الباحث القرآني

* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ . هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ بِظاهِرِها عَلى أنَّهُ لا يُكْرِهُ أحَدٌ عَلى الدُّخُولِ في الدِّينِ، ونَظِيرُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩] . (p-٢٢٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إنْ عَلَيْكَ إلّا البَلاغُ﴾ [الشورى: ٤٨]، وقَدْ جاءَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ ما يَدُلُّ عَلى إكْراهِ الكُفّارِ عَلى الدُّخُولِ في الإسْلامِ بِالسَّيْفِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تُقاتِلُونَهم أوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦]، وقَوْلِهِ: ﴿وَقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣]، أيْ شِرْكٌ. وَيَدُلُّ لِهَذا التَّفْسِيرِ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» الحَدِيثَ، والجَوابُ عَنْ هَذا بِأمْرَيْنِ: الأوَّلُ: وهو الأصَحُّ، أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في خُصُوصِ أهْلِ الكِتابِ، والمَعْنى أنَّهم قَبْلَ نُزُولِ قِتالِهِمْ لا يُكْرَهُونَ عَلى الدِّينِ مُطْلَقًا وبَعْدَ نُزُولِ قِتالِهِمْ لا يُكْرَهُونَ عَلَيْهِ إذا أعْطَوُا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ. والدَّلِيلُ عَلى خُصُوصِها بِهِمْ ما رَواهُ أبُو داوُدَ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ وابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: كانَتِ المَرْأةُ تَكُونُ مِقْلاةً فَتَجْعَلُ عَلى نَفْسِها إنْ عاشَ لَها ولَدٌ أنْ تُهَوِّدَهُ، فَلَمّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ، كانَ فِيهِمْ مِن أبْناءِ الأنْصارِ فَقالُوا: لا نَدَعُ أبْناءَنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ . المِقْلاةُ: الَّتِي لا يَعِيشُ لَها ولَدٌ، وفي المَثَلِ: أحَرُّ مِن دَمْعِ المِقْلاةِ. وَأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ نَزَلَتْ: لا إكْراهَ في الدِّينِ في رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ مِن بَنِي سالِمِ بْنِ عَوْفٍ يُقالُ لَهُ: الحُصَيْنُ، كانَ لَهُ ابْنانِ نَصْرانِيّانِ وكانَ هو مُسْلِمًا، فَقالَ لِلنَّبِيِّ: ألا أسْتَكْرِهُهُما فَإنَّهُما قَدْ أبَيا إلّا النَّصْرانِيَّةَ ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ. وَرَوى ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ سَألَهُ أبُو بِشْرٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: نَزَلَتْ في الأنْصارِ، فَقالَ: خاصَّةً ؟ قالَ: خاصَّةً. وَأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ بِإسْنادَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ قالَ: أُكْرِهَ عَلَيْهِ هَذا الحَيُّ مِنَ العَرَبِ لِأنَّهم كانُوا أُمَّةً أُمِّيَّةً لَيْسَ لَهم كِتابٌ يَعْرِفُونَهُ، فَلَمْ يُقْبَلْ مِنهم غَيْرُ الإسْلامِ، ولا يُكْرَهْ عَلَيْهِ أهْلُ الكِتابِ إذا أقَرُّوا بِالجِزْيَةِ أوْ بِالخَراجِ ولَمْ يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ فَيُخَلّى سَبِيلُهم. وَأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أيْضًا عَنِ الضَّحّاكِ في قَوْلِهِ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ أوْ قالَ: أُمِرَ (p-٢٢٨)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُقاتِلَ جَزِيرَةَ العَرَبِ مِن أهْلِ الأوْثانِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنهم إلّا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ أوِ السَّيْفَ، ثُمَّ أُمِرَ فِيمَن سِواهم أنْ يَقْبَلَ مِنهُمُ الجِزْيَةَ، فَقالَ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ . وَأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ قالَ: وذَلِكَ لَمّا دَخَلَ النّاسُ في الإسْلامِ وأعْطى أهْلُ الكِتابِ الجِزْيَةَ، فَهَذِهِ النُّقُولُ تَدُلُّ عَلى خُصُوصِها بِأهْلِ الكِتابِ المُعْطِينَ الجِزْيَةَ ومَن في حُكْمِهِمْ، ولا يَرِدُ عَلى هَذا أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ لِأنَّ التَّخْصِيصَ فِيها عُرِفَ بِالنَّقْلِ عَنْ عُلَماءِ التَّفْسِيرِ لا بِمُطْلَقِ خُصُوصِ السَّبَبِ، ومِمّا يَدُلُّ لِلْخُصُوصِ أنَّهُ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ: «عَجِبَ رَبُّكَ مِن قَوْمٍ يُقادُونَ إلى الجَنَّةِ في السَّلاسِلِ» . الأمْرُ الثّانِي: أنَّها مَنسُوخَةٌ بِآياتِ القِتالِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ الآيَةَ [التوبة: ٥]، ومَعْلُومٌ أنَّ سُورَةَ ”البَقَرَةِ“ مِن أوَّلِ ما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ، وسُورَةُ ”بَراءَةَ“ مِن آخِرِ ما نَزَلَ بِها، والقَوْلُ بِالنَّسْخِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وزَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، وعَلى كُلِّ حالٍ فَآياتُ السَّيْفِ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ الَّتِي فِيها: ﴿لا إكْراهَ﴾ الآيَةَ، والمُتَأخِّرُ أوْلى مِنَ المُتَقَدِّمِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب