الباحث القرآني

ولَمّا قَدَّمَ التَّكْفِيرَ وأتْبَعَهُ الأجْرَ الكَبِيرَ، وكانَ قَدْ تَقَدَّمَ إيجابُ تَرْكِ المُطَلَّقَةِ في مَنزِلِ الطَّلاقِ (p-١٥٩)وأذِنَ في إخْراجِها عِنْدَ الفاحِشَةِ المُبَيِّنَةِ، وكانَ رُبَّما كانَ مَنزِلُ الطَّلاقِ مُسْتَعارًا، وكانَ مِمّا لا يَلِيقُ بِالزَّوْجِ، وكانَ رُبَّما نَزَلَ الكَلامُ السّابِقُ عَلَيْهِ، اسْتَأْنَفَ البَيانَ لَهُ بِما لا يَحْتَمِلُ لَبْسًا فَقالَ آمِرًا بَعْدَ ذَلِكَ النَّهْيِ عَلى وجْهٍ مُشِيرٍ بِسابِقِهِ ولاحِقِهِ إلى الحُلْمِ عَنْهُنَّ فِيما يُمْكِنُ الحُلْمُ فِيهِ حِفْظًا لِلْقُلُوبِ وإبْعادًا لِلشِّقاقِ بَعْدَ الإيحاشِ بِالطَّلاقِ لِئَلّا يَعْظُمَ الكَسْرُ والوَحْشَةُ: ﴿أسْكِنُوهُنَّ﴾ أيْ هَؤُلاءِ [ المُفارِقاتِ -] في العِدَّةِ إنْ كُنَّ مُطَلَّقاتٍ حامِلاتٍ كُنَّ أوْ لا مَبْتُوتاتٍ كُنْ أوْ رَجْعِيّاتٍ بِخِلافِ ما كانَ مِنَ العِدَّةِ عَنْ وفاةٍ بِغَيْرِ حَمْلٍ أوْ كانَ عَنْ شُبْهَةٍ أوْ فَسْخٍ. ولَمّا كانَ المُرادُ مَسْكَنًا يَلِيقُ بِها وإنْ كانَ بَعْضَ مَسْكَنِ الرَّجُلِ، أدْخَلَ أداةَ التَّبْعِيضِ فَقالَ: ﴿مِن حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ أيْ مِن أماكِنِ سُكْناكم لِتَكُونَ قَرِيبَةً مِنكم لِيَسْهُلَ تَفَقُّدُكم لَها لِلْحِفْظِ وقَضاءِ الحاجاتِ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ رُبَّما سَكَنَ في ماضِي الزَّمانِ ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الآنَ قالَ مُبَيِّنًا لِلْمَسْكَنِ المَأْمُورِ بِهِ مُبْقِيًا لِلْمُوادَدَةِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِما يَشُقُّ: ﴿مِن وُجْدِكُمْ﴾ أيْ سِعَتِكم وطاقَتِكم بِإجارَةٍ أوْ مِلِكٍ أوْ إعارَةٍ حَتّى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ بِحِمْلٍ كانَتْ أوْ غَيْرِهِ. ولَمّا كانَ الإسْكانُ قَدْ يَكُونُ مَعَ الشَّنَآنِ قالَ: ﴿ولا تُضارُّوهُنَّ﴾ أيْ حالَ السُّكْنى في المَسْكَنِ ولا في غَيْرِهِ. ولَمّا (p-١٦٠)كانَتِ المُضارَّةُ قَدْ يَكُونُ لِمَقْصِدٍ حَسَنٍ بِأنْ يَكُونَ تَأْدِيبًا لِأمْرٍ بِمَعْرُوفٍ لِيَتَوَصَّلَ بِصُورَةِ شَرٍّ قَلِيلٍ ظاهِرٍ إلى خَيْرٍ كَثِيرٍ قالَ: ﴿لِتُضَيِّقُوا﴾ أيْ تَضْيِيقًا بِالِغًا لا شُبْهَةَ في كَوْنِهِ كَذَلِكَ مُسْتَعْلِيًا ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ حَتّى يُلْجِئَهُنَّ ذَلِكَ إلى الخُرُوجِ. ولَمّا كانَتِ النَّفَقَةُ واجِبَةً لِلرَّجْعِيَّةِ، وكانَتْ عِدَّتُها تارَةً بِالأقْراءِ وتارَةً بِالأشْهُرِ وتارَةً بِالحَمْلِ، وكانَ رُبَّما تَوَهَّمَ أنَّ ما بَعْدَ الثَّلاثَةِ الأشْهَرِ مِن مُدَّةِ الحَمْلِ لِلرَّجْعِيَّةِ وجَمِيعِ المُدَّةِ لِغَيْرِها لا يَجِبُ الإنْفاقُ فِيهِ قالَ: ﴿وإنْ كُنَّ﴾ أيِ المُعْتَدّاتُ ﴿أُولاتِ حَمْلٍ﴾ أيْ مِنَ الأزْواجِ كَيْفَ ما كانَتِ العِدَّةُ مِن مَوْتٍ أوْ طَلاقٍ بائِنٍ أوْ رَجْعِيٍّ ﴿فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ وإنْ مَضَتِ الأشْهُرُ ﴿حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ فَإنَّ العِلَّةَ الِاعْتِدادُ بِالحَمْلِ، وهَذِهِ الشُّرْطِيَّةُ تَدُلُّ عَلى اخْتِصاصِ الحَوامِلِ مِن بَيْنِ المُعْتَدّاتِ البَوائِنِ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ. ولَمّا غَيَّ سُبْحانَهُ وُجُوبَ الإنْفاقِ بِالوَضْعِ، وكانَتْ [ قَدْ -] تُرِيدُ إرْضاعَ ولَدِها، وكانَ اشْتِغالُها بِإرْضاعِهِ يُفَوِّتُ عَلَيْها كَثِيرًا مِن مَقاصِدِها ويَكْسِرُها، جَبْرُها بِأنْ قالَ حاثًّا عَلى مُكافَأةِ الأخَوانِ عَلى الإحْسانِ مُشِيرًا بِأداةِ الشَّكِّ إلى أنَّهُ لا يُجِيبُ عَلَيْها الإرْضاعُ: ﴿فَإنْ أرْضَعْنَ﴾ وبَيَّنَ أنَّ النَّسَبَ لِلرِّجالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَكُمْ﴾ أيْ بِأُجْرَةٍ بَعْدَ انْقِطاعِ عَلَقَةِ النِّكاحِ ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ عَلى ذَلِكَ الإرْضاعِ. ولَمّا كانَ ما يَتَعَلَّقُ بِالنِّساءِ (p-١٦١)مِن مِثْلِ ذَلِكَ مَوْضِعُ المُشاجَرَةِ لا سِيَّما أمْرُ الرَّضاعِ، وكانَ الخَطَرُ في أمْرِهِ شَدِيدًا، وكانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ رَحِمَ هَذِهِ الأُمَّةَ بِأنَّهُ يُحَرِّكُ لِكُلٍّ مُتَشاحِحَيْنِ مَن يَأْمُرُهُما بِخَيْرٍ لا سِيَّما في أمْرِ الوَلَدِ رَحْمَةً لَهُ قالَ مُشِيرًا إلى ذَلِكَ: ﴿وأْتَمِرُوا﴾ أيْ لِيَأْمُرَ بَعْضُكم بَعْضًا في الإرْضاعِ والأجْرِ فِيهِ وغَيْرِ ذَلِكَ ولِيَقْبَلَ بَعْضُكم أمَرَ بَعْضٍ، وزادَهم رَغْبَةً في ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أيْ إنَّ هَذا الخَيْرَ لا يَعْدُوكُمْ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ ونَكَّرَهُ سُبْحانَهُ تَحْقِيقًا عَلى الأُمَّةِ بِالرِّضى بِالمُسْتَطاعِ، وهو يَكُونُ مَعَ الخَلْقِ بِالإنْصافِ، ومَعَ النَّفْسِ بِالخِلافِ، ومَعَ الحَقِّ بِالِاعْتِرافِ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْمُياسَرَةِ، وكانَ قَدْ يُوجَدُ في النّاسِ مِنَ الغالِبِ عَلَيْهِ الشَّرُّ، قالَ مُشِيرًا بِالتَّعْبِيرِ بِأداةِ الشَّكِّ إلى أنَّ ذَلِكَ وإنْ وُجِدَ فَهو قَلِيلٌ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ فَإنَّ تَياسَرْتُمْ فَهو حَظُّكم وأنْتُمْ جَدِيرُونَ بِسَماعِ هَذا الوَعْدِ بِذَلِكَ: ﴿وإنْ تَعاسَرْتُمْ﴾ أيْ طَلَبَ [ كُلٌّ -] مِنكم ما يَعْسُرُ عَلى الآخَرِ بِأنْ طَلَبَتِ المَرْأةُ الأُجْرَةَ وطَلَبَ الزَّوْجُ إرْضاعَها مَجّانًا فَلَيْسَ لَهُ أنْ يُكْرِهَها. ولَمّا كانَ سُبْحانَهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِأرْزاقِ عِبادِهِ وقَدَّرَها قَبْلَ إيجادِهِمْ. قالَ مُخْبِرًا جَبْرًا لِلْأبِ بِما يَصْلُحُ عِتابًا لِلْأُمِّ: ﴿فَسَتُرْضِعُ﴾ (p-١٦٢)[ أيْ -] بِوَعْدٍ لا خُلْفَ فِيهِ، وصَرَفَ الخِطابَ إلى الغَيْبَةِ إيذانًا بِأنَّ الأبَ تَرَكَ الأوْلى فِيما هو جَدِيرٌ بِهِ مِنَ المُياسَرَةِ لِكَوْنِهِ حَقِيقًا بِأنْ يَكُونَ أوْسَعَ بِطانًا وأعْظَمَ شَأْنًا مِن أنْ يَضِيقَ عَمّا تَرْضى بِهِ المَرْأةُ اسْتِنانًا بِهِ ﷺ في أنَّهُ «ما خُيِّرَ بَيْنَ أمْرَيْنِ إلّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا أوْ قَطْعِيَّةَ رَحِمٍ» فَقالَ: ﴿لَهُ﴾ أيِ الأبُ ﴿أُخْرى﴾ أيْ مِرْضَعَةٍ غَيْرِ الأُمِّ ويُغْنِي اللَّهُ عَنْها ولَيْسَ لَهُ إكْراهُها إلّا إذا لَمْ يَقْبَلُ ثَدْيَ غَيْرِها، وهَذا الحُكْمُ لا يَخْتَصُّ بِالمُطَلَّقَةِ بَلِ المَنكُوحَةِ كَذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب