لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
وقد اختلف أهل العلم في قوله (لا إكراه في الدين) على أقوال:
الأول: أنها منسوخة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا الإسلام، والناسخ لها قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) وقال تعالى (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين.
القول الثاني: أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وإنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي والحسن وقتادة والضحاك.
القول الثالث: أن هذه الآية في الأنصار خاصة.
القول الرابع: أن معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره فلا إكراه في الدين.
القول الخامس: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام.
وقال ابن كثير في تفسيره أى لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله إلى الإسلام وشرح صدره ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً [[ابن كثير 1/ 310.]]، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً.
وقال في الكشاف في تفسير هذه الآية أي لم يُجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ولكن على التمكن والإختيار، ونحوه قوله (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكن لم يفعل وبنى الأمر على الأختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً.
والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمه غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت يهود بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فنزلت، أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس.
وقد وردت هذه القصة من وجوه حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا إنما جعلناهم على دينهم أي دين اليهود ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم، فلما نزلت خيّر الأبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكرههم على الإسلام.
وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدوا الجزية، وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم لأن النكرة في سياق النفي وتعريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خصص هذا العموم بما ورد في الآيات من إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام.
وقد قيل هذه الآية إلى (خالدون) من بقية آية الكرسي، والتحقيق أن هذه الآية مستأنفة جيء بها إثر بيان صفات الباري المذكورة إيذاناً بأن من حق العاقل أن لا يحتاج إلى التكليف والإكراه في الدين بل يختار الدين الحق من غير تردد.
(قد تبيّن الرشد من الغيّ) الرشد هنا الإيمان، والغي الكفر أي قد تميز أحدهما من الآخر، وأصل الغي بمعنى الجهل إلا أن الجهل في الاعتقاد والغي في الأعمال، وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله.
(فمن يكفر بالطاغوت) الطاغوت فعلوت من طغى يطغى ويطغو، إذا جاوز الحد، قال سيبويه: هو اسم مذكر مفرد أي اسم جنس يشمل القليل والكثير قاله سيبويه، وقال أبو علي الفارسي إنه مصدر كرهبوت وجبروت يوصف به الواحد والجمع.
وقيل أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من مخير اشتقاق، وقال المبرد هو جمع، قال ابن عطية وذلك مردود.
قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والساحر والشيطان وكل رأس في الضلال وكل ما عبد من دون الله وقد يكون واحداً، قال تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) وقد يكون جمعاً، قال تعالى (أولياؤهم الطاغوت) والجمع الطواغيت أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورؤس الضلالة أو بالجميع.
(ويؤمن بالله) عز وجل بعدما تميز له الرشد من الغي، والحق عن الباطل والهدى عن الضلالة، وإنما قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لأن الشخص ما لم يخالف الشيطان ويترك عبادة غيره تعالى لم يؤمن بالله كما قالوا إن التخلية مقدمة على التحلية.
(فقد استمسك بالعروة) هو في الأصل شد اليد وأصل المادة يدل على التعلق، ومنه عروته إذا ألمت به متعلقاً به واعتراه الهم تعلق به (الوثقى) أي فقد فاز وتمسّك بالحبل الوثيق المحكم، والوثقى فعلى من الوثاقة تأنيث الأوثق وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل.
وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة فقيل المراد بالعروة الإيمان، وقيل الإسلام، وقيل لا إله إلا الله، وقيل من باب الاستعارة المفردة حيث استعير العروة الوثقى للاعتقاد الحق ولا مانع من الحمل على الجميع.
(لا انفصام لها) الانفصام الانكسار من غير بينونة، قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع.
والمعنى أن المتمسك بالدين كالمتمسك بالشيء الذي لا يمكن كسره ولا انقطاعه، والجملة مستأنفة أو حالية (والله سميع عليم) يسمع قول من كفر بالطاغوت وأتى بالشهادتين، والجملة اعتراض تذييلي حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد والوعيد.
{"ayah":"لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِۖ قَد تَّبَیَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَیِّۚ فَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَیُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"}