قال ابن الخطيب: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله ﴿وَمَن يَتَّقِ الله﴾ كأنه قيل: كيف يعمل بالتقوى في جنس المعتدات؟ فقيل: «أسكنوهُنَّ» .
قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ . فيه وجهان:
أحدهما: أن «من» للتبعيض.
قال الزمخشري: «مبعضها محذوف معناه: أسكنوهن مكاناً من حيثُ سكنتم، أي: بعض مكان سُكناكم، كقوله تعالى: ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: 30] أي: بعض أبصارهم» .
قال قتادةُ: إن لم يكن إلا بيت واحد، فأسكنها في بعض جوانبه.
قال ابن الخطيب: وقال في الكشاف: «من» صلة، والمعنى أسكنوهن من حيث سكنتم.
والثاني: أنها لابتداء الغاية. قاله الحوفي، وأبو البقاء.
قال أبو البقاء: والمعنى تسبّبوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ودلّ عليه قوله «مِن وُجْدِكُم» ، والوُجْد: الغِنَى.
قوله: «من وجدكم» . فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بدل من قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ بتكرار العامل، وإليه ذهب أبو البقاء.
كأنه قيل: أسكنوهن من سعتكُم.
والثاني: أنه عطف بيان لقوله: ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ ، وإليه ذهب الزمخشري، فإنه قال بعد أن أعرب «مِنْ حَيْثُ» تبعيضية، قال: «فإن قلت: فقوله» مِنْ وُجْدِكُمْ «قلت: هو عطف بيان لقوله ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ ومفسّر له، كأنه قيل: أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه، والوُجْد: الوسع والطاقة» .
وناقشه أبو حيان بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل. إنما عهد هذا في البدل، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً.
وقرأ العامة: «وجدكم» بضم الواو.
والحسن، والأعرج، وأبو حيوة: بفتحها.
والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب: بكسرها.
وهي لغات بمعنى واحد.
يقال: وجدت في المال أجد وُجْداً وجدة، والوُجْد: الغِنَى والقُدرة، والوَجْد بفتح الواو: الحُزْن أيضاً والحب والغضب.
* فصل في تفسير الآية
قال القرطبي: روى أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل لقوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ ، فلو كان معها ما قال أسكنوهن.
وقال ابن نافع: قال مالك في قوله تعالى ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ يعني المطلقات اللاتي بنَّ من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن، وليست حاملاً، فلها السُّكنَى، ولا نفقة لها ولا كُسْوة؛ لأنها بائن منه، ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها، وإن كانت حاملاً فلها الكسوة والنفقة والمسكن حتى تنقضي عدتها.
قال البغوي: ونعني بالكسوة مؤونة السكن، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج وجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة، وإن كانت عاريةً فرجع المعير فيها فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها، فأما من لم تَبِنْ منه، فإنها امرأته يتوارثان، ولا تخرج إلا بإذن زوجها ما دامت في العدة ولم يؤمر بالسكن لهما لأن ذلك لازم للزوج مع النفقة والكسوة حاملاً كانت أو غير حامل، وإنما أمر الله بالسكن للبائن، قال تعالى: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ فجعل الله - عَزَّ وَجَلَّ - للحوامل البائنات من أزواجهن السكنى والنفقة.
قال ابن العربي: «إن الله - تعالى - لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها» .
قال القرطبي: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك والشافعي: أن لها السَّكنى ولا نفقة لها.
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة.
ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: لا نفقة لها ولا سُكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني، وإن هذا يزعم أنه ليس لي سُكْنَى ولا نفقة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل لك السُّكنى والنفقة، قال: إن زوجها طلَّقها ثلاثاً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّمَا السُّكْنَى والنَّفقةُ على من لَهُ عليْهَا رَجْعَةٌ، فَلمَّا قدمتُ» الكُوفَة «طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة» .
وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد، فقال: يا شعبي، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيسٍ، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتومٍ.
وأجيب عن ذلك بما روت عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وحش، فخيف على ناحيتها.
وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها.
وقال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية، لقوله تعالى: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ [الطلاق: 1] ، وقوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية.
* فصل في المعتدة عن وطء الشبهة
قال البغوي: «وأما المُعتدَّة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بِعيْبٍ أو خيار عتق، فلا سُكْنَى لها ولا نفقة، وإن كانت حاملاً، والمعتدة من وفاة زوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً عند أكثر العلماء، وروي عن عليٍّ أن لها النفقة إن كانت حاملاً من التركة حتى تضع، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري. واختلفوا في سكناها:
فللشافعي قولان:
أحدهما: لا سكنى لها بل تعتدّ حيث شاءت، وهو قول علي وابن عبَّاس وعائشة، وبه قال عطاء والحسن، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: لها السكنى، وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، لما روى كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفُريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - «أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف» القدوم «لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة، فقالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» نَعَمْ «، فانصرفت حتى إذا كنت في الحُجْرة أو في المسجد دعاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر بي فدعيت له، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» كَيْفَ قُلْتِ؟ «قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال:» امْكُثِي حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ «، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهُر وعَشْراً، قالت: فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به» .
فمن قضى بهذا القول قال: إذنه لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ» ، ومن لم يوجب السُّكنى قال: أمرها بالمكث آخراً استحباباً لا وجوباً.
قوله: ﴿وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ﴾ .
قال مجاهد: في المسكن.
وقال مقاتل: في النَّفقة. وهو قول أبي حنيفة.
وعن أبي الضحى: أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها، ثم طلقها.
قوله: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ .
هذا في وجوب النَّفقة والسُّكنى للحامل المطلقة ثلاثاً أو أقل حتى تضع حملها، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي، وابن عمر وابن مسعود، وشريح، والنخعي، والشعبي، وحماد، وابن أبي ليلى، وسفيان، وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا ينفق عليها، إلا من نصيبها، وقد مضى في «البقرة» .
قوله: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ .
يعني المُطلَّقات، أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهنّ وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يَبِنَّ، ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في «البقرة» .
قوله: ﴿وَأْتَمِرُواْ﴾ .
افتعلوا من الأمر، يقال: ائتمر القوم وتأمّروا، أي: أمر بعضهم بعضاً.
وقال الكسائي: «ائتمروا» تشاوروا؛ وتلا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ [القصص: 20] وأنشد قول امرىء القيس: [الطويل]
4782 - ب - ... ... ... ... ... ... ... ..... ويَعْدُو عَلَى المَرْءِ مَا يَأتَمِرْ
* فصل في هذا الخطاب
الخطاب في قوله: «وائتمروا» للأزواج والزوجات، أي: وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.
وقيل: ائتمروا في إرضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.
وقيل: هو الكسوة والدثار.
وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده.
قوله: ﴿فَسَتُرْضِعُ﴾ .
قيل: هو خبر في معنى الأمر، والضمير في «له» للأب، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ والمفعول محذوف للعلم به، أي: فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى، والظَّاهر أنه خبر على بابه.
* فصل في تفسير الآية
قوله: ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ﴾ في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم أجرة رضاعها، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها وليستأجر غير أمه.
وقيل: معناه إن تضايقتكم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها.
وقال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجْرة.
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد.
فقال مالك: إرضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية، إلا لشرفها وموضعها، فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله.
وقال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال.
وقيل: يجب عليها بكل حال.
فإن طلقها فلا يجب عليها إرضاعه إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع، فإن اختلفا في الأجرة، فإن دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعة، وإن دعا الأب إلى أجرِ المثل، وامتنعت الأم لتطلب شططاً، فالأب أولى به، فإن أعسر الأب بأجرتها أجبرت على رضاع ولدها.
قوله: ﴿لِيُنفِقْ﴾ .
{"ayah":"أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا۟ عَلَیۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُو۟لَـٰتِ حَمۡلࣲ فَأَنفِقُوا۟ عَلَیۡهِنَّ حَتَّىٰ یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُوا۟ بَیۡنَكُم بِمَعۡرُوفࣲۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥۤ أُخۡرَىٰ"}