الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ قال أبو جعفر: أما قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة"، فإنه عطف ب"إذ" على قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات". وقوله:"وإذ ابتلى إبراهيم" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي"، واذكروا"إذ ابتلى إبراهيم ربه"،"وإذ جعلنا البيت مثابة". * * * و"البيت" الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام. * * * وأما"المثابة"، فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت. فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في"المثابة"، لما كثر من يثوب إليه، كما يقال:"سيارة" لمن يكثر ذلك،"ونسابة". وقال بعض نحويي الكوفة: بل"المثاب" و"المثابة" بمعنى واحد، نظيرة"المقام" و"المقامة" [[في المطبوعة: "نظيره" والأرجح ما أثبت.]] . و"المقام"، ذكر -على قوله- لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت"المقامة"، لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون"المثابة" ك"السيارة، والنسابة".، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في"السيارة والنسابة" تشبيها لها ب"الداعية". * * * و"المثابة""مفعلة" من"ثاب القوم إلى الموضع"، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا. [[لم تذكر هذه المصادر في كتب اللغة، "المثاب، والمثابة" مصدران ميميان قياسيان، فإغفالهما في كتب اللغة غير غريب، وأما قوله"وثوابا"، فهذا إن صح عن الطبري، فهو جائز في العربية أيضًا، ولكنهم نصوا على أن مصدر"ثاب" هو"ثوبانا، وثوبا، وثؤوبا" فأخشى أن تكون محرفة عن إحداها. وأما"الثواب" في المعروف من كتب العربية الاسم من"أثابه يثيبه إثابة، وهو الثواب"، وهو المجازاة على الصنيع.]] فمعنى قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس": وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا. ومن"المثاب"، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم: مثاب لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الطلائح [[من أبيات طويلة لورقة بن نوفل في البداية والنهاية لابن كثير ٢: ٢٩٧، والبيت في تفسير أبي حيان ١: ٣٨٠، بهذه الرواية، وقبل البيت في ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام: فمتبع دين الذي أسس البنا ... وكان له فضل على الناس راجح وأسس بنيانا بمكة ثابتا ... تلألأ فيه بالظلام المصابح مثابا لأفناء. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بنصب"مثابا" بيد أن الشافعي روى هذا البيت في الأم ٢: ١٢٠ لورقة بن نوفل، وعجزه. تخب إليه اليعملات الذوامل وكذلك جاء في القرطبي ٢: ١٠٠، وعدها أبو حيان رواية في البيت، وبهذه الرواية ذكره صاحب اللسان في (ثوب) منسوبا لأبي طالب، وفي (ذمل) غير منسوب. والظاهر أن الشافعي رحمه الله أخطأ في رواية البيت. وأخطأ صاحب اللسان في نسبته، اشتبه عليه بشعر أبي طالب في قصيدته المشهورة. وأفناء القبائل: أخلاطهم ونزاعهم من هاهنا وهاهنا. وخبت الدابة تخب خببا: وهو ضرب سريع من العدو. واليعملات جمع يعملة وهي الناقة السريعة المطبوعة على العمل، اشتق اسمها من العمل، والعمل الإسراع والعجلة. والطلائع جمع طليح. ناقة طليح أسفار: جهدها السير وهزلها، فهي ضامرة هزلا. يعني الإبل أنضاها أصحابها في إسراعهم إلى حج البيت. وأما"الذوامل" في الرواية الأخرى، فهو جمع ذاملة. ناقة ذمول وذاملة: وهي التي تسير سيرا لينا سريعا.]] ومنه قيل:"ثاب إليه عقله"، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٩٦٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو عاصم قال، حدثنا] عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال: لا يقضون منه وطرا. [[الأثر: ١٩٦٣- ما بين القوسين ساقط من الأصول. وهذا إسناد دائر، أقربه إلينا رقم: ١٩٤٦، فأتممته على الصواب.]] ١٩٦٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ١٩٦٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه، لا يقضون منه وطرا. ١٩٦٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه. ١٩٦٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا يقضون منه وطرا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. ١٩٦٨- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. ١٩٦٩- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه من كل مكان، ولا يقضون منه وطرا. ١٩٧٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء مثله. ١٩٧١- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول، عن عطية في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، لا يقضون منه وطرا [[الخبر: ١٩٧١- شيخ الطبري"محمد بن عمارة الأسدي"، كما مضى في: ٦٤٥، ١٥١١، وكما ذكرنا أنه يروى عنه في التاريخ كثيرا. وفي المطبوعة"محمد بن عمار". سهل بن عامر: هو البجلي، وهو ضعيف جدا، ترجمه للبخاري في الصغير، ص: ٢٣٤، وقال: "منكر الحديث، لا يكتب حديثه". وترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/٢٠٢ وروى عن أبيه قال: "هو ضعيف الحديث، روى أحاديث بواطيل! أدركته بالكوفة، وكان يفتعل الحديث". وترجم في لسان الميزان ٣: ١١٩-١٢٠، ووقع اسم أبيه في التاريخ الصغير"عمار"، وهو خطأ ناسخ أو طابع.]] . ١٩٧٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يحجون ويثوبون. ١٩٧٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا الثوري، عن أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير في قوله:"مثابة للناس" قال، يحجون، ثم يحجون، ولا يقضون منه وطرا. [[الخبران: ١٩٧٢-١٩٧٣- أبو الهذيل: هو غالب بن الهذيل الأودي، يروي عن أنس، وسعيد بن جبير، وغيرهما، وهو ثقة، وثقه ابن معين. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٤/١/٩٩، وابن أبي حاتم ٣/٢/٤٧. وسيأتي باسمه في الخبر بعدهما.]] ١٩٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر، عن غالب، عن سعيد بن جبير:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه. [[الخبر: ١٩٧٤- غالب: هو أبو الهذيل في الخبرين قبله. مسعر، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين: هو ابن كدام -بكسر الكاف وتخفيف الدال- وهو أحد الأعلام. الثقات.]] ١٩٧٥-- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" قال، مجمعا. ١٩٧٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه. ١٩٧٧- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مثابة للناس" قال، يثوبون إليه. ١٩٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَمْنًا﴾ قال أبو جعفر: و"الأمن" مصدر من قول القائل:"أمن يأمن أمنا". * * * وإنما سماه الله"أمنا"، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ . [سورة العنكبوت: ٦٧] ١٩٧٩- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وأمنا" قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له. ١٩٨٠- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"أمنا"، فمن دخله كان آمنا. ١٩٨١- حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله:"وأمنا" قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله. ١٩٨٢- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وأمنا"، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن. ١٩٨٣- حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"وأمنا" قال، أمنا للناس. ١٩٨٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"وأمنا" قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأه بعضهم:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" بكسر"الخاء"، على وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. [[كان في المطبوعة: "قراء" في هذه المواضع، فرددتها إلى ما جرى عليه الطبري في الأجزاء السالفة.]] وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:- ١٩٨٥- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". ١٩٨٦- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا، عن حميد، عن أنس، عن عمر، عن النبي ﷺ، مثله. ١٩٨٧- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، فذكر مثله. [[الأحاديث: ١٩٨٥-١٩٨٧، هي حديث واحد بأربعة أسانيد صحاح. وهو مختصر من حديث مطول، رواه أحمد في المسند: ١٥٧، ١٦٠، ٢٥٠، عن هشيم، وعن ابن أبي عدي، وعن يحيى - ثلاثتهم، عن حميد، عن أنس. ورواه البخاري أيضًا، عن مسدد، عن يحيى. كما ذكره ابن كثير ١: ٣٠٩-٣١٠، من رواية البخاري وأحمد، ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن صحيح".]] * * * قالوا: فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه ﷺ باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز قراءتها -وهي أمر- على وجه الخبر. * * * وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" معطوف على قوله:"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي" و"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم -على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ،..... كما حدثنا [عن] الربيع بن أنس. [[كان في المطبوعة: "كما حدثنا الربيع بن أنس"، وهو خطأ، فزدت"عن" بين القوسين، فبين أبي جعفر الطبري والربيع بن أنس دهر طويل. وانظر التعليق التالي.]] بما:- ١٩٨٨- حدثت [به] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام. [[الأثر: ١٩٨٨- هو جزء من الأثر السالف رقم: ١٩٢٢ وهو"عن ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بن أنس"، فزدت ما بين الأقواس، ليستقيم الكلام. وسيأتي أيضًا برقم: ٢٠٠١ ولكني وضعت هذه النقط في الموضع السالف، لأني أخشى أن يكون في الكلام سقط. وذلك أنه بدأ فقال: إن الأمر بهذه الآية على قول هذا البصري - لليهود من بني إسرائيل على عهد رسول الله ﷺ. ثم عقب عليه بقوله: "فأمرهم أن يتخذوا مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام". ولست أعلم أن اليهود الذي كانوا على عهد رسول الله ﷺ، كانوا يصلون في البيت الحرام خلف المقام، فلذلك وضعت هذه النقط، لأني أرجح أنه قد سقط من كلام الطبري في هذا الموضع ما يستقيم به هذا الكلام. ولم أجد في الكتب التي تنقل عن تفسير الطبري ما يهدي إلى صواب هذه العبارة. والذي استظهره أن يكون سقط من هذا الموضع، توجيه الأمر في هذه الآية إلى إبراهيم وذريته من ولد إسماعيل، فيكون الضمير في قوله: "فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام" إلى ذرية إبراهيم من ولد إسماعيل، وهم العرب من أهل دين إسماعيل، وبقاياهم من أهل الجاهلية، الذين جاء رسول الله ﷺ، ليقيمهم على الحنيفية ملة إبراهيم، وهي الإسلام.]] * * * فتأويل قائل هذا القول: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال، إني جاعلك للناس إماما، وقال: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. * * * قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله ﷺ قبل، يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله ﷺ، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين. * * * وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: ﴿واتخذوا﴾ بفتح"الخاء" على وجه الخبر. * * * ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله:"واتخذوا" إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر، فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، [وإذ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. [[الزيادة التي بين القوسين، لا بد منها، وإلا لم يكن بين هذا القول والذي يليه فرق. ويعني البصري في هذا التأويل أن العطف على جملة"وإذ جعلنا"، فتكون"إذ" مضمرة في قوله تعالى: "واتخذوا".]] وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله:"جعلنا"، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ٧٧ وهو تأويله.]] . * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا:"واتخذوا" بكسر"الخاء"، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله ﷺ الذي ذكرناه آنفا، وأن: ١٩٨٩- عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا جعفر بن محمد قال، حدثني أبي، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". [[الحديث: ١٩٨٩- عمرو بن علي: هو الفلاس، من كبار الحفاظ الثقات، روى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم. وشيخه يحيى بن سعيد: هو القطان الإمام. والحديث جزء من حديث جابر -الطويل- في الحج كما سنذكر في: ٢٠٠٣، إن شاء الله.]] * * * ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وفي"مقام إبراهيم". فقال بعضهم:"مقام إبراهيم"، هو الحج كله. * ذكر من قال ذلك: ١٩٩٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"مقام إبراهيم"، قال الحج كله مقام إبراهيم. ١٩٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، الحج كله. ١٩٩٢- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الحج كله"مقام إبراهيم". * * * وقال آخرون:"مقام إبراهيم" عرفة والمزدلفة والجمار. * ذكر من قال ذلك: ١٩٩٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رياح:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار. ١٩٩٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه: جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة. ١٩٩٥- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مقامه، عرفة. ١٩٩٦- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [سورة المائدة: ٣] ، الآية. ١٩٩٧- حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن الشعبي مثله * * * وقال آخرون:"مقام إبراهيم"، الحرم. * ذكر من قال ذلك: ١٩٩٨- حدثت عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، الحرم كله"مقام إبراهيم". * * * وقال آخرون:"مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه، وضعف عن رفع الحجارة. * ذكر من قال ذلك: ١٩٩٩- حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدّث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو"مقام إبراهيم" [[الحديث: ١٩٩٩- هو قطعة من الحديث الآتي: ٢٠٥٦. وسنخرجه هناك، إن شاء الله. وشيخ الطبري هنا"ابن سنان القزاز": هو"محمد بن سنان"، مضت ترجمته في: ١٥٧. وفي المطبوعة"سنان" بحذف"ابن"، وهو خطأ.]] * * * وقال آخرون: بل"مقام إبراهيم"، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٠٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. [[في المطبوعة: "مما تكلفته"، والصواب من تفسير ابن كثير ١: ٣١١.]] ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. [[في المطبوعة: "أصابعه فيها"، والصواب من تفسير ابن كثير. خلق الشيء وأخلق واخلولق: بلى.]] ٢٠٠١- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، فهم يصلون خلف المقام. [[الأثر: ٢٠٠١- هو الأثر السالف: ١٩٨٨، وانظر التعليق عليه.]] ٢٠٠٢- حدثني موسى [[كان في المطبوعة"حدثني يونس"، وهو خطأ محض بل هو إسناده الدائر في التفسير - إلى السدي، وأقربه رقم: ١٩٨٠.]] قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وهو الصلاة عند مقامه في الحج. و"المقام" هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته تحت الشق الآخر، فغسلته، فغابت رجله أيضا فيه، فجعلها الله من شعائره، فقال:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله القائلون: إن"مقام إبراهيم"، هو المقام المعروف بهذا الاسم، الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، [[انظر ما سلف رقم: ١٩٨٥- ١٩٨٧.]] ولما:- ٢٠٠٣- حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله ﷺ الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. [[الحديث: ٢٠٠٣- يوسف بن سلمان، شيخ الطبري: هو أبو عمر الباهلي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/٢/٢٢٣-٢٢٤. وفي المطبوعة"سليمان" بدل"سلمان"، وهو خطأ. حاتم بن إسماعيل المدني: ثقة مأمون كثير الحديث، أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ٢/١/٧٢، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٥٨-٢٥٩، وابن سعد ٥: ٣١٤. جعفر بن محمد: هو جعفر الصادق، بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو ثقة صادق مأمون، من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا. وإنما يكذب عليه الشيعة الروافض. أما رواية الثقات عنه فصحيحة. وهذا الحديث قطعة من حديث جابر -الطويل- في صفة حجة الوداع. وقد مضت قطعة منه: ١٩٨٩، من رواية يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر الصادق. وستأتي قطعة منه، بهذا الإسناد: ٢٣٦٥. والحديث بطوله -رواه الإمام أحمد في المسند: ١٤٤٩٢ (ج ٣ ص ٣٢٠-٣٢١ حلبي) عن يحيى القطان، عن جعفر. ورواه مسلم في صحيحه ١: ٣٤٦-٣٤٧، عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه -كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر الصادق، به.]] * * * فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب"مقام إبراهيم" الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا. ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله ﷺ، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا. وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، [[انظر تفسير"الظاهر والباطن" فيما سلف ٢: ١٥، واطلبه في الفهارس.]] حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس ب"مقام إبراهيم" هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" * * * [قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى:"مصلى"] ، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. [[الزيادة بين القوسين لا بد منها.]] فقال بعضهم: هو المدعى. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٠٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٠٥- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده. ٢٠٠٦- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو الصلاة عنده. * * * قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل:"المصلى" ههنا، المُدَّعَى، وَجَّهوا "المصَلَّى" إلى أنه"مُفَعَّل"، من قول القائل:"صليت" بمعنى دعوت. [[انظر ما سلف ١: ٢٤٢-٢٤٣.]] . وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله. * * * فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها، فإني قد جعلته لمن بعده -من أوليائي وأهل طاعتي- إماما يقتدون به وبآثاره، فاقتدوا به. * * * وأما تأويل القائلين القول الآخر، فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده، عبادةً منكم، وتكرمةً مني لإبراهيم. * * * وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، عن رسول الله ﷺ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وَعهدنا"؛ وأمرنا، كما:- ٢٠٠٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره. ٢٠٠٨- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم" قال، أمرناه. * * * فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين."والتطهير" الذي أمرهما الله به في البيت، هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله. * * * فإن قال قائل: وما معنى قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين"؟ وهل كان أيام إبراهيم -قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم، فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟ قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل. [[في المطبوعة: "قد كان لكل واحد من الوجهين"، وهو كلام هالك.]] أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب [[الريب هنا: الشر والخوف من قولهم: رابني أمره، أي أدخل علي شرا وخوفا، وكأن ذلك مردود إلى قوله تعالى: "مثابة للناس وأمنا".]] كما قال تعالى ذكره: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ ، [سورة التوبة: ١٠٩] ، فكذلك قوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما:- ٢٠٠٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي"، يقول: ابنيا بيتي [للطائفين] . [[هذه الزيادة، من تفسير ابن كثير ١: ٣١٥.]] فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه -على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده، كما:- ٢٠١٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "أن طهرا" قال، من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها. [[قال ابن كثير في تفسيره ١: ٣١٤-٣١٥، بعد أن ساق هذا الوجه، وهذا الأثر: "قلت: وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد ﷺ".]] ٢٠١١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عبيد بن عمير:"أن طهرا بيتي للطائفين" قال، من الأوثان والرَّيْب. ٢٠١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، مثله. ٢٠١٣- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: من الشرك. ٢٠١٤- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو إسرائيل، عن أبي حصين، عن مجاهد:"طهرا بيتي للطائفين" قال، من الأوثان. ٢٠١٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"طهرا بيتي للطائفين" قال: من الشرك وعبادة الأوثان. ٢٠١٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، بمثله - وزاد فيه: وقول الزور. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطائفين" في هذا الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ. [[الغربة والغرب (بفتح فسكون) : النوى والبعد. يعني من أتاه من مكان بعيد.]] * ذكر من قال ذلك: ٢٠١٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله:"للطائفين" قال، من أتاه من غربة. * * * وقال آخرون: بل"الطائفون" هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله. * ذكر من قال ذلك: ٢٠١٨- حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء:"للطائفين" قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من"الطائفين". * * * وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن"الطائف" هو الذي يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم"طائف بالبيت"، إن لم يطف به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالْعَاكِفِينَ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والعاكفين"، والمقيمين به."والعاكف على الشيء"، هو المقيم عليه، كما قال نابغة بني ذبيان: عكوفا لدى أبياتهم يثمدونهم ... رمى الله في تلك الأكف الكوانع [[ديوانه: ٦٣ من أبيات قالها لزرعة بن عامر العامري. حين بعثت بنو عامر إلى حصن بن حذيفة وابنه عيينة بن حصن: أن اقطعوا حلف ما بينكم وبين بني أسد، وألحقوهم ببني كنانة، ونحالفكم ونحن بنو أبيكم. وكان عيينة هم بذلك، فقالت بنو ذبيان: أخرجوا من فيكم من الحلفاء، ونخرج من فينا! فأبوا، فقال النابغة: ليهن بني ذبيان أن بلادهم ... خلت لهم من كل مولى وتابع سوى أسد، يحمونها كل شارق ... بألفي كمي، ذي سلاح، ودارع ثم مدح بني أسد، وذم بني عبس، وتنقص بني سهم ومالك من غطفان وعبد بن سعد بن ذبيان، وهجاهم بهذا البيت الذي استشهد به الطبري، ورواية الديوان"قعودا"، و"يثمدونها"، والضمير للأبيات. وقوله: "يثمدونهم" أصله من قولهم: "ثمد الماء يثمده ثمدا"، نبث عنه التراب ليخرج. وماء مثمود: كثر عليه الناس حتى فني ونفد إلا أقله. وأخذوا منه: "رجل مثمود"، إذا ألح الناس عليه في السؤال، فأعطى حتى نفد ما عنده. يقول: يظل بنو سعد ومالك لدى أبيات عبد بن سعد يستنزفون أموالهم. يصفهم بالخسة وسقوط الهمة. ومن روى: "يثمدونها" وأعاد الضمير إلى"أبياتهم"، فهو مثله، في أنهم يلازمون بيوتهم ويسترزقونها، يهزأ بهم. والكوانع جمع كانع: وهو الخاضع الذي تدانى وتصاغر وتقارب بعضه من بعض، كأنه يتقبض من ذلته. يصفهم بالخسة والطمع والسؤال الذليل. وقوله: "رمى الله" يعني أصابها بما يستأصلها، ورواية الديوان: "في تلك الأنوف"، فمعناه: رمى فيها بالجدع، وهو دعاء عليهم، واشمئزاز من حقارتهم.]] وإنما قيل للمعتكف"معتكف"، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى. * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:"والعاكفين". فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة. * ذكر من قال ذلك: ٢٠١٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين. * * * وقال بعضهم:"العاكفون"، هم المعتكفون المجاورون. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٢٠- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة:"طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال، المجاورون. * * * وقال بعضهم:"العاكفون"، هم أهل البلد الحرام. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٢١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله:"والعاكفين" قال: أهل البلد. ٢٠٢٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والعاكفين" قال: العاكفون: أهله. * * * وقال آخرون:"العاكفون"، هم المصلون. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٢٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله:"طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال، العاكفون، المصلون. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء، وهو أن"العاكف" في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة. لأن صفة"العكوف" ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم، وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله:"أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" - المصلين والطائفين، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من"العاكف"، غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والركع"، جماعة القوم الراكعين فيه له، واحدهم"راكع". وكذلك"السجود" هم جماعة القوم الساجدين فيه له، واحدهم"ساجد" - كما يقال:"رجل قاعد ورجال قعود" و"رجل جالس ورجال جلوس"، فكذلك"رجل ساجد ورجال سجود". [[مما استظهرته من أمر هذا الجمع، جمع فاعل على فعول: أن كل فعل ثلاثي جاء مصدره على"فعول" بضم الفاء، فجمع"فاعل" منه على"فعول"، كهذه الأمثلة التي ذكرت هنا، وكل ما سواها مما قيدته كتب اللغة، ومما هو منثور في الشعر.]] * * * وقيل: بل عنى"بالركع السجود"، المصلين. * ذكر من قال ذلك: ٢٠٢٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء:"والركع السجود" قال، إذا كان يصلي فهو من"الركع السجود". ٢٠٢٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والركع السجود"، أهل الصلاة. * * * وقد بينا فيما مضى بيان معنى"الركوع" و"السجود"، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. [[انظر ما سلف ١: ٥٧٤-٥٧٥، ثم ٢: ١٠٣-١٠٥، ٥١٩.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب