الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْكِنُوهُنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا عَنْ سُؤالٍ نَشَأ (p-139) مِمّا قَبْلَهُ مِنَ الحَثِّ عَلى التَّقْوى كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ نَعْمَلُ بِالتَّقْوى في شَأْنِ المُعْتَدّاتِ ؟ فَقِيلَ: ﴿أسْكِنُوهُنَّ﴾ إلَخْ، ومِن لِلتَّبْعِيضِ أيْ أسْكَنُوهُنَّ بَعْضَ مَكانِ سُكْناكم، ولْتَسْكُنْ إذا لَمْ يَكُنْ إلّا بَيْتٌ واحِدٌ في بَعْضِ نَواحِيهِ كَما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، وقالَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ: هي لِابْتِداءِ الغايَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن وُجْدِكُمْ﴾ أيْ مِن وُسْعِكم أيْ مِمّا تُطِيقُونَهُ عَطْفُ بَيانٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ عَلى ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، ورَدَّهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ لا يُعْرَفُ عَطْفُ بَيانٍ يُعادُ فِيهِ العامِلُ إنَّما هَذا طَرِيقَةُ البَدَلِ مَعَ حَرْفِ الجَرِّ ولِذَلِكَ أعْرَبَهُ أبُو البَقاءِ بَدَلًا، وتُعُقِّبَ بِأنَّ المُرادَ أنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ عَطْفُ بَيانٍ لِلْجارِّ والمَجْرُورِ لا المَجْرُورِ فَقَطْ حَتّى يُقالَ ذَلِكَ مَعَ أنَّهُ لا يَبْرُدُ لَهُ بِسَلامَةِ الأمِيرِ وأنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ عَطْفِ البَيانِ والبَدَلِ إلّا في أمْرٍ يَسِيرٍ، ولا يَخْفى قُوَّةُ كَلامِ أبِي حَيّانَ، وقَرَأ الحَسَنُ والأعْرَجُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وأبُو حَيْوَةَ «مِن وجْدِكم» بِفَتْحِ الواوِ، وقَرَأ الفَيّاضُ بْنُ غَزَوانَ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ ويَعْقُوبُ بِكَسْرِها - وذَكَرَها المَهْدَوِيُّ عَنِ الأعْرَجِ - والمَعْنى في الكُلِّ الوُسْعُ ﴿ولا تُضارُّوهُنَّ﴾ ولا تَسْتَعْمِلُوا مَعَهُنَّ الضِّرارَ في السُّكْنى ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ فَتُلْجِئُوهُنَّ إلى الخُرُوجِ بِشَغْلِ المَكانِ أوْ بِإسْكانِ مَن لا يُرِدْنَ السُّكْنى مَعَهُ ونَحْوَ ذَلِكَ ﴿وإنْ كُنَّ﴾ أيِ المُطَلَّقاتُ ﴿أُولاتِ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ فَيَخْرُجْنَ عَنِ العِدَّةِ، وأمّا المُتَوَفّى عَنْهُنَّ أزْواجُهُنَّ فَلا نَفَقَةَ لَهُنَّ عِنْدَ أكْثَرِ العُلَماءِ، وعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وابْنِ مَسْعُودٍ تَجِبُ نَفَقَتُهُنَّ في التَّرِكَةِ، ولا خِلافَ في وُجُوبِ سُكْنى المُطَلَّقاتِ أُولاتِ الحَمْلِ ونَفَقَتِهِنَّ بُتَّ الطَّلاقُ أوْ لَمْ يُبَتَّ. واخْتُلِفَ في المُطَلَّقاتِ اللّاتِي لَسْنَ أُولاتِ حَمْلٍ بَعْدَ الِاتِّفاقِ عَلى وُجُوبِ السُّكْنى لَهُنَّ إذا لَمْ يَكُنَّ مَبْتُوتاتٍ، فَقالابْنُ المُسَيَّبِ وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ وعَطاءٌ والشَّعْبِيُّ والحَسَنُ ومالِكٌ والأوْزاعِيُّ وابْنُ أبِي لَيْلى والشّافِعِيُّ وأبُو عُبَيْدٍ: لِلْمُطَلَّقَةِ الحائِلِ المَبْتُوتَةِ السُّكْنى ولا نَفَقَةَ لَها، وقالَ الحَسَنُ وحَمّادٌ وأحْمَدُ وإسْحاقُ وأبُو ثَوْرٍ والإمامِيَّةُ: لا سُكْنى لَها ولا نَفَقَةَ لِحَدِيثِ «فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي أبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ البَتَّةَ فَخاصَمْتُهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في السُّكْنى والنَّفَقَةِ فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنى ولا نَفَقَةً وأمَرَنِي أنْ أعْتَدَّ في بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ أنْكَحَنِي أُسامَةَ بْنَ زَيْدٍ»، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ: لَها السُّكْنى والنَّفَقَةُ فَهُما عِنْدَهُ لِكُلِّ مُطْلَقَةٍ لَمْ تَكُنْ ذاتَ حَمْلٍ، ودَلِيلُهُ «أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ في المَبْتُوتَةِ: «لَها النَّفَقَةُ والسُّكْنى»» مَعَ أنَّ ذَلِكَ جَزاءُ الِاحْتِباسِ وهو مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الحائِلِ والحامِلِ، ولَوْ كانَ جَزاءً لِلْحَمْلِ لَوَجَبَ في مالِهِ إذا كانَ لَهُ مالٌ ولَمْ يَقُولُوا بِهِ. ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - أسْكِنُوهُنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ وأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِن وُجْدِكم - ومَن خَصَّ الإنْفاقَ بِالمُعْتَدّاتِ أُولاتِ الحَمْلِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ لِمَكانِ الشَّرْطِ فِيها وهو لا يَتِمُّ عَلى النّافِينَ لِمَفْهُومِ المُخالَفَةِ مَعَ أنَّ فائِدَةَ الشَّرْطِ ها هُنا أنَّ الحامِلَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أنَّها لا نَفَقَةَ لَها لِطُولِ مُدَّةِ الحَمْلِ فَأثْبَتَ لَها النَّفَقَةَ لِيُعْلَمَ غَيْرُها بِالطَّرِيقِ الأوْلى - كَما في الكَشّافِ - فَهو مِن مَفْهُومِ المُوافَقَةِ، وحَدِيثُ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَدْ طَعَنَ فِيهِ عُمَرُ وعائِشَةُ وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ والأسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وأبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وغَيْرُهم ﴿فَإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ أيْ بَعْدَ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ عَلى الإرْضاعِ ﴿وأْتَمِرُوا بَيْنَكم بِمَعْرُوفٍ﴾ خِطابٌ لِلْآباءِ والأُمَّهاتِ، والِافْتِعالُ بِمَعْنى التَّفاعُلِ، يُقالُ: ائْتَمَرَ القَوْمُ وتَآمَرُوا بِمَعْنى، قالَ الكِسائِيُّ: والمَعْنى تَشاوَرُوا، وحَقِيقَتُهُ (p-140) لِيَأْمُرْ بَعْضُكم بَعْضًا بِمَعْرُوفٍ أيْ جَمِيلٍ في الأُجْرَةِ والإرْضاعِ ولا يَكُنْ مِنَ الأبِ مُماسَكَةٌ ولا مِنَ الأُمِّ مُعاسَرَةٌ، وقِيلَ: المَعْرُوفُ الكُسْوَةُ والدِّثارُ ﴿وإنْ تَعاسَرْتُمْ﴾ أيْ تَضايَقْتُمْ أيْ ضَيَّقَ بَعْضُكم عَلى الآخَرِ بِالمُشاحَّةِ في الأُجْرَةِ أوْ طَلَبِ الزِّيادَةِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ ﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾ أيْ فَسَتُوجَدُ ولا تَعُوزُ مُرْضِعَةٌ أُخْرى، وفِيهِ عَلى ما قِيلَ: مُعاتَبَةٌ لِلْأُمِّ لِأنَّهُ كَقَوْلِكَ لِمَن تَسْتَقْضِيهِ حاجَةً فَتَتَعَذَّرُ مِنهُ: سَيَقْضِيها غَيْرُكَ أيْ سَتَقْضِي وأنْتَ مَلُومٌ. وخَصَّ الأُمَّ بِالمُعاتَبَةِ عَلى ما قالَ ابْنُ المُنِيرِ لِأنَّ المَبْذُولَ مِن جِهَتِها هو لَبَنُها لِوَلَدِها وهو غَيْرُ مُتَمَوَّلٍ ولا مَضْمُونٌ بِهِ في العُرْفِ وخُصُوصًا مِنَ الأُمِّ عَلى الوَلَدِ، ولا كَذَلِكَ المَبْذُولُ مِن جِهَةِ الأبِ فَإنَّهُ المالُ المُضْنُونَ بِهِ عادَةً، فالأُمُّ إذَنْ أجْدَرُ بِاللَّوْمِ وأحَقُّ بِالعَتْبِ، والكَلامُ عَلى مَعْنى فَلْيَطْلُبْ لَهُ الأبُ مُرْضِعَةً أُخْرى فَيَظْهَرُ الِارْتِباطُ بَيْنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: إنَّ الكَلامَ لا يَخْلُو عَنْ مُعاتَبَةِ الأبِ أيْضًا حَيْثُ أُسْقِطَ في الجَوابِ عَنْ حَيِّزِ شَرَفِ الخِطابِ مَعَ الإشارَةِ إلى أنَّهُ إذا ضايَقَ الأُمَّ في الأجْرِ فامْتَنَعَتْ مِنَ الإرْضاعِ لِذَلِكَ فَلا بُدَّ مِن إرْضاعِ امْرَأةٍ أُخْرى، وهي أيْضًا تَطْلُبُ الأجْرَ في الأغْلَبِ والأُمُّ أشْفَقُ فَهي بِهِ أوْلى، وبِذَلِكَ يَظْهَرُ كَمالُ الِارْتِباطِ، والأوَّلُ أظْهَرُ فَتَدَبَّرْ، وقِيلَ: ﴿فَسَتُرْضِعُ﴾ خَبَرٌ بِمَعْنى الأمْرِ أيْ فَلْتُرْضِعْ، ولَيْسَ بِذاكَ، وهَذا الحُكْمُ إذا قَبِلَ الرَّضِيعُ ثَدْيَ أُخْرى أمّا إذا لَمْ يَقْبَلُ إلّا ثَدْيَ أُمِّهِ فَقَدْ قالُوا: تُجْبَرُ عَلى الإرْضاعِ بِأُجْرَةِ مِثْلِها
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب