الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى لا انْفِصامَ لَها واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: اللّامُ في ”الدِّينِ“ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لامُ العَهْدِ، والثّانِي: أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الإضافَةِ، كَقَوْلِهِ ﴿فَإنَّ الجَنَّةَ هي المَأْوى﴾ [النّازِعاتِ: ٤١] أيْ: مَأْواهُ، والمُرادُ في دِينِ اللَّهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَأْوِيلِ الآيَةِ وُجُوهٌ: أحَدُها، وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ والقَفّالِ وهو الألْيَقُ بِأُصُولِ المُعْتَزِلَةِ: مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى ما بَنى أمْرَ الإيمانِ عَلى الإجْبارِ والقَسْرِ، وإنَّما بَناهُ عَلى التَّمَكُّنِ والِاخْتِيارِ، ثُمَّ احْتَجَّ القَفّالُ عَلى أنَّ هَذا هو المُرادُ بِأنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ بَيانًا شافِيًا قاطِعًا لِلْعُذْرِ، قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إيضاحِ هَذِهِ الدَّلائِلِ لِلْكافِرِ عُذْرٌ في الإقامَةِ عَلى الكُفْرِ إلّا أنْ يَقْسِرَ عَلى الإيمانِ ويُجْبِرَ عَلَيْهِ، وذَلِكَ مِمّا لا يَجُوزُ في دارِ الدُّنْيا الَّتِي هي دارُ الِابْتِلاءِ، إذْ في القَهْرِ والإكْراهِ عَلى الدِّينِ بُطْلانُ مَعْنى الِابْتِلاءِ والِامْتِحانِ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكَهْفِ: ٢٩] وقالَ في سُورَةٍ أُخْرى: ﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن في الأرْضِ كُلُّهم جَمِيعًا أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يُونُسَ: ٩٩] وقالَ في سُورَةِ الشُّعَراءِ: ﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أعْناقُهُمْ﴾ (p-١٤)﴿لَها خاضِعِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٣] ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا القَوْلَ أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ يَعْنِي ظَهَرَتِ الدَّلائِلُ، ووَضَحَتِ البَيِّناتُ، ولَمْ يَبْقَ بَعْدَها إلّا طَرِيقُ القَسْرِ والإلْجاءِ والإكْراهِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّهُ يُنافِي التَّكْلِيفَ، فَهَذا تَقْرِيرُ هَذا التَّأْوِيلِ. القَوْلُ الثّانِي في التَّأْوِيلِ: هو أنَّ الإكْراهَ أنْ يَقُولَ المُسْلِمُ لِلْكافِرِ: إنْ آمَنَتْ وإلّا قَتَلْتُكَ فَقالَ تَعالى: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ أمّا في حَقِّ أهْلِ الكِتابِ وفي حَقِّ المَجُوسِ، فَلِأنَّهم إذا قَبِلُوا الجِزْيَةَ سَقَطَ القَتْلُ عَنْهم، وأمّا سائِرُ الكُفّارِ فَإذا تَهَوَّدُوا أوْ تَنَصَّرُوا فَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيهِمْ، فَقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ يُقَرُّ عَلَيْهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ عَنْهُ القَتْلُ إذا قَبِلَ الجِزْيَةَ، وعَلى مَذْهَبِ هَؤُلاءِ كانَ قَوْلُهُ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ عامًّا في كُلِّ الكُفّارِ، أمّا مَن يَقُولُ مِنَ الفُقَهاءِ بِأنَّ سائِرَ الكُفّارِ إذا تَهَوَّدُوا أوْ تَنَصَّرُوا فَإنَّهم لا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ، فَعَلى قَوْلِهِ يَصِحُّ الإكْراهُ في حَقِّهِمْ، وكانَ قَوْلُهُ: ﴿لا إكْراهَ﴾ مَخْصُوصًا بِأهْلِ الكِتابِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: لا تَقُولُوا لِمَن دَخَلَ في الدِّينِ بَعْدَ الحَرْبِ إنَّهُ دَخَلَ مُكْرَهًا، لِأنَّهُ إذا رَضِيَ بَعْدَ الحَرْبِ وصَحَّ إسْلامُهُ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ، ومَعْناهُ لا تَنْسِبُوهم إلى الإكْراهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النِّساءِ: ٩٤] . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: يُقالُ: بانَ الشَّيْءُ واسْتَبانَ وتَبَيَّنَ إذا ظَهَرَ ووَضَحَ، ومِنهُ المَثَلُ: قَدْ تَبَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ، وعِنْدِي أنَّ الإيضاحَ والتَّعْرِيفَ إنَّما سُمِّيَ بَيانًا لِأنَّهُ يُوقِعُ الفَصْلَ والبَيْنُونَةَ بَيْنَ المَقْصُودِ وغَيْرِهِ، والرُّشْدُ في اللُّغَةِ مَعْناهُ إصابَةُ الخَيْرِ، وفِيهِ لُغَتانِ: رُشْدٌ ورَشَدٌ، والرَّشادُ مَصْدَرٌ أيْضًا كالرُّشْدِ، والغَيُّ نَقِيضُ الرُّشْدِ، يُقالُ: غَوى يَغْوِي غَيًّا وغَوايَةً، إذا سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الرُّشْدِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ:‌ ﴿تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ أيْ: تَمَيَّزَ الحَقُّ مِنَ الباطِلِ والإيمانُ مِنَ الكُفْرِ والهُدى مِنَ الضَّلالَةِ بِكَثْرَةِ الحُجَجِ والآياتِ الدّالَّةِ، قالَ القاضِي: ومَعْنى ”قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ“ أيْ: أنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ وانْجَلى بِالأدِلَّةِ، لا أنَّ كَلَّ مُكَلَّفٍ تَنَبَّهَ؛ لِأنَّ المَعْلُومَ ذَلِكَ. وأقُولُ: قَدْ ذَكَرْنا أنَّ مَعْنى ”تَبَيَّنَ“ انْفَصَلَ وامْتازَ، فَكانَ المُرادُ أنَّهُ حَصَلَتِ البَيْنُونَةُ بَيْنَ الرُّشْدِ والغَيِّ بِسَبَبِ قُوَّةِ الدَّلائِلِ وتَأْكِيدِ البَراهِينِ، وعَلى هَذا كانَ اللَّفْظُ مُجْرى عَلى ظاهِرِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ﴾ فَقَدْ قالَ النَّحْوِيُّونَ: الطّاغُوتُ وزْنُهُ فَعَلُوتُ، نَحْوُ جَبَرُوتٍ، والتّاءُ زائِدَةٌ وهي مُشْتَقَّةٌ مِن طَغا، وتَقْدِيرُهُ طَغَوُوتُ، إلّا أنَّ لامَ الفِعْلِ قُلِبَتْ إلى مَوْضِعِ العَيْنِ كَعادَتِهِمْ في القَلْبِ، نَحْوَ: الصّاقِعَةُ والصّاعِقَةُ، ثُمَّ قُلِبَتِ الواوُ ألِفًا لِوُقُوعِها في مَوْضِعِ حَرَكَةِ وانْفِتاحِ ما قَبْلَها، قالَ المُبَرِّدُ في الطّاغُوتِ: الأصْوَبُ عِنْدِي أنَّهُ جَمْعٌ، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: ولَيْسَ الأمْرُ عِنْدَنا كَذَلِكَ، وذَلِكَ لِأنَّ الطّاغُوتَ مَصْدَرٌ كالرَّغَبُوتِ والرَّهَبُوتِ والمَلَكُوتِ، فَكَما أنَّ هَذِهِ الأسْماءَ آحادٌ، كَذَلِكَ هَذا الِاسْمُ مُفْرَدٌ ولَيْسَ بِجَمْعٍ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُفْرَدٌ قَوْلُهُ: ﴿أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٧] فَأُفْرِدَ في مَوْضِعِ الجَمْعِ، كَما يُقالُ: هم رِضًا، هم عَدْلٌ، قالُوا: وهَذا اللَّفْظُ يَقَعُ عَلى الواحِدِ وعَلى الجَمْعِ، أمّا في الواحِدِ فَكَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النِّساءِ: ٦٠] وأمّا في الجَمْعِ فَكَما في (p-١٥)قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٧] وقالُوا: الأصْلُ فِيهِ التَّذْكِيرُ، فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطّاغُوتَ أنْ يَعْبُدُوها﴾ [الزُّمَرِ: ١٧] فَإنَّما أُنِّثَتْ إرادَةُ الآلِهَةِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ خَمْسَةَ أقْوالٍ: الأوَّلُ: قالَ عُمَرُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ: هو الشَّيْطانُ. الثّانِي: قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الكاهِنُ. الثّالِثُ: قالَ أبُو العالِيَةِ: هو السّاحِرُ. الرّابِعُ: قالَ بَعْضُهم: الأصْنامُ. الخامِسُ: أنَّهُ مَرَدَةُ الجِنِّ والإنْسِ وكُلُّ ما يَطْغى. والتَّحْقِيقُ أنَّهُ لَمّا حَصَلَ الطُّغْيانُ عِنْدَ الِاتِّصالِ بِهَذِهِ الأشْياءِ جُعِلَتْ هَذِهِ الأشْياءُ أسْبابًا لِلطُّغْيانِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ [إبْراهِيمَ: ٣٦] . أمّا قَوْلُهُ: ﴿ويُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ فَفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا بُدَّ لِلْكافِرِ مِن أنْ يَتُوبَ أوَّلًا عَنِ الكُفْرِ، ثُمَّ يُؤْمِنَ بَعْدَ ذَلِكَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ يُقالُ: اسْتَمْسَكَ بِالشَّيْءِ إذا تَمَسَّكَ بِهِ، والعُرْوَةُ جَمْعُها عُرًا نَحْوَ عُرْوَةِ الدَّلْوِ والكُوزِ، وإنَّما سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّ العُرْوَةَ عِبارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَعَلَّقُ بِهِ، والوُثْقى تَأْنِيثُ الأوْثَقِ، وهَذا مِن بابِ اسْتِعارَةِ المَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ؛ لِأنَّ مَن أرادَ إمْساكَ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِعُرْوَتِهِ، فَكَذا هَهُنا مَن أرادَ إمْساكَ هَذا الدِّينِ تَعَلَّقَ بِالدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ، ولَمّا كانَتْ دَلائِلُ الإسْلامِ أقْوى الدَّلائِلِ وأوْضَحَها، لا جَرَمَ وصَفَها بِأنَّها العُرْوَةُ الوُثْقى. أمّا قَوْلُهُ: ﴿لا انْفِصامَ لَها﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الفَصْمُ كَسْرُ الشَّيْءِ مِن غَيْرِ إبانَةٍ، والِانْفِصامُ مُطاوِعُ الفَصْمِ، فَصَمْتُهُ فانْفَصَمَ، والمَقْصُودُ مِن هَذا اللَّفْظِ المُبالَغَةُ؛ لِأنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ لَها انْفِصامٌ، فَأنْ لا يَكُونَ لَها انْقِطاعٌ أوْلى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ النَّحْوِيُّونَ: نَظْمُ الآيَةِ: بِالعُرْوَةِ الوُثْقى الَّتِي لا انْفِصامَ لَها، والعَرَبُ تُضْمِرُ ”الَّتِي“ و”الَّذِي“ و”مَن“ وتَكْتَفِي بِصَلاتِها مِنها، قالَ سَلامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ: ؎والعادِياتُ أسامِي لِلدِّماءِ بِها كَأنَّ أعْناقَها أنْصابُ تَرْحِيبِ يُرِيدُ: العادِياتُ الَّتِي، قالَ اللَّهُ: ﴿وما مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصّافّاتِ: ١٦٤] أيْ: مَن لَهُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى يَسْمَعُ قَوْلَ مَن يَتَكَلَّمُ بِالشَّهادَتَيْنِ، وقَوْلَ مَن يَتَكَلَّمُ بِالكُفْرِ، ويَعْلَمُ ما في قَلْبِ المُؤْمِنِ مِنَ الِاعْتِقادِ الطّاهِرِ، وما في قَلْبِ الكافِرِ مِنَ الِاعْتِقادِ الخَبِيثِ. والقَوْلُ الثّانِي: رَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ إسْلامَ أهْلِ الكِتابِ مِنَ اليَهُودِ الَّذِينَ كانُوا حَوْلَ المَدِينَةِ، وكانَ يَسْألُ اللَّهَ تَعالى ذَلِكَ سِرًّا وعَلانِيَةً، فَمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يُرِيدُ لِدُعائِكَ يا مُحَمَّدُ بِحِرْصِكَ عَلَيْهِ واجْتِهادِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب