الباحث القرآني

﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿وإذِ ابْتَلى﴾ والبَيْتُ مِنَ الأعْلامِ الغالِبَةِ لِلْكَعْبَةِ، كالنَّجْمِ لِلثُّرَيّا، ﴿مَثابَةً لِلنّاسِ﴾ أيْ مَجْمَعًا لَهُمْ، قالَهُ الخَلِيلُ، وقَتادَةُ، أوْ مَعاذًا ومَلْجَأً، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، أوْ مَرْجِعًا يَثُوبُ إلَيْهِ أعْيانُ الزُّوّارِ، أوْ أمْثالُهُمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ وجُبَيْرٌ، أوْ مَرْجِعًا يَحِقُّ أنْ يُرْجَعَ ويُلْجَأ إلَيْهِ، قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، أوْ مَوْضِعُ ثَوابٍ يُثابُونَ بِحَجِّهِ، واعْتِمارِهِ، قالَهُ عَطاءٌ وحَكاهُ الماوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ، والتّاءُ فِيهِ، وتَرْكُهُ لُغَتانِ كَما في مَقامٍ ومَقامَةٍ، وهي لِتَأْنِيثِ البُقْعَةِ، وهو قَوْلُ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ، وقالَ الأخْفَشُ: إنَّ التّاءَ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ كَما في نَسّابَةٍ وعَلّامَةٍ، وأصْلُهُ مَثْوَبَةٌ عَلى وزْنِ مَفْعَلَةٌ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أوْ ظَرْفُ مَكانٍ، واللّامُ في النّاسِ لِلْجِنْسِ، وهو الظّاهِرُ، وجُوِّزَ حَمْلُهُ عَلى العَهْدِ، أوِ الِاسْتِغْراقِ العُرْفِيِّ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وطَلْحَةُ (مَثاباتٍ) عَلى الجَمْعِ، لِأنَّهُ مَثابَةُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ النّاسِ، لا يَخْتَصُّ بِهِ أحَدٌ مِنهُمْ، ﴿سَواءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ﴾ فَهو وإنْ كانَ واحِدًا بِالذّاتِ إلّا أنَّهُ مُتَعَدِّدٌ بِاعْتِبارِ الإضافاتِ، وقِيلَ: إنَّ الجَمْعَ بِتَنْزِيلِ تَعَدُّدِ الرُّجُوعِ مَنزِلَةَ تَعَدُّدِ المَحَلِّ، أوْ بِاعْتِبارِ أنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنهُ مَثابَةٌ، واخْتارَ بَعْضُهم ذَلِكَ زَعْمًا مِنهُ أنَّ الأوَّلَ يَقْتَضِي أنْ يَصِحَّ التَّعْبِيرُ عَنْ غُلامِ جَماعَةٍ بِالمَمْلُوكِينَ، ولَمْ يُعْرَفْ، وفِيهِ أنَّهُ قِياسٌ مَعَ الفارِقِ، إذْ لَهُ إضافَةُ المَمْلُوكِيَّةِ إلى كُلِّهِمْ لا إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُمْ، ﴿وأمْنًا﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿مَثابَةً﴾ وهو مَصْدَرٌ، وُصِفَ بِهِ لِلْمُبالَغَةِ، والمُرادُ مَوْضِعُ أمْنٍ، إمّا لِسُكّانِهِ مِنَ الخَطْفِ، أوْ لِحِجاجِهِ مِنَ العَذابِ، حَيْثُ إنَّ الحَجَّ يُزِيلُ ويَمْحُو ما قَبْلَهُ، غَيْرَ حُقُوقِ العِبادِ، والحُقُوقِ المالِيَّةِ كالكَفّارَةِ عَلى الصَّحِيحِ، أوْ لِلْجانِي المُلْتَجِئِ إلَيْهِ مِنَ القَتْلِ، وهو مَذْهَبُ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، إذْ عِنْدَهُ لا يُسْتَوْفى قِصاصُ النَّفْسِ في الحَرَمِ لَكِنْ يُضَيَّقُ عَلى الجانِي، ولا يُكَلَّمُ، ولا يُطْعَمُ، ولا يُعامَلُ حَتّى يَخْرُجَ فَيُقْتَلَ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: مَن وجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ والتَجَأ إلَيْهِ، يَأْمُرُ الإمامُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ بِما يُؤَدِّي إلى خُرُوجِهِ، فَإذا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ في الحِلِّ، فَإنْ لَمْ يَخْرُجْ جازَ قَتْلُهُ فِيهِ، (p-379)وعِنْدَ الإمامِ أحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: لا يُسْتَوْفى مِنَ المُلْتَجِئِ قِصاصٌ مُطْلَقًا، ولَوْ قِصاصُ الأطْرافِ، حَتّى يَخْرُجَ، ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ أمْنًا مَفْعُولًا ثانِيًا لِمَحْذُوفٍ عَلى مَعْنى الأمْرِ، أيْ واجْعَلُوهُ أمْنًا، كَما جَعَلْناهُ مَثابَةً، وهو بَعِيدٌ عَنْ ظاهِرِ النَّظْمِ، ولَمْ يَذْكُرْ لِلنّاسِ هُنا كَما ذُكِرَ مِن قَبْلُ اكْتِفاءً بِهِ، أوْ إشارَةً إلى العُمُومِ، أيْ أنَّهُ أمْنٌ لِكُلِّ شَيْءٍ كائِنًا ما كانَ حَتّى الطَّيْرِ والوَحْشِ إلّا الخَمْسَ الفَواسِقَ، فَإنَّها خُصَّتْ مِن ذَلِكَ عَلى لِسانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ويَدْخُلُ فِيهِ أمْنُ النّاسِ دُخُولًا أوَّلِيًّا، ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿جَعَلْنا﴾ أوْ حالٌ مِن فاعِلِهِ عَلى إرادَةِ القَوْلِ، أيْ وقُلْنا، أوْ قائِلِينَ لَهُمُ اتَّخِذُوا، والمَأْمُورُ بِهِ النّاسُ كَما هو الظّاهِرُ، أوْإبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وأوْلادُهُ كَما قِيلَ، أوْ عَطْفٌ عَلى اذْكُرِ المُقَدَّرِ عامِلًا لِإذْ، أوْ مَعْطُوفٌ عَلى مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: ثُوبُوا إلَيْهِ، واتَّخِذُوا، وهو مُعْتَرِضٌ بِاعْتِبارِ نِيابَتِهِ عَنْ ذَلِكَ بَيْنَ ﴿جَعَلْنا﴾ و﴿عَهِدْنا﴾ ولَمْ يُعْتَبَرِ الِاعْتِراضُ مِن دُونِ عَطْفٍ مَعَ أنَّهُ لا يُحْتاجُ إلَيْهِ لِيَكُونَ الِارْتِباطُ مَعَ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ أظْهَرَ، والخِطابُ عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهو صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَأْسُ المُخاطَبِينَ، (ومِن) إمّا لِلتَّبْعِيضِ، أوْ بِمَعْنى (فِي) أوْ زائِدَةٌ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، والأظْهَرُ الأوَّلُ، وقالَ القَفّالُ: هي مِثْلُ اتَّخَذْتُ مِن فُلانٍ صَدِيقًا، وأعْطانِي اللَّهُ تَعالى مِن فُلانٍ أخًا صالِحًا، دَخَلَتْ لِبَيانِ المُتَّخَذِ المَوْهُوبِ وتَمْيِيزِهِ، والمَقامُ مَفْعَلٍ مِنَ القِيامِ، يُرادُ بِهِ المَكانُ، أيْ مَكانُ قِيامِهِ، وهو الحَجْرُ الَّذِي ارْتَفَعَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ ضَعُفَ مِن رَفْعِ الحِجارَةِ الَّتِي كانَ ولَدُهُ إسْماعِيلُ يُناوِلُهُ إيّاها في بِناءِ البَيْتِ، وفِيهِ أثَرُ قَدَمَيْهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وجابِرٌ، وقَتادَةُ، وغَيْرُهُمْ، وأخْرَجَهُ البُخارِيُّ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ الحَجَرُ الَّذِي وضَعَتْهُ زَوْجَةُ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ تَحْتَ إحْدى رِجْلَيْهِ، وهو راكِبٌ، فَغَسَلَتْ أحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ، ثُمَّ رَفَعَتْهُ مِن تَحْتِها، وقَدْ غاصَتْ فِيهِ ووَضَعَتْهُ تَحْتَ رِجْلِهِ الأُخْرى، فَغَسَلَتْ شِقَّهُ الآخَرَ وغاصَتْ رِجْلُهُ الأُخْرى فِيهِ أيْضًا، أوِ المَوْضِعُ الَّذِي كانَ فِيهِ الحَجَرُ حِينَ قامَ عَلَيْهِ، ودَعا النّاسَ إلى الحَجِّ، ورَفَعَ بِناءَ البَيْتِ، وهو مَوْضِعُهُ اليَوْمَ، فالمَقامُ في أحَدِ المَعْنَيَيْنِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وفي الآخَرِ مَجازٌ مُتَعارَفٌ، ويَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى كُلٍّ مِنهُما، كَذا قالُوا، إلّا أنَّهُ اسْتَشْكَلَ تَعْيِينُ المَوْضِعِ بِما هو المَوْضِعُ اليَوْمَ، لِما في فَتْحِ البارِي مِن أنَّهُ كانَ المَقامُ أيِ الحَجَرُ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَزِيقَ البَيْتِ إلى أنْ أخَّرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إلى المَكانِ الَّذِي هو فِيهِ الآنَ، أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ هو الَّذِي حَوَّلَهُ، فَإنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى تَغايُرِ المَوْضِعَيْنِ، سَواءٌ كانَ المُحَوِّلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أوْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وأيْضًا كَيْفَ يُمْكِنُ رَفْعُ البِناءِ حِينَ القِيامِ عَلَيْهِ حالَ كَوْنِهِ في مَوْضِعِهِ اليَوْمَ ! وهو بَعِيدٌ مِنَ الحَجَرِ الأسْوَدِ بِسَبْعَةٍ وعِشْرِينَ ذِراعًا، وأيْضًا المَشْهُورُ أنَّ دَعْوَةَ النّاسِ إلى الحَجِّ كانَتْ فَوْقَ أبِي قُبَيْسٍ، فَإنَّهُ صَعِدَهُ بَعْدَ الفَراغِ مِن عِمارَةِ البَيْتِ، ونادى: أيُّها النّاسُ، حُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، فَإنْ لَمْ يَكُنِ الحَجَرُ مَعَهُ حِينَئِذٍ أشْكَلَ القَوْلُ بِأنَّهُ قامَ عَلَيْهِ ودَعا، وإنْ كانَ مَعَهُ وكانَ الوُقُوفُ عَلَيْهِ فَوْقَ الجَبَلِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ رَوْضَةِ الأحْبابِ، وبِهِ يَحْصُلُ الجَمْعُ أشْكَلَ التَّعْيِينُ بِما هو اليَوْمَ، وغايَةُ التَّوْجِيهِ أنْ يُقالَ: لا شَكَّ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُحَوِّلُ الحَجَرَ حِينَ البِناءِ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ، ويَقُومُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ، وكَذا حِينَ الدَّعْوَةِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ البَيْتِ، بَلْ فَوْقَ أبِي قُبَيْسٍ، فَلا بُدَّ مِن صَرْفِ عِباراتِهِمْ عَنْ ظاهِرِها، بِأنْ يُقالَ: المَوْضِعُ الَّذِي كانَ ذَلِكَ الحَجَرُ في أثْناءِ زَمانِ قِيامِهِ عَلَيْهِ، واشْتِغالِهِ بِالدَّعْوَةِ، أوْ رَفْعِ البِناءِ لا حالَةَ القِيامِ عَلَيْهِ، ووَقَعَ في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ هَذا المَقامَ الَّذِي فِيهِ الحَجَرُ الآنَ كانَ بَيْتَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانَ يَنْقُلُ هَذا الحَجَرَ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ العَمَلِ إلَيْهِ، وأنَّ الحَجَرَ (p-380)بَعْدَ إبْراهِيمَ كانَ مَوْضُوعًا في جَوْفِ الكَعْبَةِ، ولَعَلَّ هَذا هو الوَجْهُ في تَخْصِيصِ هَذا المَوْضِعِ بِالتَّحْوِيلِ، وما وقَعَ في الفَتْحِ مِن أنَّهُ كانَ المَقامُ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ لَزِيقَ البَيْتِ، مَعْناهُ بَعْدَ إتْمامِ العِمارَةِ، فَلا يُنافِي أنْ يَكُونَ في أثْنائِها في المَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ اليَوْمَ، كَذا ذَكَرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، فَلْيُفْهَمْ، وسَبَبُ النُّزُولِ ما أخْرَجَهُ أبُو نُعَيْمٍ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أخَذَ بِيَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقالَ: (يا عُمَرُ هَذا مَقامُ إبْراهِيمَ، فَقالَ عُمَرُ: أفَلا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَقالَ: لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ)،» والأمْرُ فِيها لِلِاسْتِحْبابِ، إذِ المُتَبادِرُ مِنَ المُصَلّى مَوْضِعُ الصَّلاةِ مُطْلَقًا، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ الأمْرُ بِرَكْعَتَيِ الطَّوافِ، لِما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ جابِرٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمّا فَرَغَ مِن طَوافِهِ عَمِدَ إلى مَقامِ إبْراهِيمَ فَصَلّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، وقَرَأ الآيَةَ،» فالأمْرُ لِلْوُجُوبِ عَلى بَعْضِ الأقْوالِ، ولا يَخْفى ضَعْفُهُ، لِأنَّ فِيهِ التَّقْيِيدَ بِصَلاةٍ مَخْصُوصَةٍ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، وقِراءَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الآيَةَ حِينَ أداءِ الرَّكْعَتَيْنِ لا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِهِما، وذَهَبَ النَّخَعِيُّ ومُجاهِدٌ إلى أنَّ المُرادَ مِن مَقامِ إبْراهِيمَ الحَرَمُ كُلُّهُ، وابْنُ عَبّاسٍ وعَطاءٌ إلى أنَّهُ مَواقِفُ الحَجِّ كُلُّها، والشَّعْبِيُّ إلى أنَّهُ عَرَفَةُ ومُزْدَلِفَةُ والجِمارُ، ومَعْنى اتِّخاذِها مُصَلًّى أنْ يُدْعى فِيها، ويُتَقَرَّبُ إلى اللَّهِ تَعالى عِنْدَها، والَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ وهو ما قَدَّمْناهُ أوَّلًا، وهو المُوافِقُ لِظاهِرِ اللَّفْظِ، ولِعُرْفِ النّاسِ اليَوْمَ، وظَواهِرُ الأخْبارِ تُؤَيِّدُهُ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ (واتَّخَذُوا) بِفَتْحِ الخاءِ عَلى أنَّهُ فِعْلٌ ماضٍ، وهو حِينَئِذٍ مَعْطُوفٌ عَلى (جَعْلِنا) أيْ واتَّخَذَ النّاسُ مِن مَكانِ إبْراهِيمَ الَّذِي عُرِفَ بِهِ، وأسْكَنَ ذُرِّيَّتَهُ عِنْدَهُ، وهو الكَعْبَةُ قِبْلَةً يُصَلُّونَ إلَيْها، فالمَقامُ مَجازٌ عَنْ ذَلِكَ المَحَلِّ، وكَذا المُصَلّى بِمَعْنى القِبْلَةِ مَجازٌ عَنِ المَحَلِّ الَّذِي يُتَوَجَّهُ إلَيْهِ في الصَّلاةِ بِعَلاقَةِ القُرْبِ والمُجاوَرَةِ، ﴿وعَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ﴾ أيْ وصَّيْنا، أوْ أمَرْنا، أوْ أوْحَيْنا، أوْ قُلْنا، والَّذِي عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ أنَّ العَهْدَ إذا تَعَدّى بِإلى يَكُونُ بِمَعْنى التَّوْصِيَةِ، ويُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ الأمْرِ، وإسْماعِيلُ عَلَمٌ أعْجَمِيٌّ قِيلَ: مَعْناهُ بِالعَرَبِيَّةِ مُطِيعُ اللَّهِ، وحُكِيَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَدْعُو أنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ تَعالى ولَدًا ويَقُولَ: اسْمَعْ إيلُ، أيِ اسْتَجِبْ دُعائِي يا اللَّهُ، فَلَمّا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ سَمّاهُ بِتِلْكَ الجُمْلَةِ، وأُراهُ في غايَةِ البُعْدِ، ولِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَتانِ اللّامُ والنُّونُ، ﴿أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ﴾ أيْ بِأنْ طَهِّرا عَلى أنَّ (أنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، وُصِلَتْ بِفِعْلِ الأمْرِ بَيانًا لِلْمُوصى المَأْمُورِ بِهِ، وسِيبَوَيْهِ، وأبُو عَلِيٍّ جَوَّزا كَوْنَ صِلَةِ الحُرُوفِ المَصْدَرِيَّةِ أمْرًا أوْ نَهْيًا، والجُمْهُورُ مَنَعُوا ذَلِكَ مُسْتَدِلِّينَ بِأنَّهُ إذا سُبِكَ مِنهُ مَصْدَرٌ فاتَ مَعْنى الأمْرِ، وبِأنَّهُ يَجِبُ في المَوْصُولِ الِاسْمِيِّ كَوْنُ صِلَتِهِ خَبَرِيَّةً، والمَوْصُولُ الحَرْفِيُّ مِثْلُهُ، وقَدَّرُوا هُنا قُلْنا، لِيَكُونَ مَدْخُولُ الحَرْفِ المَصْدَرِيِّ خَبَرًا، ويُرَدُّ عَلَيْهِمْ أوَّلًا: أنَّ كَوْنَهُ مَعَ الفِعْلِ بِتَأْوِيلِ المَصْدَرِ لا يَسْتَدْعِي اتِّحادَ مَعْناهُما ضَرُورَةَ عَدَمِ دِلالَةِ المَصْدَرِ عَلى الزَّمانِ مَعَ دِلالَةِ الفِعْلِ عَلَيْهِ، وثانِيًا أنَّ وُجُوبَ كَوْنِ الصِّلَةِ خَبَرِيَّةً في المَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، إنَّما هو لِلتَّوَصُّلِ إلى وصْفِ المَعارِفِ بِالجُمَلِ، وهي لا تُوصَفُ بِها، إلّا إذا كانَتْ خَبَرِيَّةً، وأمّا المَوْصُولُ الحَرْفِيُّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وثالِثًا أنَّ تَقْدِيرَ قُلْنا يُفْضِي إلى أنْ يَكُونَ المَأْمُورُ بِهِ القَوْلَ ولَيْسَ كَذَلِكَ، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ (أنْ) هَذِهِ مُفَسِّرَةً لِتَقَدُّمِ ما يَتَضَمَّنُ مَعْنى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وهو العَهْدُ، ويَحْتاجُ حِينَئِذٍ إلى تَقْدِيرِ المَفْعُولِ، إذْ يُشْتَرَطُ مَعَ تَقَدُّمِ ما ذُكِرَ كَوْنُ مَدْخُولِها مُفَسِّرًا لِمَفْعُولٍ مُقَدَّرٍ، أوْ مَلْفُوظٍ، أيْ قُلْنا لَهُما شَيْئًا هو أنْ طَهِّرا، والمُرادُ مِنَ التَّطْهِيرِ التَّنْظِيفُ مِن كُلِّ ما لا يُطِيقُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الأوْثانُ والأنْجاسُ وجَمِيعُ الخَبائِثِ، وما يُمْنَعُ مِنهُ شَرْعًا، كالحائِضِ، وخَصَّ مُجاهِدٌ وابْنُ عَطاءٍ ومُقاتِلٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ التَّطْهِيرَ بِإزالَةِ الأوْثانِ، وذَكَرُوا أنَّ البَيْتَ كانَ عامِرًا عَلى عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنَّهُ كانَ فِيهِ أصْنامٌ عَلى أشْكالِ صالِحِيهِمْ، وأنَّهُ طالَ (p-381)العَهْدُ فَعُبِدَتْ مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى بِتَطْهِيرِهِ مِنها، وقِيلَ: المُرادُ بَخِّراهُ، ونَظِّفاهُ، وخَلِّقاهُ، وارْفَعا عَنْهُ الفَرْثَ والدَّمَ الَّذِي كانَ يُطْرَحُ فِيهِ، وقِيلَ: أخْلِصاهُ لِمَن ذُكِرَ بِحَيْثُ لا يَغْشاهُ غَيْرُهُمْ، فالتَّطْهِيرُ عِبارَةٌ عَنْ لازِمِهِ، ونُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّ المُرادَ بِهِ البِناءُ والتَّأْسِيسُ عَلى الطَّهارَةِ، والتَّوْحِيدِ، وهو بَعِيدٌ، وتَوْجِيهُ الأمْرِ هُنا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ لا يُنافِي ما في سُورَةِ الحَجِّ مِن تَخْصِيصِهِ بِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّ ذَلِكَ واقِعٌ قَبْلَ بِناءِ البَيْتِ كَما يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ بَوَّأْنا لإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ﴾ وكانَ إسْماعِيلُ حِينَئِذٍ بِمَعْزِلٍ مِن مَثابَةِ الخِطابِ، وظاهِرٌ أنَّ هَذا بَعْدَ بُلُوغِهِ مَبْلَغَ الأمْرِ والنَّهْيِ، وتَمامِ البِناءِ بِمُباشَرَتِهِ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ إيرادُهُ إثْرَ حِكايَةِ جَعْلِهِ مَثابَةً، وإضافَةُ البَيْتِ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ لِلتَّشْرِيفِ: كَناقَةِ اللَّهِ، لا إنَّهُ مَكانٌ لَهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، ﴿لِلطّائِفِينَ﴾ أيْ لِأجْلِهِمْ، فاللّامُ تَعْلِيلِيَّةٌ، وإنْ فُسِّرَ التَّطْهِيرُ بِلازِمِهِ كانَتْ صِلَةً لَهُ، والطّائِفُ اسْمُ فاعِلٍ مِن طافَ بِهِ، إذا دارَ حَوْلَهُ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ كُلُّ مَن يَطُوفُ مِن حاضَرٍ أوْ بادٍ، وإلَيْهِ ذَهَبَ عَطاءٌ وغَيْرُهُ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: المُرادُ الغُرَباءُ الوافِدُونَ مَكَّةَ حُجّاجًا وزُوّارًا، ﴿والعاكِفِينَ﴾ وهم أهْلُ البَلَدِ الحَرامِ المُقِيمُونَ عِنْدَ ابْنِ جُبَيْرٍ، وقالَ عَطاءٌ: هُمُ الجالِسُونَ مِن غَيْرِ طَوافٍ مِن بَلَدِيٍّ، وغَرِيبٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: المُجاوِرُونَ لَهُ مِنَ الغُرَباءِ، وقِيلَ: هُمُ المُعْتَكِفُونَ فِيهِ، ﴿والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ وهُمُ المُصَلُّونَ جَمْعُ راكِعٍ وساجِدٍ، وخُصَّ الرُّكُوعُ والسُّجُودُ بِالذِّكْرِ مِن جَمِيعِ أحْوالِ المُصَلِّي لِأنَّهُما أقْرَبُ أحْوالِهِ إلَيْهِ تَعالى، وهُما الرُّكْنانِ الأعْظَمانِ، وكَثِيرًا ما يُكَنّى عَنِ الصَّلاةِ بِهِما، ولِذا تُرِكَ العَطْفُ بَيْنَهُما، ولَمْ يُعَبِّرْ بِالمُصَلِّينَ مَعَ اخْتِصارِهِ إيذانًا بِأنَّ المُعْتَبَرَ صَلاةٌ ذاتُ رُكُوعٍ وسُجُودٍ، لا صَلاةُ اليَهُودِ، وقَدَّمَ الرُّكُوعَ لِتَقَدُّمِهِ في الزَّمانِ، وجُمِعا جَمْعَ تَكْسِيرٍ لِتَغَيُّرِ هَيْئَةِ المُفْرَدِ مَعَ مُقابَلَتِهِما ما قَبْلَهُما مِن جَمْعَيِ السَّلامَةِ، وفي ذَلِكَ تَنْوِيعٌ في الفَصاحَةِ، وخالَفَ بَيْنَ وزْنَيْ تَكْسِيرِهِما لِلتَّنْوِيعِ مَعَ المُخالَفَةِ في الهَيْآتِ، وكانَ آخِرُهُما عَلى فُعُولٍ، لِأجْلِ كَوْنِهِ فاصِلَةً، والفَواصِلُ قَبْلَ وبَعْدَ آخِرِها حَرْفٌ قَبْلَهُ حَرْفٌ مَدٍّ، ولِينٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب