الباحث القرآني

(p-8)﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ أيْ: كَثِيرًا ما نَرى تَرَدُّدَ وجْهِكَ وتَصَرُّفَ نَظَرِكَ في جِهَةِ السَّماءِ مُتَشَوِّفًا لِلْوَحْيِ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقَعُ في قَلْبِهِ ويَتَوَقَّعُ مِن رَبِّهِ أنْ يُحَوِّلَهُ إلى الكَعْبَةِ لِما أنَّ اليَهُودَ كانُوا يَقُولُونَ: يُخالِفُنا مُحَمَّدٌ ويَتَّبِعُ قِبْلَتَنا، ولِما أنَّها قِبْلَةُ أبِيهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأقْدَمُ القِبْلَتَيْنِ وأدْعى لِلْعَرَبِ إلى الإيمانِ، والظّاهِرُ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَسْألْ ذَلِكَ مِن رَبِّهِ، بَلْ كانَ يَنْتَظِرُ فَقَطْ إذْ لَوْ وقَعَ السُّؤالُ لَكانَ الظّاهِرُ ذِكْرَهُ؛ فَفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى كَمالِ أدَبِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهُما: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُقَلِّبُ وجْهَهُ في الدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى أنْ يُحَوِّلَهُ إلىالكَعْبَةِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ السُّؤالُ واقِعًا مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولَمْ يُذْكَرْ؛ لِأنَّ تَقَلُّبَ الوَجْهِ نَحْوَ السَّماءِ الَّتِي هي قِبْلَةُ الدُّعاءِ يُشِيرُ إلَيْهِ في الجُمْلَةِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ الإذْنِ لَهُ بِالدُّعاءِ لِما أنَّ الأنْبِياءَ لا يَسْألُونَ اللَّهَ تَعالى شَيْئًا مِن غَيْرِ أنْ يُؤْذَنَ لَهم فِيهِ؛ لِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ لا يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلا يُجابُونَ إلَيْهِ، فَيَكُونَ فِتْنَةً لِقَوْمِهِمْ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما في بَعْضِ الآثارِ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلَ أنْ يَدْعُوا اللَّهَ تَعالى، فَأخْبَرَهُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أذِنَ لَهُ بِالدُّعاءِ، كَذا يُفْهَمُ مِن كَلامِهِمْ، والَّذِي أراهُ أنَّهُ لا مانِعَ مِن دُعائِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وسُؤالُهُ التَّحْوِيلَ لِمَصْلَحَةٍ أُلْهِمَها ومَنفَعَةٍ دِينِيَّةٍ فُهِّمَها، ولا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلى الِاسْتِئْذانِ ولا الإذْنِ الصَّرِيحِينَ؛ لِأنَّ مَن نالَ قُرْبَ النَّوافِلِ مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ مَن حَصَلَ لَهُ مَقامُ قُرْبِ الفَرائِضِ حَتّى غَدا سَيِّدَ أهْلِهِ، ومَن عَلِمَ مَرْتَبَةَ الحَبِيبِ عَدَّ جَمِيعَ ما يَصْدُرُ مِنهُ في غايَةِ الكَمالِ، مَعَ مُراعاةِ نِهايَةِ الأدَبِ، وأمّا مُعاتَبَتُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في بَعْضِ ما صَدَرَ فَلَيْسَ لِنَقْصٍ فِيهِ ولا لِإخْلالٍ بِالأدَبِ عِنْدَ فِعْلِهِ، حاشاهُ، ولَكِنْ لِأسْرارٍ خَفِيَّةٍ وحِكَمٍ رَبّانِيَّةٍ عَلِمَها مَن عَلِمَها وجَهِلَها مَن جَهِلَها. بَقِيَ: هَلْ دَعا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في هَذِهِ الحادِثَةِ صَرِيحًا أمْ لا؟ الظّاهِرُ الثّانِي بِناءً عَلى ما صَحَّ عِنْدَنا مِن ظَواهِرِ الأخْبارِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِيها سِوى حُبِّ التَّحْوِيلِ، فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِما، عَنِ البَراءِ قالَ: «صَلَّيْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِ المَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى هَوى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَنَزَلَتْ: ﴿قَدْ نَرى﴾ الآيَةَ،» ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ صَرِيحًا عَلى أحَدِ الأمْرَيْنِ، وأمّا الإشارَةُ فَقَدْ تَصْلُحُ لِهَذا، وهَذا كَما لا يَخْفى، هَذا ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ قَدْ هُنا لِلتَّقْلِيلِ زَعْمًا مِنهُ أنَّ وُقُوعَ التَّقَلُّبِ قَلِيلًا أدَلُّ عَلى كَمالِ أدَبِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، واعْتُرِضَ بِأنَّ مَن رَفَعَ بَصَرَهُ إلى السَّماءِ مَرَّةً واحِدَةً لا يُقالُ لَهُ: قَلَّبَ بَصَرَهُ إلى السَّماءِ، وإنَّما يُقالُ: قَلَّبَ إذا داوَمَ، فالكَثْرَةُ تُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّ التَّقَلُّبَ الَّذِي هو مُطاوِعُ التَّقْلِيبِ يَدُلُّ عَلَيْها، وهَلِ التَّكْثِيرُ مَعْنًى مَجازِيٌّ (لِقَدْ) أوْ حَقِيقِيٌّ؟ قَوْلانِ نُسِبَ ثانِيهُما إلى سِيبَوَيْهِ، وهَذِهِ الكَثْرَةُ أوِ القِلَّةُ هُنا مُنْصَرِفَةٌ إلى التَّقَلُّبِ، وذَكَرَ بَعْضُ النُّحاةِ أنَّ قَدْ تَقْلِبُ المُضارِعَ ماضِيًا، ومِنهُ ما هُنا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾ إلى غَيْرِ ذَلِكَ. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ أيْ لَنُمَكِّنَنَّكَ مِنَ اسْتِقْبالِها مِن قَوْلِكَ: ولَّيْتَهُ كَذا إذا جَعَلْتَهُ والِيًا لَهُ، أوْ فَلَنَجْعَلَنَّكَ تَلِي جِهَتَها دُونَ جِهَةِبَيْتِ المَقْدِسِ، مِن ولِيَهُ دَنا مِنهُ، ووَلَّيْتَهُ أدْنَيْتَهُ مِنهُ، والفاءُ لِسَبَبِيَّةِ ما قَبْلَها لِما بَعْدَها، وهي في الحَقِيقَةِ داخِلَةٌ عَلى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ اللّامُ، وجاءَ هَذا الوَعْدُ عَلى إضْمارِ القَسَمِ مُبالَغَةً في وُقُوعِهِ؛ لِأنَّهُ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ المُقَسَمِ عَلَيْها، وجاءَ قَبْلَ الأمْرِ لِفَرَحِ النَّفْسِ بِالإجابَةِ، ثُمَّ بِإنْجازِ الوَعْدِ فَيَتَوالى السُّرُورُ مَرَّتَيْنِ، ونُوَلِّي يَتَعَدّى لِاثْنَيْنَ؛ الكافُ الأوَّلُ وقِبْلَةً الثّانِي، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَرْضاها﴾ أيْ تُحِبُّها وتَمِيلُ إلَيْها لِلْأغْراضِ الصَّحِيحَةِ (p-9)الَّتِي أضْمَرْتَها ووافَقَتْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعالى وحِكْمَتَهُ، في مَوْضِعِ نَصْبٍ صِفَةٍ لِقِبْلَةٍ، ونَكَّرَها لِأنَّهُ لَمْ يَجْرِ قَبْلَها ما يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ مَعْهُودَةً فَتُعَرَّفُ بِاللّامِ، ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يَطْلُبُ قِبْلَةً مُعَيَّنَةً. ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾ الفاءُ لِتَفْرِيعِ الأمْرِ عَلى الوَعْدِ، وتَخْصِيصُ التَّوْلِيَةِ بِالوَجْهِ لِما أنَّهُ مَدارُ التَّوَجُّهِ ومِعْيارُهُ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ جَمِيعُ البَدَنِ، وكَنّى بِذَلِكَ عَنْهُ لِأنَّهُ أشْرَفُ الأعْضاءِ، وبِهِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُ النّاسِ عَنْ بَعْضٍ، أوْ مُراعاةً لِما قَبْلُ، والتَّوْلِيَةُ إذا كانَتْ مُتَعَدِّيَةً بِنَفْسِها إلى تَمامِ المَفْعُولَيْنِ كانَتْ مُسْتَعْمَلَةً بِأحَدِ المَعْنَيَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ، وإذا كانَتْ مُتَعَدِّيَةً إلى واحِدٍ فَمَعْناها الصَّرْفُ إمّا عَنِ الشَّيْءِ أوْ إلى الشَّيْءِ، عَلى اخْتِلافِ صِلَتِها الدّاخِلَةِ عَلى المَفْعُولِ الثّانِي، وهي هُنا بِهَذا المَعْنى، فَـ ( وجَّهَك ) مَفْعُولٌ أوَّلُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ أيْ نَحْوَهُ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ قِبَلَهُ كَما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، أوْ تِلْقاءَهُ كَما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ ظَرْفُ مَكانٍ مُبْهَمٍ كَمُفَسِّرِهِ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ أغْنى غِناءً إلى فَإنَّ مُؤَدّى (ولِّ وجْهَكَ) نَحْوَ أوْ قِبَلَ أوْ تِلْقاءَ المَسْجِدِ ووَلِّ وجْهَكَ إلى المَسْجِدِ وإنَّما لَمْ يَجْعَلِ الأمْرَ مِنَ المُتَعَدِّيَةِ إلى مَفْعُولَيْنِ بِأنْ يَكُونَ ( شَطْرَ ) مَفْعُولَهُ الثّانِي -كَما قِيلَ بِهِ-؛ لِأنَّ تَرَتُّبَهُ بِالفاءِ وكَوْنَهُ إنْجازًا لِلْوَعْدِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَجْعَلُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ أوْ قَرِيبًا مِن جِهَتِها بِأنْ يُؤْمَرَ بِالصَّلاةِ إلَيْها يُناسِبُهُ أنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِصَرْفِ الوَجْهِ إلَيْها لا بِأنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُسْتَقْبِلًا لَها أوْ قَرِيبًا مِن جِهَتِها، فَإنَّ المُناسِبَ لِهَذا: (فَلْنَأْمُرَنَّكَ بِأنْ تُوَلِّيَ)، ولِأنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أنْ يَكُونَ الواجِبُ رِعايَةَ سَمْتِ الجِهَةِ؛ لِأنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ جِهَةُ القِبْلَةِ، فَإذا كانَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَأْمُورًا بِجَعْلِ نَفْسِهِ مُسْتَقْبِلَ جِهَةِ المَسْجِدِ أوْ قَرِيبًا مِنها كانَ مَأْمُورًا بِاسْتِقْبالِ جِهَةِ الجِهَةِ أوْ بِقُرْبِ جِهَةِ الجِهَةِ بِخِلافِ ما إذا جَعَلَ مِنَ التَّوْلِيَةِ بِمَعْنى الصَّرْفِ وشطر ظَرْفًا فَإنَّهُ يَصِيرُ المَعْنى اصْرِفْ وجْهَكَ نَحْوَ المَسْجِدِ الحَرامِ وتِلْقاءَهُ الَّذِي هو جِهَةُ القِبْلَةِ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِمُسامَتَةِ الجِهَةِ وإصابَتِهِ قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ وقِيلَ: الشَّطْرُ في الأصْلِ لِما أنْفَصِلُ عَنِ الشَّيْءِ ثُمَّ أسْتَعْمِلُ لِجانِبِهِ وإنْ لَمْ يَنْفَصِلْ فَيَكُونُ بِمَعْنى بَعْضِ الشَّيْءِ ويَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ جَعْلُهُ مَفْعُولًا ثانِيًا وفِيهِ أنَّهُ وإنْ لَمْ يُلْزِمْ حِينَئِذٍ وُجُوبَ رِعايَةِ جِهَةِ الجِهَةِ لَكِنَّ عَدَمَ مُناسَبَتِهِ بِإنْجازِ الوَعْدِ باقٍ والقَوْلُ بِأنَّ الشَّطْرَ هُنا بِمَعْنى النِّصْفِ مِمّا لا يَكادُ يَصِحُّ والحَرامُ المُحَرَّمُ أيْ مُحَرَّمٌ فِيهِ القِتالُ أوْ مَمْنُوعٌ مِنَ الظُّلْمَةِ أنْ يَتَعَرَّضُوا وفي ذِكْرِ المَسْجِدِ الحَرامِ الَّذِي هو مُحِيطٌ بِالكَعْبَةِ دُونَ الكَعْبَةِ مَعَ أنَّها القِبْلَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْها الأحادِيثُ الصِّحاحُ إشارَةً إلى أنَّهُ يَكْفِي لِلْبَعِيدِ مُحاذاةُ جِهَةِ القِبْلَةِ وإنْ لَمْ يُصِبْ عَيْنَها وهَذِهِ الفائِدَةُ لا تَحْصُلُ مِن لَفْظِ الشَّطْرِ كَما قالَهُ جَمْعٌ لِأنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ الكَعْبَةِ لَكانَ المَعْنى اجْعَلْ صَرْفَ الوَجْهِ في مَكانٍ يَكُونُ مُسامِتًا ومُحاذِيًا لِلْكَعْبَةِ، وهَذا هو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وأحْمَدَ وقَوْلُ أكْثَرِ الخُراسانِيِّينَ مِنَ الشّافِعِيَّةِ، ورَجَّحَهُ حُجَّةُ الإسْلامِ في الإحْياءِ، إلّا إنَّهم قالُوا: يَجِبُ أنْ يَكُونَ قَصْدُ المُتَوَجِّهِ إلى الجِهَةِ العَيْنَ الَّتِي في تِلْكَ الجِهَةِ لِتَكُونَ القِبْلَةُ عَيْنَ الكَعْبَةِ، وقالَ العِراقِيُّونَ والقَفّالُ مِنهم: يَجِبُ إصابَةُ العَيْنِ، وقالَ الإمامُ مالِكٌ: إنَّ الكَعْبَةَ قِبْلَةُ أهْلِ المَسْجِدِ، والمَسْجِدَ قِبْلَةُ مَكَّةَ، وهي قِبْلَةُ الحَرَمِ، وهو قِبْلَةُ الدُّنْيا، وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما مَرْفُوعًا ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وهَذا الخِلافُ في غَيْرِ مَن يَكُونُ شاهِدًا، أمّا هو فَيَجِبُ عَلَيْهِ إصابَةُ العَيْنِ بِالإجْماعِ، ولَمْ يُقَيِّدْ سُبْحانَهُ وتَعالى التَّوْلِيَةَ في الصَّلاةِ؛ لِأنَّ المَطْلُوبَ لَمْ يَكُنْ سِوى ذَلِكَ، فَأغْنى عَنِ الذِّكْرِ، وقِيلَ: لِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ وهو صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الصَّلاةِ، فَأغْنى التَّلَبُّسُ بِها عَنْ ذِكْرِها، واسْتَدَلَّ هَذا القائِلُ بِما ذَكَرَهُ القاضِي تَبَعًا لِغَيْرِهِ «أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدِمَ المَدِينَةَ فَصَلّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وُجِّهَ إلى الكَعْبَةِ في رَجَبٍ بَعْدَ الزَّوالِ قَبْلَ قِتالِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وقَدْ صَلّى بِأصْحابِهِ في مَسْجِدِ بَنِي سَلِمَةَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، فَتَحَوَّلَ في الصَّلاةِ واسْتَقْبَلَ المِيزابَ وتَبادَلَ الرِّجالُ والنِّساءُ صُفُوفَهم فَسُمِّيَ المَسْجِدُ مَسْجِدُ القِبْلَتَيْنِ» (p-10)وهَذا كَما قالَ الإمامُ السُّيُوطِيُّ تَحْرِيفٌ لِلْحَدِيثِ، فَإنَّ قِصَّةَ بَنِي سَلِمَةَ لَمْ يَكُنْ فِيها النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إمامًا ولا هو الَّذِي تَحَوَّلَ في الصَّلاةِ، فَقَدْ أخْرَجَ النَّسائِيُّ عَنْ أبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلّى قالَ: «كُنّا نَغْدُو إلى المَسْجِدِ فَمَرَرْنا يَوْمًا ورَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قاعِدٌ عَلى المِنبَرِ فَقُلْتُ: حَدَثَ أمْرٌ فَجَلَسْتُ، فَقَرَأ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ الآيَةَ فَقُلْتُ لِصاحِبِي: تَعالَ نَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَنَكُونَ أوَّلَ مَن صَلّى، فَصَلَّيْناهُما ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَصَلّى لِلنّاسِ الظُّهْرَ يَوْمَئِذٍ». ورَوى أبُو داوُدَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأصْحابَهُ كانُوا يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَرَّ بِرَجُلٍ بِبَنِي سَلِمَةَ فَناداهم وهم رُكُوعٌ في صَلاةِ الفَجْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ: ألا إنَّ القِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إلى الكَعْبَةِ. فَمالُوا كَما هم رُكُوعًا إلى الكَعْبَةِ،» فَما ذُكِرَ مُخالِفٌ لِلرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ الثّابِتَةِ عِنْدَ أهْلِ هَذا الشَّأْنِ فَلا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: (تِلْقاءَ المَسْجِدِ الحَرامِ)، وهي تُؤَيِّدُ القَوْلَ الأوَّلَ في ( شَطْر ) كَما لا يَخْفى. ﴿وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾ ومِن تَتِمَّةِ إنْجازِ الوَعْدِ، والفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ؛ لِأنَّ (حَيْثُ) إذا لَحِقَهُ (ما) الكافَّةُ عَنِ الإضافَةِ يَكُونُ مِن كَلِمِ المُجازاةَ، والفَرّاءُ لا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِيها، و(كانَ) تامَّةٌ، أيْ: في أيِّ مَوْضِعٍ وُجِدْتُمْ، وأصْلُ (ولُّوا) ولِيُوا فاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلى الياءِ فَحُذِفَتْ فالتَقى ساكِنانِ، فَحُذِفَ أوَّلُهُما وضُمَّ ما قَبْلَ الياءِ لِلْمُناسَبَةِ، فَوَزْنُهُ (فَعُّوا) وهَذا تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ الحُكْمِ المُسْتَفادِ مِنَ السّابِقِ اعْتِناءً بِهِ؛ إذِ الخِطابُ الوارِدُ في شَأْنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عامٌّ حُكْمُهُ ما لَمْ يَظْهَرِ اخْتِصاصُهُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفائِدَةُ تَعْمِيمِ الأمْكِنَةِ -عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ البَعْضُ- دَفْعُ تَوَهُّمِ أنَّ هَذِهِ القِبْلَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأهْلِ المَدِينَةِ، وقِيلَ: لَمّا كانَ الصَّرْفُ عَنِ الكَعْبَةِ لِاسْتِجْلابِ قُلُوبِ اليَهُودِ، وكانَ مَظِنَّةَ أنْ لا يُتَوَجَّهُ إلَيْها في حُضُورِهِمْ أشارَ إلى تَعْمِيمِ التَّوْلِيَةِ جَمِيعَ الأمْكِنَةِ، أوْ يُقالُ: صَرَّحَ بِأنَّ التَّوْلِيَةَ جِهَةَ الكَعْبَةِ فُرِضَ مَعَ حُضُورِ بَيْتِ المَقْدِسِ ولِأهْلِهِ أيْضًا؛ لِئَلّا يُظَنُّ أنَّ حُضُورَ بَيْتِ المَقْدِسِ يَمْنَعُ التَّوَجُّهَ إلى جِهَةِ الكَعْبَةِ مَعَ غَيْبَتِها فَلْيُفْهَمْ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (فَوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَهُ). ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ أيْ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ﴿لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ﴾ أيِ التَّحْوِيلَ أوِ التَّوَجُّهَ المَفْهُومُ مِنَ التَّوْلِيَةِ ﴿الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ لا غَيْرِهِ لِعِلْمِهِمْ بِأنَّ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَأْمُرُ بِالباطِلِ، إذْ هو النَّبِيُّ المُبَشَّرُ بِهِ في كُتُبِهِمْ وتَحَقُّقُهم أنَّهُ لا يَتَجاوَزُ كُلَّ شَرِيعَةٍ عَنْ قِبْلَتِها إلى قِبْلَةِ شَرِيعَةٍ أُخْرى، وأمّا اشْتِراكُ النَّبِيِّ وإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذِهِ القِبْلَةِ فَلِاشْتِراكِهِما في الشَّرِيعَةِ عَلى ما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ ووُقُوفُهم عَلى ما تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُهم مِن أنَّهُ يُصَلِّي إلى القِبْلَتَيْنِ، والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى ﴿قَدْ نَرى﴾ بِجامِعِ أنَّ السّابِقَةَ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ أصْلِ التَّحْوِيلِ، وهَذِهِ لِبَيانِ حَقِّيَّتِهِ. قِيلَ: أوِ اعْتِراضِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ أمْرِ القِبْلَةِ ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ جِيءَ بِهِ لِلْوَعْدِ والوَعِيدِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِن أهْلِ الكِتابِ الدّاخِلِينَ تَحْتَ العُمُومِ السّابِقِ المُشارِ إلَيْهِما فِيما سَيَجِيءُ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وهُما مَن كَتَمَ ومَن لَمْ يَكْتُمْ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (تَعْمَلُونَ) بِالتّاءِ، فَهو وعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وقِيلَ: عَلى قِراءَةِ الخِطابِ وعَدْلِهِمْ، وعَلى قِراءَةِ الغَيْبَةِ وعِيدٌ لِأهْلِ الكِتابِ مُطْلَقًا، وقِيلَ: الضَّمِيرُ عَلى القِراءَتَيْنِ لِجَمِيعِ النّاسِ، فَيَكُونُ وعْدًا ووَعِيدًا لِفَرِيقَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب