الباحث القرآني

﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾: أيْ: تَرَدُّدَهُ؛ وتَصَرُّفَ نَظَرِكَ في جِهَتِها؛ تَطَلُّعًا لِلْوَحْيِ؛ وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَقَعُ في رَوْعِهِ؛ ويَتَوَقَّعُ مِن رَبِّهِ - عَزَّ وجَلَّ - أنْ يُحَوِّلَهُ إلى الكَعْبَةِ؛ لِأنَّها قِبْلَةُ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وأدْعى لِلْعَرَبِ إلى الإيمانِ؛ لِأنَّها مَفْخَرَتُهُمْ؛ ومَزارُهُمْ؛ ومَطافُهُمْ؛ ولِمُخالَفَةِ اليَهُودِ؛ فَكانَ يُراعِي نُزُولَ جِبْرِيلَ بِالوَحْيِ بِالتَّحْوِيلِ؛ ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾: الفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى سَبَبِيَّةِ ما قَبْلَها لِما بَعْدَها؛ وهي في الحَقِيقَةِ داخِلَةٌ عَلى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللّامُ؛ أيْ: فَواللَّهِ لَنُوَلِّيَنَّكَ؛ أيْ: لَنُعْطِيَنَّكَها؛ ولَنُمَكِّنَنَّكَ مِنَ اسْتِقْبالِها؛ مِن قَوْلِكَ: "وَلَّيْتُهُ كَذا"؛ أيْ: صَيَّرْتُهُ والِيًا لَهُ؛ أوْ: لَنَجْعَلَنَّكَ تَلِي جِهَتَها؛ أوْ لَنُحَوِّلَنَّكَ؛ عَلى أنَّ نَصْبَ "قِبْلَةً"؛ بِحَذْفِ الجارِّ؛ أيْ: إلى قِبْلَةٍ؛ وقِيلَ: هو مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولَيْنِ؛ ﴿تَرْضاها﴾؛ تُحِبُّها؛ وتَشْتاقُ إلَيْها؛ لَمَقاصِدَ دِينِيَّةٍ؛ وافَقَتْ مَشِيئَتَهُ (تَعالى)؛ وحِكْمَتَهُ؛ ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾: الفاءُ لِتَفْرِيعِ الأمْرِ بِالتَّوْلِيَةِ؛ عَلى الوَعْدِ الكَرِيمِ؛ وتَخْصِيصُ التَّوْلِيَةِ بِالوَجْهِ لِما أنَّهُ مَدارُ التَّوَجُّهِ؛ ومِعْيارُهُ؛ وقِيلَ: المُرادُ بِهِ كُلُّ البَدَنِ؛ أيْ: فاصْرِفْهُ؛ ﴿شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾؛ أيْ: نَحْوَهُ؛ وهو نُصِبَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ؛ مِن "وَلِّ"؛ أوْ عَلى نَزْعِ الخافِضِ؛ أوْ عَلى مَفْعُولٍ ثانٍ لَهُ؛ وقِيلَ: الشَّطْرُ في الأصْلِ: اسْمٌ لِما انْفَصَلَ مِنَ الشَّيْءِ؛ و"دارٌ شَطُورٌ"؛ إذا كانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنِ الدُّورِ؛ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِجانِبِهِ؛ وإنْ لَمْ يَنْفَصِلْ؛ كَـ "القُطْرُ"؛ والحَرامُ: المُحَرَّمُ؛ أيْ: مُحَرَّمٌ فِيهِ القِتالُ؛ أوْ مَمْنُوعٌ مِنَ الظَّلَمَةِ أنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ؛ وفي ذِكْرِ المَسْجِدِ الحَرامِ؛ دُونَ الكَعْبَةِ؛ إيذانٌ بِكِفايَةِ مُراعاةِ الجِهَةِ؛ لِأنَّ في مُراعاةِ العَيْنِ مِنَ البَعِيدِ حَرَجًا عَظِيمًا؛ بِخِلافِ القَرِيبِ؛ رُوِيَ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ «أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَدِمَ المَدِينَةَ؛ فَصَلّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا؛ ثُمَّ وُجِّهَ إلى الكَعْبَةِ؛ وقِيلَ: كانَ ذَلِكَ في رَجَبٍ؛ بَعْدَ زَوالِ الشَّمْسِ؛ قُبَيْلَ قِتالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ؛ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ في (p-175)مَسْجِدِ بَنِي سَلَمَةَ؛ وقَدْ صَلّى بِأصْحابِهِ رَكْعَتَيْنِ مِن صَلاةِ الظُّهْرِ؛ فَتَحَوَّلَ في الصَّلاةِ؛ واسْتَقْبَلَ المِيزابَ؛ وحُوِّلَ الرِّجالُ مَكانَ النِّساءِ؛ والنِّساءُ مَكانَ الرِّجالِ؛ فَسُمِّيَ المَسْجِدُ "مَسْجِدَ القِبْلَتَيْنِ"؛» ﴿وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾؛ خُصَّ الرَّسُولُ ﷺ بِالخِطابِ؛ تَعْظِيمًا لِجَنابِهِ؛ وإيذانًا بِإسْعافِ مَرامِهِ؛ ثُمَّ عُمِّمَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ مَعَ التَّعَرُّضِ لِاخْتِلافِ أماكِنِهِمْ؛ تَأْكِيدًا لِلْحُكْمِ؛ وتَصْرِيحًا بِعُمُومِهِ لِكافَّةِ العِبادِ؛ مِن كُلِّ حاضِرٍ وبادٍ؛ وحَثًّا لِلْأُمَّةِ عَلى المُتابَعَةِ؛ و"حَيْثُما": شَرْطِيَّةٌ؛ و"كُنْتُمْ": في مَحَلِّ الجَزْمِ بِها؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَوَلُّوا﴾؛ جَوابُها؛ وتَكُونُ هي مَنصُوبَةً عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِـ "كُنْتُمْ"؛ نَحْوَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿أيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ . ﴿وَإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾؛ مِن فَرِيقَيِ اليَهُودِ والنَّصارى؛ ﴿لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ﴾؛ أيْ: التَّحْوِيلَ؛ أوْ: التَّوَجُّهَ؛ المَفْهُومَ مِنَ التَّوْلِيَةِ؛ ﴿الحَقُّ﴾؛ لا غَيْرُ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأنَّ عادَتَهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - جارِيَةٌ عَلى تَخْصِيصِ كُلِّ شَرِيعَةٍ بِقِبْلَةٍ؛ ومُعايَنَتِهِمْ لِما هو مَسْطُورٌ في كُتُبِهِمْ مِن أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يُصَلِّي إلى القِبْلَتَيْنِ؛ كَما يُشْعِرُ بِذَلِكَ التَّعْبِيرُ عَنْهم بِالِاسْمِ المَوْصُولِ بِإيتاءِ الكِتابِ؛ و"أنَّ"؛ مَعَ اسْمِها وخَبَرِها؛ سادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "يَعْلَمُونَ"؛ أوْ مَسَدَّ مَفْعُولِهِ الواحِدِ؛ عَلى أنَّ العِلْمَ بِمَعْنى المَعْرِفَةِ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿مِن رَبِّهِمْ﴾: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ؛ وقَعَ حالًا مِنَ "الحَقُّ"؛ أيْ: كائِنًا مِن رَبِّهِمْ؛ أوْ صِفَةً لَهُ عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُ حَذْفَ المَوْصُولِ مَعَ بَعْضِ صِلَتِهِ؛ أيْ: الكائِنَ مِن رَبِّهِمْ؛ ﴿وَما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾؛ وعْدٌ؛ ووَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ؛ والخِطابُ لِلْكُلِّ؛ تَغْلِيبًا؛ وقُرِئَ عَلى صِيغَةِ الغَيْبَةِ؛ فَهو وعِيدٌ لِأهْلِ الكِتابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب