الباحث القرآني

﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ مِن أهَمِّ تَفاصِيلِ الأحْوالِ في القِتالِ الَّذِي كُتِبَ عَلى المُسْلِمِينَ في الآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، أنْ يَعْلَمُوا ما إذا صادَفَ القِتالُ بَيْنَهم وبَيْنَ المُشْرِكِينَ الأشْهُرَ الحُرُمَ إذْ كانَ مَحْجَرًا في العَرَبِ مِن عَهْدٍ (p-٣٢٤)قَدِيمٍ، ولَمْ يَذْكُرِ الإسْلامُ إبْطالَ ذَلِكَ الحَجْرِ؛ لِأنَّهُ مِنَ المَصالِحِ قالَ تَعالى ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ والشَّهْرَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٩٧] فَكانَ الحالُ يَبْعَثُ عَلى السُّؤالِ عَنِ اسْتِمْرارِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الحَرامِ في نَظَرِ الإسْلامِ. رَوى الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا ورَوى الطَّبَرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مُرْسَلًا ومُطَوَّلًا، أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في «شَأْنِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، فَإنَّ النَّبِيءَ ﷺ أرْسَلَهُ في ثَمانِيَةٍ مِن أصْحابِهِ يَتَلَقّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ بِبَطْنِ نَخْلَةَ في جُمادى الآخِرَةِ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِنِ الهِجْرَةِ، فَلَقِيَ المُسْلِمُونَ العِيرَ فِيها تِجارَةٌ مَنِ الطّائِفِ وعَلى العِيرِ عَمْرُو بْنُ الحَضْرَمِيِّ، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَمْرًا وأسَرَ اثْنَيْنِ مِن أصْحابِهِ وهُما عُثْمانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ والحَكَمُ بْنُ كَيْسانَ وفَرَّ مِنهم نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ وغَنِمَ المُسْلِمُونَ غَنِيمَةً، وذَلِكَ أوَّلُ يَوْمٍ مِن رَجَبٍ وهم يَظُنُّونَهُ مِن جُمادى الآخِرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلى قُرَيْشٍ وقالُوا: اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الحَرامَ وشَنَّعُوا ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. فَقِيلَ: إنَّ النَّبِيءَ ﷺ رَدَّ عَلَيْهِمُ الغَنِيمَةَ والأسِيرَيْنِ، وقِيلَ: رَدَّ الأسِيرَيْنِ وأخَذَ الغَنِيمَةَ» . فَإذا صَحَّ ذَلِكَ كانَ نُزُولُ هَذِهِ الآيَةِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وآيَةِ ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠] بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَلَمّا نَزَلَتِ الآيَتانِ بَعْدَ هَذِهِ، كانَ وضْعُهُما في التِّلاوَةِ قَبْلَها بِتَوْقِيفٍ خاصٍّ لِتَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ إكْمالًا لِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الآيَتانِ الأُخْرَيانِ، وهَذا لَهُ نَظائِرُ في كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ بِاعْتِبارِ النُّزُولِ والتِّلاوَةِ. والأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها وأنَّها تَكْمِلَةٌ وتَأْكِيدٌ لِآيَةِ ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩٤] . والسُّؤالُ المَذْكُورُ هُنا هو سُؤالُ المُشْرِكِينَ النَّبِيءَ ﷺ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، هَلْ يُقاتَلُ في الشَّهْرِ الحَرامِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩٤] . وهَذا هو المُناسِبُ لِقَوْلِهِ هُنا ﴿وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلَخْ، وقِيلَ: سُؤالُ المُشْرِكِينَ عَنْ قِتالِ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ. فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، ورَدَّتْ عَلى سُؤالِ النّاسِ عَنِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ ومُناسَبَةُ مَوْقِعِها عَقِبَ آيَةِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ﴾ [البقرة: ٢١٦] ظاهِرَةٌ. والتَّعْرِيفُ في الشَّهْرِ الحَرامِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، ولِذَلِكَ أُحْسِنَ إبْدالُ النَّكِرَةِ مِنهُ في قَوْلِهِ: (p-٣٢٥)﴿قِتالٍ فِيهِ﴾، وهو بَدَلُ اشْتِمالٍ فَيَجُوزُ فِيهِ إبْدالُ النَّكِرَةِ مِنَ المَعْرِفَةِ، بِخِلافِ بَدَلِ البَعْضِ عَلى أنَّ وصْفَ النَّكِرَةِ هُنا بِقَوْلِهِ فِيهِ يَجْعَلُها في قُوَّةِ المَعْرِفَةِ. فالمُرادُ بَيانُ حُكْمِ أيِّ شَهْرٍ كانَ مِنَ الأشْهُرِ الحُرُمِ وأيِّ قِتالٍ، فَإنْ كانَ السُّؤالُ إنْكارِيًّا مِنَ المُشْرِكِينَ فَكَوْنُ المُرادِ جِنْسَ هَذِهِ الأشْهُرِ ظاهِرٌ، وإنْ كانَ اسْتِفْسارًا مِنَ المُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ، ومُجَرَّدُ كَوْنِ الواقِعَةِ الَّتِي تَسَبَّبَ عَلَيْها السُّؤالُ وقَعَتْ في شَهْرٍ مُعَيَّنٍ لا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ السُّؤالِ بِذَلِكَ الشَّهْرِ، إذْ لا يَخْطُرُ بِبالِ السّائِلِ بَلِ المَقْصُودُ السُّؤالُ عَنْ دَوامِ هَذا الحُكْمِ المُتَقَرِّرِ عِنْدَهم قَبْلَ الإسْلامِ وهو لا يَخْتَصُّ بِشَهْرٍ دُونَ شَهْرٍ. وإنَّما اخْتِيرَ طَرِيقُ الإبْدالِ هُنا وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: يَسْألُونَكَ عَنِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ لِأجَلِ، الِاهْتِمامِ بِالشَّهْرِ الحَرامِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ السُّؤالَ لِأجْلِ الشَّهْرِ أيَقَعُ فِيهِ قِتالٌ ؟ لا لِأجْلِ القِتالِ هَلْ يَقَعُ في الشَّهْرِ وهُما مُتَآيِلانِ، لَكِنَّ التَّقْدِيمَ لِقَضاءِ حَقِّ الِاهْتِمامِ، وهَذِهِ نُكْتَةٌ لِإبْدالِ عَطْفِ البَيانِ تَنْفَعُ في مَواقِعَ كَثِيرَةٍ، عَلى أنَّ في طَرِيقِ بَدَلِ الِاشْتِمالِ تَشْوِيقًا بِارْتِكابِ الإجْمالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ، وتَنْكِيرُ ”قِتالٍ“ مُرادٌ بِهِ العُمُومُ، إذْ لَيْسَ المَسْئُولُ عَنْهُ قِتالًا مُعَيَّنًا ولا في شَهْرٍ مُعَيَّنٍ، بَلِ المُرادُ هَذا الجِنْسُ في هَذا الجِنْسِ. وفِيهِ ظَرْفُ صِفَةٍ لِقِتالٍ مُخَصَّصَةٍ لَهُ. وقَوْلُهُ ﴿قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ إظْهارُ لَفْظِ القِتالِ في مَقامِ الإضْمارِ لِيَكُونَ الجَوابُ صَرِيحًا حَتّى لا يُتَوَهَّمَ أنَّ الشَّهْرَ الحَرامَ هو الكَبِيرُ، ولِيَكُونَ الجَوابُ عَلى طَبَقِ السُّؤالِ في اللَّفْظِ، وإنَّما لَمْ يُعَرِّفْ لَفْظَ القِتالِ ثانِيًا بِاللّامِ مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ في السُّؤالِ، لِأنَّهُ قَدِ اسْتَغْنى عَنْ تَعْرِيفِهِ بِاتِّحادِ الوَصْفَيْنِ في لَفْظِ السُّؤالِ ولَفْظِ الجَوابِ وهو ظَرْفُ (فِيهِ)، إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن تَعْرِيفِ النَّكِرَةِ بِاللّامِ إذا أُعِيدَ ذِكْرُها إلّا التَّنْصِيصُ عَلى أنَّ المُرادَ بِها تِلْكَ الأُولى لا غَيْرُها، وقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالوَصْفِ المُتَّحِدِ، قالَ التَّفْتازانِيُّ: فالمَسْئُولُ عَنْهُ هو المُجابُ عَنْهُ ولَيْسَ غَيْرُهُ كَما تُوُهِّمَ بِناءً عَلى أنَّ النَّكِرَةَ إذا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كانَتْ غَيْرَ الأُولى، لِأنَّ هَذا لَيْسَ بِضَرْبَةِ لازِمٍ يُرِيدُ أنَّ ذَلِكَ يَتْبَعُ القَرائِنَ. والجَوابُ تَشْرِيعٌ إنْ كانَ السُّؤالُ مِنَ المُسْلِمِينَ، واعْتِرافٌ وإبْكاتٌ إنْ كانَ السُّؤالُ إنْكارًا مِنَ المُشْرِكِينَ، لِأنَّهم تَوَقَّعُوا أنْ يُجِيبَهم بِإباحَةِ القِتالِ فَيُثَوِّرُوا بِذَلِكَ العَرَبَ ومَن في قَلْبِهِ مَرَضٌ. (p-٣٢٦)والكَبِيرُ في الأصْلِ هو عَظِيمُ الجُثَّةِ مِن نَوْعِهِ، وهو مَجازٌ في القَوِيِّ والكَثِيرِ والمُسِنِّ والفاحِشِ، وهو اسْتِعارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، شَبَّهَ القَوِيَّ في نَوْعِهِ بِعَظِيمِ الجُثَّةِ في الأفْرادِ، لِأنَّهُ مَأْلُوفٌ في أنَّهُ قَوِيٌّ، وهو هُنا بِمَعْنى العَظِيمِ في المَآثِمِ بِقَرِينَةِ المَقامِ، مِثْلَ تَسْمِيَةِ الذَّنْبِ كَبِيرَةً، وقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «وما يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ وإنَّهُ لَكَبِيرٌ» الحَدِيثَ. والمَعْنى أنَّ القِتالَ في الأشْهُرِ الحُرُمِ إثْمٌ كَبِيرٌ، فالنَّكِرَةُ هُنا لِلْعُمُومِ بِقَرِينَةِ المَقامِ، إذْ لا خُصُوصِيَّةَ لِقِتالِ قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ، ولا لِقَتْلٍ في شَهْرٍ دُونَ غَيْرِهِ، لا سِيَّما ومُطابَقَةُ الجَوابِ لِلسُّؤالِ قَدْ أكَّدَتِ العُمُومَ، لِأنَّ المَسْئُولَ عَنْهُ حُكْمُ هَذا الجِنْسِ وهو القِتالُ في هَذا الجِنْسِ وهو الشَّهْرُ الحَرامُ مِن غَيْرِ تَفْصِيلٍ، فَإنَّ أجْدَرَ أفْرادِ القِتالِ بِأنْ يَكُونَ مُباحًا هو قِتالُنا المُشْرِكِينَ ومَعَ ذَلِكَ فَهو المَسْئُولُ عَنْهُ وهو الَّذِي وقَعَ التَّحَرُّجُ مِنهُ، أمّا تَقاتُلُ المُسْلِمِينَ فَلا يَخْتَصُّ إثْمُهُ بِوُقُوعِهِ في الشَّهْرِ الحَرامِ، وأمّا قِتالُ الأُمَمِ الآخَرِينَ فَلا يَخْطُرُ بِالبالِ حِينَئِذٍ. والآيَةُ دَلِيلٌ عَلى تَحْرِيمِ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ وتَقْرِيرٌ لِما لِتِلْكَ الأشْهَرِ مِنَ الحُرْمَةِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ لَها مُنْذُ زَمَنٍ قَدِيمٍ، لَعَلَّهُ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّ حُرْمَةَ الزَّمانِ تَقْتَضِي تَرْكَ الإثْمِ في مُدَّتِهِ. وهَذِهِ الأشْهُرُ هي زَمَنٌ لِلْحَجِّ ومُقَدِّماتِهِ وخَواتِمِهِ ولِلْعُمْرَةِ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَحْرُمِ القِتالُ في خِلالِها لِتَعَطَّلَ الحَجُّ والعُمْرَةُ، ولِذَلِكَ أقَرَّها الإسْلامُ أيّامَ كانَ في بِلادِ العَرَبِ مُشْرِكُونَ لِفائِدَةِ المُسْلِمِينَ وفائِدَةِ الحَجِّ، قالَ تَعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ والشَّهْرَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٩٧] الآيَةَ. وتَحْرِيمُ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ قَدْ خُصِّصَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ نُسِخَ، فَأمّا تَخْصِيصُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١] إلى قَوْلِهِ ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤] . وأمّا نَسْخُهُ فَبِقَوْلِهِ تَعالى ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ١] إلى قَوْلِهِ ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] فَإنَّها صَرَّحَتْ بِإبْطالِ العَهْدِ الَّذِي عاهَدَ المُسْلِمُونَ المُشْرِكِينَ عَلى الهُدْنَةِ، وهو العَهْدُ الواقِعُ في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا مُؤَقَّتًا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ ولا بِالأبَدِ، ولِأنَّ المُشْرِكِينَ نَكَثُوا أيْمانَهم (p-٣٢٧)كَما في الآيَةِ الأُخْرى ﴿ألا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أيْمانَهم وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ﴾ [التوبة: ١٣] . ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى أجَّلَهم أجَلًا وهو انْقِضاءُ الأشْهُرِ الحُرُمِ مِن ذَلِكَ العامِ وهو عامُ تِسْعَةٍ مِنِ الهِجْرَةِ في حَجَّةِأبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ، لِأنَّ تِلْكَ الآيَةَ نَزَلَتْ في شَهْرِ شَوّالٍ وقَدْ خَرَجَ المُشْرِكُونَ فَقالَ لَهم ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢] فَأخَّرَها آخِرَ المُحَرَّمِ مِن عامِ عَشَرَةٍ مِنِ الهِجْرَةِ، ثُمَّ قالَ ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ﴾ [التوبة: ٥] أيْ تِلْكَ الأشْهُرُ الأرْبَعَةُ ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] فَنَسَخَ تَحْرِيمَ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ، لِأنَّ المُشْرِكِينَ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِلامِ الجِنْسِ وهو مِن صِيَغِ العُمُومِ وعُمُومُ الأشْخاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ عَلى التَّحْقِيقِ، ولِذَلِكَ قاتَلَ النَّبِيءُ ﷺ ثَقِيفًا في شَهْرِ ذِي القِعْدَةِ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ كَما في كُتُبِ الصَّحِيحِ. وأغْزى أبا عامِرٍ إلى أوْطاسَ في الشَّهْرِ الحَرامِ، وقَدْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الغَزْوِ في جَمِيعِ أشْهُرِ السَّنَةِ يَغْزُونَ أهْلَ الكِتابِ وهم أوْلى بِالحُرْمَةِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ مِنَ المُشْرِكِينَ. فَإنْ قُلْتَ: إذا نُسِخَ تَحْرِيمُ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ فَما مَعْنى قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ في خُطْبَةِ حَجَّةِ الوَداعِ «إنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم وأعْراضَكم عَلَيْكم حَرامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكم هَذا في شَهْرِكم هَذا في بَلَدِكم هَذا» فَإنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ حُرْمَةِ الأشْهُرِ. قُلْتُ: إنْ تَحْرِيمَ القِتالِ فِيها تَبَعٌ لِتَعْظِيمِها وحُرْمَتِها وتَنْزِيهِها عَنْ وُقُوعِ الجَرائِمِ والمَظالِمِ فِيها فالجَرِيمَةُ فِيها تُعَدُّ أعْظَمَ مِنها لَوْ كانَتْ في غَيْرِها. والقِتالُ الظُّلْمُ مُحَرَّمٌ في كُلِّ وقْتٍ، والقِتالُ لِأجْلِ الحَقِّ عِبادَةٌ فَنُسِخَ تَحْرِيمُ القِتالِ فِيها لِذَلِكَ وبَقِيَتْ حُرْمَةُ الأشْهُرِ بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الجَرائِمِ. وأحْسَنُ مِن هَذا أنَّ الآيَةَ قَرَّرَتْ حُرْمَةَ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ لِحِكْمَةِ تَأْمِينِ سُبُلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ، إذِ العُمْرَةُ أكْثَرُها في رَجَبٍ ولِذَلِكَ قالَ ﴿قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ واسْتَمَرَّ ذَلِكَ إلى أنْ أبْطَلَ النَّبِيءُ ﷺ الحَجَّ عَلى المُشْرِكِينَ في عامِ حَجَّةِ أبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ؛ إذْ قَدْ صارَتْ مَكَّةُ بِيَدِ المُسْلِمِينَ ودَخَلَ في الإسْلامِ قُرَيْشٌ ومُعْظَمُ قَبائِلِ العَرَبِ والبَقِيَّةُ مُنِعُوا مِن زِيارَةِ مَكَّةَ، وأنَّ ذَلِكَ كانَ يَقْتَضِي إبْطالَ تَحْرِيمِ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ؛ لِأنَّ تَحْرِيمَهُ فِيها لِأجْلِ تَأْمِينِ سَبِيلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ. وقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ ولَمْ يَبْقَ الحَجُّ إلّا لِلْمُسْلِمِينَ وهم لا قِتالَ بَيْنَهم، إذْ قِتالُ الظُّلْمِ مُحَرَّمٌ في كُلِّ زَمانٍ وقِتالُ الحَقِّ يَقَعُ في كُلِّ وقْتٍ ما لَمْ يَشْغَلْ عَنْهُ شاغِلٌ مِثْلُ الحَجِّ، فَتَسْمِيَتُهُ (p-٣٢٨)نَسْخًا تَسامُحٌ، وإنَّما هو انْتِهاءُ مَوْرِدِ الحُكْمِ، ومِثْلُ هَذا التَّسامُحِ في الأسْماءِ مَعْرُوفٌ في كَلامِ المُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ أسْلَمَ جَمِيعُ المُشْرِكِينَ قَبْلَ حَجَّةِ الوَداعِ وذَكَرَ النَّبِيءُ ﷺ حُرْمَةَ الأشْهُرِ الحُرُمِ في خُطْبَتِهِ، وقَدْ تَعَطَّلَ حِينَئِذٍ العَمَلُ بِحُرْمَةِ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ، إذْ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ يَقْصِدُ الحَجَّ. فَمَعْنى نَسْخِ تَحْرِيمِ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ أنَّ الحاجَةَ إلَيْهِ قَدِ انْقَضَتْ كَما انْتَهى مَصْرِفُ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم مِن مَصارِفِ الزَّكاةِ بِالإجْماعِ لِانْقِراضِهِمْ. * * * ﴿وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾ إنْحاءٌ عَلى المُشْرِكِينَ وإظْهارٌ لِظُلْمِهِمْ بَعْدَ أنْ بَكَّتَهم بِتَقْرِيرِ حُرْمَةِ الأشْهُرِ الحُرُمِ الدّالِّ عَلى أنَّ ما وقَعَ مِن أهْلِ السَّرِيَّةِ مِن قَتْلِ رَجُلٍ فِيهِ كانَ عَنْ خَطَأٍ في الشَّهْرِ أوْ ظَنِّ سُقُوطِ الحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ لِقِتالِ العَدُوِّ، فَإنَّ المُشْرِكِينَ اسْتَعْظَمُوا فِعْلًا واسْتَنْكَرُوهُ وهم يَأْتُونَ ما هو أفْظَعُ مِنهُ، ذَلِكَ أنَّ تَحْرِيمَ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ لَيْسَ لِذاتِ الأشْهُرِ، لِأنَّ الزَّمانَ لا حُرْمَةَ لَهُ في ذاتِهِ وإنَّما حُرْمَتُهُ تَحْصُلُ بِجَعْلِ اللَّهِ إيّاهُ ذا حُرْمَةٍ، فَحُرْمَتُهُ تَبَعٌ لِحَوادِثَ تَحْصُلُ فِيهِ، وحُرْمَةُ الأشْهُرِ الحُرُمِ لِمُراعاةِ تَأْمِينِ سَبِيلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ ومُقَدِّماتِهِما ولَواحِقِهِما فِيها، فَلا جَرَمَ أنَّ الَّذِينَ اسْتَعْظَمُوا حُصُولَ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ واسْتَباحُوا حُرُماتٍ ذاتِيَّةً بِصَدِّ المُسْلِمِينَ، وكَفَرُوا بِاللَّهِ الَّذِي جَعَلَ الكَعْبَةَ حَرامًا وحَرَّمَ لِأجْلِ حَجِّها الأشْهُرَ الحُرُمَ، وأخْرَجُوا أهْلَ الحَرَمِ مِنهُ، وآذَوْهم، لَأحْرِياءُ بِالتَّحْمِيقِ والمَذَمَّةِ، لِأنَّ هاتِهِ الأشْياءَ المَذْكُورَةَ كُلُّها مُحَرَّمَةٌ لِذاتِها لا تَبَعًا لِغَيْرِها. وقَدْ قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ لِرَجُلٍ مِن أهْلِ العِراقِ جاءَ يَسْألُهُ عَنْ دَمِ البَعُوضِ إذا أصابَ الثَّوْبَ هَلْ يُنَجِّسُهُ، وكانَ ذَلِكَ عَقِبَ مَقْتَلِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: عَجَبًا لَكم يا أهْلَ العِراقِ تَسْتَحِلُّونَ دَمَ الحُسَيْنِ وتَسْألُونَ عَنْ دَمِ البَعُوضِ. ويَحِقُّ التَّمَثُّلُ هُنا بِقَوْلِ الفَرَزْدَقِ: ؎أتَغْضَبُ إنْ أُذُنا قُتَيْبَةَ حُزَّتا جَهارًا ولَمْ تَغْضَبْ لِقَتْلِ ابْنِ خازِمِ (p-٣٢٩)والمَعْنى أنَّ الصَّدَّ وما عُطِفَ عَلَيْهِ مِن أفْعالِ المُشْرِكِينَ أكْبَرُ إثْمًا عِنْدَ اللَّهِ مِن إثْمِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ. والعِنْدِيَّةُ في قَوْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ عِنْدِيَّةٌ مَجازِيَّةٌ وهي عِنْدِيَّةُ العِلْمِ والحُكْمِ. والتَّفْضِيلُ في قَوْلِهِ أكْبَرُ تَفْضِيلُ الإثْمِ أيْ كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ المَذْكُوراتِ أعْظَمُ إثْمًا. والمُرادُ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: مَنعُ مَن يُرِيدُ الإسْلامَ مِنهُ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَن آمَنَ بِهِ﴾ [الأعراف: ٨٦] . والكُفْرُ بِاللَّهِ: الإشْراكُ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ وهم أكْثَرُ العَرَبِ، وكَذَلِكَ إنْكارُ وجُودِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّهْرِيِّينَ مِنهم، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَنِ الكُفْرِ وضابِطِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة: ٦] إلَخْ. وقَوْلُهُ بِهِ الباءُ فِيهِ لِتَعْدِيَةِ ”كُفْرٌ“ ولَيْسَتْ لِلظَّرْفِيَّةِ والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِالباءِ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ. وكُفْرٌ مَعْطُوفٌ عَلى صَدٍّ أيْ: صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِاللَّهِ أكْبَرُ مِن قِتالِ الشَّهْرِ الحَرامِ وإنْ كانَ القِتالُ كَبِيرًا. والمَسْجِدِ الحَرامِ مَعْطُوفٌ عَلى سَبِيلِ اللَّهِ فَهو مُتَعَلِّقٌ بِ صَدَّ تَبَعًا لِتَعَلُّقِ مَتْبُوعِهِ بِهِ. واعْلَمْ أنَّ مُقْتَضى ظاهِرِ تَرْتِيبِ نَظْمِ الكَلامِ أنْ يُقالَ: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ وصَدٌّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، فَخُولِفَ مُقْتَضى هَذا النَّظْمِ إلى الصُّورَةِ الَّتِي جاءَتِ الآيَةُ عَلَيْها، بِأنْ قُدِّمَ قَوْلُهُ ﴿وكُفْرٌ بِهِ﴾ فَجُعِلَ مَعْطُوفًا عَلى صَدٍّ قَبْلَ أنْ يَسْتَوْفِيَ ”صَدٌّ“ ما تَعَلَّقَ بِهِ وهو والمَسْجِدِ الحَرامِ فَإنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى سَبِيلِ اللَّهِ المُتَعَلِّقِ بِ ”صَدٌّ“ إذِ المَعْطُوفُ عَلى المُتَعَلِّقِ مُتَعَلِّقٌ فَهو أوْلى بِالتَّقْدِيمِ مِنَ المَعْطُوفِ عَلى الِاسْمِ المُتَعَلِّقِ بِهِ، لِأنَّ المَعْطُوفَ عَلى المُتَعَلِّقِ بِهِ أجْنَبِيٌّ عَنِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وأمّا المَعْطُوفُ عَلى المُتَعَلِّقِ فَهو مِن صِلَةِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، والدّاعِي إلى هَذا التَّرْتِيبِ هو أنْ يَكُونَ نَظْمُ الكَلامِ عَلى أُسْلُوبٍ أدَقَّ مِن مُقْتَضى الظّاهِرِ وهو الِاهْتِمامُ بِتَقْدِيمِ ما هو أفْظَعُ مِن جَرائِمِهِمْ، فَإنَّ الكُفْرَ بِاللَّهِ أفْظَعُ مِنَ الصَّدِّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، فَكانَ تَرْتِيبُ النَّظْمِ عَلى تَقْدِيمِ الأهَمِّ فالأهَمِّ، فَإنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ الإسْلامِ يَجْمَعُ مَظالِمَ كَثِيرَةً، لِأنَّهُ اعْتِداءٌ عَلى النّاسِ في ما يَخْتارُونَهُ لِأنْفُسِهِمْ، وجَحْدٌ لِرِسالَةِ رَسُولِ اللَّهِ، والباعِثُ عَلَيْهِ انْتِصارُهم لِأصْنامِهِمْ ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا (p-٣٣٠)إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٥] فَلَيْسَ الكُفْرُ بِاللَّهِ إلّا رُكْنًا مِن أرْكانِ الصَّدِّ عَنِ الإسْلامِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ثَنّى بِالكُفْرِ بِاللَّهِ لِيُفادَ بِدَلالَةِ المُطابَقَةِ بَعْدَ أنْ دَلَّ عَلَيْهِ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِدَلالَةِ التَّضَمُّنِ، ثُمَّ عَدَّ عَلَيْهِمُ الصَّدَّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ ثُمَّ إخْراجَ أهْلِهِ مِنهُ. ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ والمَسْجِدِ الحَرامِ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ بِهِ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِلْكُفْرِ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ فَإنَّ الكُفْرَ يَتَعَدّى إلى ما يُعْبَدُ وما هو دِينٌ وما يَتَضَمَّنُ دِينًا، عَلى أنَّهم يُعَظِّمُونَ المَسْجِدَ الحَرامَ ولا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ ما يُسَوِّغُ أنْ يُتَكَلَّفَ بِإطْلاقِ لَفْظِ الكُفْرِ عَلَيْهِ عَلى وجْهِ المَجازِ. وقَوْلُهُ ﴿وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ﴾ أيْ إخْراجُ المُسْلِمِينَ مِن مَكَّةَ فَإنَّهم كانُوا حَوْلَ المَسْجِدِ الحَرامِ، لِأنَّ في إخْراجِهِمْ مَظالِمَ كَثِيرَةً فَقَدْ مَرِضَ المُهاجِرُونَ في خُرُوجِهِمْ إلى المَدِينَةِ ومِنهم كَثِيرٌ مَن أصابَتْهُ الحُمّى حَتّى رُفِعَتْ مِنَ المَدِينَةِ بِبَرَكَةِ دُعاءِ الرَّسُولِ ﷺ، عَلى أنَّ التَّفْضِيلَ إنَّما تَعَلَّقَ بِوُقُوعِ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ لا بِنَفْسِ القَتْلِ فَإنَّ لَهُ حُكْمًا يَخُصُّهُ. والأهْلُ: الفَرِيقُ الَّذِينَ لَهم مَزِيدُ اخْتِصاصٍ بِما يُضافُ إلَيْهِ اللَّفْظُ، فَمِنهُ أهْلُ الرَّجُلِ عَشِيرَتُهُ، وأهْلُ البَلَدِ المُسْتَوْطِنُونَ بِهِ، وأهْلُ الكَرَمِ المُتَّصِفُونَ بِهِ، وأرادَ بِهِ هُنا المُسْتَوْطِنِينَ بِمَكَّةَ وهُمُ المُسْلِمُونَ، وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّهم أحَقُّ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ، لِأنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّةَ مَن بَنى المَسْجِدَ الحَرامَ قالَ تَعالى ﴿وما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلّا المُتَّقُونَ﴾ [الأنفال: ٣٤] . وقَوْلُهُ ﴿والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾ تَذْيِيلٌ مَسُوقٌ مَساقَ التَّعْلِيلِ، لِقَوْلِهِ ﴿وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ﴾؛ وإذْ قَدْ كانَ إخْراجُ أهْلِ الحَرَمِ مِنهُ أكْبَرَ مِنَ القَتْلِ؛ كانَ ما ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الصَّدِّ عَنِ الدِّينِ والكُفْرِ بِاللَّهِ والصَّدِّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ أكْبَرَ بِدَلالَةِ الفَحْوى، لِأنَّ تِلْكَ أعْظَمُ جُرْمًا مِن جَرِيمَةِ إخْراجِ المُسْلِمِينَ مِن مَكَّةَ. والفِتْنَةُ: التَّشْغِيبُ والإيقاعُ في الحِيرَةِ واضْطِرابُ العَيْشِ فَهي اسْمٌ شامِلٌ لِما يُعَظِّمُ مِنَ الأذى الدّاخِلِ عَلى أحَدٍ أوْ جَماعَةٍ مِن غَيْرِهِمْ، وأُرِيدَ بِها هُنا ما لَقِيَهُ المُسْلِمُونَ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنَ المَصائِبِ في الدِّينِ بِالتَّعَرُّضِ لَهم بِالأذى بِالقَوْلِ والفِعْلِ، ومَنعِهِمْ مِن إظْهارِ عِبادَتِهِمْ، وقَطِيعَتِهِمْ في المُعامَلَةِ، والسُّخْرِيَةِ بِهِمْ والضَّرْبِ المُدْمِي والتَّمالُؤِ عَلى قَتْلِ الرَّسُولِ ﷺ والإخْراجِ مِن مَكَّةَ ومَنعٍ مِن أمْوالِهِمْ ونِسائِهِمْ وصَدِّهِمْ عَنِ البَيْتِ، ولا يَخْفى أنَّ مَجْمُوعَ ذَلِكَ أكْبَرُ مِن قَتْلِ المُسْلِمِينَ واحِدًا مِن رِجالِ المُشْرِكِينَ وهو عَمْرٌو الحَضْرَمِيُّ وأسْرِهِمْ رَجُلَيْنِ مِنهم. (p-٣٣١)وأكْبَرُ أيْ أشَدُّ كِبَرًا أيْ قُوَّةً في المَحارِمِ، أيْ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ الَّذِي هو في الشَّهْرِ الحَرامِ كَبِيرٌ. * * * ﴿ولا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكم حَتّى يَرُدُّوكم عَنْ دِينِكم إنِ اسْتَطاعُوا﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دَعا إلى الِاعْتِراضِ بِها مُناسَبَةُ قَوْلِهِ ﴿والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾ لِما تَضَمَّنَتْهُ مِن صُدُورِ الفِتْنَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ عَلى المُسْلِمِينَ وما تَتَضَمَّنُهُ الفِتْنَةُ مِنَ المُقاتَلَةِ الَّتِي تَداوَلَها المُسْلِمُونَ والمُشْرِكُونَ. إذِ القِتالُ يَشْتَمِلُ عَلى أنْواعِ الأذى ولَيْسَ القَتْلُ إلّا بَعْضَ أحْوالِ القِتالِ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنَّهم ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩] فَسَمّى فِعْلَ الكُفّارِ مَعَ المُسْلِمِينَ مُقاتَلَةً وسَمّى المُسْلِمِينَ مُقاتَلِينَ بِفَتْحِ التّاءِ، وفِيهِ إعْلامٌ بِأنَّ المُشْرِكِينَ مُضْمِرُونَ غَزْوَ المُسْلِمِينَ ومُسْتَعِدُّونَ لَهُ وإنَّما تَأخَّرُوا عَنْهُ بَعْدَ الهِجْرَةِ؛ لِأنَّهم كانُوا يُقاسُونَ آثارَ سِنِي جَدْبٍ فَقَوْلُهُ لا يَزالُونَ وإنْ أشْعَرَ أنَّ قِتالَهم مَوْجُودٌ فالمُرادُ بِهِ أسْبابُ القِتالِ، وهو الأذى وإضْمارُ القِتالِ كَذَلِكَ، وأنَّهم إنْ شَرَعُوا فِيهِ لا يَنْقَطِعُونَ عَنْهُ، عَلى أنَّ صَرِيحَ ”لا يَزالُ“ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ هَذا يَدُومُ في المُسْتَقْبَلِ، و”حَتّى“ لِلْغايَةِ وهي هُنا غايَةٌ تَعْلِيلِيَّةٌ. والمَعْنى: أنَّ فِتْنَتَهم وقِتالَهم يَدُومُ إلى أنْ يَحْصُلَ غَرَضُهم وهو أنْ يَرُدُّوكم عَنْ دِينِكم. وقَوْلُهُ ﴿إنِ اسْتَطاعُوا﴾ تَعْرِيضٌ بِأنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّ المُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، فَمَوْقِعُ هَذا الشَّرْطِ مَوْقِعُ الِاحْتِراسِ مِمّا قَدْ تُوهِمُهُ الغايَةُ في قَوْلِهِ ﴿حَتّى يَرُدُّوكم عَنْ دِينِكُمْ﴾ ولِهَذا جاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ ”إنْ“ المُشْعِرِ بِأنَّ شَرْطَهُ مَرْجُوٌّ عَدَمُ وُقُوعِهِ. والرَّدُّ: الصَّرْفُ عَنْ شَيْءٍ والإرْجاعُ إلى ما كانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهو يَتَعَدّى إلى المَفْعُولِ بِنَفْسِهِ وإلى ما زادَ عَلى المَفْعُولِ بِإلى وعَنْ، وقَدْ حُذِفَ هُنا أحَدُ المُتَعَلِّقَيْنِ وهو المُتَعَلِّقُ بِواسِطَةِ ”إلى“ لِظُهُورِ أنَّهم يُقاتِلُونَهم لِيَرُدُّوهم عَنِ الإسْلامِ إلى الشِّرْكِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ، لِأنَّ أهْلَ كُلِّ دِينٍ إذا اعْتَقَدُوا صِحَّةَ دِينِهِمْ حَرَصُوا عَلى إدْخالِ النّاسِ فِيهِ قالَ تَعالى ﴿ولَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ ولا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٠]، وقالَ ﴿ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا﴾ [النساء: ٨٩] . وتَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِإنَّ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ اسْتِطاعَتَهم ذَلِكَ ولَوْ في آحادِ المُسْلِمِينَ أمْرٌ مُسْتَبْعَدُ الحُصُولِ لِقُوَّةِ إيمانِ المُسْلِمِينَ فَتَكُونُ مُحاوَلَةُ المُشْرِكِينَ رَدَّ واحِدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ عَناءً باطِلًا. * * * (p-٣٣٢)﴿ومَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهْوَ كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ اعْتِراضٌ ثانٍ، أوْ عَطْفٌ عَلى الِاعْتِراضِ الَّذِي قَبْلَهُ، والمَقْصِدُ مِنهُ التَّحْذِيرُ، لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ حِرْصَ المُشْرِكِينَ عَلى رَدِّ المُسْلِمِينَ عَنِ الإسْلامِ وعَقَّبَهُ بِاسْتِبْعادِ أنْ يَصْدُرَ ذَلِكَ مِنَ المُسْلِمِينَ، أعْقَبَهُ بِالتَّحْذِيرِ مِنهُ، وجِيءَ بِصِيغَةِ يَرْتَدِدْ وهي صِيغَةُ مُطاوَعَةٍ إشارَةً إلى أنَّ رُجُوعَهم عَنِ الإسْلامِ إنْ قُدِّرَ حُصُولُهُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ مُحاوَلَةٍ مِنَ المُشْرِكِينَ فَإنَّ مَن ذاقَ حَلاوَةَ الإيمانِ لا يَسْهُلُ عَلَيْهِ رُجُوعُهُ عَنْهُ ومَن عَرَفَ الحَقَّ لا يَرْجِعُ عَنْهُ إلّا بِعَناءٍ، ولَمْ يُلاحَظِ المَفْعُولُ الثّانِي هُنا؛ إذْ لا اعْتِبارَ بِالدِّينِ المَرْجُوعِ إلَيْهِ وإنَّما نِيطَ الحُكْمُ بِالِارْتِدادِ عَنِ الإسْلامِ إلى أيِّ دِينٍ ومِن يَوْمِئِذٍ صارَ اسْمُ الرِّدَّةِ لَقَبًا شَرْعِيًّا عَلى الخُرُوجِ مِن دِينِ الإسْلامِ وإنْ لَمْ يَكُنْ في هَذا الخُرُوجِ رُجُوعٌ إلى دِينٍ كانَ عَلَيْهِ هَذا الخارِجُ. وقَوْلُهُ فَيَمُتْ مَعْطُوفٌ عَلى الشَّرْطِ فَهو كَشَرْطٍ ثانٍ. وفِعْلُ ”حَبِطَ“ مِن بابِ سَمِعَ ويَتَعَدّى بِالهَمْزَةِ، قالَ اللُّغَوِيُّونَ: أصْلُهُ مِنَ الحَبَطِ بِفَتْحِ الباءِ وهو انْتِفاخٌ في بُطُونِ الإبِلِ مِن كَثْرَةِ الأكْلِ فَتَمُوتُ مِن ذَلِكَ، فَإطْلاقُهُ عَلى إبْطالِ الأعْمالِ تَمْثِيلٌ؛ لِأنَّ الإبِلَ تَأْكُلُ الخَضِرَ شَهْوَةً لِلشِّبَعِ فَيَئُولُ عَلَيْها بِالمَوْتِ، فَشَبَّهَ حالَ مَن عَمِلَ الأعْمالَ الصّالِحَةَ لِنَفْعِها في الآخِرَةِ فَلَمْ يَجِدْ لَها أثَرًا بِالماشِيَةِ الَّتِي أكَلَتْ حَتّى أصابَها الحَبَطُ، ولِذَلِكَ لَمْ تُقَيَّدِ الأعْمالُ بِالصّالِحاتِ لِظُهُورِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ. وحَبَطُ الأعْمالِ: زَوالِ آثارِها المَجْعُولَةِ مُرَتَّبَةً عَلَيْها شَرْعًا، فَيَشْمَلُ آثارَها في الدُّنْيا والثَّوابَ في الآخِرَةِ وهو سِرُّ قَوْلِهِ ﴿فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ . فالآثارُ الَّتِي في الدُّنْيا هي ما يَتَرَتَّبُ عَلى الإسْلامِ مِن خَصائِصِ المُسْلِمِينَ وأوَّلُها آثارُ كَلِمَةِ الشَّهادَةِ مِن حُرْمَةِ الأنْفُسِ والأمْوالِ والأعْراضِ والصَّلاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ المَوْتِ والدَّفْنِ في مَقابِرِ المُسْلِمِينَ. وآثارُ العِباداتِ وفَضائِلُ المُسْلِمِينَ بِالهِجْرَةِ والأُخُوَّةِ الَّتِي بَيْنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ ووَلاءُ الإسْلامِ وآثارُ الحُقُوقِ مِثْلَ حَقِّ المُسْلِمِ في بَيْتِ المالِ والعَطاءِ وحُقُوقِ التَّوارُثِ والتَّزْوِيجِ فالوِلاياتِ والعَدالَةِ وما ضَمِنَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] . (p-٣٣٣)وأمّا الآثارُ في الآخِرَةِ فَهي النَّجاةُ مِنَ النّارِ بِسَبَبِ الإسْلامِ وما يَتَرَتَّبُ عَلى الأعْمالِ الصّالِحاتِ مِنَ الثَّوابِ والنَّعِيمِ. والمُرادُ بِالأعْمالِ: الأعْمالُ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِها إلى اللَّهِ تَعالى ويَرْجُونَ ثَوابَها بِقَرِينَةِ أصْلِ المادَّةِ ومَقامِ التَّحْذِيرِ؛ لِأنَّهُ لَوْ بَطَلَتِ الأعْمالُ المَذْمُومَةُ لَصارَ الكَلامُ تَحْرِيضًا، وما ذُكِرَتِ الأعْمالُ في القُرْآنِ مَعَ حَبِطَتْ إلّا غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِالصّالِحاتِ اكْتِفاءً بِالقَرِينَةِ. وقَوْلُهُ ﴿وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ الجَزاءِ عَلى الكُفْرِ، إذِ الأُمُورُ بِخَواتِمِها، فَقَدَ تَرَتَّبَ عَلى الكُفْرِ أمْرانِ: بُطْلانُ فَضْلِ الأعْمالِ السّالِفَةِ، والعُقُوبَةُ بِالخُلُودِ في النّارِ، ولِكَوْنِ الخُلُودِ عُقُوبَةً أُخْرى أُعِيدَ اسْمُ الإشارَةِ في قَوْلِهِ ﴿وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ﴾ . وفِي الإتْيانِ بِاسْمِ الإشارَةِ في المَوْضِعَيْنِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهم أحْرِياءُ بِما ذُكِرَ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ مِن أجْلِ ما ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ. هَذا وقَدْ رَتَّبَ حَبَطَ الأعْمالِ عَلى مَجْمُوعِ أمْرَيْنِ الِارْتِدادِ والمَوْتِ عَلى الكُفْرِ، ولَمْ يُقَيِّدِ الِارْتِدادَ بِالمَوْتِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٥] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥] وقَوْلِهِ ﴿ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرْتَدِّ عَنِ الإسْلامِ إذا تابَ مِن رِدَّتِهِ ورَجَعَ إلى الإسْلامِ، فَعِنْدَ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ أنَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ عادَ إلى الإسْلامِ وتابَ لَمْ تَرْجِعْ إلَيْهِ أعْمالُهُ الَّتِي عَمِلَها قَبْلَ الِارْتِدادِ فَإنْ كانَ عَلَيْهِ نُذُورٌ أوْ أيْمانٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنها بَعْدَ عَوْدَتِهِ إلى الإسْلامِ، وإنْ كانَ حَجَّ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ ثُمَّ عادَ إلى الإسْلامِ اسْتَأْنَفَ الحَجَّ ولا يُؤْخَذُ بِما كانَ عَلَيْهِ زَمَنَ الِارْتِدادِ إلّا ما فَعَلَهُ في الكُفْرِ أُخِذَ بِهِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا عادَ المُرْتَدُّ إلى الإسْلامِ عادَتْ إلَيْهِ أعْمالُهُ كُلُّها ما لَهُ وما عَلَيْهِ. فَأمّا حُجَّةُ مالِكٍ فَقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: قالَ عُلَماؤُنا: إنَّما ذَكَرَ اللَّهُ المُوافاةَ شَرْطًا هَهُنا، لِأنَّهُ عَلَّقَ الخُلُودَ في النّارِ عَلَيْها فَمَن أوْفى عَلى الكُفْرِ خَلَّدَهُ اللَّهُ في النّارِ بِهَذِهِ الآيَةِ: ومَن أشْرَكَ (p-٣٣٤)حَبِطَ عَمَلُهُ بِالآيَةِ الأُخْرى فَهُما آيَتانِ مُفِيدَتانِ لِمَعْنَيَيْنِ وحُكْمَيْنِ مُتَغايِرَيْنِ اهـ. يُرِيدُ أنَّ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ والجَوابَيْنِ هُنا تَوْزِيعًا فَقَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ جَوابٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ﴾ . وقَوْلُهُ: ﴿وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ جَوابٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فَيَمُتْ وهو كافِرٌ﴾، ولَعَلَّ في إعادَةِ (وأُولَئِكَ) إيذانًا بِأنَّهُ جَوابٌ ثانٍ، وفي إطْلاقِ الآيِ الأُخْرى عَنِ التَّقْيِيدِ بِالمَوْتِ عَلى الكُفْرِ قَرِينَةٌ عَلى قَصْدِ هَذا المَعْنى مِن هَذا القَيْدِ في هَذِهِ الآيَةِ. وفِي هَذا الِاسْتِدْلالِ إلْغاءٌ لِقاعِدَةِ حَمْلِ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ، ولَعَلَّ نَظَرَ مالِكٍ في إلْغاءِ ذَلِكَ أنَّ هَذِهِ أحْكامٌ تَرْجِعُ إلى أُصُولِ الدِّينِ ولا يُكْتَفى فِيها بِالأدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، فَإذا كانَ الدَّلِيلُ المُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلى المُقَيَّدِ في فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَلِأنَّهُ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، وغالِبُ أدِلَّةِ الفُرُوعِ ظَنِّيَّةٌ، فَأمّا في أُصُولِ الِاعْتِقادِ فَأُخِذَ مِن كُلِّ آيَةٍ صَرِيحُ حُكْمِها، ولِلنَّظَرِ في هَذا مَجالٌ، لِأنَّ بَعْضَ ما ذُكِرَ مِنَ الأعْمالِ راجِعٌ إلى شَرائِعِ الإسْلامِ وفُرُوعِهِ كالحَجِّ. والحُجَّةُ لِلشّافِعِيِّ إعْمالُ حَمْلِ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ كَما ذَكَرَهُ الفَخْرُ وصَوَّبَهُ ابْنُ الفَرَسِ مِنَ المالِكِيَّةِ. فَإنْ قُلْتَ: فالعَمَلُ الصّالِحُ في الجاهِلِيَّةِ يُقَرِّرُهُ الإسْلامُ فَقَدْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحَكِيمِ بْنِ حِزامٍ «أسَلَمْتَ عَلى ما أسْلَمْتَ عَلَيْهِ مَن خَيْرٍ»، فَهَلْ يَكُونُ المُرْتَدُّ عَنِ الإسْلامِ أقَلَّ حالًا مَن أهْلِ الجاهِلِيَّةِ. فالجَوابُ أنَّ حالَةَ الجاهِلِيَّةِ قَبْلَ مَجِيءِ الإسْلامِ حالَةُ خُلُوٍّ عَنِ الشَّرِيعَةِ فَكانَ مِن فَضائِلِ الإسْلامِ تَقْرِيرُها. وقَدْ بُنِيَ عَلى هَذا خِلافٌ في بَقاءِ حُكْمِ الصُّحْبَةِ لِلَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ النَّبِيءِ ﷺ ثُمَّ رَجَعُوا إلى الإسْلامِ مِثْلَ قُرَّةَ بْنِ هُبَيْرَةَ العامِرِيِّ، وعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاثَةَ، والأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، وفي شَرْحِ القاضِي زَكَرِيّا عَلى ألْفِيَّةِ العِراقِيِّ: وفي دُخُولِ مَن لَقِيَ النَّبِيءَ ﷺ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أسْلَمَ بَعْدَ وفاةِ الرَّسُولِ في الصَّحابَةِ نَظَرٌ كَبِيرٌ اهـ. قالَ حُلولو في شَرْحِ جَمْعِ الجَوامِعِ: ولَوِ ارْتَدَّ الصَّحابِيُّ في حَياةِ الرَّسُولِ ﷺ ورَجَعَ إلى الإيمانِ بَعْدَ وفاتِهِ جَرى ذَلِكَ عَلى الخِلافِ في الرِّدَّةِ، هَلْ تُحْبِطُ العَمَلَ بِنَفْسِ وُقُوعِها أوْ إنَّما تُحْبِطُهُ بِشَرْطِ الوَفاةِ عَلَيْها، لِأنَّ صُحْبَةَ الرَّسُولِ ﷺ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، أمّا قَبُولُ رِوايَتِهِ بَعْدَ عَوْدَتِهِ إلى الإسْلامِ فَفِيها نَظَرٌ، (p-٣٣٥)أمّا مَنِ ارْتَدَّ في حَياةِ النَّبِيءِ ﷺ ورَجَعَ إلى الإسْلامِ في حَياتِهِ وصَحِبَهُ فَفَضْلُ الصُّحْبَةِ حاصِلٌ لَهُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي سَرْحٍ. فَإنْ قُلْتَ: ما السِّرُّ في اقْتِرانِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ مَعَ خُلُوِّ بَقِيَّةِ نَظائِرِها عَنْ ثانِي الشَّرْطَيْنِ، قُلْتُ: تِلْكَ الآيُ الأُخَرُ جاءَتْ لِتَهْوِيلِ أمْرِ الشِّرْكِ عَلى فَرْضِ وُقُوعِهِ مِن غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَما في آيَةِ ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ﴾ [المائدة: ٥] أوْ وُقُوعِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مِنهُ كَما في آيَةِ ﴿ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] ) وآيَةِ ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] فاقْتَصَرَ فِيها عَلى ما يَنْشَأُ عَنِ الشِّرْكِ بَعْدَ الإيمانِ مِن حَبَطِ الأعْمالِ، ومِنَ الخَسارَةِ بِإجْمالٍ، أمّا هَذِهِ الآيَةُ فَقَدْ ورَدَتْ عَقِبَ ذِكْرِ مُحاوَلَةِ المُشْرِكِينَ ومُعالَجَتِهِمُ ارْتِدادَ المُسْلِمِينَ المُخاطَبِينَ بِالآيَةِ، فَكانَ فَرْضُ وُقُوعِ الشِّرْكِ والِارْتِدادِ مِنهم أقْرَبَ، لِمُحاوَلَةِ المُشْرِكِينَ ذَلِكَ بِقِتالِ المُسْلِمِينَ، فَذُكِرَ فِيها زِيادَةَ تَهْوِيلٍ وهو الخُلُودُ في النّارِ. وكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِن دَلائِلِ النُّبُوَّةِ، إذْ وقَعَ في عامِ الرِّدَّةِ، أنَّ مَن بَقِيَ في قَلْبِهِمْ أثَرُ الشِّرْكِ حاوَلُوا مِنَ المُسْلِمِينَ الِارْتِدادَ وقاتَلُوهم عَلى ذَلِكَ فارْتَدَّ فَرِيقٌ عَظِيمٌ وقامَ لَها الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعَزْمِهِ ويَقِينِهِ فَقاتَلَهم فَرَجَعَ مِنهم مَن بَقِيَ حَيًّا، فَلَوْلا هَذِهِ الآيَةُ لَأيِسُوا مِن فائِدَةِ الرُّجُوعِ إلى الإسْلامِ وهي فائِدَةُ عَدَمِ الخُلُودِ في النّارِ. وقَدْ أشارَ العَطْفُ في قَوْلِهِ فَيَمُتْ بِالفاءِ المُفِيدَةِ لِلتَّعْقِيبِ إلى أنَّ المَوْتَ يَعْقُبُ الِارْتِدادَ وقَدْ عَلِمَ كُلُّ أحَدٍ أنَّ مُعْظَمَ المُرْتَدِّينَ لا تَحْضُرُ آجالُهم عَقِبَ الِارْتِدادِ فَيَعْلَمُ السّامِعُ حِينَئِذٍ أنَّ المُرْتَدَّ يُعاقَبُ بِالمَوْتِ عُقُوبَةً شَرْعِيَّةً، فَتَكُونُ الآيَةُ بِها دَلِيلًا عَلى وُجُوبِ قَتْلِ المُرْتَدِّ، وقَدِ اخْتَلَفَ في ذَلِكَ عُلَماءُ الأُمَّةِ فَقالَ الجُمْهُورُ: يُسْتَتابُ المُرْتَدُّ ثَلاثَةَ أيّامٍ ويُسْجَنُ لِذَلِكَ فَإنْ تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وإنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ كافِرًا، وهَذا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ وبِهِ قالَ مالِكٌ وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ سَواءٌ كانَ رَجُلًا أوِ امْرَأةً، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ في الرَّجُلِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، ولَمْ يَرَ قَتْلَ المُرْتَدَّةِ بَلْ قالَ تُسْتَرَقُّ، وقالَ أصْحابُهُ تُحْبَسُ حَتّى تُسْلِمَ، وقالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ ومُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وطاوُسٌ وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ الماجِشُونِ والشّافِعِيُّ بِقَتْلِ المُرْتَدِّ ولا يُسْتَتابُ، وقِيلَ يُسْتَتابُ شَهْرًا وحُجَّةُ الجَمِيعِ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ «مَن بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ» وفِعْلُ الصَّحابَةِ فَقَدْ قاتَلَ أبُو بَكْرٍ المُرْتَدِّينَ، وأحْرَقَ عَلِيٌّ السَّبائِيَّةَ الَّذِينَ ادَّعَوْا أُلُوهِيَّةَ عَلِيٍّ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ المُرادَ بِالحَدِيثِ: «مَن بَدَّلَ دِينَهُ» الَّذِي هو الإسْلامُ، واتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلى أنَّ ”مَن“ (p-٣٣٦)شامِلَةٌ لِلذَّكَرِ والأُنْثى إلّا مَن شَذَّ مِنهم وهو أبُو حَنِيفَةَ وابْنُ شُبْرُمَةَ والثَّوْرِيُّ وعَطاءٌ والحَسَنُ القائِلُونَ: لا تُقْتَلُ المَرْأةُ المُرْتَدَّةُ واحْتَجُّوا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَتْلِ النِّساءِ فَخَصُّوا بِهِ عُمُومَ ”«مَن بَدَّلَ دِينَهُ» “، وهو احْتِجاجٌ عَجِيبٌ، لِأنَّ هَذا النَّهْيَ وارِدٌ في أحْكامِ الجِهادِ، والمَرْأةُ مِن شَأْنِها ألّا تُقاتِلَ، فَإنَّهُ نَهى أيْضًا عَنْ قَتْلِ الرُّهْبانِ والأحْبارِ أفَيَقُولُ هَؤُلاءِ: إنَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الرُّهْبانِ والأحْبارِ بَعْدَ إسْلامِهِ لا يُقْتَلُ. وقَدْ شَدَّدَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ في المُرْتَدِّ بِالزَّنْدَقَةِ أيْ إظْهارِ الإسْلامِ وإبْطانِ الكُفْرِ فَقالا: يُقْتَلُ ولا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إذا أُخِذَ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَ تائِبًا. ومَن سَبَّ النَّبِيءَ ﷺ قُتِلَ ولا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. هَذا، واعْلَمْ أنَّ الرِّدَّةَ في الأصْلِ هي الخُرُوجُ مِن عَقِيدَةِ الإسْلامِ عِنْدَ جُمْهُورِ المُسْلِمِينَ؛ والخُرُوجُ مِنَ العَقِيدَةِ وتَرْكُ أعْمالِ الإسْلامِ عِنْدَ الخَوارِجِ وبَعْضِ المُعْتَزِلَةِ القائِلِينَ بِكُفْرِ مُرْتَكِبِ الكَبِيرَةِ، ويَدُلُّ عَلى خُرُوجِ المُسْلِمِ مِنِ الإسْلامِ تَصْرِيحُهُ بِهِ بِإقْرارِهِ نَصًّا أوْ ضِمْنًا فالنَّصُّ ظاهِرٌ، والضِّمْنُ أنْ يَأْتِيَ أحَدٌ بِلَفْظٍ أوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ نَصَّ اللَّهُ ورَسُولُهُ أوْ أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ لا يَصْدُرُ إلّا عَنْ كافِرٍ مِثْلَ السُّجُودِ لِلصَّنَمِ، والتَّرَدُّدِ إلى الكَنائِسِ بِحالَةِ أصْحابِ دِينِها. وألْحَقُوا بِذَلِكَ إنْكارَ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ، أيْ ما كانَ العِلْمُ بِهِ ضَرُورِيًّا قالَ ابْنُ راشِدٍ في الفائِقِ: في التَّكْفِيرِ بِإنْكارِ المَعْلُومِ ضَرُورَةً خِلافٌ. وفي ضَبْطِ حَقِيقَتِهِ أنْظارٌ لِلْفُقَهاءِ مَحَلُّها كُتُبُ الفِقْهِ والخِلافِ. وحِكْمَةُ تَشْرِيعِ قَتْلِ المُرْتَدِّ مَعَ أنَّ الكافِرَ بِالأصالَةِ لا يُقْتَلُ أنَّ الِارْتِدادَ خُرُوجُ فَرْدٍ أوْ جَماعَةٍ مِنَ الجامِعَةِ الإسْلامِيَّةِ فَهو بِخُرُوجِهِ مِنِ الإسْلامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ يُنادِي عَلى أنَّهُ لَمّا خالَطَ هَذا الدِّينَ وجَدَهُ غَيْرَ صالِحٍ ووَجَدَ ما كانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أصْلَحَ فَهَذا تَعْرِيضٌ بِالدِّينِ واسْتِخْفافٌ بِهِ، وفِيهِ أيْضًا تَمْهِيدُ طَرِيقٍ لِمَن يُرِيدُ أنْ يَنْسَلَّ مِن هَذا الدِّينِ وذَلِكَ يُفْضِي إلى انْحِلالِ الجامِعَةِ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ لِذَلِكَ زاجِرٌ ما انْزَجَرَ النّاسُ ولا نَجِدُ شَيْئًا زاجِرًا مِثْلَ تَوَقُّعِ المَوْتِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ المَوْتُ هو العُقُوبَةَ لِلْمُرْتَدِّ حَتّى لا يَدْخُلَ أحَدٌ في الدِّينِ إلّا عَلى بَصِيرَةٍ، وحَتّى لا يَخْرُجَ مِنهُ أحَدٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، ولَيْسَ هَذا مِنِ الإكْراهِ في الدِّينِ المَنفِيِّ بِقَوْلِهِ تَعالى (p-٣٣٧)﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] عَلى القَوْلِ بِأنَّها غَيْرُ مَنسُوخَةٍ، لِأنَّ الإكْراهَ في الدِّينِ هو إكْراهُ النّاسِ عَلى الخُرُوجِ مِن أدْيانِهِمْ والدُّخُولِ في الإسْلامِ وأمّا هَذا فَهو مِنِ الإكْراهِ عَلى البَقاءِ في الإسْلامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب