الباحث القرآني

ولَمّا أشْعَرَ الكَلامُ السّابِقُ أهْلَ البَلاغَةِ بِإحْداثِ أمْرٍ في القِبْلَةِ (p-٢١٧)فَتَوَقَّعُوا الخَبَرَ عَنْ ذَلِكَ وبَيَّنَ رَأْفَتَهُ ورَحْمَتَهُ بِالنّاسِ عُمُومًا بَيَّنَ ذَلِكَ بِرَسُولِهِ خُصُوصًا بِأنَّ تَحْوِيلَهُ إلى الكَعْبَةِ رَأْفَةٌ مِنهُ بِهِ ورَحْمَةٌ لَهُ مَعَ ما تَقَدَّمَ مِن فَوائِدِهِ فَقالَ تَعالى: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ﴾، قالَ الحَرالِّيُّ: فِيهِ نَبَأُ إسْماعٍ لِمَن يَرْتَقِبُ أمْرًا أوْ خَبَرًا يُفِيدُ مَعَ المُسْتَقْبَلِ نُدْرَةَ الوُقُوعِ، فَفِيهِ إعْلامٌ بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا انْطَوى ضَمِيرُهُ عَلى إرادَةِ التَّوَجُّهِ لِلْكَعْبَةِ الَّتِي هي قِيامٌ لِلنّاسِ حِينَ كانَ هو رَسُولًا لِكافَّةِ النّاسِ وكانَ ﷺ عَلى مِلَّةِ أبِيهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَكْتَفِي بِعِلْمِ اللَّهِ بِهِ عَنْ مَسْألَتِهِ، لِأنَّ الدُّعاءَ لِلطّالِبِينَ قَضاءُ حاجَةٍ ولِلْمُكْتَفِينَ بِعِلْمِ اللَّهِ عِبادَةٌ أجابَ اللَّهُ تَقَلُّبَ وجْهِهِ عَلى قِلَّةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنهُ عَلى ما تُشْعِرُ بِهِ ”قَدْ“ بِالتَّقْلِيلِ لِلتَّقَلُّبِ ولِلرُّؤْيَةِ ﴿فِي السَّماءِ﴾ فِيهِ إعْلامٌ بِما جَعَلَهُ مِنَ اخْتِصاصِ السَّماءِ بِوَجْهِ الدّاعِي، كَما اخْتَصَّ غَيْبَ القُلُوبِ بِوَجْهِهِ المُصَلِّي، فالمُصَلِّي يَرْجِعُ إلى غَيْبِ قَلْبِهِ، ولا يَرْفَعُ طَرَفَهُ إلى السَّماءِ، ”ولَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عَنْ رَفْعِ أبْصارِهِمْ إلى السَّماءِ في الصَّلاةِ أوْ لَتُخْطَفَنَّ أبْصارَهُمْ“، والدّاعِي يَتَوَجَّهُ إلى السَّماءِ ويَمُدُّ يَدَيْهِ كَما قالَ: ”حَتّى رَأيْنا عَفْرَةَ إبِطَيْهِ“ - انْتَهى مُلَخَّصًا. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ﴾ أيْ: فَتَسَبَّبَ عَنْ تِلْكَ (p-٢١٨)الرُّؤْيَةِ أنّا نُوَلِّيكَ مِن غَيْرِ شَكٍّ ﴿قِبْلَةً﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: نَكَّرَها لَمّا كانَ مِن ورائِها قِبْلَةُ التَّوَجُّهِ العامِّ في تَنَقُّلِهِ، فَتِلْكَ هي القِبْلَةُ الَّتِي هي تُوَجَّهُ لِوَجْهِ اللَّهِ لا تَوَجُّهَ لِمَنظَرٍ بادٍ مِن خَلْقِ اللَّهِ، فَكانَ مُتَّسَعُ القِبْلَةِ ما بَيْنَ اخْتِصاصِ القِبْلَةِ الشّامِيَّةِ إلى قِيامِ القِبْلَةِ الحِجازِيَّةِ إلى إحاطَةِ القِبْلَةِ العامَّةِ الآفاقِيَّةِ؛ وفي قَوْلِهِ: ﴿تَرْضاها﴾ إنْباءٌ بِإقْرارِهِ لِلتَّوَجُّهِ لِهَذِهِ القِبْلَةِ، لِأنَّ الرِّضى وصْفُ المُقِرِّ لِما يُرِيدُ، فَكُلٌّ واقِعٌ بِإرادَةٍ لا يَكُونُ رَضًى إلى أنْ يَسْتَدْرِكَهُ الإقْرارُ، فَإنَّ تَعَقُّبَهُ الرَّفْعُ والتَّغْيِيرُ فَهو مُرادٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، انْتَهى. ودَلَّ عَلى أنَّ مَرْضِيَّهُالكَعْبَةُ بِفاءِ السَّبَبِ في قَوْلِهِ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾ وأمّا قَلْبُكَ فَإنَّما تَوَجُّهُهُ إلى اللَّهِ، الغَيْبُ (p-٢١٩)لِلْغَيْبِ والظّاهِرُ لِلظّاهِرِ، ﴿شَطْرَ﴾ أيْ: عَيَّنَ ﴿المَسْجِدِ﴾ كَما اسْتَدَلَّ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّسالَةِ عَلى ذَلِكَ بِجُمْلَةٍ مِن أشْعارِ العَرَبِ، وقالَ: وهَذا كُلُّهُ مِن أشْعارِهِمْ يُبَيِّنُ أنَّ شَطْرَ الشَّيْءِ قَصْدُ عَيْنِ الشَّيْءِ، إذا كانَ مُعايَنًا فَبِالصَّوابِ وإنْ كانَ مُغَيَّبًا فَبِالِاجْتِهادِ ﴿الحَرامِ﴾ وتَعْبِيرُهُ بِهَذا دُونَ الكَعْبَةِ فِيهِ تَوْسِعَةٌ. قالَ الحَرالِّيُّ: سَمّاهُ اللَّهُ حَرامًا لِحُرْمَتِهِ حَيْثُ لَمْ يُوطَأْ قَطُّ إلّا بِإذْنِهِ ولَمْ يُدْخَلْ إلّا دُخُولَ تَعَبُّدٍ وذِلَّةٍ فَكانَ حَرامًا عَلى مَن يَدْخُلُهُ دُخُولَ مُتَكَبِّرٍ أوْ مُتَحَيِّرٍ. انْتَهى. [وعَنِ الإمامِ الماوَرْدِيِّ أنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ المَسْجِدَ الحَرامَ فالمُرادُ بِهِ الحَرَمُ إلّا هَذا فالمُرادُ بِهِ الكَعْبَةُ. انْتَهى. وعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِأنَّ السِّياقَ لِلصَّلاةِ الَّتِي أعْظَمُ مَقْصُودِها السُّجُودُ، وسَيَأْتِي عِنْدَ (p-٢٢٠)﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ٢١٧] زِيادَةٌ عَلى هَذا ]، وفي المُوَطَّأِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ أنَّهُ قالَ: «صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ أنْ قَدِمَ المَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ حُوِّلَتِ القِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ»، ولَمّا بَشَّرَهُ سُبْحانَهُ بِالتَّحْوِيلِ أوَّلًا وأوْقَعَ المُبَشَّرَ بِهِ ثانِيًا أشارَ إلى بِشارَةٍ ثالِثَةٍ بِتَكْثِيرِ أُمَّتِهِ ونَشْرِهِمْ في أقْطارِ الأرْضِ فَجَمَعَهم إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿وحَيْثُ ما كُنْتُمْ﴾ أيْ: مِن جِهاتِ الأرْضِ الَّتِي أوْرَثَكم إيّاها، ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ بِتَوْجِيهِ قُلُوبِكم إلَيَّ. ولَمّا حَرَّرَ ذَلِكَ وقَرَّرَهُ بَيَّنَ أنَّ العائِبِينَ لِدِينِهِ بِذَلِكَ مِن أهْلِ الكِتابِ عالِمُونَ بِحَقِّيَّةِ هَذا التَّحْوِيلِ وأنَّهُ مِن أعْلامِ نُبُوَّتِهِ فَقالَ: ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ أيْ: مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، ولَمْ يَصِفْهم هُنا بِالسَّفَهِ لِإثْباتِ العِلْمِ في قَوْلِهِ: ﴿لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ﴾ أيْ: هَذا التَّحْوِيلَ ﴿الحَقُّ﴾ أيْ: لَيْسَ بَعْدَهُ في أمْرِ القِبْلَةِ حَقٌّ آخَرُ يَرْفَعُهُ أصْلًا، ﴿مِن (p-٢٢١)رَبِّهِمْ﴾ أيِ: المُحْسِنِ إلَيْهِمْ بِإرْسالِ هَذا الرَّسُولِ الَّذِي يَرْفَعُ عَنْهم إصْرَهم وكانُوا يَنْتَظِرُونَ رِسالَتَهُ، فَعِنْدَما أتاهم رَدُّوا رَحْمَتَهُ، وجَعَلَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ في سِياقِ مُهَدِّدٍ لَهُ مُرَجٍّ لَهُ ولِأتْباعِهِ تَسْلِيَةً لَهم وتَثْبِيتًا وتَقْوِيَةً لِعَزائِمِهِمْ وتَمْكِينًا حَيْثُ خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ﴾ أيِ: المُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا ﴿بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: بِالياءِ أيِ التَّحْتانِيَّةِ إعْراضًا عَنْهم، وبِالتّاءِ إقْبالًا عَلَيْهِمْ، فَفِيهِ إنْباءٌ بِتَمادِيهِمْ عَلى سُوءِ أحْوالِهِمْ في رُتْبَتَيْنِ: في مُتَمادٍ عَلى سُوءٍ هَدَّدَ فِيهِ لِما أقْبَلَ عَلَيْهِ، وفي مُتَمادٍ عَلى أسْوَأ مِنهُ أوْجَبَ في تَهْدِيدِهِ الإعْراضَ عَنْهُ (p-٢٢٢)والإقْبالَ عَلى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَصِلْ في السُّوءِ والمُكاءَدَةِ إلى ما وصَلَ إلَيْهِ المُعْرِضُ عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب