الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿واللّائِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِسائِكم إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِن أمْرِهِ يُسْرًا﴾ ﴿ذَلِكَ أمْرُ اللَّهِ أنْزَلَهُ إلَيْكم ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أجْرًا﴾ ﴿أسْكِنُوهُنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِن وُجْدِكم ولا تُضارُوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أرْضَعْنَ لَكم فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وائْتَمِرُوا بَيْنَكم بِمَعْرُوفٍ وإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾ ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ . (p-٢٨٤)ورُوِيَ أنَّ قَوْمًا، مِنهم أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وخَلّادُ بْنُ النُّعْمانِ، لَمّا سَمِعُوا قَوْلَهُ: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨] قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَما عِدَّةُ مَن لا قُرْءَ لَها مِن صِغَرٍ أوْ كِبَرٍ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَقالَ قائِلٌ: فَما عِدَّةُ الحامِلِ ؟ فَنَزَلَتْ ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يَئِسْنَ) فِعْلًا ماضِيًّا. وقُرِئَ: بِياءَيْنِ مُضارِعًا، ومَعْنى ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ في أنَّها يَئِسَتْ أمْ لا؛ لِأجْلِ مَكانِ ظُهُورِ الحَمْلِ، وإنْ كانَ انْقَطَعَ دَمُها. وقِيلَ: إنِ ارْتَبْتُمْ في دَمِ البالِغاتِ مَبْلَغَ اليَأْسِ، أهُوَ دَمُ حَيْضٍ أوِ اسْتِحاضَةٍ ؟ وإذا كانَتْ هَذِهِ عِدَّةَ المُرْتابِ بِها، فَغَيْرُ المُرْتابِ بِها أوْلى بِذَلِكَ. وقَدَّرَ بَعْضُهم مَبْلَغَ اليَأْسِ بِسِتِّينَ سَنَةً، وبَعْضُهم بِخَمْسٍ وخَمْسِينَ. وقِيلَ: غالِبُ سِنِّ يَأْسِ عَشِيرَةِ المَرْأةِ. وقِيلَ: أقْصى عادَةِ امْرَأةٍ في العالَمِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الآيَةُ وارِدَةٌ في المُسْتَحاضَةِ أطْبَقَ بِها الدَّمُ، لا نَدْرِي أهُوَ دَمُ حَيْضٍ أوْ دَمُ عِلَّةٍ. وقِيلَ: ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ شَكَكْتُمْ في حالِهِنَّ وحُكْمِهِنَّ فَلَمْ تَدْرُوا ما حُكْمُهُنَّ، فالحُكْمُ أنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ. واخْتارَ الطَّبَرِيُّ أنَّ مَعْنى ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ شَكَكْتُمْ فَلَمْ تَدْرُوا ما الحُكْمُ، فَقِيلَ: ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أيْ: إنْ تَيَقَّنْتُمْ إياسَهُنَّ، وهو مِنَ الأضْدادِ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى إنِ ارْتَبْتُمْ في حَيْضِها، وقَدِ انْقَطَعَ عَنْها الدَّمُ، وكانَتْ مِمّا يَحِيضُ مِثْلُها. وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ هو لِلْمُخاطَبِينَ، أيْ: إنْ لَمْ تَعْلَمُوا عِدَّةَ الآيِسَةِ ﴿واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ فالعِدَّةُ هَذِهِ، فَتَلَخَّصَ في قَوْلِهِ: ﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما، أنَّهُ عَلى ظاهِرِ مَفْهُومِ اللُّغَةِ فِيهِ، وهو حُصُولُ الشَّكِّ، والآخَرُ أنَّ مَعْناهُ التَّيَقُّنُ لِلْإياسِ، والقَوْلُ الأوَّلُ مَعْناهُ: إنِ ارْتَبْتُمْ في دَمِها، أهُوَ دَمُ حَيْضٍ أوْ دَمُ عِلَّةٍ ؟ أوْ إنِ ارْتَبْتُمْ في عُلُوقٍ بِحَمْلٍ أمْ لا، أوْ إنِ ارْتَبْتُمْ أيْ: جَهِلْتُمْ عِدَّتَهُنَّ، أقْوالٌ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ يَشْمَلُ مَن لَمْ يَحِضْ لِصِغَرٍ، ومَن لا يَكُونُ لَها حَيْضٌ البَتَّةَ، وهو مَوْجُودٌ في النِّساءِ، وهو أنَّها تَعِيشُ إلى أنْ تَمُوتَ ولا تَحِيضَ. ومَن أتى عَلَيْها زَمانُ الحَيْضِ وما بَلَغَتْ بِهِ ولَمْ تَحِضْ، فَقِيلَ: هَذِهِ تَعْتَدُّ سَنَةً. ﴿واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿واللّائِي يَئِسْنَ﴾ فَإعْرابُهُ مُبْتَدَأٌ كَإعْرابِ ﴿واللّائِي يَئِسْنَ﴾ وقَدَّرُوا خَبَرَهُ جُمْلَةً مِن جِنْسِ خَبَرِ الأوَّلِ، أيْ: عِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ، والأوْلى أنْ يُقَدَّرَ مِثْلُ أُولَئِكَ أوْ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ المُقَدَّرُ مُفْرَدًا جُمْلَةً. ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾ عامٌّ في المُطَلَّقَةِ وفي المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، وهو قَوْلُ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي مَسْعُودٍ البَدْرِيِّ وأبِي هُرَيْرَةَ وفُقَهاءِ الأمْصارِ. وقالَ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ: ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾ في المُطَّلَقاتِ، وأمّا المُتَوَفّى عَنْها فَعِدَّتُها أقْصى الأجَلَيْنِ، فَلَوْ وضَعَتْ قَبْلَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشْرٍ صَبَرَتْ إلى آخِرِها، والحُجَّةُ عَلَيْها حَدِيثُ سُبَيْعَةَ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَن شاءَ لاعَنْتُهُ، ما نَزَلَتْ ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾ إلّا بَعْدَ آيَةِ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (حَمْلَهُنَّ) مُفْرَدًا. والضَّحّاكُ: ”أحْمالَهُنَّ“ جَمْعًا. ﴿ذَلِكَ أمْرُ اللَّهِ﴾ يُرِيدُ ما عَلَّمَ مِن حُكْمِ المُعْتَدّاتِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (ويُعْظِمْ) بِالياءِ مُضارِعُ أعْظَمَ. والأعْمَشُ: نُعْظِمُ بِالنُّونِ، خُرُوجًا مِنَ الغَيْبَةِ لِلتَّكَلُّمِ. وابْنُ مِقْسَمٍ: بِالياءِ والتَّشْدِيدِ مُضارِعُ عَظَّمَ مُشَدَّدًا. ولَمّا كانَ الكَلامُ في أمْرِ المُطَلَّقاتِ وأحْكامِهِنَّ مِنَ العِدَدِ وغَيْرِها، وكُنْ لا يُطَلِّقُهُنَّ أزْواجُهُنَّ إلّا عَنْ بُغْضٍ لَهُنَّ وكَراهَةٍ، جاءَ عَقِيبَ بَعْضِ الجُمَلِ الأمْرُ بِالتَّقْوى مِن حَيْثُ المَعْنى، مُبْرَزًا في صُورَةِ شَرْطٍ وجَزاءٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ﴾ إذِ الزَّوْجُ المُطَلِّقُ قَدْ يَنْسُبُ إلى مُطَلَّقَتِهِ بَعْضَ ما يُشِينُها بِهِ ويُنَفِّرُ الخُطّابَ عَنْها، ويُوهِمُ أنَّهُ إنَّما فارَقَها لِأمْرٍ ظَهَرَ لَهُ مِنها، فَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ قَوْلُهُ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ﴾ في العَمَلِ بِما أنْزَلَهُ مِن هَذِهِ الأحْكامِ، وحافَظَ عَلى الحُقُوقِ الواجِبَةِ عَلَيْهِ مِن تَرْكِ الضِّرارِ والنَّفَقَةِ عَلى المُعْتَدّاتِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَلْزَمُهُ، يُرَتِّبُ لَهُ تَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ وإعْظامَ الأجْرِ. و”مِن“ في ﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ لِلتَّبْعِيضِ أيْ: بَعْضُ مَكانِ سُكْناكم. وقالَ قَتادَةُ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلّا بَيْتٌ واحِدٌ أسْكَنَها في بَعْضِ جَوانِبِهِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ الحَوْفِيُّ: ”مِن“ لِابْتِداءِ الغايَةِ، وكَذا قالَ أبُو البَقاءِ. و﴿مِن وُجْدِكُمْ﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَقَوْلُهُ: ﴿مِن وُجْدِكُمْ﴾ . (قُلْتُ): (p-٢٨٥)هُوَ عَطْفُ بَيانٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ وتَفْسِيرٌ لَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: أسْكِنُوهُنَّ مَكانًا مِن مَسْكَنِكم مِمّا تُطِيقُونَهُ، والوُجْدُ: الوُسْعُ والطّاقَةُ. انْتَهى. ولا نَعْرِفُ عَطْفَ بَيانٍ يُعادُ فِيهِ العامِلُ، إنَّما هَذا طَرِيقَةُ البَدَلِ مَعَ حَرْفِ الجَرِّ، ولِذَلِكَ أعْرَبَهُ أبُو البَقاءِ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿مِن وُجْدِكُمْ﴾ بِضَمِّ الواوِ. والحَسَنُ والأعْرَجُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وأبُو حَيْوَةَ: بِفَتْحِها. والفَيّاضُ بْنُ غَزَوانَ وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ ويَعْقُوبُ: بِكَسْرِها، وذَكَرَها الَمَهْدَوِيُّ عَنِ الأعْرَجِ، وهي لُغاتٌ ثَلاثَةٌ بِمَعْنى: الوُسْعِ. والوَجْدُ بِالفَتْحِ، يُسْتَعْمَلُ في الحُزْنِ والغَضَبِ والحُبِّ، ويُقالُ: وجَدْتُ في المالِ، ووَجَدْتُ عَلى الرَّجُلِ وجْدًا ومَوْجِدَةً، ووَجَدْتُ الضّالَّةَ وِجْدانًا، والوُجْدُ بِالضَّمِّ: الغِنى والقُدْرَةُ، يُقالُ: افْتَقَرَ الرَّجُلُ بَعْدَ وُجْدٍ. وأمَرَ - تَعالى - بِإسْكانِ المُطَلَّقاتِ، ولا خِلافَ في ذَلِكَ في الَّتِي لَمْ تُبَتَّ. وأمّا المَبْتُوتُةُ، فَقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ وعَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ والحَسَنُ ومالِكٌ والأوْزاعِيُّ وابْنُ أبِي لَيْلى والشّافِعِيُّ وأبُو عُبَيْدٍ: لَها السُّكْنى، ولا نَفَقَةَ لَها. وقالَ الثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ: لَها السُّكْنى والنَّفَقَةُ. وقالَ الحَسَنُ وحَمّادٌ وأحْمَدُ وإسْحاقُ وأبُو ثَوْرٍ: لا سُكْنى لَها ولا نَفَقَةَ. ﴿ولا تُضارُّوهُنَّ﴾ ولا تَسْتَعْمِلُوا مَعَهُنَّ الضِّرارَ ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ في المَسْكَنِ بِبَعْضِ الأسْبابِ مِن إنْزالِ مَن لا يُوافِقُهُنَّ، أوْ بِشَغْلِ مَكانِهِنَّ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتّى تَضْطَرُّوهُنَّ إلى الخُرُوجِ. وقِيلَ: هَذِهِ المُضارَّةُ مُراجَعَتُها إذا بَقِيَ مِن عِدَّتِها قَلِيلٌ، ثُمَّ يُطَلِّقُها فَيَطُولُ حَبْسُها في عِدَّتِهِ الثّانِيَةِ. وقِيلَ: إلْجاؤُها إلى أنْ تَفْتَدِيَ مِنهُ. ﴿وإنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ﴾ لا خِلافَ في وُجُوبِ سُكْناها ونَفَقَتِها، بُتَّتْ أوْ لَمْ تُبَتَّ. فَإنْ كانَ مُتَوَفّى عَنْها، فَأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّها لا نَفَقَةَ لَها. وعَنْ عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ: تَجِبُ نَفَقَتُها في التَّرِكَةِ. ﴿فَإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ أيْ: ولَدْنَ وأرْضَعْنَ المَوْلُودَ وجَبَ لَها النَّفَقَةُ، وهي الأجْرُ والكُسْوَةُ وسائِرُ المُؤَنِ عَلى ما قُرِّرَ في كُتُبِ الفِقْهِ، ولا يَجُوزُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ الِاسْتِئْجارُ إذا كانَ الوَلَدُ بَيْنَهُنَّ ما لَمْ يَبِنَّ، ويَجُوزُ عِنْدَ الشّافِعِيِّ. وفي تَعْمِيمِ المُطَلَّقاتِ بِالسُّكْنى، وتَخْصِيصُ أُولاتِ الأحْمالِ بِالنَّفَقَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ غَيْرَها مِنَ المُطَلَّقاتِ لا يُشارِكُها في النَّفَقَةِ، وتُشارِكُهُنَّ في السُّكْنى. (وائْتَمِرُوا) افْتَعِلُوا مِنَ الأمْرِ، يُقالُ: ائْتَمَرَ القَوْمُ وتَأمَّرُوا، إذا أمَرَ بَعْضُهم بَعْضًا. والخِطابُ لِلْآباءِ والأُمَّهاتِ، أيْ: ولْيَأْمُرْ بَعْضُكم بَعْضًا ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ أيْ: في الأُجْرَةِ والإرْضاعِ، والمَعْرُوفِ: الجَمِيلُ بِأنْ تُسامِحَ الأُمُّ، ولا يُماكِسَ الأبُ لِأنَّهُ ولَدُهُما مَعًا، وهُما شَرِيكانِ فِيهِ، وفي وُجُوبِ الإشْفاقِ عَلَيْهِ. وقالَ الكِسائِيُّ: (وائْتَمِرُوا) تَشاوَرُوا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ المَلَأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ [القصص: ٢٠] وقَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ويَعْدُو عَلى المَرْءِ ما يَأْتَمِرُ وقِيلَ: المَعْرُوفُ الكُسْوَةُ والدِّثارُ. ﴿وإنْ تَعاسَرْتُمْ﴾ أيْ: تَضايَقْتُمْ وتَشاكَسْتُمْ، فَلَمْ تَرْضَ إلّا بِما تَرْضى بِهِ الأجْنَبِيَّةُ، وأبى الزَّوْجُ الزِّيادَةَ، أوْ إنْ أبى الزَّوْجُ الإرْضاعَ إلّا مَجّانًا، وأبَتْ هي إلّا بَعِوَضٍ ﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾ أيْ: يَسْتَأْجِرُ غَيْرَها، ولَيْسَ لَهُ إكْراهُها. فَإنْ لَمْ يَقْبَلْ إلّا ثَدْيَ أُمِّهِ، أُجْبِرَتْ عَلى الإرْضاعِ بِأُجْرَةٍ مِثْلِها، ولا يَخْتَصُّ هَذا الحُكْمُ مِن وُجُوبِ أُجْرَةِ الرَّضاعِ بِالمُطَلَّقَةِ، بَلِ المَنكُوحَةُ في مَعْناها. وقِيلَ: فَسَتُرْضِعُ خَبَرٌ في مَعْنى الأمْرِ، أيْ: فَلْتُرْضِعْ لَهُ أُخْرى. وفي قَوْلِهِ: ﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾ يَسِيرُ مُعاتَبَةٍ لِلْأُمِّ إذا تَعاسَرَتْ، كَما تَقُولُ لِمَن تَسْتَقْضِيهِ حاجَةً فَيَتَوانى: سَيَقْضِيها غَيْرُكَ، تُرِيدُ: لَنْ تَبْقى غَيْرَ مَقْضِيَّةٍ وأنْتَ مَلُومٌ. والضَّمِيرُ في ”لَهُ“ عائِدٌ عَلى الأبِ، كَما تَعَدّى في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ أيْ: لِلْأزْواجِ. (لِيُنْفِقْ) المُوسِرُ والمَقْدُورُ عَلَيْهِ ما بَلَغَهُ وُسْعُهُ، أيْ عَلى المُطَلَّقاتِ والمُرْضِعاتِ، ولا يُكَلَّفُ ما لا يُطِيقُهُ. والظّاهِرُ أنَّ المَأْمُورَ بِالإنْفاقِ الأزْواجُ، وهَذا أصْلٌ في وُجُوبِ نَفَقَةِ الوَلَدِ عَلى الوالِدِ دُونَ الأُمِّ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ المَوّازِ: إنَّها عَلى الأبَوَيْنِ عَلى قَدْرِ المِيراثِ. وفي الحَدِيثِ: ”يَقُولُ لَكَ ابْنُكَ أنْفِقْ عَلَيَّ إلى مَن تَكِلُنِي“ . ذَكَرَهُ في صَحِيحِ البُخارِيِّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (لِيُنْفِقْ) بِلامِ الأمْرِ، وحَكى أبُو مُعاذٍ: (لِيُنْفِقَ) (p-٢٨٦)بِلامِ كَيْ ونَصَبَ القافَ، ويَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: شَرْعُنا ذَلِكَ لِيُنْفِقَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (قُدِرَ) مُخَفَّفًا. وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: مُشَدَّدُ الدّالِ، سَيَجْعَلُ اللَّهُ وعْدًا لِمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، يَفْتَحُ لَهُ أبْوابَ الرِّزْقِ. ولا يَخْتَصُّ هَذا الوَعْدُ بِفُقَراءِ ذَلِكَ الوَقْتِ، ولا بِفُقَراءِ الأزْواجِ مُطْلَقًا، بَلْ مَن أنْفَقَ ما قُدِرَ عَلَيْهِ ولَمْ يُقَصِّرْ، ولَوْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأتِهِ. فَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ والحَسَنُ وابْنُ المُسَيَّبِ ومالِكٌ والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وإسْحاقُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُما. وقالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وجَماعَةٌ: لا يُفَرَّقُ بَيْنَهُما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب