الباحث القرآني
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْقَتْلِ وَالْجِهَادِ. وَالضَّرْبُ: السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَرَبْتُ فِي الْأَرْضِ إِذَا سِرْتُ لِتِجَارَةٍ أَوْ غَزْوٍ أَوْ غَيْرِهِ، مُقْتَرِنَةً بِفِي. وَتَقُولُ: ضَرَبْتُ الْأَرْضَ، دُونَ (فِي) إِذَا قَصَدْتَ قَضَاءَ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: (لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ يَتَحَدَّثَانِ كَاشِفَيْنِ عَنْ فَرْجَيْهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ). وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَرُّوا فِي سَفَرِهِمْ [[من ج، ط، ز.]] بِرَجُلٍ مَعَهُ جَمَلٌ وَغُنَيْمَةٌ يَبِيعُهَا فَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ شَقَّ عَلَيْهِ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ. قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ (السَّلَامَ). فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ: وَحَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دِيَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ غُنَيْمَاتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَهُوَ فِي سِيَرِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَمُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ وَالِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْقَاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ، وَالْمَقْتُولُ عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ فَدَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُحَلِّمٍ فَمَا عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا سَبْعًا ثُمَّ دُفِنَ فَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ ثُمَّ دُفِنَ فَلَمْ تَقْبَلْهُ ثُمَّ دُفِنَ ثَالِثَةً فَلَمْ تَقْبَلْهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَقْبَلُهُ أَلْقَوْهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرُّ مِنْهُ). قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا إِنَّهَا تَحْبِسُ مَنْ هُوَ شَرُّ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ وَعَظَ الْقَوْمَ أَلَّا يَعُودُوا. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [جَيْشًا [[من ج وط وز.]]] مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ فَلَمَّا غَشِيَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ! قَالَ: (وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ)؟ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ أَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ؟ قَالَ: (لَا فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ). فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. فَقُلْنَا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَاتِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَالْمَقْتُولُ مرداس ابن نَهِيكٍ الْغَطَفَانِيُّ ثُمَّ الْفَزَارِيُّ مِنْ بَنِي مُرَّةَ من أهل فدك. وقاله ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. وَقِيلَ: كَانَ مِرْدَاسُ هَذَا قَدْ أَسْلَمَ مِنَ اللَّيْلَةِ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَهْلَهُ، وَلَمَّا عَظَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ عَلَى أُسَامَةَ حَلَفَ عِنْدَ ذَلِكَ أَلَّا يُقَاتِلَ رَجُلًا يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُ أَبُو قَتَادَةَ. وَقِيلَ: أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الَّذِي لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ حِينَ مَاتَ هُوَ مُحَلِّمٌ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ جَرَتْ فِي زَمَانٍ مُتَقَارِبٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمَ وَالْجَمَلَ وَحَمَلَ دِيَتَهُ عَلَى طَرِيقِ الِائْتِلَافِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ أَمِيرَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ: لَهُ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ اللَّيْثِيُّ. وَقِيلَ: الْمِقْدَادُ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أي تأملوا. و (فَتَبَيَّنُوا) قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَا: مَنْ أُمِرَ بِالتَّبَيُّنِ فَقَدْ أُمِرَ بالتثبت، يُقَالُ: تَبَيَّنْتُ الْأَمْرَ وَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ (فَتَثَبَّتُوا) مِنَ التَّثَبُّتِ بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة.
وفَتَبَيَّنُوا) فِي هَذَا أَوْكَدُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَثَبَّتُ ولا يتبين. وَفِي (إِذا) مَعْنَى الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ (فَتَبَيَّنُوا). وَقَدْ يُجَازَى بِهَا كَمَا قَالَ:
وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ [[هذا عجز بيت وصدره:
واستغن ما أغناك ربك بالغنى
في ط وز وى: فتحمل بالمهملة وهي رواية.]]
وَالْجَيِّدُ أَلَّا يُجَازَى بِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا ... وَإِذَا تُرَدُّ إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
وَالتَّبَيُّنُ التَّثَبُّتُ فِي الْقَتْلِ وَاجِبٌ حَضَرًا وَسَفَرًا وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ السَّفَرُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ الَّتِي فِيهَا نَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَعَتْ فِي السَّفَرِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ السَّلَمُ والسلم، والسلام واحد، قاله البخاري. وقرى بِهَا كُلُّهَا. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ (السَّلَامَ). وَخَالَفَهُ أَهْلُ النَّظَرِ فَقَالُوا: (السَّلَمَ) هَاهُنَا أَشْبَهُ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ [[من ى.]]، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [[راجع ج ١٠ ص ٩٩.]]) فَالسَّلَمُ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى بِيَدِهِ وَاسْتَسْلَمَ لَكُمْ وأظهر دعوتكم [[في اوج دعوته.]] لست مؤمنا. وقيل: السلام قوله السَّلَامِ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ سَلَامَهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ مُؤْذِنٌ بِطَاعَتِهِ وَانْقِيَادِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِانْحِيَازُ وَالتَّرْكُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ [فُلَانٌ [[من ابن عطية.]] [سَلَامٌ إِذَا كَانَ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا. وَالسِّلْمُ (بِشَدِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ اللَّامِ) الصُّلْحُ [[من ابن عطية وج وط وز وى. وفى اوح: الصفح. فهو تصحيف.]]. الرَّابِعَةُ- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَرَأَ (لَسْتَ مُؤْمَنًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ الثَّانِيةِ، مِنْ آمَنْتَهُ إِذَا أَجَرْتَهُ فَهُوَ مُؤْمَنٌ. الْخَامِسَةُ- وَالْمُسْلِمُ إِذَا لَقِيَ الْكَافِرَ وَلَا عَهْدَ لَهُ جَازَ لَهُ قَتْلُهُ، فَإِنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَصَمَ بِعِصَامِ الْإِسْلَامِ الْمَانِعِ مِنْ دَمِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ: فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ بِهِ. وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَتَأَوَّلُوا أَنَّهُ قَالَهَا مُتَعَوِّذًا وَخَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، وَأَنَّ الْعَاصِمَ قَوْلُهَا مُطْمَئِنًّا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ عاصم كَيْفَمَا قَالَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ لِأُسَامَةَ: (أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْ تَنْظُرُ [[في ج وط وى: انتظر.]] أَصَادِقٌ هُوَ فِي قَوْلِهِ أَمْ كَاذِبٌ؟ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُبِينَ عَنْهُ لِسَانُهُ. وَفِي هَذَا مِنَ الْفِقْهِ بَابٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُنَاطُ بِالْمَظَانِّ وَالظَّوَاهِرِ لَا عَلَى الْقَطْعِ وَاطِّلَاعِ السَّرَائِرِ. السَّادِسَةُ- فَإِنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ أَيْضًا حَتَّى يُعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إِشْكَالٍ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْكَافِرِ يُوجَدُ فَيَقُولُ: جِئْتُ مُسْتَأْمِنًا أَطْلُبُ الْأَمَانَ: هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ وَلَا يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ أَنَا مُسْلِمٌ وَلَا أَنَا مُؤْمِنٌ وَلَا أَنْ يُصَلِّيَ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الْعَاصِمَةِ الَّتِي عَلَّقَ النَّبِيُّ ﷺ الْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ). السَّابِعَةُ- فَإِنْ صَلَّى أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا، فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، أَمَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: مَا وَرَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ؟ فَإِنْ قَالَ: صَلَاةُ مُسْلِمٍ، قِيلَ لَهُ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [[في ابن العربي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.]]، فَإِنْ قَالَهَا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ، وَإِنْ أَبَى عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ تَلَاعُبٌ، وَكَانَتْ عِنْدَ مَنْ يَرَى إِسْلَامَهُ رِدَّةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُفْرٌ أَصْلِيٌّ لَيْسَ بِرِدَّةٍ. وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، يُكَلَّفُ [[في اوح: تكلف. تكلف الشيء: تجشمه على مشقة وعلى خلاف عادته.]] الْكَلِمَةَ، فَإِنْ قَالَهَا تَحَقَّقَ رَشَادُهُ، وَإِنْ أَبَى تَبَيَّنَ عِنَادُهُ وَقُتِلَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَتَبَيَّنُوا) أَيِ الْأَمْرَ الْمُشْكِلَ، أَوْ (تَثَبَّتُوا) وَلَا تَعْجَلُوا الْمَعْنَيَانِ سَوَاءٌ. فَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَتَى مَنْهِيًّا عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَتَغْلِيظُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى مُحَلِّمٍ، وَنَبْذُهُ مِنْ قَبْرِهِ كَيْفَ مَخْرَجُهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَالِ بِإِسْلَامِهِ فَقَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِأَجْلِ الْحِنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تعالى: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أَيْ تَبْتَغُونَ أَخْذَ مَالِهِ: وَيُسَمَّى مَتَاعُ الدُّنْيَا عَرَضًا لِأَنَّهُ عَارِضٌ زَائِلٌ غَيْرُ ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ جَمِيعُ مَتَاعِ] الْحَيَاةِ [[من ج.]] [الدُّنْيَا عَرَضٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَمِنْهُ [[أي الحديث.]]: (الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يأكل منها البر والفاجر).
وَالْعَرْضُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ) مَا سِوَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، فَكُلُّ عَرْضٍ عَرَضٌ، وَلَيْسَ كُلُّ عَرَضٍ عَرْضًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ). وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ:
تَقَنَّعْ بِمَا يَكْفِيكَ وَاسْتَعْمِلِ الرِّضَا ... فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصْبِحُ أَمْ تُمْسِي
فَلَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْمَالِ إِنَّمَا ... يَكُونُ الْغِنَى وَالْفَقْرُ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ
وَهَذَا يُصَحِّحُ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ: فَإِنَّ الْمَالَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَمَوَّلُ. وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ: الْعَرَضُ مَا نِيلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا [[راجع ج ٨ ص ٤٥.]]) وَجَمْعُهُ عُرُوضٌ. وَفِي الْمُجْمَلِ لابن فارس: والعرض من يَعْتَرِضُ الْإِنْسَانَ مِنْ مَرَضٍ [أَوْ نَحْوِهِ [[من الأصول.]]] وَعَرَضُ الدُّنْيَا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ مَالٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَالْعَرَضُ مِنَ الْأَثَاثِ مَا كَانَ غَيْرَ نَقْدٍ. وَأَعْرَضَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ وَأَمْكَنَ. وَالْعَرْضُ خِلَافُ الطُّولِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَأْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَمِنْ حِلِّهِ دُونَ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، أَيْ فَلَا تَتَهَافَتُوا.
(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أَيْ كَذَلِكَ كُنْتُمْ تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ عَنْ قَوْمِكُمْ خَوْفًا مِنْكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِ الدِّينِ وَغَلَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُمُ الْآنَ كَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي قَوْمِهِ مُتَرَبِّصٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمْ، فَلَا يَصْلُحُ إِذْ وَصَلَ إِلَيْكُمْ أَنْ تَقْتُلُوهُ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا أَمْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرَةً (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بِأَنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَا تُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ كَذَلِكَ ثُمَّ يُسْلِمُ لِحِينِهِ حِينَ لَقِيَكُمْ فَيَجِبُ أَنْ تَتَثَبَّتُوا فِي أَمْرِهِ. الْعَاشِرَةُ- اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْقَوْلُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً). قَالُوا: وَلَمَّا مَنَعَ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَسْتَ مُؤْمِنًا مَنَعَ مِنْ قَتْلِهِمْ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. وَلَوْلَا الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ هَذَا [[في ج: ولولا الايمان الذي ظهر لم يعب.]] الْقَوْلُ لَمْ يَعِبْ قَوْلَهُمْ. قُلْنَا: إِنَّمَا شَكَّ الْقَوْمُ فِي حَالَةِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ تَعَوُّذًا فَقَتَلُوهُ، وَاللَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِعِبَادِهِ غَيْرَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ، وَقَدْ قَالَ ﷺ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (الْبَقَرَةِ [[راجع ج ١ ص ١٩٣.]]) وَقَدْ كَشَفَ الْبَيَانَ فِي هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ)؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ طَرِيقٌ إِلَيْهِ إِلَّا مَا سُمِعَ مِنْهُ فَقَطْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا أَيْضًا مَنْ قَالَ: إِنَّ الزِّنْدِيقَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [[راجع ج ١ ص ١٩٨.]]. وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْخَلْقِ بِأَنْ خَصَّهُمْ بِالتَّوْفِيقِ، وَالْقَدَرِيَّةُ تَقُولُ: خَلَقَهُمْ كُلُّهُمْ لِلْإِيمَانِ. وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَمَا كَانَ لِاخْتِصَاصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمِنَّةِ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ مَعْنًى. الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ أَعَادَ الْأَمْرَ بِالتَّبْيِينِ لِلتَّأْكِيدِ.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) تَحْذِيرٌ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، أَيِ احْفَظُوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَتَبَیَّنُوا۟ وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَنۡ أَلۡقَىٰۤ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنࣰا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِیرَةࣱۚ كَذَ ٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡكُمۡ فَتَبَیَّنُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق