الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: ٩٤].
لمّا شرَعَ اللهُ الجهادَ وكتَبَهُ على المؤمِنِينَ، وكانتِ النفوسُ مُقبِلةً عليه متشوِّفةً له ـ لِما سَلَفَ مِن عداوةِ الكافِرِينَ وبَغْيِهم على المؤمنينَ ـ جاءَتْ هذه الآيةُ داعيةً للتحرِّي والتثبُّتِ عندَ الخروجِ للقتالِ مِن عدمِ التمييزِ بينَ مَن يجبُ قتالُهُ ومَن لا يجبُ ومَن لا يجوزُ، فإنّ النفوسَ قد يَدْفَعُها العداوةُ والانتصارُ والحميَّةُ الدينيَّةُ وحبُّ الغنيمةِ، فتَظلِمُ وهي لا تُريدُ الظُّلْمَ، فأوجَبَ اللهُ التبيُّنَ والاحترازَ.
القتالُ وقَصدُ الدنيا:
وفي هذه الآيةِ: أنّ القتالَ في سبيلِ اللهِ إذا دخلَتْهُ الدنيا، فسَدَ وأفسَدَ أهلَهُ، فلا يُفسِدُ الجهادَ إلا طمعُ المجاهِدِينَ في الدُّنْيا، لذا قال اللَّهُ: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ﴾، فتَميلُ نفسُ المجاهدِ إذا طَمِعَ في الدنيا، وتساوَتِ الاحتمالاتُ، إلى ترجيحِ أحَدِ الاحتمالَيْنِ وهو الذي يَهواهُ لدُنياه، فيُفسِدُ الدِّينَ والدنيا، وهنا يتشوَّفُ إلى عدمِ إسلامِ الخَصْمِ عندَ اشتباهِ أمرِه، لاغتِنامِ مالِه، وكَسْبِ سُلْطانِه.
وقولُه: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ أمرٌ خفيٌّ لا يَعلمُهُ إلاَّ اللهُ، وهو على درجاتٍ في نفوسِ مَن قاتَلَ في سبيلِ اللهِ، وبمقدارِهِ لا يُؤتِي الجهادُ ثِمارَه، وأخرَجَ ابنُ أبي شَيْبةَ وأحمدُ وابنُ المُنذِرِ، عنِ ابنِ مسعودٍ، قال: «إنّ النِّساءَ كُنَّ يومَ أُحُدٍ خلفَ المُسلِمينَ يُجْهِزْنَ على جَرْحى المشرِكِينَ، فلو حلَفْتُ يومئذٍ رجَوْتُ أنْ أبَرَّ أنّه ليس أحدٌ منّا يُريدُ الدُّنْيا، حتّى أنزَلَ اللهُ: ﴿مِنكُمْ مَن يُرِيدُ الدُّنْيا ومِنكُمْ مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [آل عمران: ١٥٢] [[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٣٦٧٨٣) (٧/٣٧١)، وأحمد في «مسنده» (٤٤١٤) (١/٤٦٣)، وابن المنذر في «تفسيره» (٢/٤٤٥).]]».
والدُّنيا ـ ولو كانَتْ قليلةً ـ تحجُبُ الإنسانَ عن رؤيةِ الآخرةِ، فالدِّينارُ مِنَ الذَّهَبِ لو قَرَّبَتْهُ العينُ منها، لم ترَ جبلَ الذَّهَبِ، فالدُّنيا ليسَتْ بحَجْمِها، وإنّما بقُرْبِها، فمَنِ انتفَعَ بها وأبعَدَها، لم تَضُرَّهُ ولو كانتْ كثيرةً، ومَن قرَّبَها، أعمَتْهُ ولو كانتْ قليلةً.
وأَنْقى الناسِ أنقاهُم مِن الدُّنيا، لأنّها تحجُبُ القلبَ عن رؤيةِ الحقِّ، ويَختلِفُ أثرُ الدُّنيا بحسَبِ منازِلِ أصحابِها، فالدُّنيا في قلبِ المجاهِدِ ولو كانتْ قليلةً أشَدُّ عليه وعلى الناسِ مِن الدُّنيا في غيرِه، وقليلُ الدنيا في قلبِه كثيرٌ، لأنّه أقرَبُ إلى الآخِرةِ، ومحلُّه التجرُّدُ والخلوصُ، والدُّنيا في قلبِ العالِمِ أشَدُّ عليه وعلى الناسِ مِن العامَّةِ، لأنّ فتنةَ العالِمِ فتنةٌ عامَّةٌ، وفتنةَ آحادِ العامَّةِ خاصَّةٌ.
وإنّما نزلَتْ هذه الآيةُ: ﴿إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾، لأنّ مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ مَن قتَلَ كافرًا أسلَمَ بعدَ طلَبِه، لأخذِ غنيمتِه، وغاب عنه أنّ غنيمةَ الآخِرةِ بإسلامِه أعظَمُ مِن غنيمةِ الدُّنْيا بكُفْرِه.
وهذه الآيةُ نزلَتْ في بعضِ الصحابةِ الذين قتَلُوا مَن ظهَرَ إسلامُهُ وتأوَّلُوا كُفْرَه، ففي البخاريِّ، مِن حديثِ عمرٍو، عن عطاءٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، قال: قال ابنُ عبّاسٍ: «كانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَلَحِقَهُ المُسْلِمُونَ، فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ وأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ إلى قَوْلِهِ: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾، تِلْكَ الغُنَيْمَة[[أخرجه البخاري (٤٥٩١) (٦/٤٧)، ومسلم (٣٠٢٥) (٤/٢٣١٩).]].
وجاء في سببِ نُزولِها غيرُ ذلك، فرُوِيَ أنّها نزلَتْ في المِقْدادِ بنِ الأَسْوَدِ، أخرَجَهُ البخاريُّ معلَّقًا ومختصَرًا[[أخرجه البخاري (٦٨٦٦) (٩/٣).]]، وأخرَجَهُ البَزّارُ مسنَدًا ومطوَّلًا[[أخرجه البزار في «مسنده» (٥١٢٧) (١١/٣١٧).]]، وجاء أنّها نزلَتْ في مُحَلِّمِ بنِ جَثّامَةَ بنِ قَيْسٍ، أخرَجَهُ أحمدُ[[أخرجه أحمد (٢٣٨٨١) (٦/١١).]]، وجاء أنّها نزلَتْ في أسامةَ بنِ زيدٍ، كما رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ مِن مُرسَلِ مسروقٍ، وابنُ جريرٍ مِن مُرسَلِ السُّدِّيِّ[[«تفسير الطبري» (٧/٣٥٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٤٢).]].
وقد تتعدَّدُ الحوادثُ فتَنزِلُ الآيةُ عليها جميعِها، فيَحمِلُ الصحابةُ سببَ النزولِ كلُّ واحدٍ على حادثةٍ بعينِها، وربَّما حمَلَها أكثرُهُمْ على أقربِ الحوادثِ عندَ نزولِ الآيةِ، والآيةُ جاءَتْ عليها وعلى ما قبلَها، وأكثرُ أسبابِ النزولِ لا تتعارضُ، وإنّما تتعدَّدُ، وحَمْلُها عليها جميعِها أصحُّ، وهو الأنسبُ، للحِكْمةِ مِن آيِ القرآنِ، لأنّ الأصلَ فيها أنّها تَنزِلُ لمعالجةِ الحوادثِ العامَّةِ المتكرِّرةِ، لا لقضايا الأعيانِ التي لا تتكرَّرُ.
عصمةُ دمِ مَن نطَقَ الشهادتَيْنِ:
وقولُه تعالى: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، أيْ: لِمَن نطَقَ الشهادتَيْنِ، فقولُهُ: ﴿السَّلامَ﴾، يَعني: الإسلامَ، ولا يدخُلُ الإسلامَ إلاَّ بنطقِ الشهادتَيْنِ، وذلك لقولِهِ ﷺ: (أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ...)، الحديثَ، أخرَجَهُ الشيخانِ[[أخرجه البخاري (٢٥) (١/١٤)، ومسلم (٢٢) (١/٥٣).]].
وليس المرادُ بالسَّلامِ التحيَّةَ، وإنّما إظهارُ الإيمانِ بالنُّطْقِ بالشهادتَيْنِ، أو ما يدُلُّ عليها، كقولِه: أنا مسلِمٌ، أو دخَلْتُ الإسلامَ، فالمرادُ في الآيةِ إظهارُهُ الاستسلامَ للهِ بالتوحيدِ إقرارًا بدينِكم، روى ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، في قولِه: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، قال: راعي غَنَمٍ، لَقِيَهُ نَفَرٌ مِن المؤمِنِينَ فقتَلُوهُ، وأخَذُوا ما معَهُ، ولم يَقبَلُوا منه قولَهُ: «السلامُ عليكم، فإنِّي مؤمنٌ»[[«تفسير الطبري» (٧/٣٦١).]].
وروى ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ جريرٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، قال: «حرَّم اللهُ على المؤمنينَ أنْ يَقولوا لِمَن شَهِدَ أنْ لا إلـهَ إلاَّ اللهُ: ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾، كما حرَّم عليهم الميْتَةَ، فهو آمِنٌ على مالِهِ ودَمِه، لا تَرُدُّوا عليه قولَه»[[«تفسير الطبري» (٧/٣٦١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٤٠).]].
وكلُّ ما يدلُّ على الإسلامِ يأخُذُ حُكْمَ الشَّهادتَيْنِ لِمَن جَهِلَ الشهادتَيْنِ أو غلَبَ على الظنِّ نسيانُهُ لها، وإذا نطَقَ الكافرُ الشهادتَيْنِ، أو قال: أنا مسلِمٌ، بعدَ أسْرِهِ والتمكُّنِ منه، فلا عِبْرةَ بها، فيكونُ حُكْمُهُ حُكمَ أسْرى الكافِرِينَ في الرِّقِّ والفِداءِ.
وذلك لما في «صحيحِ مسلمٍ»، مِن حديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ، قال: «كانَتْ ثَقِيفُ حُلَفاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ، فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وأَسَرَ أصْحابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ رَجُلًا مِن بَنِي عُقَيْلٍ، وأَصابُوا مَعَهُ العَضْباءَ، فَأَتى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ وهُوَ فِي الوَثاقِ، قالَ: يا مُحَمَّدُ! فَأَتاهُ، فَقالَ: (ما شَأْنُكَ؟!)، فَقالَ: بِمَ أخَذْتَنِي، وبِمَ أخَذْتَ سابِقَةَ الحاجِّ؟! فَقالَ إعْظامًا لِذَلِكَ: (أخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفائِكَ ثَقِيفَ)، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَناداهُ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، يا مُحَمَّدُ! وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحِيمًا رَقِيقًا، فَرَجَعَ إلَيْهِ، فَقالَ: (ما شَأْنُكَ؟!)، قالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، قالَ: (لَوْ قُلْتَها وأَنْتَ تَمْلِكُ أمْرَكَ، أفْلَحْتَ كُلَّ الفَلاحِ)[[أخرجه مسلم (١٦٤١) (٣/١٢٦٢).]].
ففرَّقَ بينَ قولِه: «أنا مسلِمٌ» قبلَ أسْرِهِ وبعدَه.
الفرقُ بين قتالِ الكافرِ، والمفسدِ في الأرضِ:
وإنّما يُعتبَرُ في نُطْقِ الشهادتَيْنِ مَن قُوتِلَ لأَجْلِ كُفْرِه، فعُرِضَ عليه الإسلامُ فأَباهُ، ويجبُ أن يُفرَّقَ بينَ مَن يُقاتَلُ لأجلِ كفرِهِ ورفضِهِ للإسلامِ، وبينَ مَن يُقاتَلُ لأجلِ فسادِهِ في الأرضِ وقطعِهِ للسبيل، وانتهاكِهِ للأعراضِ:
فالأوَّلُ: تنفَعُهُ الشهادتانِ، لأنّه قُوتِلَ لِيَقولَها، لقولِهِ ﷺ في «الصحيحَيْنِ»: (أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)[[سبق تخريجه.]].
والثّاني: لا تَنفعُهُ الشهادتانِ في حُكْمِه في الدُّنيا، لأنّه لم يُقاتَلْ لعدمِ قولِهِ لها، فنُطقُهُ لها لا يُؤثِّرُ في حُكْمِه، سواءٌ كان مُفسِدًا مُسلِمًا أو مُفسِدًا كافرًا، لأنّه يُقاتَلُ لأجلِ فَسادِهِ في الأرضِ، لا لمجرَّدِ كفرِهِ بلا فسادٍ وإفسادٍ وقطعِ سبيلٍ، فلو كان كافرًا ونطَقَ الشهادتَيْنِ صادقًا نفعَتْهُ في الآخِرةِ لا في الدُّنيا، لأنّه يُقاتَلُ لأجلِ فسادِهِ وقطعِهِ السبيلَ، ولو كان مسلِمًا مُحارِبًا قاطعًا للسبيلِ أو خارجًا على جماعةِ المُسلِمِينَ أو باغيًا، فهو لم يُقاتَلْ لامتِناعِهِ عنِ الشهادتَيْنِ، وإنّما يُقاتَلُ لكَفِّ صَوْلَتِهِ وعُدْوانِه، ولو نطَقَ الشهادتَيْنِ، فهو لم يُقاتَلْ أصلًا عليها، وإنّما على فسادِهِ في الأرضِ، كما في قولِه تعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسادًا أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ مِن خِلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٣ ـ ٣٤].
وكلُّ واحدٍ يُقاتَلُ لأجلِ غايةٍ، فمتى جاء بالغايةِ عصَمَتْهُ، فالكافرُ لكفرِه: إنْ أسلَمَ عصَمَهُ إسلامُه، والباغي والمفسِدُ يُقاتَلُ لبَغْيِهِ وعُدْوانِهِ وفسادِه، مسلمًا كان أو كافرًا، ولو نطَقَ الشهادتَيْنِ، لم تَعصِمْهُ، لأنّها ليستِ الغايةَ التي يُقاتَلُ لأجلِها.
نطقُ المحارِبِ للشهادتَيْنِ:
ومَن قُوتِلَ مِن الكافرينَ لأجلِ كفرِهِ، ثمَّ نطَقَ الشهادتَيْنِ، فلا يَخلو مِن حالتَيْنِ:
الحالةُ الأولى: كافرٌ يَنطِقُ الشهادتَيْنِ قبلَ قتالِهِ، كالطوائفِ التي تَزعُمُ الإسلامَ وليسَتْ مسلمةً، كما تزعُمُ قريشٌ الحنيفيَّةَ وليسَتْ حنيفيَّةً، وذلك كالطوائفِ الباطنيَّةِ مِن رافضيَّةٍ ونُصَيْرِيَّةٍ، فهؤلاءِ يَنطِقُونَ الشهادتَيْنِ مِن قبلِ قتالِهم، لكنَّ قتالَهم إنّما كان لأجلِ معنى الشهادتينِ وكُفْرِهم به، لا لأجلِ ألفاظِها، فلا يَعصِمُهم إلاَّ ما يدُلُّ على إقرارِهم بمعناها مِن قولٍ أو فعلٍ.
الحالةُ الثـانيةُ: كافرٌ لا يَنطِقُ الشهادتَيْنِ، وهو كافرٌ بها، ولا يَتديَّنُ بلفظِها ولا معناها، كالمشرِكِينَ الوثنيِّينَ واليهودِ والنَّصارى، فهؤلاءِ تَعصِمُهم كلمةُ التوحيدِ إنْ قالوها عندَ التقائِهم وقتالِهم لأجلِها.
وفي حُكْمِ الشهادتَيْنِ: كلُّ لفظٍ دلَّ على معناها لِمَن عجَزَ عنِ النطقِ بها لعُجْمَتِهِ أو لجهلِهِ بها، بل يدخُلُ في معناها كلُّ لفظٍ دلَّ عندَ الكافرِ عليها، ولو لم يكُنْ دالًّا عليها عندَ المُسلِمينَ، كقولِ الكافرِ: «صَبَأْتُ» أو «صَبَأْنا»، وهذه اللفظةُ ولو لم تكُنْ دالَّةً على الإسلامِ بذاتِها، بل ليسَتْ لفظَ مدحٍ، وإنّما يتَّخِذُها المشرِكونَ ذمًّا لِمَن دخَلَ الإسلامَ منهم، يقولونَ له: «فلانٌ صَبَأَ»، فتأخُذُ حُكْمَ قائلِها على ما يُريدُه، معَ أنّه لو قالَها مسلمٌ في وسطِ المسلِمينَ لرجلٍ دخَلَ الإسلامَ وهو يعلَمُ مَعناها، لَأُدِّبَ على ذلكَ.
وأصلُ قولِهم: «صَبَأَ» عندَ العربِ: الخروجُ مِن دينٍ إلى باطلٍ، ولكنَّهم يَستعمِلونَهُ لِمَن خرَجَ مِن دِينِهمُ الذي يزعُمونَهُ حقًّا إلى غيرِهِ الذي يزعُمونَهُ باطلًا، فلا يُسَمُّونَ مَن رجَعَ إليهم مُرْتَدًّا عن الإسلامِ: صابئًا.
ولمّا قال جميلُ بنُ مَعْمَرٍ الجُمَحِيُّ لقريشٍ في مكَّةَ: «يا مَعْشَرَ قريشٍ، ألا إنّ ابنَ الخَطّابِ قد صَبَأَ»، قال عمرُ: كذَبَ، ولكنِّي أسلَمْتُ[[أخرجه ابن حبان (٦٨٧٩) (١٥/٣٠٢).]]، ولهذا فخالدُ بنُ الوليدِ قتَلَ مَن قالَها، لعِلْمِهِ أنّها لا تُقالُ مدحًا، ولا يُرادُ بها الخروجُ مِن الباطلِ إلى الحقِّ، وإنّما عَكْسُه، ولكنَّ النبيَّ ﷺ آخَذَهُ عليها، لأنّهم لا يُحسِنونَ تعبيرًا عن تَرْكِ دينِهم إلاَّ إيّاها، فأرجَعُوها إلى أصلِها، مِن تَرْكِ دِينٍ إلى دينٍ.
ونطقُ اليهوديِّ والنصرانيِّ لكلمةٍ يتديَّنُ بمعناها: لا يدُلُّ على إسلامِهِ وتديُّنِهِ بالحنيفيَّةِ، كقولِه: نحن مؤمِنونَ، فهم يُسمُّونَ أنفسَهم بذلك، فمَن قالَها لا تَعصِمُهُ.
والمرادُ بعَرَضِ الدُّنيا في الآيةِ: الغَنِيمَةُ، فلا يَقبَلُ إسلامَ الكافرِ، لِيُحِلَّ ما معَهُ مِن الغنيمةِ، وهذا لا يكونُ إلاَّ في قلبِ مَن ضعُفَتْ مغانمُ الآخِرةِ مِن قلبِهِ حالَ فِعْلِهِ أو غابَتْ، لهذا ذكَّرَ اللهُ بها في قولِه: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ﴾.
تذكُّرُ الضلالةِ قبلَ الهدايةِ:
وفي قولِه: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾، روى البخاريُّ معلَّقًا في «صحيحِه»، عن سعيدٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ للمِقْدادِ: (إذا كانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إيمانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفّارٍ، فَأَظْهَرَ إيمانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أنْتَ تُخْفِي إيمانَكَ بِمَكَّةَ مِن قَبْلُ)[[أخرجه البخاري (٦٨٦٦) (٩/٣).]].
وفي هذا: أنّه ينبغي أنْ يذكُرَ المؤمِنُ حالَهُ قبلَ هدايتِه، وفَضْلَ اللهِ عليه، وإنْ وُلِدَ مهتدِيًا يَجعَلُ مِن نفسِهِ مكانَ عدوِّه، لِيُدرِكَ شيئًا مِن حالِ عدوِّه، فيَعذِرَهُ عندَ قيامِ عُذْرِه، وقد كان بعضُ الصحابةِ يَستخْفِي بإيمانِهِ خوفًا مِن قومِه، فربَّما كان الرجلُ الذي أبْدى إسلامَهُ عندَ القتالِ خرَجَ مُكرَهًا، قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ في قولِهِ تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِن قَبْلُ﴾، قال: «تَستَخْفونَ بإيمانِكُمْ كما استَخْفى هذا الرّاعي بإيمانِه»[[«تفسير الطبري» (٧/٣٦٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٤١).]].
ومِن هذا قولُهُ تعالى: ﴿واذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُمْ وأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ﴾ [الأنفال: ٢٦]، فإنْ تذكَّرَ الإنسانُ سالفَ أمرِهِ، لا بدَّ أن يَجِدَ مِن تغيُّرِ حالِهِ ما يُدرِكُ به فضلَ اللهِ عليه.
وتذكُّرُ الإنسانِ لسابقتِهِ يَدْعُوهُ إلى التواضُعِ وحضورِ العدلِ والإنصافِ في نفسِه، وكَسْرِ شَوْكةِ الكِبْرِ منها، وهذا يَحتاجُ إليه كلُّ أحدٍ، لتطهيرِ النَّفْسِ، والعدلِ مع الناسِ، والرحمةِ بهم، فمَن كان عالِمًا، تذكَّرَ جَهْلَهُ، فرَفَقَ بالجاهلِ وعذَرَهُ وعَلَّمَه، ومَن كان مسلِمًا بعدَ كُفْرِه، تذكَّرَ كُفْرَه، فعرَفَ مواضِعَ مؤاخَذةِ الكافرِ، ومَن كان غنيًّا، تذكَّرَ فَقْرَهُ فرَحِمَ الفقيرَ وأعطاه.
وتذكُّرُ الإنسانِ حالَهُ قبلَ النعمةِ يذكِّرُهُ بفضلِ اللهِ عليه ونعمتِهِ ورحمتِهِ به، فيَتواضَعُ ويَرحَمُ ويشكُرُ، وهذا يحتاجُ إليه كلُّ أحدٍ، قال اللهُ تعالى لنبيِّه ﷺ: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى ووَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدى ووَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ﴾ [الضحى: ٦ ـ ٨]، ثمَّ قال اللهُ مبيِّنًا أثرَ التذكيرِ بسالفِ الأمرِ: ﴿فَأَمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وأَمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: ٩ ـ ١١]، فذكَّرَهُ باليُتْمِ، ثمَّ نَهاهُ عن قَهْرِ اليتيمِ، وذكَّرَهُ بعدمِ العِلْمِ، ثمَّ نَهاهُ عن نَهْرِ السائلِ الجاهلِ، والسائلِ الفقيرِ.
قال قتادةُ في قولِهِ تعالى: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى ووَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدى ووَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ﴾: «كانَتْ هذه منازِلَ رسولِ اللهِ ﷺ قبلَ أنْ يَبعثَهُ اللهُ سبحانَهُ وتعالى»، رواهُ سعيدٌ عن قتادةَ، أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٢٤/٤٨٩).]].
وفي الآيةِ: تكرارٌ للأمرِ بالتبيُّنِ، لأهميتِهِ وعِظَمِ أثَرِ التفريطِ فيه، ففي أوَّلِها قال: ﴿إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾، ثمَّ قال: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾.
قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: «وعيدٌ مِنَ اللهِ مرَّتَينِ»، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، عن حَبِيبِ بنِ أبي عَمْرَةَ، عنه[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٤٢).]].
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَتَبَیَّنُوا۟ وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَنۡ أَلۡقَىٰۤ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنࣰا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِیرَةࣱۚ كَذَ ٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡكُمۡ فَتَبَیَّنُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق