَجًّا، فَمَنِ اعْتَمَرَهُ لا يُرِيدُ غَيْرِي فَقَدْ زارَنِي وضافَنِي ونَزَلَ بِي ووَفَدَ عَلَيَّ، فَحَقَّ لِي أنْ أُتْحِفَهُ بِكَرامَتِي وحَقَّ عَلى الكَرِيمِ أنْ يُكْرِمَ وفْدَهُ وأضْيافَهُ وزُوّارَهُ وأنْ يُسْعِفَ كُلَّ واحِدٍ مِنهم بِحاجَتِهِ تُعَمِّرُهُ يا آدَمُ ما كُنْتَ حَيًّا ثُمَّ يُعَمِّرُهُ مِن بَعْدِكَ الأُمَمُ والقُرُونُ والأنْبِياءُ مِن ولَدِكَ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ وقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ونَبِيًّا بَعْدَ نَبِيٍّ حَتّى يَنْتَهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إلى نَبِيٍّ مِن ولَدِكَ يُقالُ لَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو خاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأجْعَلُهُ مِن سُكّانِهِ وعُمّارِهِ وحُماتِهِ ووُلاتِهِ فَيَكُونُ أمِينِي عَلَيْهِ ما دامَ حَيًّا، فَإذا انْقَلَبَ إلَيَّ وجَدَنِي قَدِ ادَّخَرْتُ لَهُ مِن أجْرِهِ ما يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ القُرْبَةِ إلى الوَسِيلَةِ عِنْدِي وأجْعَلُ اسْمَ ذَلِكَ البَيْتِ وذِكْرَهُ وشَرَفَهُ ومَجْدَهُ وسَناهُ وتَكْرُمَتَهُ لِنَبِيٍّ مِن ولَدِكَ يَكُونُ قَبْلَ هَذا النَّبِيِّ وهو أبُوهُ، يُقالُ لَهُ إبْراهِيمُ أرْفَعُ لَهُ قَواعِدَهُ وأقْضِي عَلى يَدَيْهِ عِمارَتَهُ وأُعَلِّمُهُ مَشاعِرَهُ ومَناسِكَهُ وأجْعَلُهُ أُمَّةً واحِدَةً قانِتًا قائِمًا بِأمْرِي داعِيًا إلى سَبِيلِي أجْتَبِيهِ وأهْدِيهِ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أبْتَلِيهِ فَيَصْبِرُ وأُعافِيهِ فَيَشْكُرُ، وآمُرُهُ فَيَفْعَلُ ويَنْذِرُ لِي فَيَفِي ويَدْعُونِي فَأسْتَجِيبُ دَعْوَتَهُ في ولَدِهِ وذُرِّيَّتِهِ مِن بَعْدِهِ وأُشَفِّعُهُ فِيهِمْ وأجْعَلُهم أهْلَ ذَلِكَ البَيْتِ ووُلاتَهُ وحُماتَهُ وسُقاتَهُ وخُدّامَهُ وخُزّانَهُ وحُجّابَهُ حَتّى يُبَدِّلُوا أوْ يُغَيِّرُوا وأجْعَلُ إبْراهِيمَ إمامَ ذَلِكَ (p-٤٧)البَيْتِ وأهْلَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ يَأْتَمُّ بِهِ مَن حَضَرَ تِلْكَ المَواطِنَ مِن جَمِيعِ الجِنِّ والإنْسِ. وعَنْ عَطاءٍ قالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالهِنْدِ فَقالَ: يا رَبِّ ما لِي لا أسْمَعُ صَوْتَ المَلائِكَةِ كَما كُنْتُ أسْمَعُها في الجَنَّةِ ؟ قالَ: بِخَطِيئَتِكَ يا آدَمُ فانْطَلِقْ إلى مَكَّةَ فابْنِ بِها بَيْتًا تَطُوفُ بِهِ كَما رَأيْتَهم يَطُوفُونَ فانْطَلَقَ إلى مَكَّةَ فَبَنى البَيْتَ، فَكانَ مَوْضِعُ قَدَمَيْ آدَمَ قُرًى وأنْهارًا وعِمارَةً وما بَيْنَ خُطاهُ مَفاوِزَ فَحَجَّ آدَمُ البَيْتَ مِنَ الهِنْدِ أرْبَعِينَ سَنَةً، وسَألَ عُمَرُ كَعْبًا فَقالَ: أخْبِرْنِي عَنْ هَذا البَيْتِ فَقالَ: إنَّ هَذا البَيْتَ أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ السَّماءِ ياقُوتَةً مُجَوَّفَةً مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ: يا آدَمُ إنَّ هَذا بَيْتِي فَطُفْ حَوْلَهُ وصَلِّ حَوْلَهُ كَما رَأيْتَ مَلائِكَتِي تَطُوفُ حَوْلَ عَرْشِي وتُصَلِّي ونَزَلَتْ مَعَهُ المَلائِكَةُ فَرَفَعُوا قَواعِدَهُ مِن حِجارَةٍ، فَوُضِعَ البَيْتُ عَلى القَواعِدِ فَلَمّا أغْرَقَ اللَّهُ قَوْمَ نُوحٍ رَفَعَهُ اللَّهُ وبَقِيَتْ قَواعِدُهُ. وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: البَيْتُ المَعْمُورُ بَيْتٌ في السَّماءِ يُقالُ لَهُ الضُّراحُ، وهو بِحِيالِ الكَعْبَةِ مِن فَوْقِها حُرْمَتُهُ في السَّماءِ كَحُرْمَةِ البَيْتِ في الأرْضِ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفًا مِنَ المَلائِكَةِ لا يَعُودُونَ فِيهِ أبَدًا، وذَكَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ بَعْدَ بِناءِ إبْراهِيمَ فانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ العَمالِقَةُ ومَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ جُرْهُمُ ومَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ شابٌّ، فَلَمّا أرادُوا أنْ يَرْفَعُوا الحَجَرَ الأسْوَدَ اخْتَصَمُوا فِيهِ فَقالُوا: يَحْكُمُ بَيْنَنا أوَّلُ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِن هَذِهِ السِّكَّةِ وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أوَّلَ مَن خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَضى بَيْنَهم أنْ يَجْعَلُوا الحَجَرَ في مِرْطٍ ثُمَّ تَرْفَعُهُ جَمِيعُ القَبائِلِ فَرَفَعُوهُ كُلُّهم فَأخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَوَضَعَهُ، وعَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: بَلَغَنِي أنَّهم وجَدُوا في مَقامِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَلاثَ صُفُوحٍ في كُلِّ صَفْحٍ مِنها كِتابٌ، (في الصَّفْحِ الأوَّلِ) أنا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صَنَعْتُها يَوْمَ صَنَعْتُ الشَّمْسَ والقَمَرَ وحَفَفْتُها بِسَبْعَةِ أمْلاكٍ حَفًّا وبارَكْتُ لِأهْلِها في اللَّحْمِ واللَّبَنِ. وفِي الصَّفْحِ الثّانِي: أنا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وشَقَقْتُ لَها اسْمًا مِنِ اسْمِي مَن وصَلَها وصَلْتُهُ ومَن قَطَعَها قَطَعْتُهُ. وفِي الثّالِثِ: أنا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الخَيْرَ والشَّرَّ، فَطُوبى لِمَن كانَ الخَيْرُ عَلى يَدَيْهِ ووَيْلٌ لِمَن كانَ الشَّرُّ عَلى يَدَيْهِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في فَضائِلِ الحَجَرِ والمَقامِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الرُّكْنُ والمَقامُ ياقُوتَتانِ مِن يَواقِيتِ الجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُما ولَوْلا ذَلِكَ لَأضاءا ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما مَسَّهُما ذُو عاهَةٍ ولا سَقِيمٌ إلّا شُفِيَ» “ وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إنَّهُ كانَ أشَدَّ بَياضًا مِنَ الثَّلْجِ فَسَوَّدَتْهُ خَطايا أهْلِ الشِّرْكِ» “، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لَيَأْتِيَنَّ هَذا الحَجَرُ يَوْمَ القِيامَةِ لَهُ عَيْنانِ يُبْصِرُ بِهِما ولِسانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» “، ورُوِيَ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ انْتَهى إلى الحَجَرِ الأسْوَدِ فَقالَ: إنِّي لَأُقَبِّلُكَ وإنِّي لَأعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولَوْلا أنِّي رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ» . أخْرَجاهُ في الصَّحِيحِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ﴾ فالأوْلى أنْ يُرادَ بِهِ ألْزَمْناهُما ذَلِكَ وأمَرْناهُما أمْرًا وثَّقْنا عَلَيْهِما فِيهِ وقَدْ تَقَدَّمَ مِن قَبْلُ مَعْنى العَهْدِ والمِيثاقِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ﴾ فَيَجِبُ أنْ يُرادَ بِهِ التَّطْهِيرُ مِن كُلِّ أمْرٍ لا يَلِيقُ بِالبَيْتِ، فَإذا كانَ مَوْضِعُ البَيْتِ وحَوالَيْهِ مُصَلًّى وجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الأنْجاسِ والأقْذارِ، وإذا كانَ مَوْضِعَ العِبادَةِ والإخْلاصِ لِلَّهِ تَعالى: وجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الشِّرْكِ وعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وكُلُّ ذَلِكَ داخِلٌ تَحْتَ الكَلامِ ثُمَّ إنَّ المُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّ مَعْنى: ﴿طَهِّرا بَيْتِيَ﴾ ابْنِياهُ وطَهِّراهُ مِنَ الشِّرْكِ وأسِّساهُ عَلى التَّقْوى، كَقَوْلِهِ تَعالى: (p-٤٨)﴿أفَمَن أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٠٩] . وثانِيها: عَرِّفا النّاسَ أنَّ بَيْتِيَ طُهْرَةٌ لَهم مَتى حَجُّوهُ وزارُوهُ وأقامُوا بِهِ، ومَجازُهُ: اجْعَلاهُ طاهِرًا عِنْدَهم، كَما يُقالُ: الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُطَهِّرُ هَذا، وأبُو حَنِيفَةَ يُنَجِّسُهُ. وثالِثُها: ابْنِياهُ ولا تَدَعا أحَدًا مِن أهْلِ الرَّيْبِ والشِّرْكِ يُزاحِمُ الطّائِفِينَ فِيهِ، بَلْ أقِرّاهُ عَلى طَهارَتِهِ مِن أهْلِ الكُفْرِ والرَّيْبِ، كَما يُقالُ: طَهَّرَ اللَّهُ الأرْضَ مِن فُلانٍ، وهَذِهِ التَّأْوِيلاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُناكَ ما يُوجِبُ إيقاعَ تَطْهِيرِهِ مِنَ الأوْثانِ والشِّرْكِ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَهم فِيها أزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥] فَمَعْلُومٌ أنَّهُنَّ لَمْ يُطَهَّرْنَ مِن نَجَسٍ بَلْ خُلِقْنَ طاهِراتٍ، وكَذا البَيْتُ المَأْمُورُ بِتَطْهِيرِهِ خُلِقَ طاهِرًا، واللَّهُ أعْلَمُ. ورابِعُها: مَعْناهُ نَظِّفا بَيْتِيَ مِنَ الأوْثانِ والشِّرْكِ والمَعاصِي، لِيَقْتَدِيَ النّاسُ بِكُما في ذَلِكَ. وخامِسُها: قالَ بَعْضُهم: إنَّ مَوْضِعَ البَيْتِ قَبْلَ البِناءِ كانَ يُلْقى فِيهِ الجِيَفُ والأقْذارُ فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى إبْراهِيمَ بِإزالَةِ تِلْكَ القاذُوراتِ وبِناءِ البَيْتِ هُناكَ، وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ قَبْلَ البِناءِ ما كانَ البَيْتُ مَوْجُودًا فَتَطْهِيرُ تِلْكَ العَرْصَةِ لا يَكُونُ تَطْهِيرًا لِلْبَيْتِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهُ سَمّاهُ بَيْتًا لِأنَّهُ عَلِمَ أنَّ مَآلَهُ إلى أنْ يَصِيرَ بَيْتًا ولَكِنَّهُ مَجازٌ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلطّائِفِينَ والعاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: العَكْفُ مَصْدَرُ عَكُفَ بِضَمِّ الكافِ وكَسْرِها عَكْفًا إذا لَزِمَ الشَّيْءَ وأقامَ عَلَيْهِ فَهو عاكِفٌ، وقِيلَ: إذا أقْبَلَ عَلَيْهِ لا يَصْرِفُ عَنْهُ وجْهَهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في هَذِهِ الأوْصافِ الثَّلاثَةِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: وهو الأقْرَبُ أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى فِرَقٍ ثَلاثَةٍ، لِأنَّ مِن حَقِّ المَعْطُوفِ أنْ يَكُونَ غَيْرَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ الطّائِفُونَ غَيْرَ العاكِفِينَ والعاكِفُونَ غَيْرَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ لِتَصِحَّ فائِدَةُ العَطْفِ، فالمُرادُ بِالطّائِفِينَ: مَن يَقْصِدُ البَيْتَ حاجًّا أوْ مُعْتَمِرًا فَيَطُوفُ بِهِ، والمُرادُ بِالعاكِفِينَ: مَن يُقِيمُ هُناكَ ويُجاوِرُ، والمُرادُ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: مَن يُصَلِّي هُناكَ. والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ عَطاءٍ: أنَّهُ إذا كانَ طائِفًا فَهو مِنَ الطّائِفِينَ، وإذا كانَ جالِسًا فَهو مِنَ العاكِفِينَ، وإذا كانَ مُصَلِّيًا فَهو مِنَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَذِهِ الآيَةُ، تَدُلُّ عَلى أُمُورٍ: أحَدُها: أنّا إذا فَسَّرْنا الطّائِفِينَ بِالغُرَباءِ فَحِينَئِذٍ تَدُلُّ الآيَةُ عَلى أنَّ الطَّوافَ لِلْغُرَباءِ أفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ، لِأنَّهُ تَعالى كَما خَصَّهم بِالطَّوافِ دَلَّ عَلى أنَّ لَهم بِهِ مَزِيدُ اخْتِصاصٍ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وعَطاءٍ: أنَّ الطَّوافَ لِأهْلِ الأمْصارِ أفْضَلُ، والصَّلاةَ لِأهْلِ مَكَّةَ أفْضَلُ. وثانِيها: تَدُلُّ الآيَةُ عَلى جَوازِ الِاعْتِكافِ في البَيْتِ. وثالِثُها: تَدُلُّ عَلى جَوازِ الصَّلاةِ في البَيْتِ فَرْضًا كانَتْ أوْ نَفْلًا إذْ لَمْ تُفَرِّقِ الآيَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنها، وهو خِلافُ قَوْلِ مالِكٍ في امْتِناعِهِ مِن جَوازِ فِعْلِ الصَّلاةِ المَفْرُوضَةِ في البَيْتِ، فَإنْ قِيلَ: لا نُسَلِّمُ دَلالَةَ الآيَةِ عَلى ذَلِكَ، لِأنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ: والرُّكَّعِ السُّجُودِ في البَيْتِ، وكَما لا تَدُلُّ الآيَةُ عَلى جَوازِ فِعْلِ الطَّوافِ في جَوْفِ البَيْتِ، وإنَّما دَلَّتْ عَلى فِعْلِهِ خارِجَ البَيْتِ، كَذَلِكَ دَلالَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلى جَوازِ فِعْلِ الصَّلاةِ إلى البَيْتِ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ، قُلْنا: ظاهِرُ الآيَةِ يَتَناوَلُ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ إلى البَيْتِ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في البَيْتِ أوْ خارِجًا عَنْهُ، وإنَّما أوْجَبْنا وُقُوعَ الطَّوافِ خارِجَ البَيْتِ لِأنَّ الطَّوافَ بِالبَيْتِ هو أنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ، ولا يُسَمّى طائِفًا بِالبَيْتِ مَن طافَ في جَوْفِهِ، واللَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَ بِالطَّوافِ بِهِ لا بِالطَّوافِ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحَجِّ: ٢٩] وأيْضًا المُرادُ لَوْ كانَ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ لِلصَّلاةِ، لَما كانَ لِلْأمْرِ بِتَطْهِيرِ البَيْتِ لِلرُّكَّعِ السُّجُودِ وجْهٌ، إذا كانَ حاضِرُو البَيْتِ والغائِبُونَ عَنْهُ سَواءً في الأمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ، واحْتَجَّ مالِكٌ (p-٤٩)بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٤٤] ومَن كانَ داخِلَ المَسْجِدِ الحَرامِ لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا إلى المَسْجِدِ بَلْ إلى جُزْءٍ مِن أجْزائِهِ. (والجَوابُ): أنَّ المُتَوَجِّهَ الواحِدَ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إلى كُلِّ المَسْجِدِ، بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُتَوَجِّهًا إلى جُزْءٍ مِن أجْزائِهِ ومَن كانَ داخِلَ البَيْتِ فَهو كَذَلِكَ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ داخِلًا تَحْتَ الآيَةِ. ورابِعُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِلطّائِفِينَ﴾ يَتَناوَلُ مُطْلَقَ الطَّوافِ سَواءٌ كانَ مَنصُوصًا عَلَيْهِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحَجِّ: ٢٩] أوْ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ، أوْ كانَ مِنَ المَندُوباتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب