الباحث القرآني

(p-٣٠٠)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٤٤ ] ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ أيْ تَرَدُّدَ وجْهِكَ وتَصَرُّفَ نَظَرِكَ في جِهَةِ السَّماءِ تَشَوُّفًا لِنُزُولِ الوَحْيِ بِالتَّحْوِيلِ. قالُوا: وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى حُسْنِ أدَبِهِ حَيْثُ انْتَظَرَ ولَمْ يَسْألْ. وهَذا ألْطَفُ مِمّا قِيلَ: إنَّ تَقَلُّبَ وجْهِهِ كِنايَةٌ عَنْ دُعائِهِ، ولا مانِعَ أنْ يُرادَ بِتَقَلُّبِ وجْهِهِ ﷺ بِالتَّحْوِيلِ، فَفِيهِ إعْلامٌ بِما جَعَلَهُ تَعالى مِنِ اخْتِصاصِ السَّماءِ بِوَجْهِ الدّاعِي. وهَذِهِ الآيَةُ وإنْ كانَتْ مُتَأخِّرَةً في التِّلاوَةِ، فَهي مُتَقَدِّمَةٌ في المَعْنى، فَإنَّها رَأْسُ القِصَّةِ ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾ أيْ: لَنُعْطِيَنَّكَ أوْ لَنُوَجِّهَنَّكَ إلى قِبْلَةٍ تُحِبُّها وتَمِيلُ إلَيْها. ودَلَّ عَلى أنَّ مَرْضِيَّهُ الكَعْبَةُ، بِفاءِ السَّبَبِ في قَوْلِهِ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ أيْ نَحْوَهُ وجِهَتَهُ. والتَّعْبِيرُ عَنِ الكَعْبَةِ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ إشارَةٌ إلى أنَّ الواجِبَ مُراعاةُ الجِهَةِ دُونَ العَيْنِ: ﴿وحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾ أيْ حَيْثُما كُنْتُمْ في بَرٍّ أوْ بَحْرٍ فَوَلُّوا وُجُوهَكم في الصَّلاةِ تِلْقاءَ المَسْجِدِ. وأمّا سِرُّ الأمْرِ بِالتَّوْلِيَةِ خاصًّا وعامًّا، فَقالَ الرّاغِبُ: أمّا خِطابُهُ الخاصُّ فَتَشْرِيفًا لَهُ وإيجابًا لِرَغْبَتِهِ. وأمّا خِطابُهُ العامُّ بَعْدَهُ، فَلِأنَّهُ كانَ يَجُوزُ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ هَذا أمْرٌ قَدْ خُصَّ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهِ. كَما خُصَّ في قَوْلِهِ: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: ٢] ولِأنَّهُ لَمّا كانَ تَحْوِيلُ القِبْلَةِ أمْرًا لَهُ خَطَرَ، خَصَّهم بِخِطابٍ مُفْرَدٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ أبْلَغَ ولِيَكُونَ لَهم في ذَلِكَ تَشْرِيفٌ. ولِأنَّ في الخِطابِ العامِّ (p-٣٠١)تَعْلِيقَ حُكْمٍ آخَرَ بِهِ. وهو أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ القُرْبِ والبُعْدِ في وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ. ﴿وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ قالَ الفَخْرُ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ "أنَّهُ الحَقُّ" راجِعٌ إلى مَذْكُورٍ سابِقٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ، كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُ القِبْلَةِ. فَجازَ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ القَوْمَ يَعْلَمُونَ أنَّ الرَّسُولَ مَعَ شَرْعِهِ ونُبُوَّتِهِ حَقٌّ، فَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلى أمْرِ القِبْلَةِ وغَيْرِها، ويَحْتَمِلُ أنْ يَرْجِعَ إلى هَذا التَّكْلِيفِ الخاصِّ بِالقِبْلَةِ، وأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ. وهَذا الِاحْتِمالُ الأخِيرُ أقْرَبُ؛ لِأنَّهُ ألْيَقُ بِالمَساقِ. ثُمَّ ذَكَرَ مِن وُجُوهِ عِلْمِهِمْ لِذَلِكَ: أنَّهم كانُوا يَعْلَمُونَ أنَّ الكَعْبَةَ هي البَيْتُ العَتِيقُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى قِبْلَةً لِإبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ عَلَيْهِما السَّلامُ. وأنَّهم كانُوا يَعْلَمُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ لِما ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ المُعْجِزاتِ. ومَتى عَلِمُوا نُبُوَّتَهُ فَقَدْ عَلِمُوا لا مَحالَةَ أنَّ كُلَّ ما أتى بِهِ فَهو حَقٌّ. فَكانَ هَذا التَّحْوِيلُ حَقًّا. قُلْتُ: وثَمَّ وجْهٌ آخَرُ أدَقُّ مِمّا ذَكَرَهُ الفَخْرُ في عِلْمِهِمْ حَقِّيَّةَ ذَلِكَ التَّحْوِيلِ وأنَّهُ مِن أعْلامِ نُبُوَّتِهِ ﷺ . وبَيانُهُ أنَّ أمْرَهُ تَعالى لِلنَّبِيِّ ﷺ، ولِكافَّةِ مَنِ اتَّبَعَهُ، بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، مِن جُمْلَةِ الِاسْتِعْلانِ في فارّانِ المَذْكُورِ في التَّوْراةِ إشارَةً لِخاتَمِ النَّبِيِّينَ وبِشارَةً بِهِ. فَقَدْ جاءَ في الإصْحاحِ الثّالِثِ والثَّلاثِينَ مِن سِفْرِ التَّثْنِيَةِ – (ويُقالُ الِاسْتِثْناءُ) هَكَذا: وهَذِهِ هي البَرَكَةُ الَّتِي بارَكَ بِها مُوسى رَجُلُ اللَّهِ بَنِي إسْرائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَقالَ: جاءَ الرَّبُّ مِن سَيْناءَ وأشْرَقَ لَهم مِن سَعِيرٍ، وتَلَأْلَأ مِن جَبَلِ فارانَ. وهَذِهِ البِشارَةُ تُنَبِّهُ عَلى مُوسى وعِيسى ومُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ التَّوْراةَ عَلى مُوسى في طُورِ سَيْناءَ، والإنْجِيلَ عَلى عِيسى في جَبَلِ سَعِيرٍ. لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَسْكُنُ أرْضَ الخَلِيلِ مِن سَعِيرٍ بِقَرْيَةٍ تُدْعى النّاصِرَةَ. وتَلَأْلُؤُهُ مِن جَبَلِ فارانَ عِبارَةٌ عَنْ إنْزالِهِ القُرْآنَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ في جَبَلِ فارانَ. وفارانُ هي مَكَّةُ. لا يُخالِفُنا في ذَلِكَ أهْلُ الكِتابِ. فَفي الإصْحاحِ الحادِي والعِشْرِينَ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ في حالِ إسْماعِيلَ (p-٣٠٢)عَلَيْهِ السَّلامُ هَكَذا: وكانَ اللَّهُ مَعَ الغُلامِ فَكَبَّرَ. وسَكَنَ في البَرِّيَّةِ وكانَ يَنْمُو رامِيَ قَوْسٍ، وسَكَنَ في بَرِّيَّةِ فارانَ. ولا شَكَّ أنَّ إسْماعِيلَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ سُكْناهُ في مَكَّةَ، وفِيها ماتَ وبِها دُفِنَ. وقالَ ابْنُ الأثِيرِ: وفي الحَدِيثِ ذِكْرُ جَبَلِ فارانَ اسْمٌ لِجِبالِ مَكَّةَ بِالعِبْرانِيِّ. لَهُ ذِكْرٌ في أعْلامِ النُّبُوَّةِ، وألِفُهُ الأُولى لَيْسَتْ بِهَمْزَةٍ ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ قُرِئَ بِالياءِ والتّاءِ. فِيهِ إنْباءٌ بِتَمادِيهِمْ عَلى سُوءِ أحْوالِهِمْ. ولَمّا بَيَّنَ تَعالى أنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ هَذِهِ القِبْلَةَ حَقٌّ، أعْلَمَ أنَّ صِفَتَهم لا تَتَغَيَّرُ في الِاسْتِمْرارِ عَلى المُعانَدَةِ بِقَوْلِهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب