الباحث القرآني

﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا﴾: لَمّا رَدَّ عَلى اليَهُودِ في إنْكارِهِمُ التَّوَجُّهَ إلى الكَعْبَةِ، وكانَتِ الكَعْبَةُ بِناءَ إبْراهِيمَ أبِيهِمْ، كانُوا أحَقَّ بِتَعْظِيمِها، لِأنَّها مِن مَآثِرِ أبِيهِمْ. ولِوَجْهٍ آخِرَ مِن إظْهارِ فَضْلِها، وهو كَوْنُها مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا، وأنَّ فِيها مَقامَ إبْراهِيمَ، وأنَّهُ تَعالى أوْحى إلَيْهِ وإلى ولَدِهِ بِبِنائِها وتَطْهِيرِها، وجَعْلِها مَحَلًّا لِلطّائِفِ والعاكِفِ والرّاكِعِ والسّاجِدِ، وأمَرَهُ بِأنْ يُنادِيَ في النّاسِ بِحَجِّها. والبَيْتُ هُنا: الكَعْبَةُ، عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ. وقِيلَ: المُرادُ البَيْتُ الحَرامُ لا نَفْسُ الكَعْبَةِ؛ لِأنَّهُ وصَفَهُ بِالأمْنِ، وهَذِهِ صِفَةُ جَمِيعِ الحَرَمِ، لا صِفَةُ الكَعْبَةِ فَقَطْ. ويَجُوزُ إطْلاقُ البَيْتِ، ويُرادُ بِهِ كُلُّ الحَرَمِ. وأمّا الكَعْبَةُ فَلا تُطْلَقُ إلّا عَلى البِناءِ الَّذِي يُطافُ بِهِ، ولا تُطْلَقُ عَلى كُلِّ الحَرَمِ. والتّاءُ في مَثابَةٍ ”لِلْمُبالِغَةِ، لِكَثْرَةِ مَن يَثُوبُ إلَيْهِ، قالَهُ (p-٣٨٠)الأخْفَشُ، أوْ لِتَأْنِيثِ المَصْدَرِ، أوْ لِتَأْنِيثِ البُقْعَةِ، كَما يُقالُ مَقامٌ ومَقامَةٌ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ألَمْ تَرَ أنَّ الأرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ فَهَلْ يُعْجِزُنِي بُقْعَةٌ مِن بِقاعِها ذَكَرَ رَحْبًا عَلى مُراعاةِ المَكانِ، وأنَّثَ فَسِيحَةً عَلى اللَّفْظِ. وقَرَأ الأعْمَشُ وطَلْحَةُ:“ مَثاباتٍ ”عَلى الجَمْعِ، وقالَ ورَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: ؎مَثابًا لِأفْناءِ القَبائِلِ كُلِّها ∗∗∗ تَخُبُّ إلَيْها اليَعْمَلاتُ الطَّلائِحُ ويُرْوى: الذَّوابِلُ. ووَجْهُ قِراءَةِ الجَمْعِ أنَّهُ مَثابَةٌ لِكُلٍّ مِنَ النّاسِ، لا يَخْتَصُّ بِهِ واحِدٌ مِنهم، سَواءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ. و“ مَثابَةً ”، قالَ مُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ مَعْناهُ: يَثُوبُونَ إلَيْهِ مِن كُلِّ جانِبٍ، أيْ يَحُجُّونَهُ في كُلِّ عامٍ فَهم يَتَفَرَّقُونَ، ثُمَّ يَثُوبُونَ إلَيْهِ أعْيانُهم أوْ أمْثالُهم، ولا يَقْضِي أحَدٌ مِنهم وطَرًا، وقالَ الشّاعِرُ: ؎جَعَلَ البَيْتَ مَثابًا لَهم ∗∗∗ لَيْسَ مِنهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعاذًا ومَلْجَأً. وقالَ قَتادَةُ والخَلِيلُ: مَجْمَعًا. وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ، فِيما حَكاهُ الماوَرْدِيُّ: أيْ مَكانَ إثابَةٍ: واحِدَةٌ مِنَ الثَّوابِ، وأوْرَدَ هَذا القَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةً احْتِمالًا مِنهُ. والألِفُ واللّامُ في قَوْلِهِ لِلنّاسِ: إمّا لِاسْتِغْراقِ الجِنْسِ عَلى مَذْهَبِ مَن يَرى أنَّ النّاسَ كُلَّهم مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الإيمانِ، وإمّا لِلْجِنْسِ الخاصِّ عَلى مَذْهَبِ مَن لا يَرى ذَلِكَ. وجَعَلْنا هُنا بِمَعْنى صَيَّرْنا، فَمَثابَةٌ مَفْعُولٌ ثانٍ. وقِيلَ: جَعَلَ هُنا بِمَعْنى: خَلَقَ أوْ وضَعَ، ويَتَعَلَّقُ لِلنّاسِ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: مَثابَةٌ كائِنَةٌ، إذْ هو في مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ جَعَلْنا، أيْ لِأجْلِ النّاسِ. والأمْنُ: مُصْدَرٌ جَعَلَ البَيْتَ إيّاهُ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ لِكَثْرَةِ ما يَقَعُ بِهِ مِنَ الأمْنِ، أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ ذا أمْنٍ، أوْ عَلى أنَّهُ أُطْلِقَ عَلى اسْمِ الفاعِلِ مَجازًا، أيْ آمِنًا، كَما قالَ تَعالى: ﴿اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: ٣٥]، وجَعَلَهُ آمِنًا، اخْتَلَفُوا: هَلْ ذَلِكَ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ ؟ فَمَن قالَ: إنَّهُ في الدُّنْيا، فَقِيلَ مَعْناهُ: أنَّ النّاسَ كانُوا يَقْتَتِلُونَ، ويُغِيرُ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ حَوْلَ مَكَّةَ، وهي آمِنَةٌ مِن ذَلِكَ، ويَلْقى الرَّجُلُ قاتِلَ أبِيهِ فَلا يُهَيِّجُهُ؛ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ لَها في النُّفُوسِ حُرْمَةً، وجَعَلَها أمْنًا لِلنّاسِ والطَّيْرِ والوَحْشِ، إلّا الخَمْسَ الفَواسِقَ، فَخُصِّصَتْ مِن ذَلِكَ عَلى لِسانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وأمّا مَن أحْدَثَ حَدَثًا خارِجَ الحَرَمِ ثُمَّ أتى الحَرَمَ، فَفي أمْنِهِ مِن أنْ يُهاجَ، فِيهِ خِلافٌ مَذْكُورٌ في الفِقْهِ. وقِيلَ مَعْناهُ: إنَّهُ آمِنٌ لِأهْلِهِ، يُسافِرُ أحَدُهُمُ الأماكِنَ البَعِيدَةَ فَلا يُرَوِّعُهُ أحَدٌ. وقِيلَ: مَعْناهُ: إنَّهُ يُؤْمَنُ مِن أنْ يَحُولَ الجَبابِرَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن قَصَدَهُ. ومَن قالَ هَذا الأمْنَ في الآخِرَةِ، قِيلَ مِنَ المَكْرِ عِنْدَ المَوْتِ. وقِيلَ: مِن عَذابِ النّارِ. وقِيلَ: مِن بَخَسِ ثَوابِ مَن قَصَدَهُ، قالَ قَوْمٌ: وهَذا الأمْنُ مُخْتَصٌّ بِالبَيْتِ. وقِيلَ: يَشْمَلُ البَيْتَ والحَرَمَ. وقالَ في رَيِّ الظَّمْآنِ مَعْناهُ: ذا أمْنٍ لِقاطِنِيهِ مِن أنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ ما يَجْرِي عَلى سُكّانِ البَوادِي وسائِرِ بُلْدانِ العَرَبِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: وأمْنًا، مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: مَثابَةً، ويُفَسَّرُ الأمْنُ بِما تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ المَعْنى عَلى الأمْرِ، التَّقْدِيرُ: واجْعَلُوهُ آمِنًا، أيْ جَعَلْناهُ مَثابَةً لِلنّاسِ، فاجْعَلُوهُ آمِنًا لا يَتَعَدّى فِيهِ أحَدٌ عَلى أحَدٍ. فَمَعْناهُ أنَّ اللَّهَ أمَرَ النّاسَ أنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ المَوْضِعَ آمِنًا مِنَ الغارَةِ والقَتْلِ، وكانَ البَيْتُ مُحَرَّمًا بِحُكْمِ اللَّهِ، ورُبَّما يُؤَيَّدُ هَذا التَّأْوِيلُ بِقِراءَةِ مَن قَرَأ: واتَّخِذُوا عَلى الأمْرِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ العَطْفُ فِيهِ مِن عَطْفِ الجُمَلِ، عُطِفَتْ فِيهِ الجُمْلَةُ الأمْرِيَّةُ عَلى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ، وعَلى القَوْلِ الظّاهِرِ يَكُونُ مِن عَطْفِ المُفْرَداتِ. * * * ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، والجُمْهُورُ: واتَّخِذُوا، بِكَسْرِ الخاءِ عَلى الأمْرِ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: بِفَتْحِها، جَعَلُوهُ فِعْلًا ماضِيًا. فَأمّا قِراءَةُ: واتَّخِذُوا عَلى الأمْرِ، فاخْتُلِفَ مَنِ المُواجَهُ بِهِ، فَقِيلَ: إبْراهِيمُ وذُرِّيَّتُهُ، أيْ وقالَ اللَّهُ لِإبْراهِيمَ وذُرِّيَّتِهِ: اتَّخِذُوا. وقِيلَ: (p-٣٨١)النَّبِيُّ ﷺ وأُمَّتُهُ، أيْ: وقُلْنا اتَّخِذُوا. ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: وافَقْتُ رَبِّي في ثَلاثٍ، فَذَكَرَ مِنها وقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى» . ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ أخَذَ بِيَدِ عُمَرَ فَقالَ:“ هَذا مَقامُ إبْراهِيمَ ”، فَقالَ عُمَرُ: أفَلا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى ؟ فَقالَ:“ لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ ”. فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتّى نَزَلَتْ» . وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَكُونُ اتَّخِذُوا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وقِيلَ: المُواجَهُ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٢] . وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً﴾، قالُوا: لِأنَّ المَعْنى: ثُوبُوا إلى البَيْتِ، فَهو مَعْطُوفٌ عَلى المَعْنى. وهَذانِ القَوْلانِ بَعِيدانِ. وأمّا قِراءَةُ: واتَّخَذُوا - بِفَتْحِ الخاءِ - فَمَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، فَإمّا عَلى مَجْمُوعِ إذْ جَعَلْنا فَيُحْتاجُ إلى إضْمارِ إذْ، وإمّا عَلى نَفْسِ جَعَلْنا فَلا يُحْتاجُ إلى تَقْدِيرِها، بَلْ يَكُونُ في صِلَةِ إذْ. والمَعْنى: واتَّخَذَ النّاسُ مِن مَكانِ إبْراهِيمَ الَّذِي وُسِمَ بِهِ لِاهْتِمامِهِ بِهِ، وإسْكانِ ذُرِّيَّتِهِ عِنْدَهُ قِبْلَةً يُصَلُّونَ إلَيْها، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.“ مِن مَقامٍ ”: جَوَّزُوا في مِن أنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً، وبِمَعْنى في، وزائِدَةً عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، والأظْهَرُ الأوَّلُ. وقالَ القَفّالُ: هي مِثْلُ اتَّخَذْتُ مِن فُلانٍ صَدِيقًا، وأعْطانِي اللَّهُ مِن فُلانٍ أخًا صالِحًا، دَخَلَتْ مِن لِبَيانِ المُتَّخَذِ المَوْهُوبِ، وتَمْيِزِهِ في ذَلِكَ المَعْنى، والمَقامُ مَفْعَلٌ مِنَ القِيامِ، يُرادُ بِهِ المَكانُ، أيْ مَكانُ قِيامِهِ، وهو الحَجَرُ الَّذِي ارْتَفَعَ عَلَيْهِإبْراهِيمُ حِينَ ضَعُفَ عَنْ رَفْعِ الحِجارَةِ الَّتِي كانَ إسْماعِيلُ يُناوِلُهُ إيّاها في بِناءِ البَيْتِ، وغَرِقَتْ قَدَماهُ فِيهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وجابِرٌ وقَتادَةَ وغَيْرُهم، وخَرَّجَهُ البُخارِيُّ، وهو الآنُ مَوْضِعُ ذَلِكَ الحَجَرِ والمُسَمّى مَقامَ إبْراهِيمَ. وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ سَألَ المُطَّلِبَ بْنَ أبِي رِفاعَةَ: هَلْ تَدْرِي أيْنَ كانَ مَوْضِعُهُ الأوَّلُ ؟ قالَ: نَعَمْ، فَأراهُ مَوْضِعَهُ اليَوْمَ. قالَ أنَسٌ: رَأيْتُ في المَقامِ أثَرَ أصابِعِهِ وعَقِبِهِ وأخْمُصِ قَدَمَيْهِ، غَيْرُ أنَّهُ أذْهَبَهُ مَسْحُ النّاسِ بِأيْدِيهِمْ. حَكاهُ القُشَيْرِيُّ. أوْ حَجَرٌ جاءَتْ بِهِ أُمُّ إسْماعِيلَ إلَيْهِ وهو راكِبٌ، فاغْتَسَلَ عَلَيْهِ، فَغَرِقَتْ رِجْلاهُ فِيهِ حِينَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ، قالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ؛ أوْ مَواقِفُ الحَجِّ كُلُّها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وعَطاءٌ ومُجاهِدٌ، أوْ عَرَفَةُ والمُزْدَلِفَةُ والجِمارُ، قالَهُ عَطاءٌ والشَّعْبِيُّ؛ لِأنَّهُ قامَ في هَذِهِ المَواضِعِ ودَعا فِيها؛ أوِ الحَرَمُ كُلُّهُ، قالَهُ النَّخَعِيُّ ومُجاهِدٌ؛ أوِ المَسْجِدُ الحَرامُ، قالَهُ قَوْمٌ. واتَّفَقَ المُحَقِّقُونَ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ ورُجِّحَ بِحَدِيثِ عُمَرَ: أفَلا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى ؟ الحَدِيثَ، وبِقِراءَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمّا فَرَغَ مِنَ الطَّوافِ وأتى المَقامَ: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ ذَلِكَ المَوْضِعُ، ولِأنَّ هَذا الِاسْمَ في العُرْفِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ المَوْضِعِ، ولِأنَّ الحَجَرَ صارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ في رُطُوبَةِ الطِّينِ حِينَ غاصَتْ فِيهِ رِجْلاهُ، وفي ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَكانَ اخْتِصاصُهُ بِهِ أقْوى مِنَ اخْتِصاصِ غَيْرِهِ. فَكانَ إطْلاقُ هَذا الِاسْمِ عَلَيْهِ أوْلى، ولِأنَّ المَقامَ هو مَوْضِعُ القِيامِ، وثَبَتَ قِيامُهُ عَلى الحَجْرِ ولَمْ يَثْبُتْ عَلى غَيْرِهِ.“ مُصَلًّى ”: قِبْلَةً، قالَهُ الحَسَنُ. مَوْضِعَ صَلاةٍ، قالَهُ قَتادَةُ. مَوْضِعَ دُعاءٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ، والأُولى الحَمْلُ عَلى الصَّلاةِ الشَّرْعِيَّةِ لا عَلى الصَّلاةِ لُغَةً. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَوْضِعُ صَلاةٍ عَلى قَوْلِ مَن قالَ“ المَقامُ: الحَجَرُ ”، ومَن قالَ غَيْرَهُ قالَ: مُصَلًّى، مَدْعًى عَلى أصْلِ الصَّلاةِ، يَعْنِي في اللُّغَةِ. انْتَهى. * * * ﴿وعَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ﴾ أيْ أمَرْنا أوْ وصَّيْنا، أوْ أوْحَيْنا، أوْ قُلْنا، أقْوالٌ مُتَقارِبَةُ المَعْنى. ﴿أنْ طَهِّرا﴾: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ أنْ تَفْسِيرِيَّةً، أيْ طَهِّرا فَفَسَّرَ بِها العَهْدَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أيْ بِأنْ طَهِّرا. فَعَلى الأوَّلِ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، وعَلى الثّانِي يَحْتَمِلُ الجَرَّ والنَّصْبَ عَلى اخْتِلافِ النَّحْوِيِّينَ. إذا حُذِفَ مِن“ أنْ ”حَرْفُ الجَرِّ، هَلِ المَحَلُّ نَصْبٌ أوْ خَفْضٌ ؟ وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ مَرَّةً في وصْلِ أنْ بِفِعْلِ الأمْرِ، وأنَّهُ نَصَّ عَلى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ وغَيْرُهُ، وفي ذَلِكَ نَظَرٌ؛ لِأنَّ جَمِيعَ ما ذُكِرَ مِن ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، ولا أحْفَظُ مِن كَلامِهِمْ: عَجِبْتُ مِن أنْ أضْرِبَ زَيْدًا، ولا يُعْجِبُنِي أنْ أضْرِبَ زَيْدًا، فَتُوصَلُ بِالأمْرِ، ولِأنَّ انْسِباكَ المَصْدَرِ يُحِيلُ مَعْنى الأمْرَ (p-٣٨٢)ويُصَيِّرُهُ مُسْتَنِدًا إلَيْهِ ويُنافِي ذَلِكَ الأمْرَ. والتَّطْهِيرُ: المَأْمُورُ بِهِ هو التَّنْظِيفُ مِن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِهِ. وقَدْ فَسَّرُوا التَّطْهِيرَ بِالبِناءِ والتَّأْسِيسِ عَلى الطَّهارَةِ والتَّوْحِيدِ، قالَهُ السُّدِّيُّ، وهو بَعِيدٌ، وبِالتَّطْهِيرِ مِنَ الأوْثانِ. وذَكَرُوا أنَّهُ كانَ عامِرًا عَلى عَهْدِ نُوحٍ، وأنَّهُ كانَ فِيهِ أصْنامٌ عَلى أشْكالِ صالِحِيهِمْ، وأنَّهُ طالَ العَهْدُ، فَعُبِدَتْ مِن دُونِ اللَّهِ، فَأمَرَ اللَّهُ بِتَطْهِيرِهِ مِن تِلْكَ الأوْثانِ، قالَهُ جُبَيْرٌ ومُجاهِدٌ وعَطاءٌ ومُقاتِلٌ. والمَعْنى: أنَّهُ لا يُنْصَبُ فِيهِ وثَنٌ ولا يُعْبَدُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ. وقالَ يَمانٌ: مَعْناهُ بَخِّراهُ ونَظِّفاهُ وخَلِّقاهُ. وقِيلَ: مِنَ الآفاتِ والرَّيْبِ. وقِيلَ: مِنَ الكُفّارِ. وقِيلَ: مِنَ الفَرْثِ والدَّمِ الَّذِي كانَ يُطْرَحُ فِيهِ. وقِيلَ: مَعْناهُ أخْلِصاهُ لِهَؤُلاءِ، لا يَغْشاهُ غَيْرُهم، والأُولى حَمْلُهُ عَلى التَّطْهِيرِ مِمّا لا يُناسِبُ بُيُوتَ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الأوْثانُ والأنْجاسُ، وجَمِيعُ الخَبائِثِ، وما يُمْنَعُ مِنهُ شَرْعًا، كالحائِضِ. ﴿بَيْتِيَ﴾: هَذِهِ إضافَةُ تَشْرِيفٍ، لا أنَّ مَكانًا مَحَلٌّ لِلَّهِ تَعالى، ولَكِنْ لَمّا أمَرَ بِبِنائِهِ وتَطْهِيرِهِ وإيفادِ النّاسِ مِن كُلِّ فَجٍّ إلَيْهِ، صارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصاصٌ، فَحَسُنَتْ إضافَتُهُ إلى اللَّهِ بِذَلِكَ، وصارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ﴿ناقَةُ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٧٣] و﴿رَوْحِ اللَّهِ﴾ [يوسف: ٨٧]، مِن حَيْثُ إنَّ في كُلٍّ مِنهُما خُصُوصِيَّةً لا تُوجَدُ في غَيْرِهِ، فَناسَبَ الإضافَةَ إلَيْهِ تَعالى. والأمْرُ بِتَطْهِيرِهِ يَقْتَضِي سَبْقَ وجُودِهِ، إلّا إذا حَمَلْنا التَّطْهِيرَ عَلى البِناءِ والتَّأْسِيسِ عَلى الطَّهارَةِ والتَّقْوى. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ كانَ مَبْنِيًّا عَلى عَهْدِ نُوحٍ. ﴿لِلطّائِفِينَ والعاكِفِينَ﴾: ظاهِرُهُ أنَّهُ كُلُّ مَن يَطُوفُ مِن حاضَرٍ أوْ بادٍ، قالَهُ عَطاءٌ وغَيْرُهُ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الغُرَباءُ الطّارِئُونَ عَلى مَكَّةَ حُجّاجًا وزُوّارًا، فَيَرْحَلُونَ عَنْ قَرِيبٍ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَهُ“ والعاكِفِينَ ”، قالَ: وهم أهْلُ البَلَدِ الحَرامِ المُقِيمُونَ، والمُقِيمُ مُقابِلُ المُسافِرِ. وقالَ عَطاءٌ: العاكِفُونَ هُمُ الجالِسُونَ مِن غَيْرِ طَوافٍ مِن بَلَدِيٍّ وغَرِيبٍّ. وقالَ مُجاهِدٌ: المُجاوِرُونَ لَهُ مِنَ الغُرَباءِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُصَلُّونَ؛ لِأنَّ الَّذِي يَكُونُ يَدْخُلُ إلى البَيْتِ، إنَّما يَدْخُلُ لِطَوافٍ أوْ صَلاةٍ. وقِيلَ: هُمُ المُعْتَكِفُونَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالعاكِفِينَ: الواقِفِينَ، يَعْنِي القائِمِينَ، كَما قالَ لِلطّائِفِينَ والقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ، والمَعْنى لِلطّائِفِينَ والمُصَلِّينَ؛ لِأنَّ القِيامَ والرُّكُوعَ والسُّجُودَ هَيْآَتُ المُصَلِّي. انْتَهى. ولَوْ قالَ: القائِمُ هُنا مَعْناهُ: العاكِفُ، مِن قَوْلِهِ:“ ﴿ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ [آل عمران: ٧٥] " لَكانَ حَسَنًا، ويَكُونُ في ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ أحْوالِ مَن دَخَلَ البَيْتِ لِلتَّعَبُّدِ؛ لِأنَّهُ لا يَخْلُو إذْ ذاكَ مِن طَوافٍ أوِ اعْتِكافٍ أوْ صَلاةٍ، فَيَكُونُ حَمْلُهُ عَلى ذَلِكَ أجْمَعَ لِما هُيِّئَ البَيْتُ لَهُ. ﴿والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾: هُمُ المُصَلُّونَ عِنْدَ الكَعْبَةِ، قالَهُ عَطاءٌ وغَيْرُهُ. وقالَ الحَسَنُ: هم جَمِيعُ المُؤْمِنِينَ، وخَصَّ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ بِالذِّكْرِ مِن جَمِيعِ أحْوالِ المُصَلِّي، لِأنَّهُما أقْرَبُ أحْوالِهِ إلى اللَّهِ، وقَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلى السُّجُودِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ في الزَّمانِ، وجُمِعا جَمْعَ تَكْسِيرٍ لِمُقابَلَتِهِما ما قَبْلَهُما مِن جَمْعَيِ السَّلامَةِ، فَكانَ ذَلِكَ تَنْوِيعًا في الفَصاحَةِ، وخالَفَ بَيْنَ وزْنَيْ تَكْسِيرِهِما تَنْوِيعًا في الفَصاحَةِ أيْضًا، وكانَ آخِرُهُما عَلى فُعُولٍ لا عَلى فُعَّلٍ لِأجْلِ كَوْنِها فاصِلَةً، والفَواصِلُ قَبْلَها وبَعْدَها آخِرُها قَبْلَهُ حَرْفُ مَدٍّ ولِينٍ، وعُطِفَتْ تَيْنِكَ الصِّفَتانِ لِفَرْطِ التَّبايُنِ بَيْنَهُما بِأيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَهُما مِمّا سَبَقَ. ولَمْ يَعْطِفِ السُّجُودَ عَلى الرُّكَّعِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ بِهِما المُصَلُّونَ. والرُّكَّعُ والسُّجُودُ وإنِ اخْتَلَفَتْ هَيْئاتُهُما فَيَشْمَلُهُما فِعْلٌ واحِدٌ وهو الصَّلاةُ. فالمُرادُ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: المُصَلُّونَ، فَناسَبَ أنْ لا يَعْطِفَ، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما عِبادَةٌ عَلى حِيالِها، ولَيْسَتا مُجْتَمِعَتَيْنِ في عِبادَةٍ واحِدَةٍ، ولَيْسَ كَذَلِكَ. وفي قَوْلِهِ: ﴿والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ دَلالَةٌ عَلى جَوازِ الصَّلاةِ في البَيْتِ فَرْضًا ونَفْلًا، إذْ لَمْ يُخَصِّصْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب