الباحث القرآني
﴿أسْكِنُوهُنَّ مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِن وُجْدِكُمْ﴾ .
هَذِهِ الجُمْلَةُ وما أُلْحِقَ بِها مِنَ الجُمَلِ إلى قَوْلِهِ (﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ عَتَتْ﴾ [الطلاق: ٨]) إلَخْ.
تَشْرِيعٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ بَيانٌ لِما أُجْمِلَ في الآياتِ السّابِقَةِ مِن قَوْلِهِ (﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]) وقَوْلِهِ (﴿أوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢])، وقَوْلِهِ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]) فَتَتَنَزَّلُ هَذِهِ الجُمَلُ مِنَ اللّاتِي قَبْلَها مَنزِلَةَ البَيانِ لِبَعْضٍ، ويَدُلُّ الِاشْتِمالُ لِبَعْضٍ وكُلُّ ذَلِكَ مُقْتَضًى لِلْفَصْلِ. وابْتُدِئَ بِبَيانِ ما في (﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]) مِن إجْمالٍ.
والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في (﴿أسْكِنُوهُنَّ﴾) عائِدٌ إلى النِّساءِ المُطَلَّقاتِ في قَوْلِهِ (﴿إذا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق: ١]) . ولَيْسَ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الكَلامِ ما يَصْلُحُ لِأنْ يَعُودَ عَلَيْهِ هَذا الضَّمِيرُ إلّا لَفْظُ النِّساءِ وإلّا لَفْظُ (﴿أُولاتُ الأحْمالِ﴾ [الطلاق: ٤])، ولَكِنَّ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِأنَّ الإسْكانَ خاصٌّ بِالمُعْتَدّاتِ الحَوامِلِ فَإنَّهُ يُنافِي قَوْلَهُ تَعالى (﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ﴾ [الطلاق: ١]) فَتَعَيَّنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلى النِّساءِ المُطَلَّقاتِ كُلِّهِنَّ، وبِذَلِكَ يَشْمَلُ المُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ والبائِنَةَ والحامِلَ، لِما عَلِمْتَهُ في أوَّلِ السُّورَةِ مِن إرادَةِ الرَّجْعِيَّةِ والبائِنَةِ مِن لَفْظِ (﴿إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ [الطلاق: ١]) .
وجُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ قائِلُونَ بِوُجُوبِ السُّكْنى لَهُنَّ جَمِيعًا. قالَ أشْهَبُ: قالَ مالِكٌ يَخْرُجُ عَنْها إذا طَلَّقَها وتَبْقى هي في المَنزِلِ. ورَوى ابْنُ نافِعٍ قالَ مالِكٌ: فَأمّا الَّتِي لَمْ تَبِنْ فَإنَّها زَوْجَةٌ يَتَوارَثانِ والسُّكْنى لَهُنَّ لازِمَةٌ لِأزْواجِهِنَّ اهـ. يُرِيدُ أنَّها مُسْتَغْنًى عَنْ أخْذِ حُكْمِ سُكْناها مِن هَذِهِ الآيَةِ. ولا يُرِيدُ أنَّها مُسْتَثْناةٌ مِن حُكْمِ الآيَةِ. وقالَ قَتادَةُ وابْنُ أبِي لَيْلى وإسْحاقُ وأبُو ثَوْرٍ وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لا سُكْنى لِلْمُطَلَّقَةِ طَلاقًا بائِنًا. ومُتَمَسَّكُهم في ذَلِكَ ما رَوَتْهُ فاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: «أنَّ زَوْجَها طَلَّقَها ثَلاثًا وأنَّ أخا زَوْجِها مَنَعَها مِنَ السُّكْنى والنَّفَقَةِ، وأنَّها رَفَعَتْ أمْرَها إلى (p-٣٢٦)رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَها: إنَّما السُّكْنى والنَّفَقَةُ عَلى مَن لَهُ عَلَيْها الرَّجْعَةُ» . وهو حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفْهُ أحَدٌ إلّا مِن رِوايَةِ فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. ولَمْ يَقْبَلْهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ. فَقالَ: لا نَتْرُكُ كِتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ نَبِيِّنا لِقَوْلِ امْرَأةٍ لا نَدْرِي لَعَلَّها نَسِيَتْ أوْ شُبِّهَ عَلَيْها. وأنْكَرَتْهُ عائِشَةُ عَلى فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِيما ذَكَرَتْهُ مِن أنَّهُ أذِنَ لَها في الِانْتِقالِ إلى مَكانٍ غَيْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ كَما تَقَدَّمَ.
ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ رَوى عَنِ النَّبِيءِ ﷺ «أنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ البائِنَةِ سُكْنى» . ورَوَوْا أنَّ قَتادَةَ وابْنَ أبِي لَيْلى أخَذا بِقَوْلِهِ تَعالى (﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ [الطلاق: ١]) إذِ الأمْرُ هو المُراجَعَةُ، فَقَصَرا الطَّلاقَ في قَوْلِهِ (﴿إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ [الطلاق: ١])، عَلى الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ لِأنَّ البائِنَ لا تَتَرَقَّبُ بَعْدَهُ مُراجَعَةً وسَبَقَها إلى هَذا المَأْخَذِ فاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ المَذْكُورَةُ.
رَوى مُسْلِمٌ أنَّ مَرْوانَ بْنَ الحَكَمِ أرْسَلَ إلى فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ يَسْألُها عَنِ الحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ فَقالَ مَرْوانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذا الحَدِيثَ إلّا مِنَ المَرْأةِ سَنَأْخُذُ بِالعِصْمَةِ الَّتِي وجَدْنا عَلَيْها النّاسَ فَبَلَغَ قَوْلُ مَرْوانَ فاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فَقالَتْ: بَيْنِي وبَيْنَكُمُ القُرْآنُ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ (﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١])، إلى قَوْلِهِ (﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ [الطلاق: ١]) . قالَتْ: هَذا لِمَن كانَتْ لَهُ رَجْعَةٌ فَأيُّ أمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلاثِ اهـ.
ويَرُدُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ إحْداثَ الأمْرِ لَيْسَ قاصِرًا عَلى المُراجَعَةِ فَإنَّ مِنَ الأمْرِ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ أنْ يُرَقِّقَ قُلُوبَهُما فَيَرْغَبا مَعًا في إعادَةِ المُعاشَرَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وعَلى تَسْلِيمِ اقْتِصارِ ذَلِكَ عَلى إحْداثِ أمْرِ المُراجَعَةِ فَذِكْرُ هَذِهِ الحِكْمَةِ لا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي قَبْلَها إذْ يَكْفِي أنْ تَكُونَ حِكْمَةً لِبَعْضِ أحْوالِ العامِّ. فالصَّوابُ أنَّ حَقَّ السُّكْنى لِلْمُطَلَّقاتِ كُلِّهِنَّ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ.
وقَوْلُهُ (﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾)، أيْ في البُيُوتِ الَّتِي تَسْكُنُونَها، أيْ لا يُكَلَّفُ المُطَلِّقُ بِمَكانٍ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرَ بَيْتِهِ ولا يَمْنَعُها السُّكْنى بِبَيْتِهِ. وهَذا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ (﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]) .
(p-٣٢٧)فَإذا كانَ المَسْكَنُ لا يَسَعُ مُبَيِّتَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ خَرَجَ المُطَلِّقُ مِنهُ وبَقِيَتِ المُطَلَّقَةُ، كَما تَقَدَّمَ فِيما رَواهُ أشْهَبُ عَنْ مالِكٍ.
و(مِن) الواقِعَةُ في قَوْلِهِ (﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾) لِلتَّبْعِيضِ، أيْ في بَعْضِ ما سَكَنْتُمْ ويُؤْخَذُ مِنهُ أنَّ المَسْكَنَ صالِحٌ لِلتَّبْعِيضِ بِحَسَبِ عُرْفِ السُّكْنى مَعَ تَجَنُّبِ التَّقارُبِ في المَبِيتِ إنْ كانَتْ غَيْرَ رَجْعِيَّةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنهُ أنَّهُ إنْ لَمْ يَسَعْهُما خَرَجَ الزَّوْجُ المُطَلِّقُ.
و(مِن) في قَوْلِهِ (﴿مِن وُجْدِكُمْ﴾) بَدَلٌ مُطابِقٌ، وهو بَيانٌ لِقَوْلِهِ (﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾) فَإنَّ مَسْكَنَ المَرْءِ هو وُجْدُهُ الَّذِي وجَدَهُ غالِبًا لِمَن لَمْ يَكُنْ مُقَتِّرًا عَلى نَفْسِهِ.
والوُجْدُ: مُثَلَّثُ الواوِ هو الوِسْعُ والطّاقَةُ. وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِضَمِّ الواوِ. وقَرَأهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِكَسْرِها.
* * *
﴿ولا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ .
أُتْبِعَ الأمْرُ بِإسْكانِ المُطَلَّقاتِ بِنَهْيٍ عَنِ الإضْرارِ بِهِنَّ في شَيْءٍ مُدَّةَ العِدَّةِ مِن ضِيقِ مَحَلٍّ أوْ تَقْتِيرٍ في الإنْفاقِ أوْ مُراجَعَةٍ يَعْقُبُها تَطْلِيقٌ لِتَطْوُيْلِ العِدَّةِ عَلَيْهِنَّ قَصْدًا لِلنِّكايَةِ والتَّشَفِّي كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿ولا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُؤًا﴾ [البقرة: ٢٣١]) في سُورَةِ البَقَرَةِ. أوْ لِلْإلْجاءِ إلى افْتِدائِها مِن مُراجَعَتِهِ بِخُلْعٍ.
والضّارَّةُ: الإضْرارُ القَوِيُّ فَكَأنَّ المُبالَغَةَ راجِعَةٌ إلى النَّهْيِ لا إلى المَنهِيِّ عَنْهُ، أيْ هو نَهْيٌ شَدِيدٌ كالمُبالَغَةِ في قَوْلِهِ (﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]) في أنَّها مُبالَغَةٌ في النَّفْيِ ومَثْلُهُ كَثِيرٌ في القُرْآنِ.
والمُرادُ بِالتَّضْيِيقِ: التَّضْيِيقُ المَجازِيُّ وهو الحَرَجُ والأذى.
واللّامُ في (﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾) لِتَعْلِيلِ الإضْرارِ وهو قَيْدٌ جَرى عَلى غالِبِ ما يَعْرِضُ لِلْمُطَلَّقِينَ مِن مَقاصِدِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، كَما تَقَرَّرَ في قَوْلِهِ تَعالى (﴿ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١]) وإلّا فَإنَّ الإضْرارَ بِالمُطَلَّقاتِ مَنهِيٌّ عَنْهُ وإنْ لَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ.
* * *
(p-٣٢٨)﴿وإنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ .
ضَمِيرُ (كُنَّ) يَعُودُ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ (﴿أسْكِنُوهُنَّ﴾) كَما هو شَأْنُ تَرْتِيبِ الضَّمائِرِ، وكَما هو مُقْتَضى عَطْفِ الجُمَلِ، ولَيْسَ عائِدًا عَلى خُصُوصِ النِّساءِ السّاكِناتِ لِأنَّ الضَّمِيرَ لا يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ مُعادًا لِضَمِيرٍ آخَرَ.
وظاهِرُ نَظْمِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ الحَوامِلَ مُسْتَحِقّاتُ الإنْفاقِ دُونَ بَعْضِ المُطَلَّقاتِ أخْذًا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وقَدْ أخَذَ بِذَلِكَ الشّافِعِيُّ والأوْزاعِيُّ وابْنُ أبِي لَيْلى.
ولَكِنَّ المَفْهُومَ مُعَطَّلٌ في المُطَلَّقاتِ الرَّجْعِيّاتِ لِأنَّ إنْفاقَهُنَّ ثابِتٌ بِأنَّهُنَّ زَوْجاتٌ. ولِذَلِكَ قالَ مالِكٌ: إنَّ ضَمِيرَ (﴿أسْكِنُوهُنَّ﴾) لِلْمُطَلَّقاتِ البَوائِنِ كَما تَقَدَّمَ. ومَن لَمْ يَأْخُذْ بِالمَفْهُومِ قالُوا الآيَةَ تَعَرَّضَتْ لِلْحَوامِلِ تَأْكِيدًا لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ لِأنَّ مُدَّةَ الحَمْلِ طَوِيلَةٌ فَرُبَّما سَئِمَ المُطَلِّقُ الإنْفاقَ، فالمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ هو الغايَةُ الَّتِي بِقَوْلِهِ (﴿حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾) وجَعَلُوا لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ ذاتِ الحَمْلِ الإنْفاقَ. وبِهِ أخْذَ أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ. ونُسِبَ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
وهَذا الَّذِي يُرَجِّحُ هَذا القَوْلُ ولَيْسَ لِلشَّرْطِ مَفْهُومٌ وإنَّما الشَّرْطُ مَسُوقٌ لِاسْتِيعابِ الإنْفاقِ جَمِيعَ أمَدِ الحَمْلِ.
* * *
﴿فَإنْ أرْضَعْنَ لَكم فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأْتَمِرُوا بَيْنَكم بِمَعْرُوفٍ وإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾ .
لَمّا كانَ الحَمْلُ يَنْتَهِي بِالوَضْعِ انْتَقَلَ إلى بَيانِ ما يَجِبُ لَهُنَّ بَعْدَ الوَضْعِ فَإنَّهُنَّ بِالوَضْعِ يَصِرْنَ بائِناتٍ فَتَنْقَطِعُ أحْكامُ الزَّوْجِيَّةِ فَكانَ السّامِعُ بِحَيْثُ لا يَدْرِي هَلْ يَكُونُ إرْضاعُها ولَدَها حَقًّا عَلَيْها كَما كانَ في زَمَنِ العِصْمَةِ أوْ حَقًّا عَلى أبِيهِ فَيُعْطِيها أجْرَ إرْضاعِها كَما كانَ يُعْطِيها النَّفَقَةَ لِأجْلِ ذَلِكَ الوَلَدِ حِينَ كانَ حَمْلًا. وهَذِهِ (p-٣٢٩)الآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ (﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣]) الآيَةَ.
وأفْهَمَ قَوْلُهُ (لَكم) أنَّ إرْضاعَ الوَلَدِ بَعْدَ الفِراقِ حَقٌّ عَلى الأبِ وحْدَهُ لِأنَّهُ كالإنْفاقِ والأُمُّ تُرْضِعُ ولَدَها في العِصْمَةِ تَبَعًا لِإنْفاقِ أبِيهِ عَلَيْها عِنْدَ مالِكٍ خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ، إذْ قالا: لا يَجِبُ الإرْضاعُ عَلى الأُمِّ حَتّى في العِصْمَةِ فَلَمّا انْقَطَعَ إنْفاقُ الأبِ عَلَيْها بِالبَيْنُونَةِ تَمَحَّضَتْ إقامَةُ غِذاءِ ابْنِهِ عَلَيْهِ فَإنْ أرادَتْ أنْ تُرْضِعَهُ فَهي أحَقُّ بِذَلِكَ، ولَها أجْرُ الإرْضاعِ وإنْ أبَتْ فَعَلَيْهِ أنْ يَطْلُبَ ظِئْرًا لِابْنِهِ فَإنْ كانَ الطِّفْلُ غَيْرَ قابِلٍ ثَدْيَ غَيْرِ أُمِّهِ وجَبَ عَلَيْها إرْضاعُهُ ووَجَبَ عَلى أبِيهِ دَفْعُ أُجْرَةِ رِضاعِهِ.
وقالَ أبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ إرْضاعُ الِابْنِ عَلى أُمِّهِ ولَوْ بَعْدَ البَيْنُونَةِ. نَقَلَهُ عَنْهُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ وهو عَجِيبٌ. وهَذِهِ الآيَةُ أمامَهُ.
والِائْتِمارُ: التَّشاوُرُ والتَّداوُلُ في النَّظَرِ. وأصْلُهُ مُطاوِعُ أمَرَهُ لِأنَّ المُتَشاوِرِينَ يَأْمُرُ أحَدُهُما الآخَرَ فَيَأْتَمِرُ الآخَرُ بِما أمَرَهُ. ومِنهُ تَسْمِيَةُ مَجامِعِ أصْحابِ الدَّعْوَةِ أوِ النِّحْلَةِ أوِ القَصْدِ المُوَحَّدِ مُؤْتَمِرًا لِأنَّهُ يَقَعُ الِاسْتِئْمارُ فِيهِ، أيِ التَّشاوُرِ وتَداوُلِ الآراءِ.
وقَوْلُهُ (﴿وأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ﴾) خِطابٌ لِلرِّجالِ والنِّساءِ الواقِعِ بَيْنَهُمُ الطَّلاقُ لِيَتَشاوَرُوا في أمْرِ إرْضاعِ الأُمِّ ولَدَها. وما يَبْذُلُهُ الأبُ لَها مِنَ الأُجْرَةِ عَلى ذَلِكَ.
وقُيِّدَ الِائْتِمارُ بِالمَعْرُوفِ، أيِ ائْتَمِارًا مُلابِسًا لِما هو المَعْرُوفُ في مِثْلِ حالِهِمْ وقَوْمِهِمْ، أيْ مُعْتادٍ مَقْبُولٍ، فَلا يَشْتَطُّ الأبُ في الشُّحِّ ولا تَشْتَطُّ الأُمُّ في الحِرْصِ.
وقَوْلُهُ (﴿وإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾) عِتابٌ ومَوْعِظَةٌ لِلْأبِ والأُمِّ بِأنْ يُنَزِّلَ كُلٌّ مِنهُما نَفْسَهُ مَنزِلَةَ ما لَوِ اجْتُلِبَتْ لِلطِّفْلِ ظِئْرٌ، فَلا تَسْألُ الأُمُّ أكْثَرَ مِن أجْرِ أمْثالِها، ولا يَشِحُّ الأبُ عَمّا يَبْلُغُ أجْرَ أمْثالِ أُمِّ الطِّفْلِ، ولا يَسْقُطُ حَقُّ الأُمِّ إذا وجَدَ الأبُ مَن يُرْضِعُ لَهُ مَجّانًا لِأنَّ اللَّهَ قالَ (﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى﴾) وإنَّما يُقالُ أرْضَعَتْ لَهُ، إذا اسْتُؤْجِرَتْ لِذَلِكَ، كَما يُقالُ: اسْتَرْضَعَ أيْضًا، إذا آجَرَ مَن يُرْضِعُ لَهُ ولَدَهُ. وتَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعالى (﴿وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٣]) الآيَةَ.
(p-٣٣٠)والتَّعاسُرُ صُدُورُ العُسْرِ مِنَ الجانِبَيْنِ. وهو تَفاعُلٌ مِن قَوْلِكم: عَسَرْتُ فُلانًا، إذا أخَذْتَهُ عَلى عُسْرِهِ، ويُقالُ: تَعاسَرَ البَيِّعانِ إذا لَمْ يَتَّفِقا.
فَمَعْنى (﴿تَعاسَرْتُمْ﴾) اشْتَدَّ الخِلافُ بَيْنَكم ولَمْ تَرْجِعُوا إلى وِفاقٍ، أيْ فَلا يُبْقى الوَلَدُ بِدُونَ رَضاعَةٍ.
وسِينُ الِاسْتِقْبالِ مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ (﴿قالَ سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي﴾ [يوسف: ٩٨]) في سُورَةِ يُوسُفَ. وهَذا المَعْنى ناشِئٌ عَنْ جَعْلِ عَلامَةِ الِاسْتِقْبالِ كِنايَةً عَنْ تَجَدُّدِ ذَلِكَ الفِعْلِ في أزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِتَحْصِيلِهِ.
وهَذا الخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنايَةً أيْضًا عَنْ أمْرِ الأبِ بِاسْتِئْجارِ ظِئْرٍ لِلطِّفْلِ بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ (لَهُ) . بِقَوْلِهِ (﴿فَسَتُرْضِعُ﴾) .
فاجْتَمَعَ فِيهِ ثَلاثُ كِناياتٍ: كِنايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الأبِ، وكِنايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الأُمِّ، وكِنايَةٌ عَنْ أمْرِ الأبِ بِالِاسْتِرْضاعِ لِوَلَدِهِ.
{"ayah":"أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا۟ عَلَیۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُو۟لَـٰتِ حَمۡلࣲ فَأَنفِقُوا۟ عَلَیۡهِنَّ حَتَّىٰ یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُوا۟ بَیۡنَكُم بِمَعۡرُوفࣲۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥۤ أُخۡرَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق