الباحث القرآني

﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾: تَقَدَّمَ حَدِيثُ البَراءِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الخِلافِ في هَذِهِ الآيَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٤٢]: أيُّهُما نَزَلَ قَبْلُ ؟ ونَرى هُنا مُضارِعٌ بِمَعْنى الماضِي، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أنَّ مِمّا يَصْرِفُ المُضارِعَ إلى الماضِي قَدْ، في بَعْضِ المَواضِعِ، ومِنهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [النور: ٦٤]، ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾ [الحجر: ٩٧]، ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٨] . وقالَ الشّاعِرُ: ؎لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ نَرى أمْسَ فِيهِمْ مَرابِطَ لِلْأمْهارِ والعَكَرِ الدُّثْرِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ نَرى: رُبَّما نَرى، ومَعْناهُ: كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، كَقَوْلِهِ: ؎لاقَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ انْتَهى. وشَرْحُهُ هَذا عَلى التَّحْقِيقِ مُتَضادٌّ؛ لِأنَّهُ شَرَحَ قَدْ نَرى بِرُبَّما نَرى. ورُبَّ، عَلى مَذْهَبِ المُحَقِّقِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، إنَّما تَكُونُ لِتَقْلِيلِ الشَّيْءِ في نَفْسِهِ، أوْ لِتَقْلِيلِ نَظِيرِهِ. ثُمَّ قالَ: ومَعْناهُ كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، فَهو مُضادٌّ (p-٤٢٨)لِمَدْلُولِ رُبَّ عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ. ثُمَّ هَذا المَعْنى الَّذِي ادَّعاهُ، وهو كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، لا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِمَعْنى الكَثْرَةِ. هَذا التَّرْكِيبُ، أعْنِي تَرْكِيبَ قَدْ مَعَ المُضارِعِ المُرادِ مِنهُ الماضِي، ولا غَيْرَ المُضِيِّ، وإنَّما فُهِمَتِ الكَثْرَةُ مِن مُتَعَلِّقِ الرُّؤْيَةِ، وهو التَّقَلُّبُ؛ لِأنَّ مَن رَفَعَ بَصَرَهُ إلى السَّماءِ مَرَّةً واحِدَةً، لا يُقالُ فِيهِ: قَلَّبَ بَصَرَهُ في السَّماءِ، وإنَّما يُقالُ: قَلَّبَ إذا رَدَّدَ. فالتَّكْثِيرُ، إنَّما فُهِمَ مِنَ التَّقَلُّبِ الَّذِي هو مُطاوِعُ التَّقْلِيبِ، نَحْوَ: قَطَّعْتُهُ فَتَقَطَّعَ، وكَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وما طاوَعَ التَّكْثِيرَ فَفِيهِ التَّكْثِيرُ. والوَجْهُ هُنا قِيلَ: أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُ ظاهِرِهِ. قالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهُما: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَلِّبُ وجْهَهُ في الدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى أنْ يُحَوِّلَهُ إلى قِبْلَةِ مَكَّةَ. وقِيلَ: كانَ يُقَلِّبُ وجْهَهُ لِيُؤْذَنَ لَهُ في الدُّعاءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَ يَتَوَقَّعُ مِن رَبِّهِ أنْ يُحَوِّلَهُ إلى الكَعْبَةِ، لِأنَّها قِبْلَةُ أبِيهِ إبْراهِيمَ، وأدْعى لِلْعَرَبِ إلى الإيمانِ، لِأنَّها مَفْخَرُهم ومَزارُهم ومَطافُهم، ولِمُخالَفَةِ اليَهُودِ، فَكانَ يُراعِي نُزُولَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والوَحْيِ بِالتَّحْوِيلِ. انْتَهى كَلامُهُ، وهو كَلامُ النّاسِ قَبْلَهُ. فالأوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وهو لِيُصِيبَ قِبْلَةَ إبْراهِيمَ. والثّانِي: قَوْلُ السُّدِّيِّ والرَّبِيعِ، وهو لِيَتَألَّفَ العَرَبَ لِمَحَبَّتِها في الكَعْبَةِ. والثّالِثُ: قَوْلُ مُجاهِدٍ، وهو قَوْلُ اليَهُودِ: ما عَلِمَ مُحَمَّدٌ دِينَهُ حَتّى اتَّبَعَنا، فَأرادَ مُخالَفَتَهم. وقِيلَ: كَنّى بِالوَجْهِ عَنِ البَصَرِ؛ لِأنَّهُ أشْرَفُ، وهو المُسْتَعْمَلُ في طَلَبِ الرَّغائِبِ. تَقُولُ: بَذَلَتْ وجْهِي في كَذا، وفَعَلْتُ لِوَجْهِ فُلانٍ. وقالَ: ؎رَجَعَتْ بِما أبْغِي ووَجْهِي بِمائِهِ وهُوَ مِنَ الكِنايَةِ بِالكُلِّ عَنِ الجُزْءِ، ولا يَحْسُنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ بَصَرَ وجْهِكَ؛ لِأنَّ هَذا لا يَكادُ يُسْتَعْمَلُ، إنَّما يُقالُ: بَصَرُكَ وعَيْنُكَ وأنْفُكَ؛ لا يَكادُ يُقالُ: أنْفُ وجْهِكَ، ولا خَدُّ وجْهِكَ. في السَّماءِ: مُتَعَلِّقٌ بِالمَصْدَرِ، وهو تَقَلُّبٌ، وهو يَتَعَدّى بِفي، فَهي عَلى ظاهِرِها. قالَ تَعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ [آل عمران: ١٩٦]، أيْ في نَواحِي السَّماءِ، في هَذِهِ الجِهَةِ، وفي هَذِهِ الجِهَةِ. وقِيلَ: في بِمَعْنى إلى. وقِيلَ: في السَّماءِ مُتَعَلِّقٌ بِتَرى، وفي: بِمَعْنى مِن، أيْ قَدْ نَرى مِنَ السَّماءِ تَقَلُّبَ وجْهِكَ، وإنْ كانَ اللَّهُ تَعالى يَرى مِن كُلِّ مَكانٍ، ولا تَتَحَيَّزُ رُؤْيَتُهُ بِمَكانٍ دُونَ مَكانٍ. وذُكِرَتِ الرُّؤْيَةُ مِنَ السَّماءِ لِإعْظامِ تَقَلُّبِ وجْهِهِ؛ لِأنَّ السَّماءَ مُخْتَصَّةٌ بِتَعْظِيمِ ما أُضِيفَ إلَيْها، ويَكُونُ كَما جاءَ: بِأنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مِن فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ، والظّاهِرُ الأوَّلُ، وهو تَعَلُّقُ المَجْرُورِ بِالمَصْدَرِ، وأنَّ في عَلى حَقِيقَتِها. واخْتُصَّ التَّقَلُّبُ بِالسَّماءِ؛ لِأنَّ السَّماءَ جِهَةٌ تَعُودُ مِنها الرَّحْمَةُ، كالمَطَرِ والأنْوارِ والوَحْيِ، فَهم يَجْعَلُونَ رَغْبَتَهم حَيْثُ تَوالَتِ النِّعَمُ، ولِأنَّ السَّماءَ قِبْلَةُ الدُّعاءِ، ولِأنَّهُ كانَ يَنْتَظِرُ جِبْرِيلَ، وكانَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ. ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ في الجُمْلَةِ السّابِقَةِ حالًا مَحْذُوفَةً، التَّقْدِيرُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ طالِبًا قِبْلَةً غَيْرَ الَّتِي أنْتِ مُسْتَقْبِلُها. وجاءَ هَذا الوَعْدُ عَلى إضْمارِ قَسَمٍ مُبالِغَةً في وُقُوعِهِ؛ لِأنَّ القَسَمَ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ المُقْسَمِ عَلَيْها. وجاءَ الوَعْدُ قَبْلَ الأمْرِ لِفَرَحِ النَّفْسِ بِالإجابَةِ، ثُمَّ بِإنْجازِ الوَعْدِ، فَيَتَوالى السُّرُورُ مَرَّتَيْنِ، ولِأنَّ بُلُوغَ المَطْلُوبِ بَعْدَ الوَعْدِ بِهِ آنَسُ في التَّوَصُّلِ مِن مُفاجَأةِ وُقُوعِ المَطْلُوبِ. ونَكَّرَ القِبْلَةَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَجْرِ قَبْلَها ما يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ مَعْهُودَةً، فَتُعَرَّفُ بِالألِفِ واللّامِ. ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ يَطْلُبُ بِاللَّفْظِ قِبْلَةً مُعَيَّنَةً، ووَصَفَها بِأنَّها مَرَضِيَّةٌ لَهُ لِتَقَرُّبِها مِنَ التَّعْيِينِ؛ لِأنَّ مُتَعَلِّقَ الرِّضا هو القَلْبُ، وهو كانَ يُؤْثِرُ أنْ تَكُونَ الكَعْبَةَ، وإنْ كانَ لا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ. قالُوا: ورِضاهُ لَها، إمّا لِمَيْلِ السَّجِيَّةِ، أوْ لِاشْتِمالِها عَلى مَصالِحِ الدِّينِ. والمَعْنى: لَنَجْعَلَنَّكَ تَلِيَ اسْتِقْبالَ قِبْلَةٍ مَرْضِيَّةٍ لَكَ، ولَنُمَكِّنَنَّكَ مِن ذَلِكَ. ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾: أيِ اسْتَقْبِلْ بِوَجْهِكَ في الصَّلاةِ نَحْوَ الكَعْبَةِ. وبِهَذا الأمْرِ نَسَخَ التَّوَجُّهَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ. قالُوا: وإنَّما لَمْ يَذْكُرْ في الصَّلاةِ؛ لِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ وهو في الصَّلاةِ، فَأغْنى التَّلَبُّسُ بِالصَّلاةِ عَنْ ذِكْرِها. ومَن قالَ نَزَلَتْ في غَيْرِ الصَّلاةِ، فَأغْنى عَنْ ذِكْرِ (p-٤٢٩)الصَّلاةِ أنَّ المَطْلُوبَ لَمْ يَكُنْ إلّا ذَلِكَ، أعْنِي: التَّوَجُّهَ في الصَّلاةِ. وأقُولُ: في قَوْلِهِ: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ هو في الصَّلاةِ؛ لِأنَّ القِبْلَةَ هي الَّتِي يُتَوَجَّهُ إلَيْها في الصَّلاةِ. وأرادَ بِالوَجْهِ: جُمْلَةَ البَدَنِ؛ لِأنَّ الواجِبَ اسْتِقْبالُها بِجُمْلَةِ البَدَنِ. وكَنّى بِالوَجْهِ عَنِ الجُمْلَةِ؛ لِأنَّهُ أشْرَفُ الأعْضاءِ، وبِهِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُ النّاسِ عَنْ بَعْضٍ. وقَدْ يُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ نَفْسُ الشَّيْءِ، ولِأنَّ المُقابَلَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وهو أنَّهُ قابَلَ قَوْلَهُ: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾ . وتَقَدَّمَ أنَّ الشَّطْرَ يُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ النِّصْفُ، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ النَّحْوُ. وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالشَّطْرِ تِلْقاؤُهُ وجانِبُهُ، وهو اخْتِيارُ الشّافِعِيِّ. وقالَ الجُبّائِيُّ، وهو اخْتِيارُ القاضِي: المُرادُ مِنهُ وسَطُ المَسْجِدِ ومُنْتَصَفُهُ؛ لِأنَّ الشَّطْرَ هو النِّصْفُ، والكَعْبَةُ بُقْعَةٌ في وسَطِ المَسْجِدِ. والواجِبُ هو التَّوَجُّهُ إلى الكَعْبَةِ، وهي كانَتْ في نِصْفِ المَسْجِدِ، فَحَسُنَ أنْ يُقالَ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ﴾، يَعْنِي النِّصْفَ مِن كُلِّ جِهَةٍ، وكَأنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ بُقْعَةِ الكَعْبَةِ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْناهُ. أنَّ المُصَلِّيَ خارِجَ المَسْجِدِ مُتَوَجِّهًا إلى المَسْجِدِ، لا إلى مُنْتَصَفِ المَسْجِدِ الَّذِي هو الكَعْبَةُ، لَمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ. وأنَّهُ لَوْ فَسَّرْنا الشَّطْرَ بِالجانِبِ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فائِدَةٌ، ويَكُونُ لا يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلى مُنْتَصَفِهِ الَّذِي هو الكَعْبَةُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى البَيْتِ كُلِّهِ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ: إنَّما وُجِّهَ هو وأُمَّتُهُ حِيالَ مِيزابِ الكَعْبَةِ، والمِيزابُ هو قِبْلَةُ المَدِينَةِ والشّامِ، وهُناكَ قِبْلَةُ أهْلِ الأنْدَلُسِ بِتَقْرِيبٍ، ولا خِلافَ أنَّ الكَعْبَةَ قِبْلَةٌ مِن كُلِّ أُفُقٍ، وفي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، ”فَوَلِّ وجْهَكَ تِلْقاءَ المَسْجِدِ الحَرامِ“ . والقائِلُونَ بِأنَّ مَعْنى الشَّطْرِ: النَّحْوُ، اخْتَلَفُوا، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ؛ البَيْتُ قِبْلَةٌ لِأهْلِ المَسْجِدِ، والمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأهْلِ الحَرَمِ، والحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأهْلِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، وهَذا قَوْلُ مالِكٍ. وقالَ آخَرُونَ: القِبْلَةُ هي الكَعْبَةُ، والظّاهِرُ أنَّ المَقْصُودَ بِالشَّطْرِ: النَّحْوُ والجِهَةُ؛ لِأنَّ في اسْتِقْبالِ عَيْنِ الكَعْبَةِ حَرَجًا عَظِيمًا عَلى مَن خَرَجَ لِبُعْدِهِ عَنْ مُسامَتَتِها. وفي ذِكْرِ المَسْجِدِ الحَرامِ، دُونَ ذِكْرِ الكَعْبَةِ، دَلالَةٌ عَلى أنَّ الَّذِي يَجِبُ هو مُراعاةُ جِهَةِ الكَعْبَةِ، لا مُراعاةُ عَيْنِها. واسْتَدَلَّ مالِكٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾، عَلى أنَّ المُصَلِّيَ يَنْظُرُ أمامَهُ، لا إلى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، خِلافًا لِلثَّوْرِيِّ والشّافِعِيِّ والحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، في أنَّهُ يُسْتَحَبُّ أنْ يَنْظُرَ إلى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وخِلافًا لِشَرِيكٍ القاضِي، في أنَّهُ يَنَظُرُ القائِمُ إلى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وفي الرُّكُوعِ إلى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وفي السُّجُودِ إلى مَوْضِعِ أنْفِهِ، وفي القُعُودِ إلى مَوْضِعِ حِجْرِهِ. قالَ الحافِظُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: إنَّما قُلْنا يَنْظُرُ أمامَهُ؛ لِأنَّهُ إنْ حَنى رَأْسَهُ ذَهَبَ بِبَعْضِ القِيامِ المُعْتَرَضِ عَلَيْهِ في الرَّأْسِ، وهو أشْرَفُ الأعْضاءِ، وإنْ أقامَ رَأسَهُ وتَكَلَّفَ النَّظَرَ بِبَصَرِهِ إلى الأرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وحَرَجٌ، ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] . ﴿وحَيْثُما كُنْتُمْ﴾: هَذا عُمُومٌ في الأماكِنِ الَّتِي يَحِلُّها الإنْسانُ، في أيْ في مَوْضِعٍ كُنْتُمْ، وهو شَرْطٌ وجَزاءٌ، والفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ، وكُنْتُمْ في مَوْضِعِ جَزْمٍ. وحَيْثُ: هي ظَرْفُ مَكانٍ مُضافَةٌ إلى الجُمْلَةِ، فَهي مُقْتَضِيَةٌ، الخَفْضَ بَعْدَها، وما اقْتَضى الخَفْضَ لا يَقْتَضِي الجَزْمَ؛ لِأنَّ عَوامِلَ الأسْماءِ لا تَعْمَلُ في الأفْعالِ، والإضافَةِ مُوَضِّحَةٌ لِما أُضِيفَ، كَما أنَّ الصِّلَةَ مُوَضِّحَةٌ فَيُنافِي اسْمَ الشَّرْطِ؛ لِأنَّ الشَّرْطَ مُبْهَمٌ. فَإذا وصَلَتْ بِما زالَ مِنها مَعْنى الإضافَةِ، وضُمِّنَتْ مَعْنى الشَّرْطِ، وجُوزِيَ بِها، وصارَتْ إذْ ذاكَ مِن عَوامِلِ الأفْعالِ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا ما شُرِطَ في المُجازاةِ بِها، وخِلافُ الفَرّاءِ في ذَلِكَ. ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾: وهَذا أمْرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لِما تَقَدَّمَ أمْرُهُ بِذَلِكَ، أرادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ حُكْمَهُ وحُكْمَ أُمَّتِهِ في ذَلِكَ واحِدٌ، مَعَ مَزِيدِ عُمُومٍ في الأماكِنِ، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ هَذِهِ القِبْلَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأهْلِ المَدِينَةِ، فَبَيَّنَ أنَّهم في أيٍّ ما حَصَلُوا مِن بِقاعِ الأرْضِ، وجَبَ أنْ يَسْتَقْبِلُوا شَطْرَ المَسْجِدِ. ولَمّا كانَ ﷺ هو المُتَشَوِّقَ لِأمْرِ (p-٤٣٠)التَّحْوِيلِ، بَدَأ بِأمْرِهِ أوَّلًا ثُمَّ أتْبَعَ أمْرَ أُمَّتِهِ ثانِيًا لِأنَّهم تَبَعٌ لَهُ في ذَلِكَ، ولِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ ذَلِكَ مِمّا اخْتُصَّ بِهِ ﷺ . وفي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: ”فَوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَهُ“ . وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: فَوَلُّوا وُجُوهَكم تِلْقاءَهُ، وهَذا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالشَّطْرِ: النَّحْوُ. ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾: أيْ رُؤَساءَ اليَهُودِ والنَّصارى وأحْبارَهم. وقالَ السُّدِّيُّ: هُمُ اليَهُودُ. ﴿لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ﴾: أيِ التَّوَجُّهَ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ، (الحَقُّ): الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلى إبْراهِيمَ وذُرِّيَّتِهِ. وقالَ قَتادَةُ والضَّحّاكُ: إنَّ القِبْلَةَ هي الكَعْبَةُ. وقالَ الكِسائِيُّ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى الشَّطْرِ، وهو قَرِيبٌ مِنَ القَوْلِ الثّانِي؛ لِأنَّ الشَّطْرَ هو الجِهَةُ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ ونُبُوَّتَهُ، قالَهُ قَتادَةُ أيْضًا ومُجاهِدٌ. ومُفَسِّرُ هَذِهِ الضَّمائِرِ مُتَقَدِّمٌ. فَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ التَّحْوِيلِ والتَّوَجُّهِ قَوْلُهُ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ﴾، فَيَعُودُ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: (فَوَلُّوا)، ومُفَسِّرُ ضَمِيرِ القِبْلَةِ قَوْلُهُ: ﴿قِبْلَةً تَرْضاها﴾، ومُفَسِّرُ ضَمِيرِ الشَّطْرِ قَوْلُهُ: ﴿شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾، ومُفَسِّرُ ضَمِيرِ الرَّسُولِ ضَمِيرُ خِطابِهِ ﷺ . فَعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ التِفاتانِ. والعِلْمُ هُنا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِمّا يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِمّا يَتَعَدّى إلى واحِدٍ؛ لِأنَّ مَعْمُولَهُ هو أنْ وصِلَتُها، فَيَحْتَمِلُ الوَجْهَيْنِ، وعِلْمُهم بِذَلِكَ، إمّا لِأنَّ في كِتابِهِمُ التَّوَجُّهَ إلى الكَعْبَةِ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ، وإمّا لِأنَّ في كِتابِهِمْ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ نَبِيٌّ صادِقٌ، فَلا يَأْمُرُ إلّا بِالحَقِّ، وإمّا لِجَوازِ النَّسْخِ، وإمّا لِأنَّ في بِشارَةِ الأنْبِياءِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي إلى القِبْلَتَيْنِ. (مِن رَبِّهِمْ): جارٌّ ومَجْرُورٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ ثابِتًا مِن رَبِّهِمْ. وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَّحَوُّلَ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ إلى الكَعْبَةِ لَمْ يَكُنْ بِاجْتِهادٍ، إنَّما هو بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى. وفي إضافَةِ الرَّبِّ إلَيْهِمْ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ يَجِبُ اتِّباعُ الحَقِّ الَّذِي هو مُسْتَقِرٌّ مِمَّنْ هو مُعْتَنٍ بِإصْلاحِكَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ [البقرة: ١٤٧] . ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ. فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ المُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ أهْلُ الكِتابِ، فَتَكُونُ مِن بابِ الِالتِفاتِ. ووَجْهُهُ أنَّ في خِطابِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ لا يَغْفَلُ عَنْ أعْمالِهِمْ، تَحْرِيكًا لَهم بِأنْ يَعْمَلُوا بِما عَلِمُوا مِنَ الحَقِّ؛ لِأنَّ المُواجَهَةَ بِالشَّيْءِ تَقْتَضِي شِدَّةَ الإنْكارِ وعِظَمَ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْكَرُ. ومَن قَرَأ بِالياءِ، فالظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى أهْلِ الكِتابِ لِمَجِيءِ ذَلِكَ في نَسَقٍ واحِدٍ مِنَ الغَيْبَةِ. وعَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ، فَهو إعْلامٌ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُهْمِلُ أعْمالَ العِبادِ، ولا يَغْفَلُ عَنْها، وهو مُتَضَمِّنٌ الوَعِيدَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب