الباحث القرآني

(p-٣٢٨)ولَمّا كانَ النِّكاحُ قَدْ يَكُونُ عَنْهُ وِلادَةٌ فَيَكُونُ عَنْها رِضاعٌ وقَدْ تَكُونُ المُرْضِعَةُ زَوْجَةً وقَدْ تَكُونُ أجْنَبِيَّةً والزَّوْجَةُ قَدْ تَكُونُ مُتَّصِلَةً وقَدْ تَكُونُ مُنْفَصِلَةً وكانَ الفِراقُ بِالطَّلاقِ أكْثَرَ مِنهُ بِالمَوْتِ وسَّطَهُ بَيْنَ عِدَّتِي الطَّلاقِ والوَفاةِ لِإدْلائِهِ إلى كُلٍّ بِسَبَبٍ واهْتِمامًا بِشَأْنِهِ وحَثًّا عَلى الشَّفَقَةِ عَلى الصَّغِيرِ وشِدَّةِ العِنايَةِ بِأمْرِهِ لِأنَّ الأُمَّ رُبَّما كانَتْ مُطَلَّقَةً فاسْتَهانَتْ بِالوَلَدِ إيذاءً لِلزَّوْجِ إنْ كانَ الطَّلاقُ عَنْ شِقاقٍ أوْ رَغْبَةٍ في زَوْجِ آخَرَ، وكَذا الأبُ فَقالَ تَعالى عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ مَثَلًا: فالنِّساءُ لَهُنَّ أحْكامٌ كَثِيرَةٌ وقَدْ عَلِمْتُمْ مِنها هُنا أُصُولًا تُفْهَمُ مَن بَصَّرَهُ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الفُرُوعِ، والمُطَلَّقاتُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكم وبَيْنَهُنَّ عَلَقَةٌ بِوِلادَةٍ أوْ نَحْوِها فَلا سَبِيلَ لَكم عَلَيْهِنَّ. وقالَ الحَرالِيُّ: لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى أحْكامَ الِاشْتِجارِ بَيْنَ الأزْواجِ الَّتِي عَظُمَ مُتَنَزَّلُ الكِتابِ لِأجْلِها وكانَ مِن حُكْمِ تَواشُجِ الأزْواجِ وُقُوعُ الوَلَدِ وأحْكامُ الرِّضاعِ (p-٣٢٩)نَظَمَ بِهِ عَطْفًا أيْضًا عَلى مَعانِي ما يَتَجاوَزُهُ الإفْصاحُ ويَتَضَمَّنُهُ الإفْهامُ لِما قَدْ عُلِمَ مِن أنَّ إفْهامَ القُرْآنِ أضْعافُ إفْصاحِهِ بِما لا يَكادُ يَنْتَهِي عَدُّهُ فَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِيهِ الخِطابُ عَطْفًا أيْ عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ لِيَكُونَ الإفْصاحُ أبَدًا مُشْعِرًا بِإفْهامٍ يَنالُهُ مَن وهَبَ رَوْحَ العَقْلِ مِنَ الفَهْمِ كَما يَنالُ فِقْهَ الإفْصاحِ مَن وهَبَهُ اللَّهُ نَفْسَ العَقْلِ الَّذِي هو العِلْمُ انْتَهى - فَقالَ تَعالى: ﴿والوالِداتُ﴾ أيْ مِنَ المُطَلَّقاتِ وغَيْرِهِنَّ، وأمْرُهُنَّ بِالإرْضاعِ في صِيغَةِ الخَبَرِ الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ يَكُونَ قَدْ فُعِلَ وتَمَّ تَنْبِيهًا عَلى تَأْكِيدِهِ وإنْ كانَ النَّدْبُ بِما أفْهَمَهُ إيجابُ الأُجْرَةِ لَهُنَّ هُنا وفي سُورَةِ الطَّلاقِ وما يَأْتِي مِنَ الِاسْتِرْضاعِ فَقالَ: ﴿يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: جَعَلَ تَعالى (p-٣٣٠)الأُمَّ أرْضَ النَّسْلِ الَّذِي يَغْتَذِي مِن غِذائِها في البَطْنِ دَمًا كَما يَغْتَذِي أعْضاؤُها مِن دَمِها فَكانَ لِذَلِكَ لَبَنُها أوْلى بِوَلَدِها مِن غَيْرِها لِيَكُونَ مُغَذّاهُ ولِيدًا مِن مُغَذّاهُ جَنِينًا فَكانَ الأحَقُّ أنْ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ، وذَكَرَهُ بِالأوْلادِ لِيَعُمَّ الذُّكُورَ والإناثِ؛ وقالَ: الرَّضاعَةُ التَّغْذِيَةُ بِما يُذْهِبُ الضَّراعَةَ وهو الضَّعْفُ والنُّحُولُ بِالرِّزْقِ الجامِعِ الَّذِي هو طَعامٌ وشَرابٌ وهو اللَّبَنُ الَّذِي مَكانُهُ الثَّدْيُ مِنَ المَرْأةِ والضَّرْعُ مِن ذاتِ الظِّلْفِ - انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ الرِّضاعَ ذَكَرَ مُدَّتَهُ ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مُجَرَّدَ تَحَوُّلِ الزَّمانِ بِفُصُولِهِ الأرْبَعَةِ ورُجُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ قَطْعِ البُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ إلى البُرْجِ الَّذِي كانَتْ فِيهِ عِنْدَ الوِلادَةِ ولَيْسَ المُرادُ الإشْعارَ بِمَدْحِ الزَّمانِ ولا ذَمِّهِ ولا وصْفِهِ بِضِيقٍ ولا سِعَةٍ عَبَّرَ بِما يَدُلُّ عَلى مُطْلَقِ التَّحَوُّلِ فَقالَ: ﴿حَوْلَيْنِ﴾ والحَوْلُ تَمامُ القُوَّةِ في الشَّيْءِ الَّذِي يَنْتَهِي لِدَوْرَةِ (p-٣٣١)الشَّمْسِ وهو العامُ الَّذِي يَجْمَعُ كَمالَ النَّباتِ الَّذِي يُتِمُّ فِيهِ قُواهُ - قالَهُ الحَرالِيُّ. وكَأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِمّا لَهُ قُوَّةُ التَّحْوِيلِ. ولَمّا كانَ الشَّيْءُ قَدْ يُطْلَقُ عَلى مُعْظَمِهِ مَجازًا فَيَصِحُّ أنْ يُرادَ حَوْلٌ وبَعْضُ الثّانِي بَيَّنَ أنَّ المُرادَ الحَقِيقَةُ قَطْعًا لِتَنازُعِ الزَّوْجَيْنِ في مُدَّةِ الرِّضاعِ وإعْلامًا بِالوَقْتِ المُقَيِّدِ لِلتَّحْرِيمِ كَما قالَ ﷺ «إنَّما الرَّضاعَةُ مِنَ المَجاعَةِ» بِقَوْلِهِ: ﴿كامِلَيْنِ﴾ ولَمّا كانَ ذَلِكَ رُبَّما أفْهَمَ وُجُوبَ الكَمالِ نَفاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِمَن﴾ أيْ هَذا الحُكْمُ لِمَن ﴿أرادَ أنْ يُتِمَّ (p-٣٢٩)الرَّضاعَةَ﴾ فَأفْهَمَ أنَّهُ يَجُوزُ الفِطامُ لِلْمَصْلَحَةِ قَبْلَ ذَلِكَ وأنَّهُ لا رِضاعَ بَعْدَ التَّمامِ. وقالَ الحَرالِيُّ: وهو أيِ الَّذِي يُكْتَفى بِهِ دُونَ التَّمامِ هو ما جَمَعَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥] فَإذا كانَ الحَمْلُ تِسْعًا كانَ الرِّضاعُ أحَدًا وعِشْرِينَ شَهْرًا، وإذا كانَ حَوْلَيْنِ كانَ المَجْمُوعُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ شَهْرًا فَيَكُونُ ثَلاثَةَ آحادٍ وثَلاثَةَ عُقُودٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَمامَ الحَمْلِ والرِّضاعِ لِيَجْتَمِعَ في الثَّلاثِينَ تَمامُ الرِّضاعِ وكِفايَةُ الحَمْلِ - انْتَهى. ولَمّا أُوهِمَ أنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَجّانًا نَفاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَلى﴾ ولَمّا كانَتِ الوالِدِيَّةُ لا تَتَحَقَّقُ في الرَّجُلِ كَما تَتَحَقَّقُ في المَرْأةِ وكانَ النَّسَبُ يُكْتَفى فِيهِ بِالفِراشِ وكانَ لِلرَّجُلِ دُونَ المَرْأةِ فَقالَ: ﴿المَوْلُودِ لَهُ﴾ أيْ عَلى فِراشِهِ ﴿رِزْقُهُنَّ﴾ أيِ المُرْضِعاتُ لِأجْلِ الرِّضاعِ سَواءٌ كُنَّ (p-٣٣٣)مُتَّصِلاتٍ أوْ مُنْفَصِلاتٍ فَلَوْ نَشَزَتِ المُتَّصِلَةُ لَمْ يَسْقُطْ وإنْ سَقَطَ ما يَخُصُّ الزَّوْجِيَّةَ. فَلَمّا كانَ اشْتِغالُها بِالرِّضاعِ عَنْ كُلِّ ما يُرِيدُهُ الزَّوْجُ مِنَ الِاسْتِمْتاعِ رُبَّما أوْهَمَ سُقُوطَ الكُسْوَةِ ذَكَرَها فَقالَ: ﴿وكِسْوَتُهُنَّ﴾ أُجْرَةٌ لَهُنَّ. قالَ الحَرالِيُّ: الكُسْوَةُ رِياشُ الآدَمِيِّ الَّذِي يَسْتُرُ ما يَنْبَغِي سَتْرُهُ مِنَ الذَّكَرِ والأُنْثى وقالَ: فَأشْعَرَتْ إضافَةُ الرِّزْقِ والكُسْوَةِ إلَيْهِنَّ بِاعْتِبارِ حالِ المَرْأةِ فِيهِ وعادَتِها بِالسُّنَّةِ لا بِالبِدْعَةِ - انْتَهى. ولَمّا كانَ الحالُ مُخْتِلَفًا في النَّفَقَةِ والكُسْوَةِ بِاخْتِلافِ أحْوالِ الرِّجالِ والنِّساءِ قالَ: ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ - مِن حالِ كُلٍّ مِنهُما. قالَ الحَرالِيُّ: فَأكَّدَ ما أفْهَمَتْهُ الإضافَةُ وصَرَّحَ الخِطابُ بِإجْمالِهِ - انْتَهى. ثُمَّ عَلَّلَهُ أوْ فَسَّرَهُ بِالحَنِيفِيَّةِ الَّتِي مَنَّ عَلَيْنا سُبْحانَهُ وتَعالى بِها فَقالَ: ﴿لا تُكَلَّفُ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: مِنَ التَّكْلِيفِ وهو أنْ يَحْمِلَ المَرْءَ عَلى أنْ يُكَلَّفَ بِالأمْرِ كُلْفَةً بِالأشْياءِ الَّتِي يَدْعُوهُ إلَيْها طَبْعُهُ ﴿نَفْسٌ﴾ أيْ لا يَقَعُ تَكْلِيفُها وإنْ كانَ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ ﴿إلا وُسْعَها﴾ أيْ ما تَسَعُهُ وتُطِيقُهُ لا كَما فَعَلَ سُبْحانَهُ بِمَن قَبْلُ، (p-٣٣٤)كانَ أحَدُهم يَقْرِضُ ما أصابَ البَوْلَ مِن جَلْدِهِ بِالمِقْراضِ والوُسْعُ قالَ الحَرالِيُّ: ما يَتَأتّى بِمِنَّةٍ وكَمالِ قُوَّةٍ. ولَمّا كانَتْ نَتِيجَةُ ذَلِكَ حُصُولَ النَّفْعِ ودَفْعَ الضُّرِّ قالَ: ﴿لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها﴾ أيْ لا تَضُرُّ المُنْفِقَ بِهِ ولا يَضُرُّها، وضَمَّ الرّاءَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ عَلى الخَيْرِ وهو آكَدُ، وفَتَحَ الباقُونَ عَلى النَّهْيِ، ويَحْتِمَلُ فِيها البِناءُ لِلْفاعِلِ والمَفْعُولِ ﴿ولا مَوْلُودٌ لَهُ (p-٣٣٢)بِوَلَدِهِ﴾ أيِ المَوْلُودُ عَلى فِراشِهِ لَيْسَ لَهُ أنْ يَضُرَّ الوالِدَةَ بِهِ ولَيْسَ لَها أنْ تَضُرَّهُ بِهِ ولا أنْ تَضُرَّ الوَلَدَ بِتَفْرِيطٍ ونَحْوِهِ حَمْلًا لِلْمُفاعَلَةِ عَلى الفِعْلِ المُجَرَّدِ، وكُلُّ مَن أسْنَدَ سُبْحانَهُ وتَعالى المُضارَّةَ إلَيْهِ أضافَ إلَيْهِ الوَلَدَ اسْتِعْطافًا لَهُ عَلَيْهِ وتَحْرِيكًا لِطَبْعِهِ إلى مَزِيدِ نَفْعِهِ. قالَ الحَرالِيُّ: فَفِيهِ إيذانٌ بِأنْ لا يَمْنَعَ الوالِدُ الأُمَّ أنْ تُرْضِعَ ولَدَها فَيَضُرَّها في فَقْدِها لَهُ ولا يُسِيءَ مُعامَلَتَها في رِزْقِها وكَسَوْتِها بِسَبَبِ ولَدِها، فَكَما لَمْ يَصْلُحْ أنْ يُمْسِكَها زَوْجَةً إلّا بِمَعْرُوفٍ لَمْ يَصْلُحْ أنْ يَسْتَرْضِعَها إلّا بِالمَعْرُوفِ ولا يَتِمُّ المَعْرُوفُ إلّا بِالبَراءَةِ مِنَ المُضارَّةِ. وفِي إشْعارِهِ تَحْذِيرُ الوالِداتِ مِن تَرْكِ أوْلادِهِنَّ لِقَصْدِ الإضْرارِ مَعَ مَيْلِ الطَّبْعِ إلى القِيامِ بِهِمْ وكَذَلِكَ في إشْعارِهِ أنْ لا تَضُرَّهُ في سَرَفِ رِزْقٍ ولا كُسْوَةٍ - انْتَهى. ولَمّا تَمَّ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ وما تَبِعَهُ مِن تَفْسِيرِهِ وكانَ ذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ وُجُودِ الوالِدِ إذْ ذاكَ بَيَّنَ الحالَ بَعْدَهُ فَقالَ: ﴿وعَلى الوارِثِ﴾ أيْ (p-٣٣٦)وارِثُ الوالِدِ وهو الرَّضِيعُ ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ أيِ المَأْمُورُ بِهِ مِنَ المَعْرُوفِ عَلى ما فَسَّرَهُ بِهِ في مالِهِ إنْ ماتَ والِدُهُ والوارِثُ. قالَ الحَرالِيُّ: المُتَلَقّى مِنَ الأحْياءِ عَنِ المَوْتى ما كانَ لَهم مِن حَقٍّ أوْ مالٍ - انْتَهى. وقِيلَ في الوارِثِ غَيْرُ ذَلِكَ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الوالِداتِ والوَلَدِ والمَوْلُودِ لَهُ فاحْتَمَلَ أنْ يُضافَ الوارِثُ إلى كُلٍّ مِنهم. ولَمّا بَيَّنَ أمَدَ الرِّضاعِ وأمْرَ النَّفَقَةِ صَرَّحَ بِما أفْهَمَهُ الكَلامُ مِن جَوازِ الفِطامِ قَبْلَ التَّمامِ فَقالَ مُسَبِّبًا عَمّا أفْهَمَتْهُ العِبارَةُ: ﴿فَإنْ أرادا﴾ أيِ الوالِدانِ ﴿فِصالا﴾ أيْ فِطامًا قَبْلَ تَمامِ الحَوْلَيْنِ لِلصَّغِيرِ عَنِ الرِّضاعِ. قالَ الحَرالِيُّ: وهو مِنَ الفَصْلِ وهو عَوْدُ المُتَواصِلِينَ إلى بَيْنٍ سابِقٍ - انْتَهى. وهو أعَمُّ مِنَ الفَطْمِ فَلِذا عُبِّرَ بِهِ. ولَمّا بَيَّنَ ذَلِكَ نَبَّهَ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا مَعَ المَصْلَحَةِ فَقالَ: ﴿عَنْ تَراضٍ مِنهُما﴾ (p-٣٣٧)ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ الأمْرَ خَطَرٌ يَحْتاجُ إلى تَمامِ النَّظَرِ بِقَوْلِهِ: ﴿وتَشاوُرٍ﴾ أيْ إدارَةٍ لِلْكَلامِ في ذَلِكَ لِيُسْتَخْرَجَ الرَّأْيُ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعْمَلَ بِهِ. قالَ الحَرالِيُّ: فَأفْصَحَ بِإشْعارِ ما في قَوْلِهِ: ﴿أنْ يُتِمَّ﴾ وأنَّ الكِفايَةَ قَدْ تَقَعُ بِدُونِ الحَوْلَيْنِ فَجَعْلُ ذَلِكَ لا يَكُونُ بَرْيًا مِنَ المُضارَّةِ إلّا بِاجْتِماعِ إرادَتِهِما وتَراضِيهِما وتَشاوُرِهِما لِمَن لَهُ تَبْصِرَةٌ لِئَلّا تَجْتَمِعا عَلى نَقْصِ الرَّأْيِ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «ما خابَ مَنِ اسْتَخارَ ولا نَدَمَ مَنِ اسْتَشارَ» والمَشُورَةُ أنْ تُسْتَخْلَصَ حَلاوَةُ الرَّأْيِ وخالِصَهُ مِن خَلايا الصُّدُورِ كَما يَشُورُ العَسَلَ جانِيهِ - انْتَهى. ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما﴾ فِيما نَقَصاهُ عَنِ (p-٣٣٨)الحَوْلَيْنِ لِأنَّهُما غَيْرُ مُتَّهَمَيْنِ في أمْرِهِ واجْتِماعُ رَأْيِهِما فِيهِ ورَأْيِ مَن يَسْتَشِيرانِهِ قَلَّ ما يُخْطِئُ. قالَ الحَرالِيُّ: فِيهِ إشْعارٌ بِأنَّها ثَلاثُ رُتَبٍ: رُتْبَةُ تَمامٍ فِيها الخَيْرُ والبَرَكَةُ، ورُتْبَةُ كِفايَةٍ فِيها رَفْعُ الجُناحِ، وحالَةٌ مُضارَّةٌ فِيها الجُناحُ - انْتَهى. وقَدْ أفْهَمَ تَمامُ هَذِهِ العِنايَةِ أنَّ الإنْسانَ كُلَّما كانَ أضْعَفَ كانَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ لَهُ أكْثَرَ وعِنايَتُهُ بِهِ أشَدَّ. ولَمّا بَيَّنَ رِضاعَ الوالِداتِ وقَدَّمَهُ دَلِيلًا عَلى أوْلَوِيَّتِهِ أتْبَعُهُ ما يَدُلُّ عَلى جَوازِ غَيْرِهِ فَقالَ: ﴿وإنْ أرَدْتُمْ﴾ أيِ أيُّها الرِّجالُ ﴿أنْ تَسْتَرْضِعُوا﴾ أيْ أنْ تَطْلُبُوا مَن يُرْضِعُ ﴿أوْلادَكُمْ﴾ مِن غَيْرِ الأُمَّهاتِ ﴿فَلا جُناحَ﴾ أيْ مَيْلٌ بِإثْمٍ ﴿عَلَيْكم إذا سَلَّمْتُمْ﴾ أيْ إلى المَراضِعِ ﴿ما آتَيْتُمْ﴾ أيْ ما جَعَلْتُمْ لَهُنَّ مِنَ العَطاءِ ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾ مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ أنْفُسُكم مِن غَيْرِ تُشاحِحٍ ولا تَعاسُرٍ لِأنَّ ذَلِكَ أقْطَعُ لِمَعاذِيرِ لِمَراضِعَ (p-٣٣٩)فَهُوَ أجْدَرُ بِالِاجْتِهادِ في النَّصِيحَةِ وعَدَمِ التَّفْرِيطِ في حَقِّ الصَّغِيرِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فافْعَلُوا جَمِيعَ ما أمَرْتُكم بِهِ وانْتَهُوا عَنْ جَمِيعِ ما نَهَيْتُكم عَنْهُ فَقَدْ جَمَعْتُ لَكم مَصالِحَ الدّارَيْنِ في هَذا الكِتابِ الَّذِي هو هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ القُدْرَةُ الشّامِلَةُ والعِلْمُ الكامِلُ ثُمَّ خَوَّفَهم سَطَواتِهِ بِقَوْلِهِ مُنَبِّهًا عَلى عِظَمِ هَذِهِ الأحْكامِ ﴿واعْلَمُوا﴾ وعَلَّقَ الأمْرَ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ الجامِعِ لِجَمِيعِ الأسْماءِ الحُسْنى فَقالَ: ﴿أنَّ اللَّهَ﴾ أيِ المُحِيطَ بِصِفاتِ الكَمالِ تَعْظِيمًا لِلْمَقامِ ولِذَلِكَ أكَّدَ عِلْمَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هُنا عَلى نَحْوِ ما مَضى في ﴿وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٥] بِتَقْدِيمِ قَوْلِهِ لِلْإعْلامِ بِمَزِيدِ الِاهْتِمامِ ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ أيْ مِن سِرٍّ وعَلَنٍ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الأحْكامُ أدَقَّ مِمّا في الآيَةِ الَّتِي بَعْدَها وكَثِيرٌ (p-٣٤٠)مِنها مَنُوطٌ بِأفْعالِ القُلُوبِ خَتَمَها بِما يَدُلُّ عَلى البَصَرِ والعِلْمِ فَقالَ: ﴿بَصِيرٌ﴾ أيْ بالِغُ العِلْمِ بِهِ فاعْمَلُوا بِحَسَبِ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب