الباحث القرآني

﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ﴾، طَوَّلَ المُفَسِّرُونَ في ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ في عِدَّةِ أوْراقٍ، ومُلَخَّصُها وأشْهَرُها: أنَّها نَزَلَتْ في قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الأسَدِيِّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في ثَمانِيَةٍ مَعَهُ: سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، وعُكاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، وعُقْبَةَ بْنِ غَزْوانَ، وأبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وسُهَيْلِ بْنِ بَيْضاءَ، وعامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، ووافِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وخالِ بْنِ بُكَيْرٍ، وأمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ يَتَرَصَّدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَوَصَلُوها، ومَرَّتِ العِيرُ، فِيها عَمْرُو بْنُ الحَضْرَمِيِّ، والحَكَمُ بْنُ كَيْسانَ، وعُثْمانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ، ونَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وكانَ ذَلِكَ في آخِرِ يَوْمٍ مِن جُمادى عَلى ظَنِّهِمْ، وهو أوَّلُ يَوْمٍ مِن رَجَبٍ، فَرَمى وافِدٌ عَمْرًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وكانَ أوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، وأسَرُوا الحَكَمَ، وعُثْمانَ، وكانا أوَّلَ أسِيرَيْنِ في الإسْلامِ، وأفْلَتَ نَوْفَلٌ، وقَدِمُوا بِالعِيرِ المَدِينَةَ، فَقالَتْ قُرَيْشٌ: اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الحَرامَ، وأكْثَرَ النّاسُ في ذَلِكَ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ العِيرَ، وقالَ أصْحابُ السَّرِيَّةِ: ما نَبْرَحُ حَتّى تَنْزِلَ تَوْبَتُنا؛ فَنَزَلَتِ الآيَةُ؛ فَخَمَّسَ العِيرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَكانَ أوَّلَ خُمُسٍ في الإسْلامِ، فَوَجَّهَتْ قُرَيْشٌ في فِداءِ الأسِيرَيْنِ، فَقِيلَ: حَتّى يَقْدَمَ سَعْدٌ وعُتْبَةُ، وكانا قَدْ أضَلّا بَعِيرًا لَهُما قَبْلَ لِقاءِ العِيرِ (p-١٤٥)فَخَرَجا في طَلَبِهِ، فَقَدِما، وفُودِيَ الأسِيرانِ، فَأمّا الحَكَمُ فَأسْلَمَ وأقامَ بِ المَدِينَةِ وقُتِلَ شَهِيدًا بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وأمّا عُثْمانُ فَماتَ بِ مَكَّةَ كافِرًا، وأمّا نَوْفَلٌ فَضَرَبَ بَطْنَ فَرَسِهِ يَوْمَ الأحْزابِ لِيَدْخُلَ الخَنْدَقَ عَلى المُسْلِمِينَ، فَوَقَعَ بِالخَنْدَقِ مَعَ فَرَسِهِ، فَتَحَطَّما وقَتَلَهُما اللَّهُ. وفي هَذِهِ القِصَّةِ اخْتِلافٌ في مَواضِعَ، وقَدْ لَخَّصَ السَّجاوَنْدِيُّ هَذا السَّبَبَ فَقالَ: نَزَلَتْ في أوَّلِ سَرِيَّةِ الإسْلامِ، أمِيرُهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، أغارُوا عَلى عِيرٍ لِ قُرَيْشٍ قافِلَةٍ مِنَ الطّائِفِ وقَتَلُوا عَمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ آخِرَ يَوْمٍ مِن جُمادى الآخِرَةِ، فاشْتُبِهَ بِأوَّلِ رَجَبٍ، فَعَيَّرَهم أهْلُ مَكَّةَ بِاسْتِحْلالِهِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ عابَ المُشْرِكُونَ القِتالَ في شَهْرٍ حَرامٍ عامَ الفَتْحِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَتْلِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ رَجُلَيْنِ مِن كِلابٍ كانا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وعَمْرٌو لا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وكانَ في أوَّلِ يَوْمٍ مِن رَجَبٍ، فَقالَتْ قُرَيْشٌ: قَتَلَهُما في الشَّهْرِ الحَرامِ، فَنَزَلَتْ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا فُرِضَ القِتالُ لَمْ يُخَصَّ بِزَمانٍ دُونَ زَمانٍ، وكانَ مِنَ العَوائِدِ السّابِقَةِ أنَّ الشَّهْرَ الحَرامَ لا يُسْتَباحُ فِيهِ القِتالُ، فَبَيَّنَ حُكْمَ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ. وسَيَأْتِي مَعْنى قَوْلِهِ ﴿قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾، كَما جاءَ: ﴿واقْتُلُوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١]، وجاءَ بَعْدَهُ: ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩١]، ذَلِكَ التَّخْصِيصُ في المَكانِ، وهَذا في الزَّمانِ. وضَمِيرُ الفاعِلِ في يَسْألُونَكَ، قِيلَ: يَعُودُ عَلى المُشْرِكِينَ، سَألُوا تَعْيِيبًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشُّهَداءِ، وقَصْدًا لِلْفَتْكِ، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى المُؤْمِنِينَ، سَألُوا اسْتِعْظامًا لِما صَدَرَ مِنَ ابْنِ جَحْشٍ واسْتِيضاحًا لِلْحُكْمِ. والشَّهْرُ الحَرامُ هُنا هو رَجَبٌ بِلا خِلافٍ، هَكَذا قالُوا، وذَلِكَ عَلى أنْ تَكُونَ الألِفُ واللّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَيُرادُ بِهِ الأشْهَرُ الحَرامُ وهي: ذُو القِعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبٌ. وسُمِّيَتْ حُرُمًا لِتَحْرِيمِ القِتالِ فِيها، وتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن هَذا في قَوْلِهِ: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩٤] . وقَرَأ الجُمْهُورُ ”قِتالٍ فِيهِ“ بِالكَسْرِ، وهو بَدَلٌ مِنَ الشَّهْرِ، بَدَلَ اشْتِمالٍ، وقالَ الكِسائِيُّ: هو مَخْفُوضٌ عَلى التَّكْرِيرِ، وهو مَعْنى قَوْلِ الفَرّاءِ؛ لِأنَّهُ قالَ: مَخْفُوضٌ بِعَنْ مُضْمَرَةٍ، ولا يُجْعَلُ هَذا خِلافًا كَما يَجْعَلُهُ بَعْضُهم؛ لِأنَّ قَوْلَ البَصْرِيِّينَ إنَّ البَدَلَ عَلى نِيَّةِ تَكْرارِ العامِلِ هو قَوْلُ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ، لا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الأقْوالِ، هي كُلُّها تَرْجِعُ لِمَعْنًى واحِدٍ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ”قِتالٍ فِيهِ“ خُفِضَ عَلى الجِوارِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا خَطَأٌ. انْتَهى. فَإنْ كانَ أبُو عُبَيْدَةَ عَنى الخَفْضَ عَلى الجِوارِ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النُّحاةُ، فَهو كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وجْهُ الخَطَأِ فِيهِ هو أنْ يَكُونَ تابِعًا لِما قَبْلَهُ في رَفْعٍ أوْ نَصْبٍ مِن حَيْثُ اللَّفْظِ والمَعْنى، فَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الإعْرابِ إلى إعْرابِ الخَفْضِ لِمُجاوَرَتِهِ لِمَخْفُوضٍ لا يَكُونُ لَهُ تابِعًا مِن حَيْثُ المَعْنى، وهُنا لَمْ يَتَقَدَّمْ لا مَرْفُوعٌ ولا مَنصُوبٌ، فَيَكُونُ ”قِتالٍ“ تابِعًا لَهُ، فَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ إعْرابِهِ إلى الخَفْضِ عَلى الجِوارِ، وإنْ كانَ أبُو عُبَيْدَةَ عَنى الخَفْضَ عَلى الجِوارِ أنَّهُ تابِعٌ لِمَخْفُوضٍ؛ فَخَفَضَهُ بِكَوْنِهِ جاوَرَ مَخْفُوضًا، أيْ: صارَ تابِعًا لَهُ، ولا نَعْنِي بِهِ المُصْطَلَحَ عَلَيْهِ؛ جازَ ذَلِكَ ولَمْ يَكُنْ خَطَأً، وكانَ مُوافِقًا لِقَوْلِ الجُمْهُورِ، إلّا أنَّهُ أغْمَضُ في العِبارَةِ، وألْبَسُ في المُصْطَلَحِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والرَّبِيعُ، والأعْمَشُ: ”عَنْ قِتالٍ فِيهِ“ بِإظْهارِ ”عَنْ“، وهَكَذا هو في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وقُرِئَ شاذًّا: ”قِتالٌ فِيهِ“ بِالرَّفْعِ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ: ”قَتْلٍ فِيهِ قُلْ قَتْلٌ فِيهِ“ بِغَيْرِ ألِفٍ فِيهِما. ووَجْهُ الرَّفْعِ في قِراءَةِ ”قِتالٌ فِيهِ“ أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ الهَمْزَةِ فَهو مُبْتَدَأٌ، وسُوِّغَ جَوازُ الِابْتِداءِ فِيهِ، وهو نَكِرَةٌ، لِنِيَّةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ المُسْتَفْهَمُ عَنْها هي في مَوْضِعِ البَدَلِ مِنَ ”الشَّهْرِ الحَرامِ“؛ لِأنَّ ”سَألَ“ قَدْ أُخِذَ مَفْعُولَيْهِ، فَلا يَكُونُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ، وإنْ كانَتْ هي مَحَطَّ السُّؤالِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلى إضْمارِ اسْمِ فاعِلٍ تَقْدِيرُهُ: أجائِزٌ قِتالٌ فِيهِ ؟ قِيلَ: ونَظِيرُ هَذا؛ لِأنَّ السّائِلِينَ لَمْ يَسْألُوا عَنْ كَيْنُونَةِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ، إنَّما سَألُوا: أيَجُوزُ القِتالُ في الشَّهْرِ الحَرامِ ؟ فَهم سَألُوا عَنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لا عَنْ كَيْنُونَتِهِ فِيهِ. * * * ﴿قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾، هَذِهِ الجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، و”قِتالٌ“ نَكِرَةٌ، وسَوَّغَ الِابْتِداءَ بِها كَوْنُها وُصِفَتْ (p-١٤٦)بِالجارِّ والمَجْرُورِ، وهَكَذا قالُوا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”فِيهِ“ مَعْمُولًا لِقِتالٍ، فَلا يَكُونُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وتَقْيِيدُ النَّكِرَةِ بِالمَعْمُولِ مُسَوِّغٌ أيْضًا لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ، وحَدُّ الِاسْمِ إذا تَقَدَّمَ نَكِرَةً، وكانَ إيّاها؛ أنْ يَعُودَ مُعَرَّفًا بِالألِفِ واللّامِ، تَقُولُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿كَما أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [المزمل: ١٥] ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: ١٦]، قِيلَ: وإنَّما لَمْ يُعَدْ بِالألِفِ واللّامِ هُنا لِأنَّهُ لَيْسَ المُرادُ تَعْظِيمُ القِتالِ المَذْكُورِ المَسْئُولِ عَنْهُ، حَتّى يُعادَ بِالألِفِ واللّامِ، بَلِ المُرادُ تَعْظِيمُ أيِّ قِتالٍ كانَ في الشَّهْرِ الحَرامِ، فَعَلى هَذا ”قِتالٌ“ الثّانِي غَيْرُ الأوَّلِ. انْتَهى. ولَيْسَتِ الألِفُ واللّامُ تُفِيدُ التَّعْظِيمَ في الِاسْمِ؛ إذْ كانَتِ النَّكِرَةُ السّابِقَةُ، بَلْ هي فِيهِ لِلْعَهْدِ السّابِقِ، وقِيلَ في (المُنْتَخَبِ): إنَّما نُكِّرَ فِيهِما لِأنَّ النَّكِرَةَ الثّانِيَةَ هي غَيْرُ الأُولى؛ وذَلِكَ أنَّهم أرادُوا بِالأوَّلِ الَّذِي سَألُوا عَنْهُ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وكانَ لِنُصْرَةِ الإسْلامِ وإذْلالِ الكُفْرِ، فَلا يَكُونُ هَذا مِنَ الكَبائِرِ، بَلِ الَّذِي يَكُونُ كَبِيرًا هو قِتالٌ غَيْرُ هَذا، وهو ما كانَ الغَرَضُ فِيهِ هَدْمَ الإسْلامِ وتَقْوِيَةَ الكُفْرِ، فاخْتِيرَ التَّنْكِيرُ في اللَّفْظَيْنِ لِأجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ، ولَوْ وقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُما، أوْ عَنْ أحَدِهِما بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ؛ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الفائِدَةُ. انْتَهى. واتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلى أنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ حُرْمَةُ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ؛ إذِ المَعْنى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ لَهم كَبِيرٌ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ المُسَيَّبِ، والضَّحّاكُ، والأوْزاعِيُّ: إنَّها مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفُ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]؛ إذْ يَلْزَمُ مِن عُمُومِ المَكانِ عُمُومُ الزَّمانِ. وقِيلَ: هي مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦]، وإلى هَذا ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُما. وقِيلَ: نَسَخَهُما غَزْوُ النَّبِيِّ ﷺ ثَقِيفًا في الشَّهْرِ الحَرامِ، وإغْزاؤُهُ أبا عامِرٍ إلى أوْطاسٍ في الشَّهْرِ الحَرامِ. وقِيلَ: نَسَخَها بَيْعَةُ الرِّضْوانِ والقِتالُ في ذِي القِعْدَةِ، وضَعُفَ هَذا القَوْلِ بِأنَّ تِلْكَ البَيْعَةَ كانَتْ عَلى الدَّفْعِ لا عَلى الِابْتِداءِ بِالقِتالِ. وقالَ عَطاءٌ لَمْ تُنْسَخْ، وحَلَفَ بِاللَّهِ ما يَحِلُّ لِلنّاسِ أنْ يَغْزُوَ في الحَرَمِ، ولا في الشَّهْرِ الحَرامِ إلّا أنْ يُقاتَلُوا فِيهِ، ورُوِيَ هَذا القَوْلُ عَنْ مُجاهِدٍ أيْضًا، ورَوى جابِرٌ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَغْزُو في الأشْهُرِ الحُرُمِ إلّا أنْ يُغْزى»، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ . ورَجَحَ كَوْنُها مُحْكَمَةً بِهَذا الحَدِيثِ، وبِما رَواهُ ابْنُ وهْبٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ودى ابْنَ الحَضْرَمِيِّ، ورَدَّ الغَنِيمَةَ والأسِيرَيْنِ»، وبِأنَّ الآياتِ الَّتِي ورَدَتْ بَعْدَها عامَّةٌ في الأزْمِنَةِ وهَذا خاصٌّ، والعامُّ لا يَنْسَخُ الخاصَّ بِاتِّفاقٍ. * * * ﴿وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾، هَذِهِ جُمْلَةٌ مِن مُبْتَدَإٍ وخَبَرٍ مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ”فِيهِ كَبِيرٌ“، وكِلا الجُمْلَتَيْنِ مَقُولَةٌ، أيْ: قُلْ لَهم قِتالٌ في الشَّهْرِ الحَرامِ إثْمٌ كَبِيرٌ، وقُلْ لَهم صَدٌّ عَنْ كَذا إلى آخِرِهِ أكْبَرُ مِنَ القِتالِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا مِنَ القَوْلِ، بَلْ إخْبارٌ مُجَرَّدٌ عَنْ أنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكَذا وكَذا؛ أكْبَرُ، والمَعْنى: إنَّكم يا كُفّارَ قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُونَ مِنّا القِتالَ في الشَّهْرِ الحَرامِ، وما تَفْعَلُونَ أنْتُمْ مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِمَن أرادَ الإسْلامَ، ومِن كُفْرِكم بِاللَّهِ، وإخْراجِكم أهْلَ المَسْجِدِ مِنهُ، كَما فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأصْحابِهِ؛ أكْبَرُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ مِمّا فَعَلَتْهُ السَّرِيَّةُ مِنَ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ، عَلى سَبِيلِ البِناءِ عَلى الظَّنِّ. وتَقَدَّمَ لَنا أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مِن مُبْتَدَإٍ وخَبَرٍ، فالمُبْتَدَأُ: صَدٌّ، وهو نَكِرَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالجارِّ والمَجْرُورِ، فَساغَ الِابْتِداءُ، وهو مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ فاعِلُهُ ومَفْعُولُهُ لِلْعِلْمِ بِهِما، أيْ: وصَدُّكُمُ المُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وسَبِيلِ اللَّهِ الإسْلامُ، قالَهُ مُقاتِلٌ، أوِ ”الحَجُّ“؛ لِأنَّهم صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ مَكَّةَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والسُّدِّيُّ عَنْ أشْياخِهِ، أوِ ”الهِجْرَةُ“ صَدُّوا المُسْلِمِينَ عَنْها. و”كُفْرٌ بِهِ“ مَعْطُوفٌ عَلى ”وصَدٌّ“، وهو أيْضًا مَصْدَرٌ لازِمٌ حُذِفَ فاعِلُهُ، تَقْدِيرُهُ: وكَفْرُكم بِهِ، والضَّمِيرُ في ”بِهِ“ يَعُودُ عَلى السَّبِيلِ؛ لِأنَّهُ هو المُحَدَّثُ عَنْهُ بِأنَّهُ صَدٌّ عَنْهُ، والمَعْنى: وكُفْرٌ بِسَبِيلِ اللَّهِ، وهو دِينُ اللَّهِ وشَرِيعَتُهُ، وقِيلَ: يَعُودُ (p-١٤٧)الضَّمِيرُ في ”بِهِ“ عَلى اللَّهِ تَعالى، قالَهُ الحُوفِيُّ، والمَسْجِدُ الحَرامُ: هو الكَعْبَةُ، وقُرِئَ شاذًّا ”والمَسْجِدُ الحَرامُ“ بِالرَّفْعِ، ووَجْهُهُ أنَّهُ عَطَفَهُ عَلى قَوْلِهِ ”وكُفْرٌ بِهِ“ ويَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: وكُفْرٌ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ، ثُمَّ حَذَفَ الباءَ وأضافَ الكُفْرَ إلى المَسْجِدِ، ثُمَّ حَذَفَ المُضافَ وأقامَ المُضافَ إلَيْهِ مَقامَهُ، فَيُؤَوَّلُ إلى مَعْنى قِراءَةِ الجُمْهُورِ مِن خَفْضِ المَسْجِدِ الحَرامِ عَلى أحْسَنِ التَّأْوِيلاتِ الَّتِي نَذْكُرُها، فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِيما عُطِفَ عَلَيْهِ ”والمَسْجِدِ“، فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وتَبِعا في ذَلِكَ المُبَرِّدَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى ”سَبِيلِ اللَّهِ“، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا هو الصَّحِيحُ، ورَدَّ هَذا القَوْلَ بِأنَّهُ إذا كانَ مَعْطُوفًا عَلى ”سَبِيلِ اللَّهِ“ كانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ”وصَدٌّ“؛ إذِ التَّقْدِيرُ: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وعَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، فَهو مِن تَمامِ عَمَلِ المَصْدَرِ، وقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُما بِقَوْلِهِ ”وكُفْرٌ بِهِ“ ولا يَجُوزُ أنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ، وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى الشَّهْرِ الحَرامِ، وضَعْفُ هَذا بِأنَّ القَوْمَ لَمْ يَسْألُوا عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ؛ إذْ لَمْ يَشُكُّوا في تَعْظِيمِهِ، وإنَّما سَألُوا عَنِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ؛ لِأنَّهُ وقَعَ مِنهم ولَمْ يَشْعُرُوا بِدُخُولِهِ، فَخافُوا مِنَ الإثْمِ، وكانَ المُشْرِكُونَ عَيَّرُوهم بِذَلِكَ. انْتَهى. ما ضَعُفَ بِهِ هَذا القَوْلُ، وعَلى هَذا التَّخْرِيجِ يَكُونُ السُّؤالُ عَنْ شَيْئَيْنِ: أحَدُهُما: عَنْ قِتالٍ في الشَّهْرِ الحَرامِ، والآخَرُ: عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ والمَعْطُوفِ عَلى الشَّهْرِ الحَرامِ، والشَّهْرُ الحَرامُ لَمْ يُسْألْ عَنْهُ لِذاتِهِ، إنَّما سُئِلَ عَنِ القِتالِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ، يَكُونُ السُّؤالُ عَنِ القِتالِ فِيهِ، فَيَصِيرُ المَعْنى: يَسْألُونَكَ عَنْ قِتالٍ في الشَّهْرِ الحَرامِ، وفي المَسْجِدِ الحَرامِ، فَأجِيبُوا: بِأنَّ القِتالَ في الشَّهْرِ الحَرامِ كَبِيرٌ، وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وكُفْرٌ بِهِ، ويَكُونُ: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ - عَلى هَذا - مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ ”كَبِيرٌ“ أيِ: القِتالُ في الشَّهْرِ الحَرامِ أخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ إثْمٌ كَبِيرٌ، وبِأنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ”وصَدٌّ“ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ خَبَرِ ”قِتالٍ“ عَلَيْهِ. التَّقْدِيرُ: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ كَبِيرٌ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ قائِمٌ وعَمْرٌو، أيْ: وعَمْرٌو قائِمٌ، وأُجِيبُوا بِأنَّ القِتالَ في المَسْجِدِ الحَرامِ، إخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ القِتالِ فِيهِ، وكَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلى الشَّهْرِ الحَرامِ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا، ويَبْعُدُ عَنْهُ نَظْمُ القُرْآنِ، والتَّرْكِيبُ الفَصِيحُ، ويَتَعَلَّقُ كَما قِيلَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَصْدَرُ، تَقْدِيرُهُ: ويَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [الفتح: ٢٥]، قالَ بَعْضُهم: وهَذا هو الجَيِّدُ، يَعْنِي مِنَ التَّخارِيجِ الَّتِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ. والمَسْجِدِ الحَرامِ، وما ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ جَيِّدٍ؛ لِأنَّ فِيهِ الجَرَّ بِإضْمارِ حَرْفِ الجَرِّ، وهو لا يَجُوزُ في مِثْلِ هَذا إلّا في الضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ؎أشارَتْ كُلَيْبٌ بِالأكُفِّ الأصابِعِ أيْ: إلى كُلَيْبٍ. وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ ”وكُفْرٌ بِهِ“ أيْ: وبِالمَسْجِدِ الحَرامِ، قالَهُ الفَرّاءُ، ورَدَّ بِأنَّ هَذا لا يَجُوزُ إلّا بِإعادَةِ الجارِّ، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. ونَقُولُ: العَطْفُ المُضْمَرُ المَجْرُورُ فِيهِ مَذاهِبٌ: أحَدُها: أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا بِإعادَةِ الجارِّ إلّا في الضَّرُورَةِ، فَإنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إعادَةِ الجارِّ فِيها، وهَذا مَذْهَبُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ. الثّانِي: أنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ في الكَلامِ، وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، ويُونُسَ، وأبِي الحَسَنِ، والأُسْتاذِ أبِي عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينَ. الثّالِثُ: أنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ في الكَلامِ إنْ أُكِّدَ الضَّمِيرُ، وإلّا لَمْ يَجُزْ في الكَلامِ، نَحْوَ: مَرَرَتُ بِكَ نَفْسِكَ وزَيْدٍ، وهَذا مَذْهَبُ الجَرْمِيِّ. والَّذِي نَخْتارُهُ أنْ يَجُوزَ ذَلِكَ في الكَلامِ مُطْلَقًا؛ لِأنَّ السَّماعَ يُعَضِّدُهُ، والقِياسَ يُقَوِّيهِ؛ أمّا السَّماعُ فَما رُوِيَ مِن قَوْلِ العَرَبِ: ما فِيها غَيْرِهِ وفَرَسِهِ، بِجَرِّ الفَرَسِ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في غَيْرِهِ، والتَّقْدِيرُ: ما فِيها غَيْرُهُ وغَيْرُ فَرَسِهِ، والقِراءَةُ الثّانِيَةُ في السَّبْعَةِ: ﴿تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ [النساء: ١]، أيْ: وبِالأرْحامِ، وتَأْوِيلُها عَلى غَيْرِ العَطْفِ عَلى الضَّمِيرِ، مِمّا يُخْرِجُ الكَلامَ عَنِ الفَصاحَةِ، فَلا يُلْتَفَتُ إلى التَّأْوِيلِ. قَرَأها كَذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والنَّخَعِيُّ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وأبُو رَزِينٍ، وحَمْزَةُ. ومَنِ ادَّعى اللَّحْنَ فِيها أوِ الغَلَطَ عَلى حَمْزَةَ فَقَدْ كَذَبَ، وقَدْ ورَدَ مِن ذَلِكَ في أشْعارِ العَرَبِ كَثِيرٌ يَخْرُجُ عَنْ (p-١٤٨)أنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ ضَرُورَةً، فَمِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎نُعَلِّقُ في مِثْلِ السَّوارِي سُيُوفَنا ∗∗∗ فَما بَيْنَها والأرْضِ غَوْطُ نَفانِفِ وقالَ آخَرُ: ؎هَلّا سَألْتَ بِذِي الجَماجِمِ عَنْهُمُ ∗∗∗ وأبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّواءِ المُحْرِقِ وقالَ آخَرُ: ؎بِنا أبَدًا لا غَيْرِنا يُدْرَكُ المُنى ∗∗∗ وتُكْشَفُ غَمّاءُ الخُطُوبِ الفَوادِحِ وقالَ آخَرُ: ؎إذا أوْقَدُوا نارًا لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ∗∗∗ فَقَدْ خابَ مَن يَصْلى بِها وسَعِيرِها وقالَ آخَرُ: ؎لَوْ كانَ لِي وزُهَيْرٍ ثالِثٌ ورَدَتْ ∗∗∗ مِنَ الحَمامِ عَدانا شَرَّ مَوْرُودِ وقالَ رَجُلٌ مِن طَيِّئٍ: ؎إذا بِنا، بَلْ أنِيسانِ، اتَّقَتْ فِئَةً ∗∗∗ ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةً مِمَّنْ تُعادِيها وقالَ العَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ: ؎أكُرُّ عَلى الكَتِيبَةِ لا أُبالِي ∗∗∗ أحَتْفِي كانَ فِيها أمْ سِواها وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ؎فاليَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونا وتَشْتُمُنا ∗∗∗ فاذْهَبْ فَما بِكَ والأيّامِ مِن عَجَبِ وقالَ آخَرُ: ؎أبِكَ آيَةٌ بِي أوْ مُصَدَّرٍ ∗∗∗ مِن حُمُرِ الجُلَّةِ جَآَّبٌ جَسُورُ فَأنْتَ تَرى هَذا السَّماعَ وكَثْرَتَهُ، وتَصَرُّفَ العَرَبِ في حَرْفِ العَطْفِ، فَتارَةً عَطَفَتْ بِالواوِ، وتارَةً بِأوْ، وتارَةً بِبَلْ، وتارَةً بِأمْ، وتارَةً بِلا، وكُلُّ هَذا التَّصَرُّفِ يَدُلُّ عَلى الجَوازِ، وإنْ كانَ الأكْثَرُ أنْ يُعادَ الجارُّ كَقَوْلِهِ، تَعالى: ﴿وعَلَيْها وعَلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٢]، ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ [فصلت: ١١]، ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكم مِنها ومِن كُلِّ كَرْبٍ﴾ [الأنعام: ٦٤]، وقَدْ خَرَجَ عَلى العَطْفِ بِغَيْرِ إعادَةِ الجارِّ قَوْلُهُ: ﴿ومَن لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ﴾ [الحجر: ٢٠] عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿لَكم فِيها مَعايِشَ﴾ [الأعراف: ١٠]، أيْ: ولِمَن، وقَوْلُهُ: ﴿وما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ١٢٧] عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ ”فِيهِنَّ“، أيْ: وفِيما يُتْلى عَلَيْكم. وأمّا القِياسُ فَهو أنَّهُ كَما يَجُوزُ أنْ يُبْدَلَ مِنهُ ويُؤَكِّدَ مِن غَيْرِ إعادَةِ جارٍّ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ إعادَةِ جارٍّ، ومَنِ احْتَجَّ لِلْمَنعِ بِأنَّ الضَّمِيرَ كالتَّنْوِينِ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ لا يَجُوزَ العَطْفُ عَلَيْهِ إلّا مَعَ الإعادَةِ؛ لِأنَّ التَّنْوِينَ لا يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ، وإذا تَقَرَّرَ أنَّ العَطْفَ بِغَيْرِ إعادَةِ الجارِّ ثابِتٌ مِن كَلامِ العَرَبِ في نَثْرِها ونَظْمِها، كانَ يَخْرُجُ عَطْفُ: والمَسْجِدِ الحَرامِ، عَلى الضَّمِيرِ في ”بِهِ“ أرْجَحُ، بَلْ هو مُتَعَيِّنٌ؛ لِأنَّ وصْفَ الكَلامِ، وفَصاحَةَ التَّرْكِيبِ تَقْتَضِي ذَلِكَ. ”وإخْراجُ أهْلِهِ“، مَعْطُوفٌ عَلى المَصْدَرِ قَبْلَهُ، وهو مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْمَفْعُولِ، التَّقْدِيرُ: وإخْراجُكم أهْلَهُ، والضَّمِيرُ في ”أهْلِهِ“ عائِدٌ عَلى ”المَسْجِدِ الحَرامِ“، وجَعَلَ المُؤْمِنِينَ أهْلَهُ لِأنَّهُمُ القائِمُونَ بِحُقُوقِهِ، أوْ لِأنَّهم يَصِيرُونَ أهْلَهُ في العاقِبَةِ، ولَمْ يَجْعَلِ المُقِيمِينَ مِنَ الكُفّارِ بِ مَكَّةَ أهْلَهُ لِأنَّ بَقاءَهم عارِضٌ يَزُولُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلّا المُتَّقُونَ﴾ [الأنفال: ٣٤]، و”مِنهُ“ مُتَعَلِّقٌ بِإخْراجِ، والضَّمِيرُ في ”مِنهُ“ عائِدٌ عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ، وقِيلَ: عائِدٌ عَلى ”سَبِيلِ اللَّهِ“ وهو الإسْلامُ، والأوَّلُ أظْهَرُ. و”أكْبَرُ“ خَبَرٌ عَنِ المُبْتَدَإ الَّذِي هو ”وصَدٌّ“ وما عُطِفَ عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ المَجْمُوعِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْها بِاعْتِبارِ كُلٍّ واحِدٌ واحِدٌ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ وعَمْرٌو وبَكْرٌ أفْضَلُ مِن خالِدٍ، تُرِيدُ: كُلُّ واحِدٍ مِنهم أفْضَلُ (p-١٤٩)مِن خالِدٍ، وهَذا الظّاهِرُ لا المَجْمُوعُ، وإفْرادُ الخَبَرِ لِأنَّهُ أفْعَلُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٍ بِمَنِ الدّاخِلَةِ عَلى المَفْضُولِ في التَّقْدِيرِ، وتَقْدِيرُهُ: أكْبَرُ مِنَ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ، فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وقِيلَ: ”وصَدٌّ“ مُبْتَدَأٌ، و”كُفْرٌ“ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وخَبَرُهُما مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ خَبَرِ وإخْراجُ ”عَلَيْهِ. والتَّقْدِيرُ: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ أكْبَرُ، ولا يَحْتاجُ إلى هَذا التَّقْدِيرِ؛ لِأنّا قَدْ بَيَّنّا كَوْنَ“ أكْبَرُ ”خَبَرًا عَنِ الثَّلاثَةِ. و“ عِنْدَ اللَّهِ ”مَنصُوبٌ بِأكْبَرِ، ولا يُرادُ بِـ“ عِنْدَ ”المَكانُ بَلْ ذَلِكَ مَجازٌ. وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، والسَّجاوَنْدِيُّ عَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ قالَ:“ وصَدٌّ ”عَطْفٌ عَلى“ كَبِيرٌ ”، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَلِكَ خَطَأٌ؛ لِأنَّ المَعْنى يَسُوقُ إلى أنَّ قَوْلَهُ“ وكُفْرٌ بِهِ ”عَطْفٌ أيْضًا عَلى“ كَبِيرٌ ”، ويَجِيءُ مِن ذَلِكَ أنَّ إخْراجَ أهْلِ المَسْجِدِ مِنهُ أكْبَرُ مِنَ الكُفْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وهَذا بَيِّنٌ فَسادُهُ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، ولَيْسَ كَما ذُكِرَ، ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَهُ مِن أنَّ“ وكَفْرٌ بِهِ ”عَطْفٌ عَلى“ كَبِيرٌ ”؛ إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ“ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ”، ويَكُونُ قَدْ أُخْبِرَ عَنِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ بِخَبَرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ كَبِيرٌ، والثّانِي: أنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأ فَقالَ: والكُفْرُ بِاللَّهِ، وبِالمَسْجِدِ الحَرامِ، وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ القِتالِ الَّذِي هو كَبِيرٌ، وهو صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وهَذا مَعْنًى سائِغٌ حَسَنٌ، ولا شَكَّ أنَّ الكُفْرَ بِاللَّهِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ أكْبَرُ مِنَ القِتالِ المَذْكُورِ. وقَوْلُهُ: ويَجِيءُ مِن ذَلِكَ أنَّ إخْراجَ أهْلِ المَسْجِدِ مِنهُ أكْبَرُ مِنَ الكُفْرِ عِنْدَ اللَّهِ - وهَذا بَيِّنٌ فَسادُهُ - لَيْسَ بِكَلامٍ مُخْلَصٍ؛ لِأنَّهُ لا يَجِيءُ مِنهُ ما ذَكَرَ إلّا بِتَكَلُّفٍ بَعِيدٍ، بَلْ يَجِيءُ مِنهُ أنَّ إخْراجَ أهْلِ المَسْجِدِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ القِتالِ المُخْبَرِ عَنْهُ بِأنَّهُ كَبِيرٌ، وبِأنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فالمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالأكْبَرِيَّةِ هو الإخْراجُ، والمَفْضُولُ فِيها هو القِتالُ لا الكُفْرُ والفِتْنَةُ، أيِ: الكُفْرُ والشِّرْكُ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ وغَيْرُهم. أوِ التَّعْذِيبُ الحاصِلُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا عَنِ الإسْلامِ، فَهي أكْبَرُ حُرْمًا مِنَ القَتْلِ، والمَعْنى عِنْدَ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ أنَّ الفِتْنَةَ الَّتِي كانَتْ تَفْتِنُ المُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتّى يَهْلَكُوا أشَدُّ اجْتِرامًا مِن قَتْلِهِمْ إيّاكم في المَسْجِدِ الحَرامِ. وقِيلَ: المَعْنى: والفِتْنَةُ أشَدُّ مِن أنْ لَوْ قَتَلُوا ذَلِكَ المَفْتُونَ، أيْ فِعْلُكم بِكُلِّ إنْسانٍ أشَدُّ مِن فِعْلِنا؛ لِأنَّ الفِتْنَةَ ألَمٌ مُتَجَدِّدٌ، والقَتْلُ ألَمٌ مُنْقَضٍ. ومَن فَسَّرَ الفِتْنَةَ بِالكُفْرِ كانَ المَعْنى عِنْدَهُ: وكَفْرُكم أشَدُّ مِن قَتْلِنا أُولَئِكَ، وصَرَّحَ هُنا بِالمَفْضُولِ، وهو قَوْلُهُ“ مِنَ القَتْلِ ”، ولَمْ يُحْذَفْ؛ لِأنَّهُ لا دَلِيلَ عَلى حَذْفِهِ، بِخِلافِ قَوْلِهِ“ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ”فَإنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ المَفْضُولِ عَلَيْهِ وهو“ القِتالُ ”وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ في هَذِهِ القِصَّةِ شِعْرًا: ؎تَعُدُّونَ قَتْلًا في الحَرامِ عَظِيمَةً ∗∗∗ وأعْظَمُ مِنها لَوْ يَرى الرُّشْدَ راشِدُ ؎صُدُودُكُمُ عَمّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ ∗∗∗ وكُفْرٌ بِهِ واللَّهُ راءَ وشاهِدُ ؎وإخْراجُكم مِن مَسْجِدِ اللَّهِ رَحْلَهُ ∗∗∗ لِئَلّا يُرى لِلَّهِ في البَيْتِ ساجِدُ ؎فَإنّا وإنْ عَيَّرْتُمُونا بِقَتْلَةٍ ∗∗∗ وأرْجَفَ بِالإسْلامِ باغٍ وحاسِدُ ؎سَقَيْنا مِنَ ابْنِ الحَضْرَمِيِّ رِماحَنا ∗∗∗ بِنَخْلَةِ لَمّا أوْقَدَ الحَرْبَ واقَدُ ؎دَمًا وابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمانُ بَيْنَنا ∗∗∗ يُنازِعُهُ غِلٌّ مِنَ القَدِّ عانِدُ * * * ﴿ولا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكم حَتّى يَرُدُّوكم عَنْ دِينِكم إنِ اسْتَطاعُوا﴾، الضَّمِيرُ في“ يَزالُونَ ”لِلْكُفّارِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ المَرْفُوعَ في قَوْلِهِ“ يَسْألُونَكَ ”هو الكُفّارُ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في“ يُقاتِلُونَكم ”خُوطِبَ بِهِ المُؤْمِنُونَ، وانْتَقَلَ عَنْ خِطابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى خِطابِ المُؤْمِنِينَ، وهَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفَرْطِ عَداوَةِ الكُفّارِ، ومُبايَنَتِهِمْ لَهم، ودَوامُ تِلْكَ العَداوَةِ، وأنَّ قِتالَهم إيّاكم مُعَلَّقٌ بِإمْكانِ ذَلِكَ مِنهم لَكم، وقُدْرَتِهِمْ عَلى ذَلِكَ. و“ حَتّى يَرُدُّوكم ”يُحْتَمَلُ الغايَةُ، ويُحْتَمَلُ التَّعْلِيلُ، وعَلَيْهِما حَمَّلَها (p-١٥٠)أبُو البَقاءِ وهي مُتَعَلِّقَةٌ في الوَجْهَيْنِ بِـ“ يُقاتِلُونَكم ”، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ“ ويَرُدُّوكم ”نُصِبَ بِحَتّى؛ لِأنَّها غايَةٌ مُجَرَّدَةٌ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و“ حَتّى ”مَعْناها التَّعْلِيلُ، كَقَوْلِكَ: فُلانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ حَتّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ، أيْ: يُقاتِلُونَكم كَيْ يَرُدُّوكم. انْتَهى. وتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ أمْكَنُ مِن حَيْثُ المَعْنى؛ إذْ يَكُونُ الفِعْلُ الصّادِرُ مِنهُمُ المُنافِي لِلْمُؤْمِنِينَ وهو“ المُقاتَلَةُ ”ذَكَرَ لَها عِلَّةً تُوجِبُها، فالزَّمانُ مُسْتَغْرِقٌ لِلْفِعْلِ ما دامَتْ عِلَّةُ الفِعْلِ، وذَلِكَ بِخِلافِ الغايَةِ؛ فَإنَّها تَقْيِيدٌ في الفِعْلِ دُونَ ذِكْرِ الحامِلِ عَلَيْهِ، فَزَمانُ وُجُودِهِ مُقَيَّدٌ بِغايَتِهِ، وزَمانُ وُجُودِ الفِعْلِ المُعَلَّلِ مُقَيَّدٌ بِوُجُودِ عِلَّةٍ، وفَرْقٌ في القُوَّةِ بَيْنَ المُقَيَّدِ بِالغايَةِ والمُقَيَّدِ بِالعِلَّةِ؛ لِما في التَّقْيِيدِ بِالعِلَّةِ مِن ذِكْرِ الحامِلِ وعَدَمِ ذَلِكَ في التَّقْيِيدِ بِالغايَةِ. و“ عَنْ دِينِكم ”مُتَعَلِّقٌ بِـ“ يَرُدُّوكم ”والدِّينُ هُنا الإسْلامُ، و“ إنِ اسْتَطاعُوا ”شَرْطٌ جَوابُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: إنِ اسْتَطاعُوا فَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكم، ومَن جَوَّزَ تَقْدِيمَ جَوابِ الشَّرْطِ، قالَ“ ولا يَزالُونَ ”هو الجَوابُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:“ إنِ اسْتَطاعُوا ”اسْتِبْعادٌ لِاسْتِطاعَتِهِمْ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَدُوِّهِ: إنْ ظَفِرْتَ بِي فَلا تُبْقِ عَلَيَّ، وهو واثِقٌ بِأنَّهُ لا يَظْفَرُ بِهِ. انْتَهى قَوْلُهُ، ولا بَأْسَ بِهِ. * * * ﴿ومَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾، ارْتَدَّ: افْتَعَلَ مِنَ الرَّدِّ، وهو الرُّجُوعُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾ [الكهف: ٦٤]، وقَدْ عَدَّها بَعْضُهم فِيما يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ؛ إذا كانَتْ عِنْدَهُ بِمَعْنى صَيَّرَ وجَعَلَ، مِن ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿فارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ [يوسف: ٩٦]، أيْ: صارَ بَصِيرًا، ولَمْ يُخْتَلَفْ هُنا في فَكِّ المِثْلَيْنِ، والفَكُّ هو لُغَةُ الحِجازِ، وجاءَ افْتَعَلَ هُنا بِمَعْنى التَّعَمُّلِ والتَّكَسُّبِ؛ لِأنَّهُ مُتَكَلَّفٌ؛ إذْ مَن باشَرَ دِينَ الحَقِّ يَبْعُدُ أنْ يَرْجِعَ عَنْهُ؛ فَلِذَلِكَ جاءَ افْتَعَلَ هُنا، وهَذا المَعْنى - وهو التَّعَمُّلُ والتَّكَسُّبُ - هو أحَدُ المَعانِي الَّتِي جاءَتْ لَها افْتَعَلَ. و“ مِنكم ”في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في“ يَرْتَدِدْ ”العائِدِ عَلى“ مِن ”، و“ مِن ”لِلتَّبْعِيضِ، و“ عَنْ دِينِهِ ”مُتَعَلِّقٌ بِيَرْتَدِدْ، والدِّينُ هُنا هو الإسْلامُ؛ لِأنَّ الخِطابَ مَعَ المُسْلِمِينَ، والمُرْتَدُّ إلَيْهِ هو دِينُ الكُفْرِ؛ بِدَلِيلِ أنَّ ضِدَّ الحَقِّ الباطِلُ؛ وبِقَوْلِهِ: ﴿فَيَمُتْ وهو كافِرٌ﴾، وهَذانِ شَرْطانِ أحَدُهُما مَعْطُوفٌ عَلى الآخَرِ بِالفاءِ المُشْعِرَةِ بِتَعْقِيبِ المَوْتِ عَلى الكُفْرِ بَعْدَ الرِّدَّةِ واتِّصالِهِ بِها، ورَتَّبَ عَلَيْهِ حُبُوطَ العَمَلِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وهو حَبَطُهُ في الدُّنْيا بِاسْتِحْقاقِ قَتْلِهِ وإلْحاقِهِ في الأحْكامِ بِالكُفّارِ، وفي الآخِرَةِ بِما يَؤُولُ إلَيْهِ مِنَ العِقابِ السَّرْمَدِيِّ، وقِيلَ: حُبُوطُ أعْمالِهِمْ في الدُّنْيا هو عَدَمُ بُلُوغِهِمْ ما يُرِيدُونَ بِالمُسْلِمِينَ مِنَ الإضْرارِ بِهِمْ ومُكايَدَتِهِمْ، فَلا يَحْصُلُونَ مِن ذَلِكَ عَلى شَيْءٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ أعَزَّ دِينَهُ بِأنْصارِهِ. وظاهِرُ هَذا الشَّرْطِ والجَزاءِ تَرَتُّبُ حُبُوطِ العَمَلِ عَلى المُوافاةِ عَلى الكُفْرِ، لا عَلى مُجَرَّدِ الِارْتِدادِ، وهَذا مَذْهَبُ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ، مِنهُمُ الشّافِعِيُّ، وقَدْ جاءَ تَرَتُّبُ حُبُوطِ العَمَلِ عَلى مُجَرَّدِ الكُفْرِ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: ٥]، ﴿ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨]، ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ولِقاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٤٧]، ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، والخِطابُ في المَعْنى لِأُمَّتِهِ، وإلى هَذا ذَهَبَ مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، وغَيْرُهُما، يَعْنِي: أنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ. دُونَ المُوافاةِ عَلَيْها، وإنْ راجَعَ الإسْلامَ، وثَمَرَةُ الخِلافِ تَظْهَرُ في المُسْلِمِ إذا حَجَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أسْلَمَ، فَقالَ مالِكٌ: يَلْزَمُهُ الحَجُّ، وقالَ الشّافِعِيُّ: لا يَلْزَمُهُ الحَجُّ. ويَقُولُ الشّافِعِيُّ: اجْتَمَعَ مُطْلَقٌ ومُقَيَّدٌ، فَتَقَيَّدَ المُطْلَقُ، ويَقُولُ غَيْرُهُ: هُما شَرْطانِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِما شَيْئانِ، أحَدُ الشَّرْطَيْنِ: الِارْتِدادُ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُبُوطُ العَمَلِ، الشَّرْطُ الثّانِي: المُوافاةُ عَلى الكُفْرِ، تَرَتَّبَ عَلَيْها الخُلُودُ في النّارِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ“ وهو كافِرٌ ”في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في“ فَيَمُتْ ”وكَأنَّها حالٌ مُؤَكِّدَةٌ؛ لِأنَّهُ لَوِ اسْتُغْنِيَ عَنْها فُهِمَ مَعْناها؛ لِأنَّ ما قَبْلَها يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ لِلِارْتِدادِ. وكَوْنُ الحالِ جاءَ جُمْلَةً فِيها مُبالَغَةٌ في التَّأْكِيدِ؛ إذْ تَكَرَّرَ الضَّمِيرُ فِيها مَرَّتَيْنِ، بِخِلافِ المُفْرَدِ، فَإنَّهُ فِيهِ ضَمِيرٌ واحِدٌ. وتَعَرَّضَ المُفَسِّرُونَ هُنا لِحُكْمِ المُرْتَدِّ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ إلّا لِحُبُوطِ العَمَلِ، وقَدْ ذَكَرْنا الخِلافَ فِيهِ (p-١٥١)هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ المُوافاةُ عَلى الكُفْرِ أمْ يَحْبَطُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ ؟ وأمّا حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلى القَتْلِ، فَذَهَبَ النَّخَعِيُّ والثَّوْرِيُّ إلى أنَّهُ يُسْتَتابُ مَحْبُوسًا أبَدًا، وذَهَبَ طاوُسٌ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، والحَسَنُ عَلى خِلافٍ عَنْهُ، وعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أبِي سَلَمَةَ، والشّافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، إلى أنَّهُ يُقْتَلُ مِن غَيْرِ اسْتِتابَةٍ، ورُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنْ أبِي مُوسى، ومُعاذٍ، وقالَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: يُسْتَتابُ، وهَلْ يُسْتَتابُ في الوَقْتِ، أوْ في ساعَةٍ واحِدَةٍ، أوْ شَهْرٍ، رُوِيَ هَذا عَنْ عَلِيٍّ. أوْ ثَلاثَةِ أيّامٍ، ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وعُثْمانَ، وهو قَوْلُ مالِكٍ فِيما رَواهُ ابْنُ القاسِمِ، وقَوْلُ أحْمَدَ، وإسْحاقَ، والشّافِعِيِّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، وأصْحابِ الرَّأْيِ. أوْ مِائَةَ مَرَّةٍ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ. وقالَ عَطاءٌ: إنْ كانَ ابْنَ مُسْلِمَيْنِ قُتِلَ دُونَ اسْتِتابَةٍ، وإنْ كانَ أسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ أسْتُتِيبَ. وقالَ الزُّهْرِيُّ: يُدْعى إلى الإسْلامِ، فَإنْ تابَ وإلّا قُتِلَ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ الإسْلامُ، فَإنْ أسْلَمَ وإلّا قُتِلَ مَكانَهُ، إلّا أنْ يَطْلُبَ أنْ يُؤَجَّلَ، فَيُؤَجَّلُ ثَلاثَةَ أيّامٍ. والمَشْهُورُ عَنْهُ وعَنْ أصْحابِهِ أنَّهُ لا يُقْتَلُ حَتّى يُسْتَتابَ. والزِّنْدِيقُ عِنْدَهم والمُرْتَدُّ سَواءٌ. وقالَ مالِكٌ: تُقْتَلُ الزَّنادِقَةُ مِن غَيْرِ اسْتِتابَةٍ، ولَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ راجَعَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَحُكْمُهُ في الرِّدَّةِ الثّانِيَةِ أوِ الثّالِثَةِ أوِ الرّابِعَةِ كالأُولى، وإذا راجَعَ في الرّابِعَةِ ضُرِبَ وخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وقِيلَ: يُحْبَسُ حَتّى يُرى أثَرُ التَّوْبَةِ والإخْلاصِ عَلَيْهِ، ولَوِ انْتَقَلَ الكافِرُ مِن كُفْرٍ إلى كُفْرٍ، فالجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ لا يُقْتَلُ. وذَكَرَ المُزَنِيُّ، والرَّبِيعُ، عَنِ الشّافِعِيِّ: أنَّ المُبَدِّلَ لِدِينِهِ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ يُلْحِقُهُ الإمامُ بِأرْضِ الحَرْبِ، ويُخْرِجُهُ مِن بَلَدِهِ، ويَسْتَحِلُّ مالَهُ مَعَ أمْوالِ الحَرْبِيِّينَ إنْ غُلِبَ عَلى الدّارِ، هَذا حُكْمُ الرَّجُلِ. وأمّا المَرْأةُ إذا ارْتَدَّتْ فَقالَ مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، واللَّيْثُ، والشّافِعِيُّ: تُقْتَلُ كالرَّجُلِ سَواءً، وقالَ عَطاءٌ، والحَسَنُ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، وابْنُ شُبْرُمَةَ، وابْنُ عَطِيَّةَ: لا تُقْتَلُ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ. وأمّا مِيراثُهُ؛ فَأجْمَعُوا عَلى أنَّ أقْرِباءَهُ مِنَ الكُفّارِ لا يَرِثُونَهُ إلّا ما نُقِلَ عَنْ قَتادَةَ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، أنَّهم يَرِثُونَهُ، وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ خِلافُ هَذا، وقالَ عَلِيٌّ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، والحَكَمُ، واللَّيْثُ، وأبُو حَنِيفَةَ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، وابْنُ راهَوَيْهِ: يَرِثُهُ أقْرِباؤُهُ المُسْلِمُونَ. وقالَ مالِكٌ، ورَبِيعَةُ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والشّافِعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ: مِيراثُهُ في بَيْتِ المالِ، وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، والأوْزاعِيُّ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ: ما اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ المُسْلِمِينَ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، ما اكْتَسَبَهُ في حالَةِ الإسْلامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ المُسْلِمِينَ. وقَرَأ الحَسَنُ:“ حَبَطَتْ ”بِفَتْحِ الباءِ، وهُما لُغَتانِ، وكَذا قَرَأها أبُو السَّمّاكِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾، أتى بِاسْمِ الإشارَةِ وهو يَدُلُّ عَلى مَنِ اتَّصَفَ بِالأوْصافِ السّابِقَةِ، وأتى بِهِ مَجْمُوعًا حَمْلًا عَلى مَعْنى“ مَن ”؛ لِأنَّهُ أوَّلًا حَمْلٌ عَلى اللَّفْظِ في قَوْلِهِ: يَرْتَدِدْ فَيَمُتْ وهو كافِرٌ، وإذا جَمَعْتَ بَيْنَ الحَمْلَيْنِ، فالأصَحُّ أنْ تَبْدَأ بِالحَمْلِ عَلى اللَّفْظِ، ثُمَّ بِالحَمْلِ عَلى المَعْنى. وعَلى هَذا الأفْصَحِ جاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ. و“ في الدُّنْيا ”مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:“ حَبِطَتْ " .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب