الباحث القرآني

﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ ذُكِرَ في سَبَبِ نُزُولِها أقْوالٌ مَضْمُونُ أكْثَرِها: أنَّ بَعْضَ أوْلادِ الأنْصارِ تَنَصَّرَ وبَعْضَهم تَهَوَّدَ، فَأرادَ آباؤُهم أنْ يُكْرِهُوهم عَلى الإسْلامِ، فَنَزَلَتْ. وقالَ أنَسٌ: نَزَلَتْ فِيمَن قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: ”أسْلِمْ“ . فَقالَ: أجِدُنِي كارِهًا. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في هَذِهِ الآيَةِ: أهِيَ مَنسُوخَةٌ ؟ أمْ لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ ؟ فَقِيلَ: هي مَنسُوخَةٌ، وهي مِن آياتِ المُوادَعَةِ الَّتِي نَسَخَتْها آيَةُ السَّيْفِ، وقالَ قَتادَةُ، والضَّحّاكُ: هي مُحْكَمَةٌ خاصَّةٌ في أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ الجِزْيَةَ، قالا: أُمِرَ بِقِتالِ أهْلِ الأوْثانِ لا يَقْبَلُ مِنهم إلّا الإسْلامَ أوِ السَّيْفَ، ثُمَّ أُمِرَ فِيمَن سِواهم أنْ يَقْبَلَ الجِزْيَةَ. ومَذْهَبُ مالِكٍ: أنَّ الجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِن كُلِّ كافِرٍ سِوى قُرَيْشٍ، فَتَكُونُ الآيَةُ خاصَّةً فِيمَن أعْطى الجِزْيَةَ مِنَ النّاسِ كُلِّهِمْ، لا يَقِفُ ذَلِكَ عَلى أهْلِ الكِتابِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: لا إكْراهَ بَعْدَ إسْلامِ العَرَبِ، ويَقْبَلُ الجِزْيَةَ. وقالَ الزَّجّاجُ: لا تَنْسِبُوا إلى الكَراهَةِ مَن أسْلَمَ مُكْرَهًا، يُقالُ: أكْفَرَهُ نَسَبَهُ إلى الكُفْرِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وطائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّهِمْ وطائِفَةٌ قالُوا مُسِيءٌ ومُذْنِبُ وقِيلَ: لا يُكْرَهُ عَلى الإسْلامِ مَن خَرَجَ إلى غَيْرِهِ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ، والقَفّالُ: مَعْناهُ أنَّهُ ما بَنى تَعالى أمْرَ الإيمانِ عَلى الإجْبارِ والقَسْرِ، وإنَّما بَناهُ عَلى التَّمَكُّنِ والِاخْتِيارِ، ويَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى أنَّهُ لَمّا بَيَّنَ دَلائِلَ (p-٢٨٢)التَّوْحِيدِ بَيانًا شافِيًا، قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ يَبْقَ عُذْرٌ في الكُفْرِ إلّا أنْ يُقْسَرَ عَلى الإيمانِ ويُجْبَرَ عَلَيْهِ، وهَذا ما لا يَجُوزُ في دارِ الدُّنْيا الَّتِي هي دارُ الابْتِلاءِ، إذْ في القَهْرِ والإكْراهِ عَلى الدِّينِ بُطْلانُ مَعْنى الابْتِلاءِ. ويُؤَكِّدُ هَذا قَوْلُهُ بَعْدُ: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ يَعْنِي: ظَهَرَتِ الدَّلائِلُ ووَضَحَتِ البَيِّناتُ، ولَمْ يَبْقَ بَعْدَها إلّا طَرِيقُ القَسْرِ والإلْجاءِ ولَيْسَ بِجائِزٍ؛ لِأنَّهُ يُنافِي التَّكْلِيفَ، وهَذا الَّذِي قالَهُ أبُو مُسْلِمٍ والقَفّالُ لائِقٌ بِأُصُولِ المُعْتَزِلَةِ، ولِذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَجْرِ اللَّهُ أمْرَ الإيمانِ عَلى الإجْبارِ والقَسْرِ، ولَكِنْ عَلى التَّمْكِينِ والاخْتِيارِ، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهم جَمِيعًا أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩] أيْ: لَوْ شاءَ لَقَسَرَهم عَلى الإيمانِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وبَنى الأمْرَ عَلى الاخْتِيارِ. والدِّينُ هُنا مِلَّةُ الإسْلامِ واعْتِقادُهُ، والألِفُ واللّامُ لِلْعَهْدِ، وقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ الإضافَةِ أيْ: في دِينِ اللَّهِ. ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ أيِ: اسْتَبانَ الإيمانُ مِنَ الكُفْرِ، وهَذا يُبَيِّنُ أنَّ الدِّينَ هو مُعْتَقَدُ الإسْلامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (الرُّشْدُ) عَلى وزْنِ القُفْلِ، والحَسَنُ: (الرُّشْدُ) عَلى وزْنِ العُنُقِ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (الرُّشْدُ) عَلى وزْنِ الجُبْلِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ أيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ. وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (الرَّشادُ) بِالألِفِ. والجُمْهُورُ عَلى إدْغامِ دالِ (قَدْ) في تاءِ (تَبَيَّنَ) . وقُرِئَ شاذًّا بِالإظْهارِ (وتَبَيَّنَ الرُّشْدَ) بِنَصْبِ الأدِلَّةِ الواضِحَةِ وبِعْثَةِ الرَّسُولِ الدّاعِي إلى الإيمانِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ كَأنَّها كالعِلَّةِ لِانْتِفاءِ الإكْراهِ في الدِّينِ؛ لِأنَّ وُضُوحَ الرُّشْدِ واسْتِبانَتَهُ يُحْمَلُ عَلى الدُّخُولِ في الدِّينِ طَوْعًا مِن غَيْرِ إكْراهٍ، ولا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ. ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ (الطّاغُوتِ): الشَّيْطانُ. قالَهُ عُمَرُ ومُجاهِدٌ والشَّعْبِيُّ والضَّحّاكُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ. أوِ السّاحِرُ، قالَهُ ابْنُ سِيرِينَ وأبُو العالِيَةِ. أوِ الكاهِنُ، قالَهُ جابِرٌ وابْنُ جُبَيْرٍ ورَفِيعٌ وابْنُ جُرَيْجٍ. أوْ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ مِمَّنْ يَرْضى ذَلِكَ: كَفِرْعَوْنَ، ونُمْرُوذَ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ. أوِ الأصْنامُ، قالَهُ بَعْضُهم، ويَنْبَغِي أنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها تَمْثِيلًا؛ لِأنَّ الطّاغُوتَ مَحْصُورٌ في كُلِّ واحِدٍ مِنها. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَدَّمَ ذِكْرَ الكُفْرِ بِالطّاغُوتِ عَلى الإيمانِ بِاللَّهِ لِيُظْهِرَ الِاهْتِمامَ بِوُجُوبِ الكُفْرِ بِالطّاغُوتِ، انْتَهى. وناسَبَ ذَلِكَ أيْضًا اتِّصالُهُ بِلَفْظِ الغَيِّ، ولِأنَّ الكُفْرَ بِالطّاغُوتِ مُتَقَدِّمٌ عَلى الإيمانِ بِاللَّهِ؛ لِأنَّ الكُفْرَ بِها هو رَفْضُها ورَفَضُ عِبادَتِها، ولَمْ يَكْتَفِ بِالجُمْلَةِ الأُولى؛ لِأنَّها لا تَسْتَلْزِمُ الجُمْلَةَ الثّانِيَةَ، إذْ قَدْ يَرْفُضُ عِبادَتَها ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، لَكِنَّ الإيمانَ يَسْتَلْزِمُ الكُفْرَ بِالطّاغُوتِ، ولَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ الكُفْرِ بِالطّاغُوتِ عَلى الِانْسِلاخِ بِالكُلِّيَّةِ، مِمّا كانَ مُشْتَبَهًا بِهِ، سابِقًا لَهُ قَبْلَ الإيمانِ؛ لِأنَّ في النَّصِّيَّةِ عَلَيْهِ مَزِيدُ تَأْكِيدٍ عَلى تَرْكِهِ، وجَوابُ الشَّرْطِ (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) وأُبْرِزَ في صُورَةِ الفِعْلِ الماضِي المَقْرُونِ بِقَدِ الدّالَّةِ في الماضِي عَلى تَحْقِيقِهِ، وإنْ كانَ مُسْتَقْبَلًا في المَعْنى؛ لِأنَّهُ جَوابُ الشَّرْطِ، إشْعارًا بِأنَّهُ مِمّا وقَعَ اسْتِمْساكُهُ وثَبَتَ، وذَلِكَ لِلْمُبالَغَةِ في تَرْتِيبِ الجَزاءِ عَلى الشَّرْطِ، وأنَّهُ كائِنٌ لا مَحالَةَ لا يُمْكِنُ أنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، و(بِالعُرْوَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (اسْتَمْسَكَ) جَعَلَ ما تُمْسِكُ بِهِ مِنَ الإيمانِ عُرْوَةً، وهي في الأجْرامِ مَوْضِعُ الإمْساكِ وشَدُّ الأيْدِي، شَبَّهَ الإيمانَ بِذَلِكَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا تَمْثِيلٌ لِلْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ، والِاسْتِدْلالِ بِالمُشاهَدِ المَحْسُوسِ، حَتّى يَتَصَوَّرَهُ السّامِعُ كَأنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَحْكُمُ اعْتِقادُهُ والتَّيَقُّنُ، والمُشَبَّهُ بِالعُرْوَةِ الإيمانُ، قالَهُ: مُجاهِدٌ أوِ الإسْلامُ قالَهُ السُّدِّيُّ، أوْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكُ، أوِ القُرْآنُ، قالَهُ السُّدِّيُّ أيْضًا، أوِ السُّنَّةُ، أوِ التَّوْفِيقُ. أوِ العَهْدُ الوَثِيقُ. أوِ السَّبَبُ المُوَصِّلُ إلى رِضا اللَّهِ (p-٢٨٣)وهَذِهِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ. ﴿لا انْفِصامَ لَها﴾ لا انْكِسارَ لَها ولا انْقِطاعَ، قالَ الفَرّاءُ: الِانْفِصامُ والِانْقِصامُ هُما لُغَتانِ، وبِالفاءِ أفْصَحُ، وفَرَّقَ بَعْضُهم بَيْنَهُما، فَقالَ: الفَصْمُ انْكِسارٌ بِغَيْرِ بَيْنُونَةٍ، والقَصْمُ انْكِسارٌ بِبَيْنُونَةٍ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ العُرْوَةِ، وقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِ في (الوُثْقى) ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا مِنَ اللَّهِ عَنِ العُرْوَةِ، ولَها، في مَوْضِعِ الخَبَرِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أيْ: كائِنٌ لَها. ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أتى بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ؛ لِأنَّ الكُفْرَ بِالطّاغُوتِ والإيمانَ بِاللَّهِ مِمّا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسانُ ويَعْتَقِدُهُ الجِنانُ، فَناسَبَ هَذا ذِكْرَ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ؛ لِأنَّ الكُفْرَ بِالطّاغُوتِ والإيمانَ بِاللَّهِ، وقِيلَ: سَمِيعٌ لِدُعائِكَ يا مُحَمَّدُ، عَلِيمٌ بِحِرْصِكَ واجْتِهادِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب