الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ولا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ﴾ [البقرة: ٢١٧].
سؤالُ النبيِّ ﷺ عنِ الشهرِ الحرامِ، وقَعَ مِن الصحابةِ ومِن المشرِكِينَ، مِن المشرِكِينَ تعنُّتًا، ومِن بعضِ الصحابةِ استعلامًا واستشكالًا.
وقولُه: ﴿قِتالٍ فِيهِ﴾ على تقديرِ البَدَلِ مِن «الشهرِ الحرام»، أيْ: عن قتالٍ فيه.
والأشهُرُ الحرُمُ معظَّمةٌ عند العربِ حتّى في الجاهليَّةِ، حتّى إنّ الرجلَ يجِدُ قاتِلَ أبيه، فلا يَقدِرُ على رَفْعِ يدِهِ عليه، مِن تعظيمِ الشهرِ الحرامِ.
والآيةُ نزَلَتْ في قتلِ ابنِ الحَضْرَميِّ وقاتلِهِ عندَ المفسِّرينَ، كما روى ابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ جرِيرٍ، مِن حديثِ جُنْدبِ بنِ عبدِ اللهِ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ بعَثَ رَهْطًا، وبعَثَ عليهِم عبدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ، وكتَبَ له كتابًا، وأمَرَهُ ألاَّ يَقرَأَ الكتابَ حتّى يَبلُغَ مكانَ كذا وكذا، وقال: (لا تُكْرِهَنَّ أحَدًا عَلى السَّيْرِ مَعَكَ مِن أصْحابِكَ)، فلمّا قرَأَ الكتابَ، استرجَعَ، وقال: سمعًا وطاعةً للهِ ولرسولِه، فخبَّرَهُمُ الخبَرَ، وقرَأَ عليهِمُ الكتابَ، فرجَعَ رَجُلانِ، وبَقِيَ بَقِيَّتُهم، فلَقُوا ابنَ الحَضْرَميِّ، فقَتَلُوه، ولم يَدْرُوا أنّ ذلك اليومَ مِن رجَبٍ أو مِن جُمادى، فقال المشرِكونَ للمسلِمِينَ: قتَلْتُمْ في الشَّهْرِ الحرامِ! فأنزَلَ اللَّهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾، الآيةَ[[«تفسير الطبري» (٣/٦٥٠)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٨٤).]].
وجاء عن أبي مالكٍ، عن ابنِ عبّاسٍ.
وعَن مُرَّةَ عَنِ ابنِ مَسعودٍ، بنَحوِه.
استغلالُ المشرِكِين لأخطاءِ المسلمين:
واللهُ يرُدُّ على المشرِكِينَ استنكارَهُمْ قتالَ الصحابةِ في الشَّهْرِ الحرامِ، مع أنّهم يَصُدُّونَ عَنِ المسجِدِ الحرامِ، فأخرَجُوا النبيَّ ﷺ وصَحْبَهُ مِن مَكَّةَ، بل توعَّدوهم إنْ لَقُوهم بالقتلِ، واللهُ إنّما حرَّم القتالَ في الأشهُرِ الحُرُمِ، حتّى لا يُقطَعَ سبيلُ السائِرِينَ إلى البيتِ، فما عُظِّمَتِ الأشهُرُ الحرُمُ لِذاتِها، ولكنْ لتعظيمِ المسجدِ الحرامِ، فحُرْمَتُها تابِعةٌ لا ذاتيَّةٌ، وحرمةُ المسجِدِ الحرامِ ذاتيَّةٌ، والحرمةُ الذاتيَّةُ أقوى وأعظَمُ، لأنّها لا ترتفِعُ بحالٍ، والحُرْمةُ التابِعةُ تُرفَعُ وتُوضَعُ بحسَبِ تحقُّقِ المقصدِ منها.
والمشرِكُونَ صَدُّوا النبيَّ وصحابتَهُ عن المسجدِ الحرامِ سِنِينَ عددًا متتالِيَةً، واستَنْكَروا قتالَ الصحابةِ يومًا في آخِرِ جُمادى وأوَّلِ رجَبٍ.
والمرادُ بالصَّدِّ هنا في قولِه: ﴿وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، يَعني: عن قاصدِ البيتِ الحرامِ للعبادةِ، صلاةً وطوافًا، واعتكافًا ومجاوَرةً، وصَدَقةً ونُسُكًا، والصدُّ عن المسجدِ الحرامِ، بالقتالِ وغيرِه، في الأشهُرِ الحُرُمِ وغيرِها: يَقطَعُ عن البيتِ الحرامِ السبيلَ والرِّزْقَ، وينفي عنه الأَمْنَ، فيُهجَرُ ويَزهَدُ الناسُ فيه، وهو أعظَمُ البقاعِ عندَ اللهِ، وأَحَبُّها إليه، وهذه الآيةُ أصلٌ في سَدِّ الذَّرائعِ.
وإنّما عُظِّمَتْ أشهرٌ بعَيْنِها، لأنّ رَجَبًا موضِعُ سَيْرِ الحاجِّ مِن الآفاقِ إلى الحجِّ، وذا القَعْدةِ وذا الحِجَّةِ ومحرَّمًا موضِعُ الحجِّ وعودةِ الحاجِّ إلى أهلِه.
وقولُ اللَّهِ: ﴿وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قيل: رُفِعَ ﴿وصَدٌّ﴾، للعطفِ على ﴿كَبِيرٌ﴾، وقيلَ: رُفِعَ مبتدأً خبرُهُ قولُهُ: ﴿أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، وهذا الأرجَحُ، ولو عُطِفَ الصدُّ على ﴿كَبِيرٌ﴾ لكانَ قولُهُ: ﴿وكُفْرٌ بِهِ﴾ معطوفًا عليه، والقتالُ في الأشهُرِ الحُرُمِ ليس كُفْرًا باللهِ يُخرِجُ مِن الملَّةِ، إلاَّ لِمَن جحَدَ تحريمَهُ وقتَ التحريمِ، فهو مكذِّبٌ للهِ.
ولو كان الصدُّ كُفْرًا، لَلَزِمَ أنْ يكونَ إخراجُ أهلِ الحَرَمِ منه أكبَرَ مِن الكفرِ، وهذا لا يقولُ به أحدٌ.
ويَظهَرُ التربُّصُ عندَ المحاجَجةِ والمجادَلةِ في كفّارِ قُريشٍ، وتَرْكِ ما عليهم، وأَخْذِ الذي لهم، وهذه عادةُ أهلِ الأهواءِ، كما قال تعالى: ﴿وإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أمِ ارْتابُوا﴾ [النور: ٤٩ ـ ٥٠].
وربَّما كان الحقُّ الذي عليهم أعظَمَ، وهو مُسقِطٌ للحقِّ الذي لهم، والجهلُ بهذه الأشياءِ سبَبٌ لاستِمرارِ كثيرٍ مِن أهلِ الأهواءِ في الضلالِ.
مِن أنواعِ الجهلِ:
والجهلُ على نوعَيْنِ:
الأوَّلُ: جهلُ حقيقةِ الشيءِ بعينِه، وعدَمُ معرفةِ حُكْمِه.
الثاني: جهلُ مرتبتِهِ مِن بينِ مَراتِبِ غيرِهِ، مع المعرِفةِ به بعينِهِ منفرِدًا.
وهذانِ اجتَمَعا في كفّارِ قريشٍ كثيرًا، وإذا جَهِلَ الإنسانُ مَراتِبَ الأشياءِ، انشغَلَ بالأدنى عن الأعلى، ووجَدَ الهَوى مِن ذلك مَدخَلًا، ليرتِّبَ الحقائقَ كما تَهوى النفسُ.
وكفّارُ قريشٍ أخرَجوا النبيَّ ﷺ وأصحابَهُ مِن مَكَّةَ، وصَدُّوهم عن دخولِ الحَرَمِ، وهذا مِن جنسِ ما حُرِّمَ القتالُ في الأشهُرِ الحُرُمِ لأجلِه، ثمَّ هم أشرَكُوا مع اللهِ غَيْرَهُ، وهو أعظَمُ عند اللهِ مِن القتلِ الذي يَستنكِرونَهُ على محمَّدٍ.
والهَوى يَشغَلُ النفوسَ ويسلِّيها بتَعظيمِ الأدنى عنِ الأعلى، لأنّ النفسَ تلومُ صاحِبَها على تركِ الحقِّ ولو كانت مُعانِدةً، فيَشغَلُها بالأدنى لِتتغافَلَ عن غيرِهِ وتَرضى وتسكُنَ، والنفسُ لا تَقْوى على طَمْسِ الفِطْرةِ وتغييبِها، فتَجعَلَهُ يتجاهَلُ الحقَّ كلَّه، ولكنَّها تغيِّبُ الأعلى وتُظهِرُ الأدنى وتعظِّمُه، فيضعُفُ لومُ النفسِ الفطريُّ على صاحبِه.
وهذا كسكونِ نفوسِ المشرِكِينَ وانشغالِها بسِقايةِ الحاجِّ وعِمارةِ المسجدِ الحرامِ، وتعظيمُ ذلك مِن تسويلِ الشيطانِ لهم، هوَّن وحقَّر ما هو أعظَمُ منه، وهو التوحيدُ، فوقَعُوا في الشِّرْكِ غيرَ مُبالِينَ.
وصدُّ كفّارِ قريشٍ للنبيِّ عن المسجدِ الحرامِ، وإخراجُ أهلِهِ منه: أعظَمُ عندَ اللهِ مِن قتلِ ابنِ الحَضْرَميِّ، وكفرُهُمْ أعظَمُ عندَ اللهِ مِن ذلك كلِّه.
واختُلِفَ في نسخِ هذه الآيةِ:
فقال قومٌ بنَسْخِها، وهو قولُ عطاءِ بنِ مَيْسَرةَ، والزُّهْريِّ، وصَوَّبَهُ ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ.
روى ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، قال: قال عطاءُ بنُ مَيْسَرةَ: أحلَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ في «بَراءةَ» قولُهُ: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦]، يقولُ: فيهنَّ وفي غيرِهِنَّ[[«تفسير الطبري» (٣/٦٦٢ ـ ٦٦٣).]].
وقال عطاءُ بنُ أبي رَباحٍ بعدَمِ النَّسْخِ، وكان يَحلِفُ عليه، كما رواه ابنُ جُرَيْجٍ عنه، أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ بسَنَدٍ صحيحٍ[[«تفسير الطبري» (٣/٦٦٣).]].
وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذه المسألةِ.
وبيَّن اللهُ سببَ قتالِ المشرِكِينَ للمسلِمِينَ بقولِه: ﴿ولا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا﴾، لِيَفْتِنُوهم عن دينِهم، ليَرْتَدُّوا طمَعًا في الأمنِ، وترهيبًا لِمَن يُرِيدُ اللَّحاقَ بهم.
معنى الرَّدَّة:
والرِّدَّةُ هي الرجوعُ عنِ الحقِّ إلى ما كان عليه مِن الباطلِ، وغلَبَ استعمالُها على ذلك، لأمرَيْنِ:
أوَّلًا: لمّا كان كفّارُ قريشٍ يُرِيدُونَ رَدَّ مَن أسلَمَ مِن الصحابةِ إلى ما كانوا عليه مِن الشِّرْكِ، سُمِّيَتْ رِدَّةً، يَعني: رجوعًا إلى الأمرِ السابقِ.
ثانيًا: أنّ المعروفَ فيمَن نشَأَ على الإيمانِ الحقِّ ووُلِدَ عليه: أنّه لا يخرُجُ منه، ومِقْدارُ مَن يرتدُّ عن الإسلامِ بعد النشأةِ عليه أقلُّ ممَّن يرتدُّ عن الإسلامِ ممَّن كان على الشِّرْكِ قبلَ ذلك بالنِّسْبةِ للأمَّةِ التي خرَجوا منها، ولذا يُخافُ على حديثِ العهدِ بالكُفْرِ مِن الخروجِ عن الإسلامِ أكثرَ ممَّن نشَأَ على الإسلامِ ولا يَعرِفُ الكفرَ، لأنّ الإيمانَ امتزَجَ بقوَّةِ الفِطْرةِ، فتمكَّنَ الحقُّ منها ورسَخَ، وأمّا غيرُهُ فعلى فِطْرةٍ مبدَّلةٍ، مع دِينٍ صحيحٍ طارئٍ.
فأصبحَتِ الرِّدَّةُ تُطلَقُ على كلِّ خارجٍ عن الإسلامِ إلى الكفرِ، ولو لم يكُنْ على الكُفْرِ مِن قَبْلُ.
وفي الآيةِ: قوَّةُ بأسِ أهلِ الباطلِ على باطلِهم معَ جَلائِهِ ووُضُوحِه، واختيارُ الموتِ عليه، والكِبْرُ إذا استحكَمَ في القلبِ، عَمِيَ العقلُ عن الاختيارِ.
وقولُهُ: ﴿ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ﴾.
إحباطُ العمل بالرِّدَّةِ:
والرِّدَّةُ تُحبِطُ العملَ السابقَ بلا خلافٍ، وإنّما الخلافُ في عودتِهِ عندَ العودةِ للإسلامِ بعد الرِّدةِ، وفي المسألةِ قولانِ مشهورانِ:
الأوَّلُ: أنّ الرِّدَّةَ لا تُحبِطُ العمَلَ السابقَ لِمَن عاد إلى الإسلامِ وأنابَ، وذلك أنّ اللهَ قيَّد الإحباطَ في الآيةِ بقولِه: ﴿فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ﴾، فمَنِ ارتَدَّ ولم يَمُتْ على الرِّدَّةِ، عادَتْ حسَناتُهُ التي عَمِلَها، كالصلاةِ والزكاةِ وسائرِ الطاعاتِ، ولو كان قد أدّى الحَجَّ، سقَطَ عنه، وهذا هو أحدُ القولَيْنِ عن أحمدَ، وقال به الشافعيُّ.
الثاني: أنّ الرِّدَّةَ تُحبِطُ العملَ بالكليَّةِ، ولا يَرجِعُ عمَلٌ منها إلى صاحِبهِ، ولو كان قد أدّى الحجَّ، لَوَجَبَ عليه أن يُعِيدَهُ، قال بهذا مالكٌ وأبو حنيفةَ، وهو روايةٌ عن أحمدَ.
وقد أجرى مَن قال بهذا القولِ عمومَ قولِهِ: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ ﴾ [المائدة: ٥] على عمومِه، ولم يخصِّصْهُ بآيةِ البابِ.
وفي حَمْلِ الآيةِ على عمومِها نظَرٌ، وذلك أنّ اللهَ قال: ﴿وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ ﴾ [المائدة: ٥]، ومَن عاد إلى الإسلامِ بعد رِدَّتِه، فليس مِن الخاسرين، وإنّما المرادُ: مَن مات مرتدًّا.
وتوسَّطَ بعضُ الفقهاءِ مِن الشافعيَّةِ وغيرِهِمْ، فقالوا: إنّ الإحباطَ للأجرِ فقَطْ، والعمَلُ في إجزائِهِ ليس بحابطٍ، فمَن حجَّ، لا يلزَمُهُ أنْ يُعِيدَهُ إذا ارتَدَّ بعدَهُ ثمَّ عاد.
والحَقُّ: أنّ الأجرَ ثابتٌ للمرتدِّ التائبِ، ففي الحديثِ: (إذا أسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إسْلامُهُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كانَ أزْلَفَها)، أخرَجَهُ النَّسائيُّ عن أبي سعيدٍ[[أخرجه النسائي (٤٩٩٨) (٨/١٠٥).]]، وأصلُه في الصحيحِ[[أخرجه البخاري (٤١) (١/١٧)، ولفظه: (إذا أسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كانَ زَلَفَها، وكانَ بَعْدَ ذلك القِصاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، والسَّيِّئَةُ بِمِثْلِها إلاَّ أنْ يَتَجاوَزَ اللهُ عَنْها).]].
وفي «الصحيحَيْنِ»، عن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيْرِ، أنّ حَكِيمَ بنَ حِزامٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ قالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أيْ رَسُولَ اللهِ، أرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أتَحَنَّثُ بها فِي الجاهِلِيَّةِ، مِن صَدَقَةٍ أوْ عَتاقَةٍ أوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أفِيها أجْرٌ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (أسْلَمْتَ عَلى ما أسْلَفْتَ مِن خَيْرٍ) [[أخرجه البخاري (١٤٣٦) (٢/١١٤)، ومسلم (١٢٣) (١/١١٣).]].
فهذا عمَلٌ عمِلَهُ حالَ الجاهليَّةِ، ولكنْ أخلَصَ فيه للهِ ولم يَصرِفْ منه لغيرِ اللهِ شيئًا، فاحتَسَبَهُ اللهُ له بعدَ إسلامِه، فالجاهليُّونَ مع كفرِهم يُخْلِصُونَ في بعضِ أعمالِهم، فيَخُصُّونَ بها اللهَ وحدَهُ، فهذه تُكتَبُ لهم، فيتقبَّلُ اللهُ ذلك منهم وهم كفّارٌ، فكيفَ بما فعَلَه المسلمُ حالَ إسلامِهِ، ثمَّ ارتَدَّ ثمَّ رجَع؟! فقَبُولُ عمَلِهِ حالَ إسلامِهِ أوْلى مِن قَبُولِ عمَلِهِ حالَ إشراكِه.
ولو قِيلَ بقَبُولِ عمَلِ المُشْرِكِ حالَ شِرْكِهِ ممّا أخلَصَهُ، ولا يُقبَلُ عمَلُ المسلمِ حالَ إسلامِه، للَزِمَ مِن ذلك قَبولُ عمَلِ المرتَدِّ حالَ رِدَّتِهِ ممّا يُخلِصُ فيه.
فالمسلمُ المرتَدُّ التائبُ له أحوالٌ ثلاثٌ: إسلامٌ ثمَّ كفرٌ ثم إسلامٌ، فعلى هذا يُقبَلُ منه عمَلُهُ حالَ الرِّدَّةِ وهو مشرِكٌ مما يُخلِصُهُ للهِ، ولا يُقبَلُ عمَلُه حالَ إسلامِهِ قبلَ الرِّدَّةِ، وهذا بعيدٌ.
أحوالُ أهلِ الميزانِ في الآخرة:
ولا يُحبِطُ العملَ كلَّه إلاَّ الشِّرْكُ باللهِ، والكافرُ ليس له كِفَّةٌ في المِيزانِ إلاَّ واحدةٌ، وأهلُ الميزانِ على ثلاثِ أحوالٍ:
الحالةُ الأُولى: مَن يُوزَنُ له عمَلُهُ بكِفَّتَيْنِ، كِفَّةِ الحسَناتِ، وكِفَّةِ السيِّئاتِ، وهُم عمومُ أهلِ الإيمانِ، لأنّه لا يخلُو أحدٌ مِن ذنبٍ، إلاَّ ما شاءَ اللهُ.
ووَزْنُهم لِيَعرِفُوا هم ما لهم وما عليهم، وتقومَ عليهمُ الحُجَّةُ، فلا يُجادِلوا ربَّهم، فاللهُ جعَلَ على العبادِ رقيبًا وعتيدًا يُحصِي عليهم أعمالَهُمْ، لِيَرَوْها ويَذكُروها إذا نَسُوها، فاللهُ لا يُحصي لِيَعلَمَ ما لم يكنْ يعلمُهُ، بل يُحصي لِيَعلَمَ العبادُ، وتُقطَعَ الحُجَجُ عنهم، فجعَلَ عليهم شهودًا مِن الملائكةِ ومِن الناسِ ومِن أنفُسِهم.
الحالةُ الثّانيةُ: مَن لا يُوزَنُ له إلاَّ عمَلُهُ السيِّئُ، وهم المشرِكونَ، لأنّه لا يَبقى مِن عمَلِهِمُ الصالحِ في الدنيا شيءٌ، لأنّهم أحبَطُوهُ بالشِّرْكِ، وعُجِّلَ لهم الجزاءُ به في الدنيا: ﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾ [الأحقاف: ٢٠].
وتُوزَنُ سيِّئاتُهم، لأنّ الكفرَ يَتبايَنُ كما يَتبايَنُ الإيمانُ، يَزِيدُ وينقُصُ، قال تعالى: ﴿إنَّما النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفْرِ﴾ [التوبة: ٣٧]، فالكُفْرُ يَزِيدُ وينقُصُ كما يزيدُ الإيمانُ وينقُصُ، ولكنَّ الكفرَ الأكبرَ يخلِّدُ صاحبَهُ في النّارِ، ويُعذَّبُ الكفّارُ بحسَبِ كُفْرِهم، كما ينعَّمُ المؤمِنونَ بحسَبِ إيمانِهم.
الحالةُ الثّالثةُ: مَن ليس له إلاَّ كِفَّةٌ واحدةٌ، وهي كِفَّةُ الحسَناتِ، وهم مَن غفَرَ لهم اللهُ كلَّ ذنبٍ، ما تقدَّم وما تأخَّر، كالنبيِّ ﷺ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢].
ويَلحَقُ بهذه الحالةِ الشهيدُ الذي لا حقوقَ للآدَميِّينَ عليه، ويدخُلُ أيضًا في هذا السبعونَ ألفًا الذينَ لا حِسابَ عليهم ولا عذابَ.
والحَسَناتُ تُذهِبُ السيِّئاتِ بلا خلافٍ، والسيِّئاتُ تُذهِبُ الحَسَناتِ على الأرجَحِ، والإذهابُ يكونُ بمقدارِ السيِّئةِ وعِظَمِها ومقدارِ الحَسَنةِ، فلا يُذهِبُ اللهُ حَسَنةً عظيمةً بسيِّئةٍ مِنَ المحقَّراتِ أوِ الصغائرِ، وقد تتكاثَرُ المحقَّراتُ حتّى تتعاظَمَ فتثقُلَ فتُذهِبَ الحَسَنةَ العظيمةَ.
{"ayah":"یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالࣲ فِیهِۖ قُلۡ قِتَالࣱ فِیهِ كَبِیرࣱۚ وَصَدٌّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟ۚ وَمَن یَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَیَمُتۡ وَهُوَ كَافِرࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق