الباحث القرآني

﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ وإفْضاءٌ لِشَرْعِ اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ ونَسْخِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ فَهَذا هو المَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ المُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ [البقرة: ١٤٢] بَعْدَ أنْ مَهَّدَ اللَّهُ بِما تَقَدَّمَ مِن أفانِينِ التَّهْيِئَةِ وإعْدادِ النّاسِ إلى تَرَقُّبِهِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١١٥] ثُمَّ قَوْلِهِ ﴿ولَنْ تَرْضى عَنْكَ اليَهُودُ﴾ [البقرة: ١٢٠] ثُمَّ قَوْلِهِ ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ﴾ [البقرة: ١٢٥] ثُمَّ قَوْلِهِ ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٤٢] . و”قَدْ“ في كَلامِ العَرَبِ لِلتَّحْقِيقِ ألا تَرى أهْلَ المَعانِي نَظَّرُوا ”هَلْ“ في الِاسْتِفْهامِ بِقَدْ في الخَبَرِ، فَقالُوا مِن أجْلِ ذَلِكَ إنَّ ”هَلْ“ لِطَلَبِ التَّصْدِيقِ فَحَرْفُ ”قَدْ“ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الفِعْلِ فَهي مَعَ الفِعْلِ بِمَنزِلَةِ ”إنَّ“ مَعَ الأسْماءِ ولِذَلِكَ قالَ الخَلِيلُ: إنَّها جَوابٌ لِقَوْمٍ يَنْتَظِرُونَ الخَبَرَ ولَوْ أخْبَرُوهم لا يَنْتَظِرُونَهُ لَمْ يَقُلْ قَدْ فَعَلَ كَذا اهـ. ولَمّا كانَ عِلْمُ اللَّهِ بِذَلِكَ مِمّا لا يَشُكُّ فِيهِ النَّبِيءُ ﷺ حَتّى يَحْتاجَ لِتَحْقِيقِ الخَبَرِ بِهِ كانَ الخَبَرُ بِهِ مَعَ تَأْكِيدِهِ مُسْتَعْمَلًا في لازِمِهِ عَلى وجْهِ الكِنايَةِ لِدَفْعِ الِاسْتِبْطاءِ عَنْهُ (p-٢٧)وأنْ يُطَمْئِنَهُ لِأنَّ النَّبِيءَ كانَ حَرِيصًا عَلى حُصُولِهِ ويَلْزَمُ ذَلِكَ الوَعْدُ بِحُصُولِهِ فَتَحْصُلُ كِنايَتانِ مُتَرَتِّبَتانِ. وجِيءَ بِالمُضارِعِ مَعَ ”قَدْ“ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّجَدُّدِ والمَقْصُودُ تَجَدُّدُ لازِمِهِ لِيَكُونَ تَأْكِيدًا لِذَلِكَ اللّازِمِ وهو الوَعْدُ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ غَلَبَ عَلى ”قَدِ“ الدّاخِلَةِ عَلى المُضارِعِ أنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ مِثْلَ رُبَّما يَفْعَلُ. قالَ عُبَيْدُ بْنُ الأبْرَصِ: ؎قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ كَأنَّ أثْوابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصادِ وسَتَجِيءُ زِيادَةُ بَيانٍ لِهَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] في سُورَةِ الأنْعامِ. والتَّقَلُّبُ مُطاوِعُ قَلَّبَهُ إذا حَوَّلَهُ وهو مِثْلُ قَلَبَهُ بِالتَّخْفِيفِ، فالمُرادُ بِتَقْلِيبِ الوَجْهِ الِالتِفاتُ بِهِ أيْ تَحْوِيلُهُ مِن جِهَتِهِ الأصْلِيَّةِ فَهو هُنا تَرْدِيدُهُ في السَّماءِ، وقَدْ أخَذُوا مِنَ العُدُولِ إلى صِيغَةِ التَّفْعِيلِ الدّالَةِ عَلى مَعْنى التَّكْثِيرِ في هَذا التَّحْوِيلِ، وفِيهِ نَظَرٌ إذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِما في هَذا التَّحْوِيلِ مِنَ التَّرَقُّبِ والشِّدَّةِ فالتَّفْعِيلُ لِقُوَّةِ الكَيْفِيَّةِ، قالُوا كانَ النَّبِيءُ ﷺ يَقَعُ في رَوْعِهِ إلْهامًا أنَّ اللَّهَ سَيُحَوِّلُهُ إلى مَكَّةَ فَكانَ يُرَدِّدُ وجْهَهُ في السَّماءِ فَقِيلَ يَنْتَظِرُ نُزُولَ جِبْرِيلَ بِذَلِكَ، وعِنْدِي أنَّهُ إذا كانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أنْ يَكُونَ تَقْلِيبُ وجْهِهِ عِنْدَ تَهَيُّؤِ نُزُولِ الآيَةِ وإلّا لَما كانَ يَتَرَقَّبُ جِبْرِيلَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنهُ هَذا التَّقْلِيبُ. والفاءُ في ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ فاءُ التَّعْقِيبِ لِتَأْكِيدِ الوَعْدِ بِالصَّراحَةِ بَعْدَ التَّمْهِيدِ لَها بِالكِتابَةِ في قَوْلِهِ ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ﴾، والتَّوْلِيَةُ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ [البقرة: ١٤٢]، فَمَعْنى ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً﴾ لَنُوَجِّهَنَّكَ إلى قِبْلَةٍ تَرْضاها. فانْتَصَبَ قِبْلَةً عَلى التَّوَسُّعِ بِمَنزِلَةِ المَفْعُولِ الثّانِي وأصْلُهُ: لَنُوَلِّيَنَّكَ مِن قِبْلَةٍ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ . والمَعْنى: أنَّ تَوْلِيَةَ وجْهِهِ لِلْكَعْبَةِ سَيَحْصُلُ عَقِبَ هَذا الوَعْدِ. وهَذا وعْدٌ اشْتَمَلَ عَلى أداتَيْ تَأْكِيدٍ وأداةِ تَعْقِيبٍ وذَلِكَ غايَةُ اللُّطْفِ والإحْسانِ. وعَبَّرَ بِـ ﴿تَرْضاها﴾ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ مَيْلَهُ إلى الكَعْبَةِ مَيْلٌ لِقَصْدِ الخَيْرِ بِناءً عَلى أنَّ الكَعْبَةَ أجْدَرُ بُيُوتِ اللَّهِ بِأنْ يَدُلَّ عَلى التَّوْحِيدِ كَما تَقَدَّمَ فَهو أجْدَرُ بِالِاسْتِقْبالِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ، (p-٢٨)ولِأنَّ في اسْتِقْبالِها إيماءً إلى اسْتِقْلالِ هَذا الدِّينِ عَنْ دِينِ أهْلِ الكِتابِ، ولَمّا كانَ الرِّضى مُشْعِرًا بِالمَحَبَّةِ النّاشِئَةِ عَنْ تَعَقُّلٍ اخْتِيرَ في هَذا المَقامِ دُونَ ”تُحِبُّها“ أوْ ”تَهْواها“ أوْ نَحْوِهِما، فَإنَّ مَقامَ النَّبِيءِ ﷺ يَرْبُو عَنْ أنْ يَتَعَلَّقَ مَيْلُهُ بِما لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ راجِحَةٍ بَعْدَ انْتِهاءِ المَصْلَحَةِ العارِضَةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ اسْتِقْبالِبَيْتِ المَقْدِسِ، ألا تَرى أنَّهُ لَمّا جاءَ في جانِبِ قِبْلَتِهِمْ بَعْدَ أنْ نُسِخَتْ جاءَ بِقَوْلِهِ ﴿ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم مِن بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ﴾ [البقرة: ١٤٥] الآيَةَ. وقَوْلُهُ ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى الوَعْدِ وتَعْجِيلٌ بِهِ والمَعْنى: ولِّ وجْهَكَ في حالَةِ الصَّلاةِ وهو مُسْتَفادٌ مِن قَرِينَةِ سِياقِ الكَلامِ عَلى المُجادَلَةِ مَعَ السُّفَهاءِ في شَأْنِ قِبْلَةِ الصَّلاةِ. والخُطّابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ والأمْرُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ بِاعْتِبارِ ما فِيهِ مِن إرْضاءِ رَغْبَتِهِ، وسَيَعْقُبُهُ بِتَشْرِيكِ الأُمَّةِ مَعَهُ في الأمْرِ بِقَوْلِهِ ﴿وحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ . والشَّطْرُ، بِفَتْحِ الشِّينِ وسُكُونِ الطّاءِ: الجِهَةُ والنّاحِيَةُ، وفَسَّرَهُ قَتادَةُ بِتِلْقاءِ، وكَذَلِكَ قَرَأهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وفَسَّرَ الجُبّائِيُّ وعَبْدُ الجَبّارِ الشَّطْرَ هُنا بِأنَّهُ وسَطُ الشَّيْءِ، لِأنَّ الشَّطْرَ يُطْلَقُ عَلى نِصْفِ الشَّيْءِ فَلَمّا أُضِيفَ إلى المَسْجِدِ والمَسْجِدُ مَكانٌ اقْتَضى أنَّ نِصْفَهُ عِبارَةٌ عَنْ نِصْفِ مِقْدارِهِ ومِساحَتِهِ وذَلِكَ وسَطُهُ، وجَعَلا شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ كِنايَةً عَنِ الكَعْبَةِ لِأنَّها واقِعَةٌ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ في نِصْفِ مِساحَتِهِ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ، أيْ تَقْرِيبًا، قالَ عَبْدُ الجَبّارِ: ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ ما ذَكَرْنا وجْهانِ، حَدُّهُما: أنَّ المُصَلِّيَ لَوْ وقَفَ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إلى المَسْجِدِ ولا يَكُونُ مُتَوَجِّهًا إلى الكَعْبَةِ لا تَصِحُّ صَلاتُهُ، الثّانِي: لَوْ لَمْ نُفَسِّرِ الشَّطْرَ بِما ذَكَرْنا لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِ الشَّطْرِ فائِدَةٌ إذْ يُغْنِي أنْ يَقُولَ: فَوَلِّ وجْهَكَ المَسْجِدَ الحَرامَ. ولَكانَ الواجِبُ التَّوَجُّهَ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ لا إلى خُصُوصِ الكَعْبَةِ. فَإنْ قُلْتَ: ما فائِدَةُ قَوْلِهِ ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾ قَبْلَ قَوْلِهِ ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾، هَلّا قالَ: في السَّماءِ فَوَلِّ وجْهَكَ. إلَخْ، قُلْتُ: فائِدَتُهُ إظْهارُ الِاهْتِمامِ بِرَغْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأنَّها بِحَيْثُ يُعْتَنى بِها كَما دَلَّ عَلَيْهِ وصْفُ القِبْلَةِ بِجُمْلَةِ تَرْضاها. ومَعْنى ”نُوَلِّيَنَّكَ“: نُوَجِّهَنَّكَ، وفي التَّوْجِيهِ قُرْبٌ مَعْنَوِيٌّ لِأنَّ ولّى المُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ إذا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنى القُرْبِ الحَقِيقِيِّ فَهو بِمَعْنى الِارْتِباطِ بِهِ، ومِنهُ الوَلاءُ والوَلِيُّ، والظّاهِرُ أنَّ تَعْدِيَتَهُ إلى مَفْعُولٍ ثانٍ مِن قَبِيلِ الحَذْفِ، والتَّقْدِيرُ: ولّى وجْهَهُ إلى كَذا ثُمَّ يُعَدُّونَهُ إلى مَفْعُولٍ ثالِثٍ بِحَرْفِ ”عَنْ“ (p-٢٩)فَيَقُولُونَ: ولّى عَنْ كَذا ويُنْزِلُونَهُ مَنزِلَةَ اللّازِمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَفْعُولَيْنِ الآخَرَيْنِ فَيُقَدِّرُونَ: ولّى وجْهَهُ إلى جِهَةِ كَذا مُنْصَرِفًا عَنْ كَذا أيِ الَّذِي كانَ يَلِيهِ مِن قَبْلُ، وبِاخْتِلافِ هاتِهِ الِاسْتِعْمالاتِ تَخْتَلِفُ المَعانِي كَما تَقَدَّمَ. فالقِبْلَةُ هُنا اسْمٌ لِلْمَكانِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ المُصَلِّي وهو إمّا مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الهَيْئَةِ وإمّا مِنَ اسْمِ المَفْعُولِ كَما تَقَدَّمَ. و﴿المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ المَسْجِدُ المَعْهُودُ عِنْدَ المُسْلِمِينَ، والحَرامُ: المَجْعُولُ وصْفًا لِلْمَسْجِدِ هو المَمْنُوعُ أيِ المَمْنُوعُ مَنعَ تَعْظِيمٍ وحُرْمَةٍ فَإنَّ مادَّةَ التَّحْرِيمِ تُؤْذِنُ بِتَجَنُّبِ الشَّيْءِ فَيُفْهَمُ التَّجَنُّبُ في كُلِّ مَقامٍ بِما يُناسِبُهُ. وقَدِ اشْتَهَرَ عِنْدَ العَرَبِ وصْفُ مَكَّةَ بِالبَلَدِ الحَرامِ أيِ المَمْنُوعِ مِنَ الجَبابِرَةِ والظَّلَمَةِ والمُعْتَدِينَ، ووُصِفَ بِالمُحَرَّمِ في قَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عَنْ إبْراهِيمَ ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] أيِ المُعَظَّمِ المُحْتَرَمِ، وسُمِّيَ الحَرَمَ قالَ تَعالى ﴿أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهم حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص: ٥٧]، فَوَصْفُ الكَعْبَةِ بِالبَيْتِ الحَرامِ وحَرَمِ مَكَّةَ بِالحَرَمِ أوْصافٌ قَدِيمَةٌ شائِعَةٌ عِنْدَ العَرَبِ، فَأمّا اسْمُ المَسْجِدِ الحَرامِ فَهو مِنَ الألْقابِ القُرْآنِيَّةِ جُعِلَ عَلَمًا عَلى حَرِيمِ الكَعْبَةِ المُحِيطِ بِها وهو مَحَلُّ الطَّوافِ والِاعْتِكافِ ولَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ بِالمَسْجِدِ في زَمَنِ الجاهِلِيَّةِ إذْ لَمْ تَكُنْ لَهم صَلاةٌ ذاتُ سُجُودٍ والمَسْجِدُ مَكانُ السُّجُودِ، فاسْمُ المَسْجِدِ الحَرامِ عَلَمٌ بِالغَلَبَةِ عَلى المِساحَةِ المَحْصُورَةِ المُحِيطَةِ بِالكَعْبَةِ ولَها أبْوابٌ مِنها: بابُ الصَّفا وبابُ بَنِي شَيْبَةَ، ولَمّا أُطْلِقَ هَذا العَلَمُ عَلى ما أحاطَ بِالكَعْبَةِ لَمْ يَتَرَدَّدِ النّاسُ مِنَ المُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمْ في المُرادِ مِنهُ، فالمَسْجِدُ الحَرامُ مِنَ الأسْماءِ الإسْلامِيَّةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وقَدْ ورَدَ ذِكْرُهُ في سُورَةِ الإسْراءِ وهي مَكِّيَّةٌ. والجُمْهُورُ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ هُنا الكَعْبَةُ لِاسْتِفاضَةِ الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ بِأنَّ القِبْلَةَ صُرِفَتْ إلى الكَعْبَةِ وأنَّ رَسُولَ اللَّهِ «أُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ وأنَّهُ صَلّى إلى الكَعْبَةِ يَوْمَ الفَتْحِ، وقالَ: هَذِهِ القِبْلَةُ»، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ - وذَكَرَ المَسْجِدَ الحَرامَ - والمُرادُ بِهِ البَيْتُ لِأنَّ العَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ البَيْتِ بِما يُجاوِرُهُ أوْ بِما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: البَيْتُ قِبْلَةٌ لِأهْلِ المَسْجِدِ، والمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأهْلِ الحَرَمِ، والحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأهْلِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ. قالَ الفَخْرُ: وهَذا قَوْلُ مالِكٍ، وأقُولُ: لا يُعْرَفُ هَذا عَنْ مالِكٍ في كُتُبِ مَذْهَبِهِ. وانْتَصَبَ شَطْرُ المَسْجِدِ عَلى المَفْعُولِ الثّانِي لِوَلِّ ولَيْسَ مَنصُوبًا عَلى الظَّرْفِيَّةِ. (p-٣٠)وقَوْلُهُ ﴿وحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ تَنْصِيصٌ عَلى تَعْمِيمِ حُكْمِ اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ لِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِعُمُومِ ضَمِيرَيْ كُنْتُمْ ووُجُوهَكم لِوُقُوعِهِما في سِياقِ عُمُومِ الشَّرْطِ بِحَيْثُما وحِينَما لِتَعْمِيمِ أقْطارِ الأرْضِ لِئَلّا يُظَنَّ أنَّ قَوْلَهُ ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ خاصٌّ بِالنَّبِيءِ ﷺ فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ خِطابٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ اقْتَضى الحالُ تَخْصِيصَهُ بِالخِطابِ بِهِ لِأنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ لِيَكُونَ تَبْشِيرًا لَهُ ويَعْلَمَ أنَّ أُمَّتَهُ مِثْلَهُ لِأنَّ الأصْلَ في التَّشْرِيعاتِ الإسْلامِيَّةِ أنْ تَعُمَّ الرَّسُولَ وأمَتَّهُ إلّا إذا دَلَّ دَلِيلٌ عَلى تَخْصِيصِ أحَدِهِما، ولَمّا خِيفَ إيهامُ أنْ يَكُونَ هَذا الحُكْمُ خاصًّا بِهِ أوْ أنْ تُجْزِئَ فِيهِ المَرَّةُ أوْ بَعْضُ الجِهاتِ كالمَدِينَةِ ومَكَّةَ أُرِيدَ التَّعْمِيمُ في المُكَلَّفِينَ وفي جَمِيعِ البِلادِ، ولِذَلِكَ جِيءَ بِالعَطْفِ بِالواوِ لَكِنْ كانَ يَكْفِي أنْ يَقُولَ: ووَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ. فَزِيدَ عَلَيْهِ ما يَدُلُّ عَلى تَعْمِيمِ الأمْكِنَةِ تَصْرِيحًا وتَأْكِيدًا لِدَلالَةِ العُمُومِ المُسْتَفادِ مِن إضافَةِ شَطْرٍ إلى ضَمِيرِ ﴿المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ لِأنَّ شَطْرَ نَكِرَةٌ أشْبَهَتِ الجَمْعَ في الدَّلالَةِ عَلى أفْرادٍ كَثِيرَةٍ فَكانَتْ إضافَتُها كَإضافَةِ الجُمُوعِ، وتَأْكِيدًا لِدَلالَةِ الأمْرِ التَّشْرِيعِيِّ عَلى التَّكْرارِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ هَذا الحُكْمِ، فَكَأنَّهُ أُفِيدَ مَرَّتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ وأحْوالِهِمْ أُولاهُما إجْمالِيَّةٌ والثّانِيَةُ تَفْصِيلِيَّةٌ. وهَذِهِ الآياتُ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ هَذا الِاسْتِقْبالِ وهو حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ ذَلِكَ أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الصَّلاةِ العِبادَةُ والخُضُوعُ لِلَّهِ تَعالى، وبِمِقْدارِ اسْتِحْضارِ المَعْبُودِ يَقْوى الخُضُوعُ لَهُ فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثارُهُ الطَّيِّبَةُ في إخْلاصِ العَبْدِ لِرَبِّهِ وإقْبالِهِ عَلى عِبادَتِهِ وذَلِكَ مِلاكُ الِامْتِثالِ والِاجْتِنابِ. ولِهَذا جاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الإحْسانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ»، ولَمّا تَنَزَّهَ اللَّهُ تَعالى عَنْ أنْ يُحِيطَ بِهِ الحِسُّ تَعَيَّنَ لِمُحاوِلِ اسْتِحْضارِ عَظَمَتِهِ أنْ يَجْعَلَ لَهُ مُذَكِّرًا بِهِ مِن شَيْءٍ لَهُ انْتِسابٌ خاصٌّ إلَيْهِ، قالَ فَخْرُ الدِّينِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ في الإنْسانِ قُوَّةً عَقْلِيَّةً مُدْرِكَةً لِلْمُجَرَّداتِ والمَعْقُولاتِ، وقُوَّةً خَيالِيَّةً مُتَصَرِّفَةً في عالَمِ الأجْسامِ، وقَلَّما تَنْفَكُّ القُوَّةُ العَقْلِيَّةُ عَنْ مُقارَنَةِ القُوَّةِ الخَيالِيَّةِ، فَإذا أرادَ الإنْسانُ اسْتِحْضارَ أمْرٍ عَقْلِيٍّ مُجَرَّدٍ وجَبَ أنْ يَضَعَ لَهُ صُورَةً خَيالِيَّةً يُحِسُّها حَتّى تَكُونَ تِلْكَ الصُّورَةُ الخَيالِيَّةُ مُعِينَةً عَلى إدْراكِ تِلْكَ المَعانِي العَقْلِيَّةِ، ولَمّا كانَ العَبْدُ الضَّعِيفُ إذا وصَلَ إلى مَجْلِسِ المَلِكِ العَظِيمِ لا بُدَّ مِن أنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِوَجْهِهِ ويُبالِغَ في الثَّناءِ عَلَيْهِ بِلِسانِهِ وفي الخِدْمَةِ لَهُ، فاسْتِقْبالُ القِبْلَةِ في الصَّلاةِ يَجْرِي مَجْرى كَوْنِهِ مُسْتَقْبِلًا لِلْمَلِكِ، والقُرْآنُ والتَّسْبِيحاتُ تَجْرِي في مَجْرى الثَّناءِ عَلَيْهِ، والرُّكُوعُ والسُّجُودُ يَجْرِي مَجْرى الخِدْمَةِ. اهـ. (p-٣١)فَإذا تَعَذَّرَ اسْتِحْضارُ الذّاتِ المَطْلُوبَةِ بِالحِسِّ فاسْتِحْضارُها يَكُونُ بِشَيْءٍ لَهُ انْتِسابٌ إلَيْها مُباشَرَةً كالدِّيارِ أوْ بِواسِطَةٍ كالبَرْقِ والنَّسِيمِ ونَحْوِ ذَلِكَ أوْ بِالشَّبَهِ كالغَزالِ عِنْدَ المُحِبِّينَ، وقَدِيمًا ما اسْتَهْتَرَتِ الشُّعَراءُ بِآثارِ الأحِبَّةِ كالأطْلالِ في قَوْلِهِ قِفا نَبْكِ مِن ذِكْرى حَبِيبٍ ومَنزِلِ وأقْوالِهِمْ في البَرْقِ والرِّيحِ، وقالَ مالِكُ بْنُ الرَّيْبِ: ؎دَعانِي الهَوى مِن أهْلِ وِدِّي وجِيرَتِي ∗∗∗ بِذِي الطَّيِّسَيْنِ فالتَفَتُّ ورائِيا واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يُحِيطَ بِهِ الحِسُّ فَوَسِيلَةُ اسْتِحْضارِ ذاتِهِ هي اسْتِحْضارُ ما فِيهِ مَزِيدُ دَلالَةٍ عَلَيْهِ تَعالى. لا جَرَمَ أنَّ أوْلى المَخْلُوقاتِ بِأنْ يُجْعَلَ وسِيلَةً لِاسْتِحْضارِ الخالِقِ في نَفْسِ عَبْدِهِ هي المَخْلُوقاتُ الَّتِي كانَ وُجُودُها لِأجْلِ الدَّلالَةِ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وتَنْزِيهِهِ ووَصْفِهِ بِصِفاتِ الكَمالِ مَعَ تَجَرُّدِها عَنْ كُلِّ ما يُوهِمُ أنَّها المَقْصُودَةُ بِالعِبادَةِ وتِلْكَ هي المَساجِدُ الَّتِي بَناها إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وجَرَّدَها مِن أنْ يَضَعَ فِيها شَيْئًا يُوهِمُ أنَّهُ المَقْصُودُ بِالعِبادَةِ، ولَمْ يُسَمِّها بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى فَبَنى الكَعْبَةَ أوَّلَ بَيْتٍ، وبَنى مَسْجِدًا في مَكانِ المَسْجِدِ الأقْصى، وبَنى مَساجِدَ أُخْرى ورَدَ ذِكْرُها في التَّوْراةِ بِعُنْوانِ ”مَذابِحَ“، فَقَدْ بَنَتِ الصّابِئَةُ بَعْدَ نُوحٍ هَياكِلَ لِتَمْجِيدِ الأوْثانِ وتَهْوِيلِ شَأْنِها في النُّفُوسِ فَأضافُوها إلى أسْماءِ أُناسٍ مِثْلِ: ودٍّ وسُواعٍ، أوْ إلى أسْماءِ الكَواكِبِ، وذَكَرَ المَسْعُودِيُّ في مُرُوجِ الذَّهَبِ عِدَّةً مِنَ الهَياكِلِ الَّتِي أُقِيمَتْ في الأُمَمِ الماضِيَةِ لِهَذا الشَّأْنِ، ومِنها: هَيْكَلُ سَنْدُوسابَ بِبِلادِ الهِنْدِ. وهَيْكَلُ مَصْلِينا في جِهَةِ الرِّقَّةِ بَناها الصّابِئَةُ قَبْلَ إبْراهِيمَ، وكانَ آزَرُ أبُو إبْراهِيمَ مِن سَدَنَتِهِ، وقِيلَ أنَّ عادًا بَنَوْا هَياكِلَ مِنها ”جِلِّقُ“ هَيْكَلُ بِلادِ الشّامِ. فَإذا اسْتَقْبَلَ المُؤْمِنُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنَ البُيُوتِ الَّتِي أُقِيمَتْ لِمُناقِضَةِ أهْلِ الشِّرْكِ ولِلدَّلالَةِ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وتَمْجِيدِهِ كانَ مِنَ اسْتِحْضارِ الخالِقِ بِما هو أشَدُّ إضافَةً إلَيْهِ، بَيْدَ أنَّ هَذِهِ البُيُوتَ عَلى كَثْرَتِها لا تَتَفاضَلُ إلّا بِإخْلاصِ النِّيَّةِ مِن إقامَتِها، وبِكَوْنِ إقامَتِها لِذَلِكَ وبِأسْبَقِيَّةِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ في هَذا الغَرَضِ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ كُلَّ هَذِهِ المَعانِي ثَلاثَةً في مَعْنًى واحِدٍ، وهو الأسْبَقِيَّةُ لِأنَّ السّابِقَ مِنها قَدِ امْتازَ عَلى اللّاحِقِ بِكَوْنِهِ هو الَّذِي دَلَّ مُؤَسِّسُ ذَلِكَ اللّاحِقِ عَلى تَأْسِيسِهِ قالَ تَعالى ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: ١٠٨]، وقالَ (p-٣٢)فِي ذِكْرِ مَسْجِدِ الضِّرارِ ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أبَدًا﴾ [التوبة: ١٠٨]، أيْ لِأنَّهُ أُسِّسَ بِنِيَّةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، وقالَ ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦] فَجَعَلَهُ هُدًى لِلنّاسِ لِأنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ فالبُيُوتُ الَّتِي أُقِيمَتْ بَعْدَهُ كَبَيْتِ المَقْدِسِ مِن آثارِ اهْتِداءٍ اهْتَداهُ بانُوها بِالبَيْتِ الأوَّلِ. وقَدْ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّ الكَعْبَةَ أوَّلُ هَيْكَلٍ أُقِيمُ لِلْعِبادَةِ وفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: ٩٦] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، ولا شَكَّ أنَّ أوَّلَ هَيْكَلٍ أُقِيمُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وتَنْزِيهِهِ وإعْلانِ ذَلِكَ وإبْطالِ الإشْراكِ هو الكَعْبَةُ الَّتِي بَناها إبْراهِيمُ أوَّلُ مَن حاجَّ الوَثَنِيِّينَ بِالأدِلَّةِ وأوَّلُ مَن قاوَمَ الوَثَنِيَّةَ بِقُوَّةِ يَدِهِ فَجَعَلَ الأوْثانَ جِذاذًا، ثُمَّ أقامَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِ اللَّهِ وتَوْحِيدِهِ ذَلِكَ الهَيْكَلَ العَظِيمَ لِيَعْلَمَ كُلُّ أحَدٍ يَأْتِي أنَّ سَبَبَ بِنائِهِ إبْطالُ عِبادَةِ الأوْثانِ، وقَدْ مَضَتْ عَلى هَذا البَيْتِ العُصُورُ فَصارَتْ رُؤْيَتُهُ مُذَكِّرَةً بِاللَّهِ تَعالى، فَفِيهِ مَزِيَّةُ الأوَّلِيَّةِ، ثُمَّ فِيهِ مَزِيَّةُ مُباشَرَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِناءَهُ بِيَدِهِ ويَدِ ابْنِهِ إسْماعِيلَ دُونَ مَعُونَةِ أحَدٍ، فَهو لِهَذا المَعْنى أعْرَقُ في الدَّلالَةِ عَلى التَّوْحِيدِ وعَلى الرِّسالَةِ مَعًا وهُما قُطْبا إيمانِ المُؤْمِنِينَ، وفي هَذِهِ الصِّفَةِ لا يُشارِكُهُ غَيْرُهُ. ثُمَّ سُنَّ الحَجُّ إلَيْهِ لِتَجْدِيدِ هَذِهِ الذِّكْرى ولِتَعْمِيمِها في الأُمَمِ الأُخْرى، فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونَ أوْلى المَوْجُوداتِ بِالِاسْتِقْبالِ لِمَن يُرِيدُ اسْتِحْضارَ جَلالِ الرُّبُوبِيَّةِ الحَقَّةِ وما بُنِيَتْ بُيُوتُ اللَّهِ مِثْلُ المَسْجِدِ الأقْصى إلّا بَعْدَهُ بِقُرُونٍ طَوِيلَةٍ، فَكانَ هو قِبْلَةَ المُسْلِمِينَ. قَدَّمْنا آنِفًا أنَّ شَرْطَ اسْتِقْبالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَكُنْ مِن أحْكامِ الشَّرائِعِ السّالِفَةِ وكَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ والمَسْجِدُ الأقْصى بُنِيَ بَعْدَ مُوسى بِما يَزِيدُ عَلى أرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وغايَةُ ما كانَ مِنَ اسْتِقْبالِهِ بَعْدَ دَعْوَةِ سُلَيْمانَ أنَّهُ اسْتِقْبالٌ لِأجْلِ تَحَقُّقِ قَبُولِ الدُّعاءِ والصَّلاةِ لا لِكَوْنِهِ شَرْطًا، ثُمَّ إنِ اخْتِيارَ ذَلِكَ الهَيْكَلِ لِلِاسْتِقْبالِ وإنْ كانَ دَعْوَةً فَهي دَعْوَةُ نَبِيءٍ لا تَكُونُ إلّا عَنْ إلْهامٍ إلَهِيٍّ فَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ أنَّ اللَّهَ أرادَ تَعْمِيرَ البَلَدِ المُقَدَّسِ كَما وعَدَ إبْراهِيمَ ووَعَدَ مُوسى فَأرادَ زِيادَةَ تَغَلْغُلِ قُلُوبِ الإسْرائِيلِيِّينَ في التَّعَلُّقِ بِهِ فَبَيَّنَ لَهُمُ اسْتِقْبالَ الهَيْكَلِ الإيمانِيَّ الَّذِي أقامَهُ فِيهِ نَبِيُّهُ سُلَيْمانُ لِيَكُونَ ذَلِكَ المَعْبَدُ مِمّا يَدْعُو نُفُوسَهم إلى الحِرْصِ عَلى بَقاءِ تِلْكَ الأقْطارِ بِأيْدِيهِمْ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ شَرَعَ اللَّهُ لَهُمُ الِاسْتِقْبالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى ألْسِنَةِ الأنْبِياءِ بَعْدَ سُلَيْمانَ وفِيهِ بُعْدٌ لِأنَّ أنْبِياءَهم لَمْ يَأْتُوا بِزِيادَةٍ عَلى شَرِيعَةِ مُوسى وإنَّما أتَوْا مُعَزِّزِينَ. فَتَشْرِيعُ اللَّهِ تَعالى (p-٣٣)اسْتِقْبالَ المُسْلِمِينَ في صَلاتِهِمْ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ تَكْمِيلٌ لِمَعْنى الخُشُوعِ في صَلاةِ الإسْلامِ فَيَكُونُ مِنَ التَّكَمُّلاتِ الَّتِي ادَّخَرَها اللَّهُ تَعالى لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ لِتَكُونَ تَكْمِلَةُ الدِّينِ تَشْرِيفًا لِصاحِبِها ﷺ ولِأُمَّتِهِ إنْ كانَ الِاحْتِمالُ الأوَّلُ، فَإذا كانَ الثّانِي فالأمْرُ لَنا بِالِاسْتِقْبالِ لِئَلّا تَكُونَ صَلاتُنا أضْعَفَ اسْتِحْضارًا لِجَلالِ اللَّهِ تَعالى مِن صَلاةِ غَيْرِنا. ولِذَلِكَ اتَّفَقَ عُلَماؤُنا عَلى أنَّ الِاسْتِقْبالَ لِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ كانَ مُقارِنًا لِمَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاةِ في الإسْلامِ فَإنْ كانَ اسْتِقْبالُهُ جِهَةَ الكَعْبَةِ عَنِ اجْتِهادٍ مِنَ النَّبِيءِ ﷺ فَعِلَّتُهُ أنَّهُ المَسْجِدُ الَّذِي عَظَّمَهُ أهْلُ الكِتابَيْنِ والَّذِي لَمْ يُداخِلْهُ إشْراكٌ ولا نُصِبَتْ فِيهِ أصْنامٌ، فَكانَ ذَلِكَ أقْرَبَ دَلِيلٍ لِاسْتِقْبالِ جِهَتِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ اسْتِحْضارَ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى. وإنْ كانَ اسْتِقْبالُ بَيْتِ المَقْدِسِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَلَعَلَّ حِكْمَتَهُ تَأْلِيفُ قُلُوبِ أهْلِ الكِتابَيْنِ ولِيَظْهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ ولِلْمُسْلِمِينَ مَنِ اتَّبَعَهم مِن أهْلِ الكِتابِ حَقًّا ومَنِ اتَّبَعَهم نِفاقًا لِأنَّ الأخِيرَيْنِ قَدْ يَتَّبِعُونَ الإسْلامَ ظاهِرًا ويَسْتَقْبِلُونَ في صَلاتِهِمْ قِبْلَتَهُمُ القَدِيمَةَ فَلا يَرَوْنَ حَرَجًا عَلى أنْفُسِهِمْ في ذَلِكَ فَإذا تَغَيَّرَتِ القِبْلَةُ خافُوا مِن قَصْدِهِمْ لِاسْتِدْبارِها فَأظْهَرُوا ما كانُوا مُسْتَبْطِنِيهِ مِنَ الكُفْرِ كَما أشارَ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: ١٤٣] الآيَةَ. ولَعَلَّ العُدُولَ عَنِ الأمْرِ بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ في صَدْرِ الإسْلامِ كانَ لِخَضْدِ شَوْكَةِ مُكابَرَةِ قُرَيْشٍ وطَعْنِهِمْ في الإسْلامِ فَإنَّهُ لَوِ اسْتَقْبَلَ مَكَّةَ لَشَمَخُوا بِأُنُوفِهِمْ وقالُوا هَذا بَلَدُنا ونَحْنُ أهْلُهُ واسْتِقْبالُهُ حَنِينٌ إلَيْهِ ونَدامَةٌ عَلى الهِجْرَةِ مِنهُ، كَما قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٤] وقَوْلُهُ ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١١٥] إيماءٌ إلَيْهِ كَما قَدَّمْنا، وعَلَيْهِ فَفي تَحْوِيلِ القِبْلَةِ إلى الكَعْبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشارَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِأنَّ أمْرَ قُرَيْشٍ قَدْ أشْرَفَ عَلى الزَّوالِ وأنَّ وقْعَةَ بَدْرٍ سَتَكُونُ الفَيْصَلَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وبَيْنَهم، ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ بِتَحْوِيلِ القِبْلَةِ إلى البَيْتِ الَّذِي هو أوْلى بِذَلِكَ وإلى جِهَتِهِ لِلْبَعِيدِ عَنْهُ. * * * ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ وجُمْلَةِ ﴿ومِن حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وجْهَكَ﴾ [البقرة: ١٤٩] الآيَةَ. (p-٣٤)والأظْهَرُ أنَّ المُرادَ بِـ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أحْبارُ اليَهُودِ وأحْبارُ النَّصارى كَما رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ كَما يُشْعِرُ بِهِ التَّعْبِيرُ عَنْهم بِصِلَةِ ﴿أُوتُوا الكِتابَ﴾ دُونَ أنْ يُقالَ: وإنَّ أهْلَ الكِتابِ. ومَعْنى كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ أنَّ عِلْمَهم بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ حَسَبَ البِشارَةِ بِهِ في كُتُبِهِمْ يَتَضَمَّنُ أنَّ ما جاءَ بِهِ حَقٌّ. والأظْهَرُ أيْضًا أنَّ المُرادَ بِـ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَزالُوا عَلى الكُفْرِ لِيَظْهَرَ مَوْضِعُ قَوْلِهِ ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ فَإنَّ الإخْبارَ عَنْهم بِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِمُؤَكِّدَيْنِ، يَقْتَضِي أنَّ ظاهِرَ حالِهِمْ إذْ أنْكَرُوا اسْتِقْبالَ الكَعْبَةِ أنَّهم أنْكَرُوهُ لِاعْتِقادِهِمْ بُطْلانَهُ وأنَّ المُسْلِمِينَ يَظُنُّونَهم مُعْتَقِدِينَ ذَلِكَ، ولِيَظْهَرَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ الَّذِي هو تَهْدِيدٌ بِالوَعِيدِ. وقَدْ دَلَّ التَّعْرِيفُ في قَوْلِهِ ﴿أنَّهُ الحَقُّ﴾ عَلى القَصْرِ؛ أيْ يَعْلَمُونَ أنَّ الِاسْتِقْبالَ لِلْكَعْبَةِ هو الحَقُّ دُونَ غَيْرِهِ تَبَعًا لِلْعِلْمِ بِنَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ بِشَرِيعَةِ الإسْلامِ، وقِيلَ إنَّهم كانُوا يَجِدُونَ في كُتُبِهِمْ أنَّ قِبْلَتَهم سَتَبْطُلُ ولَعَلَّ هَذا مَأْخُوذٌ مِن إنْذاراتِ أنْبِيائِهِمْ، مِثْلِ:أرْمِيا وأشْعِيا المُنادِيَةِ بِخَرابِ بَيْتِ المَقْدِسِ فَإنَّ اسْتِقْبالَهُ يَصِيرُ اسْتِقْبالَ الشَّيْءِ المَعْدُومِ. وقَوْلُهُ ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِياءِ الغَيْبَةِ والضَّمِيرُ ”لِلَّذِينَ أُوتُوا الكُتّابَ“ أيْ عَنْ عَمَلِهِمْ بِغَيْرِ ما عَلِمُوا فالمُرادُ: بِما يَعْمَلُونَ هَذا العَمَلَ ونَحْوَهُ مِنَ المُكابَرَةِ والعِنادِ والسَّفَهِ. وهَذا الخَبَرُ كِنايَةٌ عَنِ الوَعِيدِ بِجَزائِهِمْ عَنْ سُوءِ صُنْعِهِمْ، لِأنَّ قَوْلَ القادِرِ: ما أنا بِغافِلٍ عَنِ المُجْرِمِ، حَقِيقٌ لِعِقابِهِ إذْ لا يَحُولُ بَيْنَ القادِرِ وبَيْنَ الجَزاءِ إلّا عَدَمُ العِلْمِ فَلِذَلِكَ كانَ وعِيدًا لَهم ووَعِيدُهم يَسْتَلْزِمُ في المَقامِ الخِطابِيِّ وعْدًا لِلْمُسْلِمِينَ لِدَلالَتِهِ عَلى عَظِيمِ مَنزِلَتَهم فَإنَّ الوَعِيدَ إنَّما تَرَتَّبَ عَلى مُخالَفَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلا جَرَمَ أنْ سَيَلْزَمُ جَزاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى امْتِثالِ تَغْيِيرِ القِبْلَةِ، ولِأنَّ الَّذِي لا يَغْفُلُ عَنْ عَمَلِ أُولَئِكَ لا يَغْفُلُ عَنْ عَمَلِ هَؤُلاءِ فَيُجازِي كُلًّا بِما يَسْتَحِقُّ. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو جَعْفَرٍ ورَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِتاءِ الخِطابِ فَهو كِنايَةٌ عَنْ وعْدِ المُسْلِمِينَ عَلى الِامْتِثالِ لِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ. (p-٣٥)ويَسْتَلْزِمُ وعِيدًا لِلْكافِرِينَ عَلى عَكْسِ ما تَقْتَضِيهِ القِراءَةُ السّابِقَةُ؛ وعَلى القِراءَتَيْنِ فَهو تَذْيِيلٌ إجْمالِيٌّ لِيَأْخُذَ كُلٌّ حَظَّهُ مِنهُ وهو اعْتِراضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا﴾ وجُمْلَةِ ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [البقرة: ١٤٥] الآيَةَ. وفِي قَوْلِهِ ﴿لَيَعْلَمُونَ﴾ وقَوْلِهِ ﴿عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ الجِناسُ التّامُّ المُحَرَّفُ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ والجِناسُ النّاقِصُ المُضارِعُ عَلى قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ ومَن وافَقَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب