الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ تقلُّبَ وجهك في السماء. * * * ويعني: ب"التقلب"، التحوُّل والتصرُّف. ويعني بقوله:"في السماء"، نحو السماء وقِبَلها. * * * وإنما قيل له ذلك ﷺ -فيما بلغنا- لأنه كان =قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة= يرفع بصره إلى السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة، كما:- ٢٢٣٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء" قال، كان ﷺ يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها. ٢٢٣١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء"، فكان نبي الله ﷺ يُصلّي نحو بيتَ المقدس، يَهوى وَيشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام، فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها وَيشتهيها. ٢٢٣٢- حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء"، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي ﷺ يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس، وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام، فولاه الله قبلةً كان يهواها. ٢٢٣٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس، فلما قَدِم النبي ﷺ المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر، وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي ﷺ يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنزل الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء" الآية. * * * ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان ﷺ يهوى قبلة الكعبة. قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس، من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا! * ذكر من قال ذلك: ٢٢٣٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويَستفرض للقبلة، [[في المطبوعة: "يستعرض للقبلة"، وأثبت ما في الدر المنثور ١: ١٤٧ وقوله: "يستفرض" أي يطلب فرضها عليه وعلى المؤمنين. وهذا ما لم تشبه كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية. أما قوله: "يستعرض للقبلة"، فليست بشيء.]] فنزلت:"قد نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام"، -وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر، [[سياق عبارته: "فنزلت. . . في صلاة الظهر".]] . فجعل الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال. ٢٢٣٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته -يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ:"فأينما تولوا فثمَّ وجه الله". قال: فقال رسول الله ﷺ:" هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت الله -لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي ﷺ ستة عشر شهرًا، فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! [[في المطبوعة: "ما درى محمد ﷺ"، ولا تقوله يهود، فرفعته. وكذلك جاء في رقم: ١٨٣٨.]] فكره ذلك النبي ﷺ، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام" الآية. [[الأثر: ٢٢٣٥- مضى برقم: ١٨٣٨.]] * * * وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام. * ذكر من قال ذلك: ٢٢٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهودُ. فاستقبلها رسول الله ﷺ ستة عشر شهرًا، فكان رسول الله ﷺ يُحب قبلةَ إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل:"قد نرى تقلُّبَ وجهك في السماء" الآية. [[الأثر: ٢٢٣٦- مضى برقم: ١٨٣٣، ورقم: ٢١٦٠.]] * * * فأما قوله:"فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها"، فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة"ترضاها": تَهواها وتُحبها. [[انظر معاني"ولى" فيما سلف ٢: ١٦٢، ٥٣٥، وهذا الجزء ٣: ١٣١.]] * * * وأما قوله:"فوَلِّ وجهك"، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله. * * * وقوله:"شَطرَ المسجد الحَرَام"، يعني: ب"الشطر"، النحوَ والقصدَ والتّلقاء، كما قال الهذلي: [[هو قيس بن العيزارة الهذلي. والعيزارة أمه، واسمه قيس بن خويلد بن كاهل.]] إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ [[ديوانه في أشعار الهذليين للسكري: ٢٦١ (أوربة) ، ورسالة الشافعي: ٣٥، ٤٨٧، وسيرة ابن هشام ٢: ٢٠٠، والكامل ١: ١٢، ٢: ٣ ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٦٠، واللسان (شطر) (حسر) ، وغيرها. ورواية الشافعي في الرسالة: "إن العسيب" بالباء في آخره، ورواية ديوانه وابن هشام: "إن النعوس". والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، من شراستها. والنعوس: التي تغمض عينيها عند الحلب. والعسيب: جريد النخل إذا كشط عنه خوصه. وأرى أنه لم يرد صفة الناقة بأحد هذه الألفاظ الثلاثة، وإنما هو اسم ناقته. وكلها صالح أن يكون اسما للناقة. وقد قال ابن هشام: "النعوس: ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من قوله: "وهو حسير". ويروى: "داء يخامرها فنحوها. . . "، ورواية ديوانه"مخزور". ومحسور، هو الحسير: الذي قد أعيى وكل. ومخزور: من قولهم: "خزر بصره": إذا دانى بين جفنيه ونظر بلحاظه. وهو يصف ناقته، ويذكر حزنه وحبه لها، فهو من الداء الذي خامرها مشفق عليها، يطيل النظر إليها حتى تحسر عيناه ويكل.]] يعني بقوله:"شَطْرَها"، نحوها. وكما قال ابن أحمر: تَعْدُو بِنَا شَطْر جَمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ، ... قَدْ كَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبَا [[سيرة ابن هشام ٢: ١٩٩، والروض الأنف ٢: ٣٨، والخزانة ٣: ٣٨، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٦٠. وفي المطبوعة: "من إنفادها"، وهو خطأ. وقال: قبله: أَنْشَأتُ أَسْأَلُه عَنْ حَالِ رُفْقَتِهِ ... فقال: حَيَّ، فَإِنَّ الرَّكْبَ قَدْ نَصَبَا حي: اعجل. ونصب: جد في السير: وقوله: "جمع"، هي مزدلفة، يريد الحج. وقوله: عاقدة، أي: قد عطفت ذنبها بين فخذيها. وقوله: كارب، أي أوشك وكاد وقارب ودنا. وأوفدت الناقة إيفادًا: أسرعت. والحقب: الحزام يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله لئلا يؤذيه التصدير. يقول: قد أسرعوا إسراعًا إلى مزدلفة، فجعلت تعطف ذنبها تسد به فرجها حتى كاد عقد ذنبها يبلغ الحقب. والناقة تسد فرجها بذنبها في إسراعها، يقول المخبل السعدي: وإذَ رَفَعْتُ السَّوْطَ، أفْزَعَهَا ... تَحْتَ الضُّلُوعِ مُرَوِّعٌ شَهْمُ وتَسُدُّ حَاذَيْهَا بِذِي خُصَلٍ ... عُقِمَتْ فناعَمَ، نَبْتَهُ العُقْمُ ويقول المثقب العبدي، يصف ناقته مسرعة: تَسُدُّ بِدَائِمِ الخَطَرَانِ جَثْلٍ ... خَوايَةَ فَرْجِ مِقْلاَتٍ دَهِينِ]] * * * ءوبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٢٢٣٧- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية:"شَطْرَ المسجد الحَرَام"، يعني: تلقاءه. ٢٢٣٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"شطر المسجد الحرام"، نحوَه. ٢٢٣٩- حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، نَحوَه. ٢٢٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٢٢٤١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَ المسجد الحرام. ٢٢٤٢- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام" قال، نحو المسجد الحرام. ٢٢٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَه. ٢٢٤٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال:"شطرَه"، نحوَه. ٢٢٤٥- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء:"فولوا وجُوهكم شَطره" قال، قِبَله. ٢٢٤٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"شَطْره"، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه:"شُطوره". [[الخبر: ٢٢٤٦- هو وما قبله من الأخبار، في تفسير (شطره) بأنه: قبله، أو: نحوه. وانظر مؤيدًا ذلك، ما قاله الشافعي في الرسالة، بتحقيقنا: ١٠٥-١١١، ١٣٧٨-١٣٨١.]] * * * ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه ﷺ أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام. فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي ﷺ، وعناها الله تعالى ذكره بقوله:"فلنولينَّك قبلة تَرْضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة. * ذكر من قال ذلك: ٢٢٤٧- حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة، عن عبد الله بن عمرو:"فلنولينَّك قبلة ترضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة. [[الحديث: ٢٢٤٧- عبد الله بن أبي زياد، شيخ الطبري: نسب إلى جده. وهو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني"، واسم"أبي زياد": "سليمان". وعبد الله هذا: ثقة، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٨. وشيخه"عثمان": ما أدري من هو؟ وأغلب الظن أنه محرف، وصوابه"عفان". يحيى بن قمطة: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٢٢٩، وابن أبي حاتم ٤/٢/١٨١، وذكر أنه حجازي، ولم يذكرا فيه جرحًا. وذكر البخاري أنه يروي"عن ابن عمر". وذكر ابن أبي حاتم أنه يروي"عن عبد الله بن عمرو". وذكره ابن حبان في الثقات، ص: ٣٧١، وقال: "يروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو". روى عنه يعلى بن عطاء. واسم أبيه: "قمطة" بالقاف ثم الميم ثم الطاء المهملة. ولم أجد ما يدل على ضبط هذه الحروف. لكنه ثبت هكذا في الطبري وتفسير عبد الرزاق ومراجع الترجمة. ووقع في ابن كثير والمستدرك"قطة" بدون الميم. وهو خطأ، لمخالفته ما ذكرنا عن المراجع. والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٩، من طريق مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، بهذا الإسناد، مطولا بنحو الرواية التي بعد هذه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.]] ٢٢٤٨- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب، وتلا هذه الآية:"فلنولينك قِبلة ترضاها" قال، هذه القبلة، هي هذه القبلة. ٢٢٤٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم -بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه:"فلنولينك قبلة تَرضاها". [[الحديثان: ٢٢٤٨، ٢٢٤٩- وهذان إسنادان آخران للحديث قبلهما. وأولهما من رواية عبد الرزاق، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء. وهشيم- بالتصغير: هو ابن بشير، بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة. وهو أبو معاوية بن أبي خازم، وهو حافظ ثقة ثبت. مترجم في التهذيب. والكبير ٤/٢/٢٤٢، وابن سعد ٧/٢/٦١، ٧٠. وابن أبي حاتم ٤/٢/١١٥-١١٦. وتذكرة الحفاظ ١: ٢٢٩-٢٣٠. والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: ١٣، بهذا الإسناد. وليس فيه كلمة"هي" المزادة هنا بعد قوله: "هذه القبلة". وأخشى أن تكون زيادتها غير جيدة ولا ثابتة. وذكر ابن كثير ١: ٣٥٢، أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم"عن الحسن بن عرفة، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء". ووقع اسم"هشيم" فيه محرفًا، فيصحح من هذا الموضع. والحديث في الدر المنثور أيضًا ١: ١٤٧، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن المنذر، والطبراني في الكبير. وهو في مجمع الزوائد ٦: ٣١٦، وقال: "رواه الطبراني من طريقين، ورجال إحداهما ثقات".]] * * * وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ، وقبلةُ البيت الباب. * ذكر من قال ذلك: ٢٢٥٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: البيت كله قبلةٌ، وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب. [[الخبر: ٢٢٥٠- نقله السيوطي ١: ١٤٧، عن الطبري وحده، بلفظ: "البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب".]] * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه، كما أن على من ائتمِّ بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه، وإن كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة، وإنْ لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها، أو قَرُب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووَجهه، كما: ٢٢٥١- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي، عن علي:"فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال، شطُره، قبله. [[الحديث: ٢٢٥١- أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني. عميرة -بفتح العين- بن زياد الكندي: تابعي ثقة، ترجمه ابن سعد في الطبقات ٦: ١٤١، وقال: "روى عن عبد الله". أراد بذلك عبد الله بن مسعود. وترجمه البخاري في الكبير ٤/١/٦٩. وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٤. ولم يذكرا فيه جرحًا، ولا رواية عن غير ابن مسعود. وذكرا أن الراوي عنه أبو إسحاق. والحديث رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦٩، من طريق محمد بن كثير، عن سفيان -وهو الثوري- عن أبي إسحاق بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ج ٢ ص ٣، عن الحاكم. وذكره السيوطي ١: ١٤٧، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدينوري في المجالسة. وذكره ابن كثير ١: ٢٦٨، نقلا عن الحاكم. ولفظه عندهم جميعًا: "قال: شطره قبله"، كما أثبتنا. ووقع في المطبوعة هنا: "قال: شطره فينا قبلة"!! وهو خطأ سخيف، من ناسخ أو طابع. ووقع في الإسناد في ابن كثير"محمد بن إسحاق" بدل"أبي إسحاق". وهو خطأ يخالف ما ثبت هنا، وما ثبت في سائر المراجع. ووقع فيه في ابن كثير والمستدرك ومختصره للذهبي -المطبوع والمخطوط-"عمير بن زياد". وهو خطأ أيضًا. وثبت على الصواب في رواية البيهقي عن الحاكم.]] * * * قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:- ٢٢٥٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله ﷺ حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ، هذه القبلة. [[الحديث: ٢٢٥٢- الفضل بن الصباح البغدادي: ثقة، وثقه ابن معين. وقال أبو القاسم البغوي: "كان من خيار عباد الله". مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/٢/٦٣. عبد الملك: هو ابن أبي سليمان العرزمي، مضى في: ١٤٥٥. عطاء: هو ابن أبي رباح، التابعي الكبير، الإمام الحجة، القدوة العلم، مفتي أهل مكة ومحدثهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٣/١/٣٣٠-٣٣١. وتذكرة الحفاظ ١: ٩٢: ٩٣، وتاريخ الإسلام ٤: ٢٧٨-٢٨٠، وابن سعد ٢/٢/١٣٣-١٣٤، و ٥: ٣٤٤-٣٤٦. أسامة بن زيد بن حارثة: هو حب رسول الله ﷺ وابن حبه. وقد زعم أبو حاتم -فيما حكاه عنه ابنه في المراسيل: ص: ٥٧- أن عطاء لم يسمع من أسامة. ولكن الرواية التالية لهذه، فيها تصريح عطاء بالسماع منه. ثم المعاصرة كافية في ثبوت الاتصال، كما هو الراجح عند أهل العلم بالحديث. وعطاء ولد سنة ٢٧ ومات سنة ١١٤. بل ذكر الذهبي أنه مات عن ٩٠ سنة. وأسامة بن زيد مات سنة ٥٤. بل أرخ مصعب الزبيري وفاته في آخر خلافة معاوية سنة ٥٨ أو ٥٩. وهذا الحديث رواه أحمد في المسند (٥: ٢٠٩) ، عن هشيم، بهذا الإسناد واللفظ. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه مطولا، بنحوه.]] ٢٢٥٣- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال، حدثني أسامة بن زيد قال: خرج النبي ﷺ من البيت، فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة، فقال: هذه القبلةُ مرتين. [[الحديث: ٢٢٥٣- ابن حميد: هو محمد بن حميد بن حيان الرازي الحافظ. سبقت رواية الطبري عنه مرارًا كثيرة، ووثقناه في ٢٠٢٨. ونزيد هنا أنه وثقه ابن معين وغيره. وأنكروا عليه أحاديث، وأجاب عنه ابن معين بأن"هذه الأحاديث التي يحدث بها، ليس هو من قبله، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم". وقال الخليلي: "كان حافظًا عالمًا بهذا الشأن، رضيه أحمد ويحيى". وعرض عبد الله بن أحمد على أبيه ما كتبه عنه، فقال: أما حديثه عن ابن المبارك وجرير، فصحيح، وأما حديثه عن أهل الري، فهو أعلم". مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٦٩-٧٠، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٣٢-٢٣٣، والخطيب ٢: ٢٥٩-٢٦٤، وتذكرة الحفاظ ٢: ٦٧-٦٩. جرير: هو ابن عبد الحميد بن قرط الرازي، وهو ثقة حجة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري ١/٢/٢١٤، وابن سعد ٧/٢/١١٠. وابن أبي حاتم ١/١/٥٠٥-٥٠٧، والخطيب ٧: ٢٥٣-٢٦١، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٥٠. فهذا إسناد صحيح، صرح فيه عطاء بالسماع من أسامة بن زيد، كما أشرفا في الإسناد السابق. والحديث رواه أحمد في المسند (٥: ٢١٠ ح) ، ضمن قصة، عن يحيى -وهو القطان- عن عبد الملك"حدثنا عطاء، عن أسامة بن زيد".]] ٢٢٥٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله ﷺ نحوه. [[الحديث: ٢٢٥٤- عبد الرحيم بن سليمان: هو المروزي الأشل، مضت ترجمته: ٢٠٣٠. والحديث تكرار لسابقه، لكن لم يصرح في هذا الإسناد بسماع عطاء من أسامة.]] ٢٢٥٥- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله ﷺ لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج، فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة. [[الحديث ٢٢٥٥- سعيد بن يحيى بن سعيد، الأموي: ثقة ثبت، بل قال علي بن المديني: "جماعة من الأولاد أثبت عندنا من آبائهم. . . وهذا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: أثبت من أبيه". وهو من شيوخ البخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم، مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٤٧٧، وابن أبي حاتم ٢/١/٧٤، والخطيب ٩: ٩٠-٩١. أبوه، يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص: حافظ ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/٢٧٧، وابن سعد ٦: ٢٧٧-٢٧٨، و ٧/٢/٨٠-٨١. وابن أبي حاتم ٤/٢/١٥١-١٥٢، والخطيب ١٤: ١٣٢-١٣٥، وتذكرة الحفاظ ١: ٢٩٨. والحديث رواه أحمد في المسند (٥: ٢٠٨ح) ، عن عبد الرزاق، وروح - كلاهما عن ابن جريج، بهذا الإسناد نحوه. رواه قبل ذلك (ص: ٢٠١ ح) عن عبد الرزاق وحده، مختصرًا، طوى القصة فلم يذكرها. وليس في هذا الحديث ما ينفي أن يكون عطاء سمع الحديث من أسامة بن زيد، لأنه -هنا- إنما يجيب السائل عن قوا ابن عباس، وينفي أن يكون ابن عباس ينهى عن دخول البيت. فهو يذكر رواية ابن عباس عن أسامة، من أجل هذا. ولا يمنع هذا أن يكون الحديث عند عطاء عن أسامة مباشرة. والحديث رواه أيضًا مسلم ١: ٣٧٦-٣٧٧، من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج، بهذا الإسناد، نحو هذه القصة، أطول منها قليلا. ورواه البخاري ١: ٤٢٠- ٤٢١ (فتح الباري) ، من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، مختصرًا. لم يذكر القصة، ولم يذكر أنه عن أسامة، جعله من حديث ابن عباس. وذكر الحافظ أنه رواه الإسماعيلي وأبو نعيم، في مستخرجيهما، من طريق إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق، بإسناد هذا: "فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد". قال الحافظ: "وهو الأرجح". والخلاف في أن رسول الله ﷺ صلى في الكعبة أو لم يصل - مذكور في الدواوين. والراجح صلاته فيها. المثبت مقدم على النافي. وانظر نصب الراية ٢: ٣١٩-٣٢٢.]] * * * قال أبو جعفر: فأخبر ﷺ أنّ البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه. و"الهاء" التي في"شطرَه"، عائدة إلى المسجد الحرام. فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى. وأدخلت"الفاء" في قوله:"فولوا"، جوابًا للجزاء. وذلك أن قوله:"حيثما كنتم" جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني بقوله جل ثناؤه:"وإنّ الذين أوتُوا الكتاب" أحبارَ اليهود وعلماء النصارى. * * * وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً. * ذكر من قال ذلك: ٢٢٥٦- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن الذين أوتوا الكتاب"، أنزل ذلك في اليهود. * * * وقوله:"ليعلمون أنه الحق من ربهم"، يعني هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده. * * * ويعني بقوله:"من رَبِّهم" أنه الفرضُ الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه، [[انظر تفسير"غافل" فيما سلف ٢: ٢٤٣-٢٤٤، ٣١٥، وهذا الجزء ٣: ١٢٧.]] ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئتَ، يا محمد، اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة - وهي"الآية"- [[انظر تفسيره"آية" فيما سلف ١: ١٠٦/٢: ٥٥٣.]] بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا -مع قيام الحجة عليهم بذلك- قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام. * * * قال أبو جعفر: وأجيبت"لئن" بالماضي من الفعل، وحكمها الجوابُ بالمستقبل تشبيهًا لها ب"لو"، فأجيبت بما تجاب به"لو"، لتقارب معنييهما. وقد مضى البيان عن نَظير ذلك فيما مضى. [[انظر ما سلف ٢: ٤٥٨، وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٨٤.]] وأجيبت"لو" بجواب الأيمان. ولا تفعل العربُ ذلك إلا في الجزاء خاصة، لأن الجزاء مُشابه اليمين: في أن كل واحد منهما لا يتم أوّله إلا بآخره، ولا يتمُّ وحده، ولا يصحّ إلا بما يؤكِّد به بعدَه. فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء، صَارَت"اللام" الأولى بمنزلة يَمين، والثانية بمنزلة جواب لها، كما قيل:"لعمرك لتقومَنَّ" إذ كثرت"اللام" من"لعمرك"، حتى صارت كحرف من حروفه، فأجيب بما يجاب به الأيمان، إذ كانت"اللام" تنوب في الأيمان عن الأيمان، دون سائر الحروف، غير التي هي أحقُّ به الأيمان. فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان. [[قوله: "أجوبة الأيمان لنا على الأيمان" هذه عبارة غامضة، لم أظفر لها بوجه أرتضيه، وأنا لا أشك في تحريفها أو نقصها.]] فشبهت"اللام" التي في جواب الأيمان بالأيمان، لما وصفنا، فأجيبت بأجوبَتها. * * * فكانَ مَعنى الكلام -إذ كان الأمر على ما وصفنا-: لو أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك. * * * وأما قوله:"وما أنتَ بتابع قِبلتهم"، يقول: وما لك من سبيل يا محمد إلى اتّباع قبلتهم. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرقَ، فأنَّى يكون لك السبيل إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي أمِرت بالتوجه إليها، ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها. * * * وأما قوله:"وما بعضهم بتابع قبلة بعض"، فإنه يعني بقوله: وما اليهود بتابعةٍ قبلةَ النصارى، ولا النصارى بتابعةٍ قبلة اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها، كما:- ٢٢٥٧- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما بعضهم بتاع قبلة بعض"، يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال: وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي ﷺ لما حُوِّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو صاحبَنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم:"وإنّ الذين أوتوا الكتابَ ليعلمون أنه الحق من ربهم" إلى قوله:"ليكتمون الحق وهم يعلمون". [[الأثر: ٢٢٥٧- انظر ما مضى رقم: ٢٢٠٤.]] ٢٢٥٨- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما بعضهم بتابع قبلةَ بعض"، مثل ذلك. * * * وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة، مع إقامة كل حزب منهم على مِلَّتهم. فقال تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: يا محمد، لا تُشعر نفسك رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه. لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لكَ إلى إرضاء كل حزب منهم. من أجل أنك إن اتبعت قبلةَ اليهود أسخطتَ النصارى، وإن اتّبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعُهم إلى ما لهم السبيل إليه، من الاجتماع على مِلَّتك الحنيفيّة المسلمة، وقبلتِك قبلةِ إبراهيم والأنبياء من بعده.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب