﴿۞ وَٱلۡوَ ٰلِدَ ٰتُ یُرۡضِعۡنَ أَوۡلَـٰدَهُنَّ حَوۡلَیۡنِ كَامِلَیۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن یُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ لَا تُكَلَّفُ نَفۡسٌ إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَا تُضَاۤرَّ وَ ٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودࣱ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ وَعَلَى ٱلۡوَارِثِ مِثۡلُ ذَ ٰلِكَۗ فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضࣲ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرࣲ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَاۗ وَإِنۡ أَرَدتُّمۡ أَن تَسۡتَرۡضِعُوۤا۟ أَوۡلَـٰدَكُمۡ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا سَلَّمۡتُم مَّاۤ ءَاتَیۡتُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ﴾ [البقرة ٢٣٣]
(...) جملة
﴿يُرْضِعْنَ﴾ خبره، فالجملة خبرية لكنها بمعنى الإنشائية، أي بمعنى الأمر، قال أهل العلم: وإنما تأتي الجملة الخبرية بمعنى الأمر مبالغةً في تحققها وامتثالها، يعني كأن الأمر مفروغ منه ولا بد منه.
وقوله:
﴿الْوَالِدَاتُ﴾ اسم فاعل يعني: اللاتي وَلَدن،
﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُن﴾ (أولادهن) يشمل الذكور والإناث؛ لأننا ذكرنا فيما سبق أن الولد في اللغة العربية يطلق على الذكر والأنثى، ودليل ذلك قوله تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء ١١].
وقوله:
﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، الحول بمعنى السنة وهي اثنا عشر شهرًا هلاليًّا، فإذا قيل:
﴿حَوْلَيْنِ﴾، فالمعنى سنتان أربعة وعشرون شهرًا، ثم أكد الله هذين الحولين بقوله:
﴿كَامِلَيْنِ﴾، فالصفة هنا بالكمال لئلا يتوهم واهم أن المراد بالحولين تمامهما أو ما قارب التمام، فقال:
﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، ونظير ذلك قوله تعالى:
﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة﴾ [البقرة ١٩٦]، فأكدها بـ(كاملة) مع أنها عشرة لئلا يتوهم واهم أنه لما انفصلت الثلاثة عن السبعة لم تكن عشرة، فبيّن الله أنها عشرة كاملة. وقوله:
﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ الجارّ والمجرور هنا لا بد له من متعلَّق كسائر المواضع كما قيل:
لَا بُدَّ لِلْجَــــــــــــــــارِ مِنَالتَّعَـــــــــلُّقِ ∗∗∗ بِـــــــــــــــــــــــفِعْلٍ اوْمَعْنَـــــــــــــــاهُ نَحْوِ مُرْتَقِ ؎وَاسْتَثْنِ كُلَّ زَائِدٍ لَهُ عَمَـــــــــــــــــلْ ∗∗∗ كَالْبَا وَمِنْ وَالْكَافِ أَيْضًا وَلَعَـــــــلْفقوله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ﴾ هذا الجارّ والمجرور متعلق بماذا؟ قيل: إنه متعلق بقوله: ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُن﴾، فيكون المراد بـ﴿مَنْ﴾ الأزواج؛ لأنهم هم الذين يُرْضَع لهم، كما قال الله تعالى في سورة الطلاق: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق ٦]، وعلى هذا فالجار والمجرور متعلق بالفعل ﴿يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُن﴾، يعني يرضعن الأولاد للذي أراد أن يتم الرضاعة، ممن؟ من الأزواج، وقيل: إن الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: ذلك، أي: ذلك الحكم وهو إرضاع الوالدة ولدَها حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، فيكون المراد بـ﴿مَنْ﴾ الزوجات المرضعات، أو تكون شاملة لهن وللمولود له بخلافه على التقدير الأول.
وقوله:
﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ أي أن يأتي بها على وجه التمام؛ فإنها لا تنقص عن شهرين، وهل تزيد؟
* الطلبة: حولين.
* الشيخ: نعم عن حولين، وهل تزيد؟ يُنظر في حال الطفل إن بقي محتاجًا إلى اللبن زيد بقدره، وإن لم يكن محتاجًا فقد انتهى، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ هي بالنصب على أن (أنْ) مصدرية، وقرئ شاذًّا ﴿أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ﴾ على أن (أنْ) مخففة من الثقيلة، قال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، وقوله: ﴿الرَّضَاعَةَ﴾ هي مصدر أو اسم مصدر بمعنى الإرضاع الذي يحتاجه الطفل، قال: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، الإعراب أظنه واضح، وهو أن ﴿عَلَى الْمَوْلُودِ﴾ جارّ ومجرور خبر مقدم، و﴿رِزْقُهُنَّ﴾ مبتدأ مؤخر، وأما ﴿لَهُ﴾ فهي متعلقة بالمولود، ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ مَن المولود له؟ قد يكون الزوج، وقد يكون السيد إذا كانت الوالدة أمة، كذا؟ وقد يكون غير ذلك لو فُرِض، لكن ما يتصور إلا بالزوج أو السيد، وقوله: ﴿الْمَوْلُودِ لَهُ﴾، ولم يقل: وعلى الوالد، قال بعضهم: لفائدتين، إحداهما لفظية والثانية معنوية، أما الفائدة اللفظية فهي التفنن في العبارة، والدة ومولود له، وأما الفائدة المعنوية فلأن الوالد موهوب له، فالولد هبة لوالده، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»(١)، فكأنه موهوب له هذا الولد، وقال زكريا: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم ٥]، فلهذا عبر بقوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾، ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ الرزق بمعنى ما يرتزق به الإنسان من طعام وغيره، وقوله: ﴿كِسْوَتُهُنَّ﴾ ما يكسو به الإنسان بدنه، وقد مر علينا أن الكسوة نوعان: كسوة ضرورية لا بد منها وكسوة كمالية ذُكِرَا في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا﴾ [الأعراف ٢٦]، فالريش لباس الجمال والزينة، والمواري للسوءة هو اللباس الضروري، وبيّنّا أيضًا فيما سبق الحكمة في أن الله تعالى جعل للإنسان كسوة خارجية منه غير متصلة به ككسوة الحيوان مثلًا، ما هي؟ أن يشعر الإنسان بأنه عارٍ إلا أن يفعل ما يكسو به عورته، وحينئذ ينتقل من العورة الحسية إلى العورة المعنوية، ومن اللباس الحسي إلى اللباس المعنوي، كما قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف ٢٦]. ﴿وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾،
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق بماذا؟ بـ(رزق)، يعني أن يرزقهن وأن يكسوهن بالمعروف، أي: بما تعارفه الناس بينهم، وبما أقره الشرع، فالمعروف من العبادات ما أقره الشرع، والمعروف من العادات ما أقره أهل العرف، وهنا إطعام الزوجة وكسوتها من العبادات أو من العادات، أو منهما؟
* الطلبة: الاثنان.
* الشيخ: منهما جميعًا، ولهذا أوجب الله على الإنسان أن يرزق زوجته وأن يكسوها، فهو من العبادات لكنه حق لآدمي ليس حقًّا لله، وهو من العادات أيضًا لجريان العادة به، إذن ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: بما تعارفه الناس بينهم، وبما عرفه الشرع فأقره، وقوله هنا: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾ يشمل الزوج المفارق والمصاحب، أي أنه يلزمه أن ينفق على المرضعة سواء كانت في حباله أم لم تكن، ولكن إن كانت في حباله فإنه يسمى نفقة، وإن كانت في غير حباله يسمى أجرة، كما قال تعالى في المطلقات: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق ٦]، فإن قلت: الآية هنا تشمل كما ذكرنا المطلقة وغير المطلقة، وطعام غير المطلقة وكسوتها واجب بكل حال، أفلا يمكن أن تقولوا: إننا نوجب عليه مع النفقة الواجبة بالزوجية أجرة للإرضاع؟ قلنا: القول الراجح أننا لا نوجب عليه ذلك، لا نوجب عليه أجرة للإرضاع، فكأن الله لما قال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ كأن سائلًا سأل: إذن ما الذي على المولود له؟ فبيّن أن على المولود له رزقهن وكسوتهن، وحينئذ بيّن الله عز وجل أن قيام الزوج أو قيام المولود له بالرزق والكسوة في مقابلة إرضاع المرأة ولدها، ثم إنه قد تكون المرأة مع زوجها ولا يجب الإنفاق عليها، متى؟
* طالب: إذا نشزت.
* الشيخ: إذا نشزت، وفي هذه الحال يجب عليه أن ينفق عليها مقابل الإرضاع. ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾،
﴿تُكَلَّفُ﴾ التكليف معناه إلزام ما فيه مشقة، ولهذا إذا حملت شيئًا ثقيلًا قلت: هذا يكلفني، أو هذا كلفني، فالتكليف في اللغة إلزام ما فيه مشقة، يعني لا يلزم الله عز وجل نفسًا إلا وسعها أي طاقتها، وهذا شامل فيما يجب لله وفيما يجب بأمر الله لعباد الله؛ فإنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والتكليف هنا شرعي ولّا قدري؟
* الطلبة: شرعي.
* الشيخ: شرعي؛ فإن الله لا يوجب شرعًا ولا يُلزم شرعًا بشيء لا يستطيعه الإنسان ولا يدخل تحت وسعه، أما قدرًا فإن الله عز وجل قد يكلف الإنسان ما يشق عليه ليبتليه هل يصبر أو لا يصبر، وهذا معلوم. وقوله:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ما الذي نصب
﴿وُسْعَهَا﴾؟ (يكلف) على أنه مفعول ثان لـ(يكلف)، والمفعول الأول (نفسًا)، وهذا النوع من الاستثناء يسمى استثناء مفرغًا؛ لتفريغ العامل للعمل فيما بعد (إلا)،
﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وهذه القاعدة قاعدة عامة في كل شيء، كما قال تعالى:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة ٢٨٦]، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الفوائد ذكر ما يؤخذ من هذه القاعدة الشرعية العامة.
﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ فيها قراءتان:
﴿لَا تُضَارَّ﴾ و
﴿لَا تُضَارُّ﴾ ، فعلى قراءة الفتح
﴿لَا تُضَارَّ﴾ نقول: (لَا) ناهية، و(تُضَارَّ) فعل مضارع منصوب بـ(لا) الناهية وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، صح؟
* الطلبة: خطأ.
* الشيخ: لا؟
* الطلبة: مجزوم.
* الشيخ: عندنا الآن الفعل مفتوح.
* طالب: لا تُضَارّ.
* الشيخ: بالكسر؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: طيب، إذن نقول: (لا) ناهية، والناهية ما تنصب، وليس في اللغة (لا) تنصب المضارع أبدًا، وعلى هذا فنقول: (لا) ناهية، ﴿تُضَارَّ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ(لا) الناهية وعلامة جزمه السكون وحُرِّك بالفتح لالتقاء الساكنين، فإن قلت: لماذا لم يحرك بالكسر؟ لأن التحريك بالكسر هو الغالب في التقاء الساكنين، مثل: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البينة ١]؟ فالجواب: أن الفتح أخف، فلهذا اختير الفتح، أما على قراءة الرفع فإن (لا) نافية، ولهذا ما عملت بالفعل، و﴿تضار﴾ فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة؛ ولكن ماذا تقولون هل ﴿تُضَارَّ﴾ مبني للفاعل؟ أو مبني للمفعول؟ إن قلت: مبني للفاعل خطأ، مبني للمفعول خطأ، يصلح لهما؟ يصلح، مثل (مختار) هل هو اسم فاعل ولّا اسم مفعول؟ يصلح، والذي يعيِّن أحدهما السياق، هنا ﴿لَا تُضَارَّ﴾، إذا قلنا: إن (تضار) مبنية للفاعل صار فك الإدغام هكذا: لا تُضَارِرْ والدةٌ بولدها، كذا؟ لا تُضَارِرْ، أو لا؟ مثل: لا تضارِب، لا تجاهد، لا تقاتل، لا تضارِر، وإذا قلنا: إنها مبنية للمفعول صار فك الإدغام هكذا: لا تضارَر، مثل: لا تضارَب، لا تقاتَل، لا تجاهَد، وما أشبهها، إذن فاللفظ مشترَك بين اسم الفاعل واسم المفعول، وقد ذكرنا فيما سبق من فوائد التفسير أنه إذا كانت الآية صالحة لمعنيين فأكثر لا تناقض بينهما حُمِلَت عليهما، وأن هذا من بلاغة القرآن، فإن تناقضا أُخِذ بالراجح، هنا لا يتناقضان، ولنفسرها على أنه مبني للفاعل: لا تضارِر والدةٌ بولدها، مَن المضار، المضارَر؟ المولود له، يعني لا تضار الوالدة المولودَ له فتحمله ما لا يستطيع بأن تطلب منه أجرة كثيرة لا يستطيعها، أو تمتنع من إرضاع ولدها فتحرج المولود له بطلب المرضعات، هي فيها لبن، لكنها تقول: خلوه يتعب يروح يدوّر المرضعات، هذه مضارة ولّا لا؟ مضارة، والمضارة في الشرع ممنوعة محرمة، إذن (لا تُضَارِر والدةٌ بولدها)، المضارَر هو المولود له، وذكرنا مثالين من المضارة أحدهما: أن تطلب من الأجرة أو النفقة ما لا يطيق، والثاني: أن تمتنع من إرضاعه لتحرج والده، فيها لبن ولكن تقول: أنا أريد أن أضيق على هذا الرجل، فنهى الله عز وجل عن ذلك. أما إذا قلنا، أما إذا فسّرناها على أنها مبنية للمفعول: لا تضارَر والدة، فالنهي هنا منصب على من؟ على المولود له، يعني لا يضارُّ المولودُ له الوالدة، وبماذا يضارها؟ لا يضارها بمنعها من إرضاع ولدها بأن تطلب أن ترضع ولدها فيقول: لا، أنا لا أريد أن ترضعيه، هذه مضارة لها؛ لأن للأم شفقة وحنانًا يتطلبان أن ترضع الولد، كذلك يضارها بولدها بأن يلزمها به وهي لا تتمكن منه، لا تتمكن منه إما بمرض في ثديها أو بنقص اللبن أو ما أشبه ذلك، المهم أن يلزمها بما لا تطيق، هذا من المضارة، ومن المضارة أيضًا أن يماطل بحقها من النفقة أو من الأجرة، فإن ذلك من المضارة.
وقوله:
﴿وَالِدَةٌ﴾ كيف نعربها؟ إن قلنا: إن (تضار) مبني للمفعول فهي؟
* الطلبة: فاعل.
* الشيخ: لا، إن قلنا: إن (تضار) مبني للمفعول فهي نائب فاعل؛ وإذا قلنا: مبني للفاعل، فهي فاعل، طيب، وقوله: ﴿وَالِدَةٌ﴾ نكرة في سياق النهي أو النفي -على القراءتين- تدل على العموم، أي: لا يحل لأي والدة أن تضار بولدها، حتى لو كان بين الزوج وبين هذه الوالدة لو كان بينهما عداوة شخصية فإنه لا يجوز أن يضارها بولدها؛ لأن هذا حق لمن؟ لها ولولدها، فلا يمكن أن يضارها به، ولهذا جاءت (والدة) منكَّرة حتى تعم كل والدة، وهل يدخل في ذلك البهائم؟
* طالب: لا، ما يدخل.
* الشيخ: ما يدخل فيه؟ يعني يجوز للإنسان أن يضار البهيمة بولدها؟
* الطالب: لا.
* الشيخ: إذن ويش هو؟
* طالب: ما يؤخذ من هذه الآية.
* الشيخ: ما يؤخذ من هذه الآية؛ لأن الآية في سياق بني آدم، إنما يؤخذ من طريق آخر، من أحاديث أخرى وهي وجوب الرحمة بالحيوان. قال:
﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، يعني: ولا يضار مولود له بولده، الواو حرف عطف، و(لا) نافية، و(مَوْلُودٌ) معطوف على (والدة)، فكيف تعرب (مولود)؟
* طالب: على الوجهين.
* الشيخ: على الوجهين، لكن إذا أعربت (والدة) فاعل فأعرب هذا نائب فاعل، وإن أعربت (والدة) نائب فاعل فهذا فاعل، وهذا غريب أن يُعطف شيء على شيء يوافقه في الإعراب فقط دون المعنى، ولكن إذا كان يخالفه في المعنى فالأوجه أن يقدَّر الفعل مبنيًّا لما يناسب الإعراب؛ لأن المعروف أن المتعاطفين يشتركان في المعنى الذي دل عليه العامل، فإن كانا يختلفان وجب أن يقدَّر للمعطوف فعل يناسبه، كما في قول الشاعر: عَلفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ∗∗∗ ....................... ما نقول: (ماء باردًا) معطوفة على (تبنًا)؛ لأنه ما يستقيم المعنى، وإنما نقول: وسقيتها، وعلى هذا فلا بد أن نقدر فعلًا بعد (لا) يكون (مولود) معمولًا له.
وقوله:
﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ كيف يضار المولود له بولده؟ سبقت في الصورتين: تضاره المرأة بإحراجه بالإنفاق على ولده، بطلب الإرضاع لولده، أو بزيادة النفقة أو الأجرة، فإن كان هو اللي بيضار فإنه يضار المرأة المولود لها الوالدة بماذا؟ بمنع إرضاعه أو إلزامها بما لا تتحمل، أو مماطلته بحقوقها، هكذا.
* طالب: نقص الأجرة.
* الشيخ: أو نقص الأجرة، هذه من المماطلة، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ قال الله عز وجل: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، ﴿عَلَى الْوَارِثِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم، و﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ مبتدأ مؤخر، وقد مر علينا في أصول الفقه أن (على) من الأدوات التي تدل على الوجوب، فإذا قيل: عليك كذا، يعني واجب عليكِ ﴿عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ يعني: ويجب على الوارث؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ممكن أن نقول هكذا، وأن المثلية هنا عائدة إلى الإرضاع وإلى الرزق والكسوة، وأما عودها إلى الرزق والكسوة فظاهر جدًّا، ولكن قوله: ﴿عَلَى الْوَارِثِ﴾ هل المراد على وارث المولود له؟ أو على وارث الرضيع مثل ذلك؟ في هذا قولان للمفسرين، والراجح أنه عائد على الوارث للرضيع، وتأمل أنه قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ﴾، وهناك قال: ﴿عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾؛ لأن الوارث ليس كالأب موهوب له، بخلاف الوالد فإنه موهوب له. ﴿عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ من الوارث بفرض أو تعصيب أو رحم؟ هذا أيضًا موضع خلاف، فإذا نظرنا إلى ظاهر الآية فإنه شامل لكل من يرث، بفرض أو تعصيب أو رحم، وخصه بعض العلماء بالوارث بالتعصيب قياسًا على تحمل الدية، فقال: إن المطالَبين بالحقوق المالية هم العصبة، فكما أن أصحاب الفروض لا يُحَمَّلون من الدية شيئًا فكذلك لا يُحَمَّلون من الإنفاق شيئًا، وكذلك ذوو الأرحام، ولكن الراجح أنه شامل لكل من يرث بفرض أو تعصيب إلا ما خصه الدليل، فما خصه الدليل وجب أن يخصَّص بمقتضى ذلك الدليل، وإنما استثنينا لئلا يَرِد علينا ما ذهب إليه بعض الناس من وجوب إنفاق الزوجة على زوجها إذا كان فقيرًا، فإن بعض أهل العلم أخذ من عموم الآية وجوب إنفاق الزوجة على زوجها إذا كان فقيرًا، قال: لأن الزوج وارث، ولكن هذا مدفوع بالدليل الخاص وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته قال:
«وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(٢) بدون تفصيل.
وقوله:
﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾،
﴿إِنْ أَرَادَا فِصَالًا﴾، الفصال بمعنى الفطام، والفاعل في (أرادا) يعود على (الوالدة) و(المولود له)، والإرادة هنا ليست إرادة تَشَهٍّ بدليل قوله:
﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾، لا بد من أن يقع هذا الفصال عن تراض منهما، والتراضي تَفَاعُلٌ من (رَضِيَ) فلا بد من أن يكون من الطرفين، لو رضيت الأم دون الأب امتنع الفصال، ولو رضي الأب دون الأم امتنع الفصال، وقوله:
﴿وَتَشَاوُرٍ﴾ التشاور تَفَاعُلٌ أيضًا، وأصله من شَارَ العسل إذا استخلصه، من أين يستخلصه؟ من الشمع، شِرْتُ العسل، يعني: استخلصته مما فيه من الشمع حتى ظهر نقيًّا خالصًا، فهو تفاعل من (شَارَ)، إذن ما معنى التشاور؟ التشاور التراجع في الرأي لاستخلاص الصحيح منه، يتراجع اثنان في الرأي من أجل أن يتوصل إلى الرأي الصحيح الموافق المفيد، فلا بد إذن من أيش؟ من أن يقع التشاور، لو أنهما تراضيا بدون تشاور جاءت الأم قالت لأبيه: ودي نفطم الولد علشان ما يتعبني في حمله وسقيه وما إلى ذلك، قال: طيب توكلي على الله؛ بدون أي تشاور، فهذا لا يجوز، لا بد أن يتشاورا، طيب التشاور ما محله وموضعه؟ هل محله وموضعه مصلحة الأب والأم من حيث حضانة الطفل والتعب عليه؟ أو موضعه مصلحة الطفل؟ مصلحة الطفل، لا بد أن يتشاورا في مصلحته، هل من مصلحته أن يُفطم قبل الحولين أو من المصلحة أن يبقى حتى يتم الحولين، أو من المصلحة أن يبقى بعد الحولين أيضًا، لأنه ربما يكون محتاجًا إلى الرضاعة حتى بعد الحولين، فلا بد من التشاور في هذا الأمر، ويُنظر إلى مصلحة من؟ الطفل.
وقوله:
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾، على من؟ على الأبوين في فصله قبل تمام الحولين، و(جناح) اسم (لا) مبني معها على الفتح، وخبرها الجار والمجرور بـ
﴿عَلَيْهِمَا﴾ و(الجناح) سبق أن معناه: الإثم.
ثم قال تعالى:
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وفي قراءة:
﴿مَا أَتَيْتُمْ﴾ والفرق بين (أتيتم) و(آتيتم) أن (أتيتم) المقصور معناه: جئتم، و(آتيتم) الممدود معناها: أعطيتم، قال الله تعالى:
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء ٢٦]،
﴿آتِ﴾ بالمد، وقال تعالى:
﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس ٣٨]،
﴿فَأْتُوا﴾ ولم يقل: آتوا، يعني المراد: جيئوا، فإذا كان مهموزًا يعني ممدودًا الهمزة ممدوة فيه فهي بمعنى (أعطى)، وإن كانت مقصورة فهي بمعنى (جاء)، هنا يقول عز وجل:
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ الخطاب لمن؟
* طالب: للوالدين.
* الشيخ: كيف للوالدين؟ للمولود له، وحينئذ يجب أن تستشكلوا، كيف قال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ﴾ مع أنه قال في الأول: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾؟ مولود ولم يقل المولود لهم، فيقال: إن (المولود) اسم جنس، وإن شئت فقل: إن (المولود) اسم موصول باعتبار (أل)؛ لأن (أل) إذا كان صلتها صفة صارت اسمًا موصولًا من الأسماء المشتركة التي تصلح للمفرد ولغيره، وحينئذ فإفراد الضمير الراجع إليها باعتبار اللفظ وجمعه إن أردتم باعتبار المعنى، طيب، وملاحظة المعنى واللفظ في هذه الألقاب المشتركة جاء بها القرآن، وقد ذكرنا آية فيها مراعاة اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ، تذكرونها؟
* الطلبة: إي نعم.
* الشيخ: ما هي؟
* طالب: في سورة الطلاق في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ [الطلاق ١١].
* الشيخ: نعم ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، كل الأنهار باعتبار أيش؟
* طالب: اللفظ.
* الشيخ: اللفظ مفرد، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ باعتبار المعنى، ﴿قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ باعتبار اللفظ، فهنا أردتم الخطاب للمولود لهم باعتبار المعنى. ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ أراد الشيء يحتاج إلى مفعول به، فأين مفعول
﴿أَرَدْتُمْ﴾؟
* طالب: (أن) وما دخلت عليه.
* الشيخ: (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به. وقوله: ﴿أَوْلَادَكُمْ﴾ منصوبة، ويش اللي نصبها؟ هل تقول: استرضع ولدَه ولّا استرضع لولده؟
* طالب: الأخير.
* الشيخ: الأخير، إذن أين مفعول (استرضع)؟ لأن (استرضع) تحتاج إلى مفعول؛ لأن معنى (استرضع) أي: طلب الإرضاع، فهنا مطلوب منه الإرضاع لشخص راضع، فـ(أولادَكم) هو الشخص الراضع، وأين المطلوب منه الإرضاع؟ محذوف وتقديره: أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، فنعرب (أولاد) على أنها منصوبة بنزع الخافض، وحُذف الخافض هنا لوضوح المعنى، وقيل: إنها منصوبة بالفعل تعديًا من باب التجوز، وعلى كل حال فإن مفعولها الأول محذوف، التقدير: مراضع لأولادكم، يعني إن أردتم أن تطلبوا من يرضع الأولاد ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُم﴾، أي: فلا إثم عليكم، ولكن هل هذا مطلوب أن الإنسان يطلب مراضع لأولاده؟ أو الأولى أن لا يطلب؟ أو في ذلك تفصيل؟ فيه تفصيل يأتي إن شاء الله ذكره في الفوائد. وقوله:
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ اشترط الله عز وجل أنه لا جناح علينا أن نطلب المراضع بشرط أن نقوم بما التزمنا به، فقوله:
﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾ يعني: أعطيتم
﴿مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، اعلم أن قوله:
﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ﴾ لا بد فيها من تقدير؛ لأن
﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ﴾ قد يقول قائل: الذي نعطيه قد سلمناه، فما الفائدة من قوله:
﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾؟ ولكن المعنى: إذا سلمتم ما فرضتم إيتاءه، ما فرضتم إيتاءه، وإنما عبَّر بالفعل عن إرادته بفرضه كأنه أمرٌ وقع وحصل، يعني كأن هذا الأمر الذي التزمتم به وفرضتموه على أنفسكم من الأجرة للمراضع كأنه أمر قد سُلِّم وأُوتِي، ولهذا قال:
﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾،
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق بـ
﴿سَلَّمْتُمْ﴾، وتسليم الأجرة في المراضع بالمعروف أن يكون أيش؟ على نحو ما شُرِط قدرًا وأجلًا وجنسًا ووصفًا، يكون على قدر ما شُرِط أو على كيفية ما شُرِط أيش قلنا؟ قدرًا وجنسًا ووصفًا وأجلًا، فمثلا إذا قال: ترضعيه بعشرة أصواع من البر الطيب تحل في أول يوم من شهر ربيع الثاني، وجب عليه أن يسلّم عشرة أصواع من البر، وهذا أيش؟ القدر والجنس، الطيب الوصف، في أول يوم من ربيع الثاني الأجل، هذا (...) بقوله:
﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فلا بد أن يكون التسليم بالمعروف الذي يعرفه الشرع ويقره، ويتعارفه الناس فيما بينهم.
* * * (...) ما أكثر ما يأمر الله تعالى بالتقوى في كتابه ويأمر بالتعاون على البر والتقوى، والتقوى كلمة مأخوذة من الوقاية، ويقال: إن أصلها (وَقْوَى)، لكن قُلِبَت الواو تاء فصارت (تقوى)، وهي مصدر، مصدر على وزن (فَعْلَى)، وأصح ما قيل في تفسيرها أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره، يعني ثلاثة أمور: بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره، وإن شئنا لقلنا: إن تصديق أخباره داخلة في فعل أوامره؛ لأن تصديق الأخبار من الواجبات، لكن على سبيل الإيضاح أحسن، هي تقوى الله عز وجل اتخاذ وقاية من عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره، وقوله:
﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ هذه معطوفة على
﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾، والعلم بأن الله بما نعمل بصير من تقوى الله عز وجل، لكن لما كان من تمام التقوى أن تعلم هذا العلم أن الله بما تعمل بصير؛ لأنك متى علمت ذلك خِفت من هذا الذي هو بصير بعملك أن يجدك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك؛ لأنه بصير، وقوله سبحانه وتعالى:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ عام؛ لأن (ما) اسم موصول، وأسماء الموصول من ألفاظ العموم سواء كانت هذه الألفاظ، سواء كانت أسماء الموصول من الألفاظ العامة المشتركة أو من الألفاظ الخاصة، الفرق بين الموصول الخاص والمشترك؛ الخاص هو ما دل على واحد أو اثنين أو جمع، والمشترك ما كان صالحًا للجميع، فـ(الذي) و(التي) و(اللذان) و(اللتان) و(الذين) و(اللائي) هذا خاص، و(مَن) و(ما) و(أل) هذه مشترك عام، فاسم الموصول وإن كان مفردًا فهو للعموم، انظر إلى قوله تعالى:
﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر ٣٣]، قال:
﴿الْمُتَّقُونَ﴾ مع أنه مفرد؛ لأنه صالح للعموم، وخاص موضوع للمفرد في الأصل، لكن الاسم الموصول يفيد العموم، ولهذا أخبر عنه بالجمع فقال:
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، لكن هنا اللي معنا
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ الأفراد المشتركة الدالة وضعًا على أو الصالحة وضعًا للمفرد والمثنى والجمع، وقوله:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يشمل عمل القلوب وعمل الجوارح، فإن كان من أعمال الجوارح تعلق به البصر العلمي والبصر النظري، إن كان من عمل الجوارح تعلق به البصر العلمي والنظري، كيف العلمي والنظري؟ إذا عملنا عملًا فإن الله ينظر إليه ويراه سبحانه وتعالى بعينه، وكذلك يعلمه بعلمه، والعلم بصر، مثال يقال: فلان بصير بكذا، يعني عالم به، يعني ذو خبرة، فما كان من المشهود من الأعمال المشهودة تعلق به البصران العلمي والنظري، وما كان مسموعًا، يعني غير مبصَر، فإنه يتعلق به البصر العلمي، فالأشياء التي نقولها من عملنا، ولّا لا؟ والتي نقولها حتى بالقلوب من العمل، كذا؟ فأعمال القلوب وأقوال اللسان من العمل، وعليه فنقول: إن قوله:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ شامل لعمل الجوارح وعمل القلب وعمل اللسان، عرفتم؟ فعمل القلب هو محبته ورجاؤه وخوفه وتوكله وإنابته، وما أشبه ذلك، وعمل اللسان القول، وعمل الجوارح الفعل، والله تعالى بصير بهذا كله
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، والفائدة من ذكر هذه الجملة بعد قوله:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ الفائدة التحذير من المخالفة، فإنك إن خالفت فإن الله بصير بعملك لا يخفى عليه شيء مما تفعله، وفي قوله:
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ولم يقل: بما توسوسون به، إشارة إلى أن الإنسان لا يؤاخَذ بالوسوسة، لا يؤاخَذ بالوسوسة، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
«إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»(٣)،
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، طيب
﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قُدِّمت على متعلَّقها؛ لأنها متعلقة بماذا؟ بـ(بصير)، فما هي الفائدة من تقديمها؟ نشوف، هناك فائدة لفظية وهي مراعاة الفواصل؛ فواصل الآيات، مع أنه يصح أن تكون الفواصل عند قوله:
﴿بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحجرات ١٨] كما جاء في آية أخرى. ثانيًا: أنه قُدِّم لبيان الاهتمام به، ما يقال: للحصر وأنه لا يعلم إلا ما نعمل، هو يعلم كل شيء، لكن من أجل العناية به، يعني كأن يقال: لو فُرِض أنه لا يعلم إلا ما عملتم لكان ذلك كافيًا في تحذيركم وردعكم عن مخالفته.
يستفاد من هذه الآية الكريمة فوائد عديدة، أولًا: وجوب الإرضاع على الأم؛ لقوله:
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ﴾، ولكن هذا الوجوب ينافيه آخر الآية:
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، وعلى هذا فيتعين الوجوب فيما إذا لم يقبل الصبي ثديًا غير ثدي أمه، أو لم نجد مرضعة سوى أمه، ففي هذه الحال يجب، يجب الإرضاع.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، أو لا؟ لأن الله أمر الأم أن ترضع، هو اللي أمرها، مع أن فطرتها وما جُبِلَت عليه تستلزم الإرضاع، لكن هذا لأن رحمة الله أعظم من رحمة الأم بولدها، وقد مر علينا قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء ١١]، قلنا: إن هذه الآية تدل على أن الله أرحم بأولادنا منا، ولهذا جعلَنا أوصياء عليهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأصل في الرضاع أن لا ينقص عن حولين، أو أن تمام الرضاع في الحولين، أو بعبارة ثانية أن تمام الرضاع ببلوغ الحولين، الدليل قوله: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾.
* ومن فوائدها: توكيد اللفظ إذا كان يمكن أن يدخله الاحتمال؛ لقوله: ﴿كَامِلَيْنِ﴾، ومن ذلك، (...) مثال آخر؟ ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة ١٩٦] لئلا يتوهم واهم في ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ أن تفريق الثلاثة والسبعة يقتضي أن يكون كل عدد منفردًا عن الآخر، ومنها أيضًا قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، حتى لا يقول قائل: إن المراد بالكلام مجازه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي استعطاف المخاطب بما يقتضي عطفه، من أين نأخذها؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: ﴿أَوْلَادَهُنَّ﴾، يعني توافق؛ لأنه ولدها ما هو ولد غيرها، فيكون هذا فيه أيش؟ استعطاف المخاطب بما يقتضي عطفه على الشيء، ولّا لا؟ ومثاله قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ [النجم ١، ٢] ما قال: ما ضل محمد، قال: ﴿صَاحِبُكُمْ﴾ الذي تعرفونه وتعرفون أمانته وصدقه، ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾، وكان يجب عليكم وهو صاحبكم أن تكونوا أول مصدق به، وأول قابل لما يقول، إي نعم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجوز النقص عن الحولين لكن بعد التشاور والتراضي؛ لقوله: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ﴾، ولكن يجب أن نعلم أن الإتمام يطلق على إتمام الناقص وعلى إتمام الكامل، فإتمام الناقص واجب، إذا كان ذلك الناقص واجبًا كقوله ﷺ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»(٤)، هنا ما نقول: إتمام كمال، هذا إتمام واجب، وتارة يكون المقصود إتمام الكمال، مثل ما جاء في حديث: «مَنْ صَلَّى فِي قُبَاءَ فَلَهُ أَجْرُ عُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ»(٥)، هذا المراد تمام أيش؟ تمام الكمال، هنا هل المراد تمام الكمال ولّا تمام الوجوب؟ ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾؟ آخر الآية يدل على أنه تمام الكمال، وإلا لو كان تمام الوجوب لم يكن للإنسان فيه خيار، ولّا لا؟ طيب هذا الظاهر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على الجبرية، من أين نأخذها؟ إثبات الإرادة ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، والجبرية الذين يسلبون الإنسان إرادته وقدرته، يقولون: الإنسان ما له إرادة ولا له قدرة، إنما هو مجبور على عمله، فلا يرون فرقًا بين الذي يتحرك بارتعاش وبين اللي يتحرك باختيار.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الولد هبة للوالد لا للأم؛ لقوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ﴾، وإن كانت هذه الفائدة تمشي على رِجْل واحدة إن كانت شبيهة بالآدميين، أو على رجلين إن كانت شبيهة بذوات الأربع، يعني ما هي بذاك القوية، إنما بعض العلماء استنبط أن هذه الآية تدل على أن الوالد موهوب له، وعلى كل حال عرج قوله لقول النبي ﷺ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»(٦)، ولا شك أن الولد ملك لوالده؛ هو وماله، ولهذا كما أن للوالد أن يأكل من مال الولد ما لا يضره ولا يحتاجه فله أن يستخدمه فيما لا يضر الولد ويصده عن مصالحه، له أن يستخدمه، ويجب على الولد أن يطيعه، فإن لم يفعل أُجْبِر على ذلك؛ لقوله ﷺ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه قد يكون للشيء الواحد سببان، كيف؟
* طالب: (...).
* الشيخ: يمكن؟ من أين نأخذها؟
* الطالب: قوله: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾.
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: سبب الرضاعة، إذا كانت زوجة يكون فيه سبب رضاعة وسبب زوجية.
* الشيخ: وإن كانت غير زوجة؟
* الطالب: (...)
* الشيخ: يعني إذن الرزق والكسوة هنا في التي مع الزوج لها سببان، والشيء قد يكون له أسباب متعددة، ولو كان شيئًا واحدًا كالفقير مثلًا والغارم وما أشبه ذلك يأخذ لفقره ولغرمه، وكابن العم الذي هو زوج، وكابن العم الذي هو زوج ومعتِق يأخذ للأسباب الثلاثة: للزوجية والقرابة والولد، ولّا لا؟ طيب، إذا تخلّف أحد السببين بقي حكم السبب الآخر، فلو فرض أن هذه المرأة ناشز ما تطيع زوجها وهي ترضع ولده، كان لها الرزق والكسوة، لا بالزوجية؛ لأنها ناشز، ولكن بالرضاعة، فإن قلت: إذا كان سبب الرزق والكسوة هو الزوجية أصبح الرضاع عديم التأثير؟ قلت: لا، لا يصبح عديم التأثير؛ لأننا قلنا: إذا تخلف الإنفاق بالزوجية وجب بالرضاعة، هذه واحدة، ثانيًا: أنه ربما يترتب عليها أو يترتب لها من الطعام والكسوة إذا كانت ترضع ما لا يترتب لو كانت لا ترضع، المرضع ربما تحتاج إلى غسل ثيابها دائمًا من الرضاعة، وتحتاج إلى زيادة طعام وشراب، وربما يقال: إنه لا بد أن تطعم هذا الطعام المعيّن، فحينئذ يكون له تأثير ولّا لا؟ يكون له تأثير، يعني لا يمكن أن يتساوى من كل وجه الطعام والرزق والكسوة للزوجية مع الرزق والكسوة بماذا؟ بالإرضاع، وعلى هذا يُتمَّم هذا من هذا ويكون للآية معنى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اعتبار العرف بين الناس؛ لقوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾، ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف﴾، ومعلوم أنه إذا نص الشرع على المعروف وجب اعتباره، فإن قُدِّرَ الشيء بالشرع أُلْغِي العرف، وإن سُكِت عنه اعتُبِر العرف، فالمراتب ثلاثة: إما أن يُقَدَّر بالعرف نصًّا ويرد الشارع الأمر إلى العرف، وهذا واضح ولّا لا؟ واضح، وإما أن نقدره بالشرع فلا عبرة بالعرف، وإما أن يسكت، يوجب ويسكت، فيُرجع في ذلك إلى العرف، كذا؟ طيب، مثال الذي قدّره الشرع ولا عبرة فيه للعرف زكاة الفطر، زكاة الفطر صاع من طعام، من الحكمة فيها أنها طُعمة للمساكين، فإذا قُدِّر أن صاحب البيت ما يكفيه هو وعائلته الصاع، هل نقول: نزيد على الصاع للكفاية؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: كيف؟
* طالب: مقدر بالشرع.
* الشيخ: مقدر بالشرع نعم، هذا السبب مقدر بالشرع، الشرع لم يقل: أطعموهم في هذا اليوم، قدّر صاعًا، كما أنه لو زاد الصاع على نفقته وعياله نقصره ولّا لا؟ ما نقصره، نعم، وأما ما جاء به الشرع ولكنه أطلقه فهذا كثير، مثل: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ [الطلاق ٦]، لكن ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ قد نقول: مقدر بالشرع.
* طالب: السفر.
* الشيخ: السفر على قول، والحِرز، حِرز الأموال، هذا لم يقدره الشرع، والحرز معتبر في عدة مواضع، منها: السرقة والوديعة، الوديعة يراعَى فيها الحرز، يعني لو أني أعطيتك شيئًا وديعة يجب عليك أن تحفظه بماذا؟ في حرز مثله، فأنا أعطيتك كيسًا من الذهب، ذهبت أنت ووضعتها في حوش الغنم، هل وضعها في الحرز؟ قال: لا، هذا حرز، هذا حرز لكيس الفحم، أنا أحط كيس الفحم فيها وأجيب الشاة وأحطها في الحظيرة هذه، ويعتبر هذا حرزًا.
* طالب: (...).
* الشيخ: يقول: نعم، لكن الحرز حسب العرف، اسأل أي واحد من الناس هل صرة الذهب تُجعل في المكان اللي يجعل فيه كيس الفحم؟ ويش يقول؟ لا، إذن يُرجع في ذلك إلى أيش؟ إلى العرف، فالمراتب إذن ثلاثة، ما عُيِّن شرعًا فهو تبع الشرع ما يمكن أن يتغير، وما نص الشرع على اعتبار العرف فيه فيؤخذ بالعرف اتباعًا للنص، وما سكت عنه الشرع يُرَدّ فيه إلى العرف، نعم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ أن المعتبر حال الزوجة لا حال الزوج؛ لأن الله أضاف الرزق والكسوة إلى الزوجة، فكأنه قال: الرزق الذي يصلح لمثلها، والكسوة التي تصلح لمثلها، وعلى هذا فإذا كان الزوج فقيرًا وهي غنية نلزمه بماذا؟ بنفقة غني وكسوة غني لا بد، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن المعتبر حال الزوج، واستدل بقوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق ٧]، وأجاب عن الآية بأن قال: ﴿رِزْقُهُنَّ﴾ من أمثالكم، و﴿وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ من أمثالكم، وبهذا تجتمع الآيتان، وقال بعض أهل العلم: بل نعمل بالآيتين جميعًا، فنقول: المعتبر حال الزوج والزوجة، المعتبر حال الزوج والزوجة جميعًا، إن كانا موسرين فنفقة موسِر، وإن كانا معسرين فنفقة معسر، وإن كان أحدهما فقيرًا والآخر غنيًّا، واحد ونصف، كم نصفه؟ ثلاثة أرباع، إذن فيجعل متوسط، نفقة متوسط، إذا كان الزوج غنيًّا وهي فقيرة، أو الزوج فقيرًا وهي غنية فيعتبر نفقة متوسط بين الغني والفقير، طيب الزوج فقير ما عنده شيء، نقول: يلزمك نفقة متوسط؛ لأن الزوجة غنية، والآن نحن نقصنا من حقها بعض الشيء لأنك فقير وجمعنا بين حالتيكما، أعرفتم الآن؟ الصحيح أن المعتبر حال الزوج وهو مذهب الشافعي، وإن كان مذهب الحنابلة على أن المعتبر حال الزوجين جميعًا، لكن الحق أحق أن يتبع، فالمعتبر حال الزوج، ويكون معنى قوله هنا: ﴿رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ من أمثالكم، ولا في الآية إشكال.
* الطالب: طيب الآن عكس يا شيخ، الآن هنا مذهب الحنابلة الزوج هو المعتبر، في مصر مذهب الشافعي..
* الشيخ: إي نعم (...). لقوله:
﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَه﴾ (...).
قال الله عز وجل:
﴿وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، من فوائد الآية الكريمة: أن العرف له اعتبار بالشرع.
من فوائدها: أن الله عز وجل لا يكلف نفسًا ما لا تطيق؛ لقوله:
﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، يعني: إلا ما تطيق، ويتفرع على هذه الفائدة: بيان رحمة الله عز وجل بعباده، وأنه سبحانه وتعالى لا يكلفهم إلا ما يطيقون؛ لأن معنى
﴿إِلَّا وُسْعَهَا﴾ يعني: إلا طاقتها.
* ومن فوائد الآية: تحريم المضارّة؛ لقوله: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾، وهذا نهي، ﴿وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِه﴾، وهل هذا خاص بالوالدة في ولدها والوالد في ولده؟ أو يستفاد منه العموم؟ نقول: هو لا شك أن سياق اللفظ خاص، لكن المعنى يقتضي العموم كما تشهد لذلك الأدلة «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ»(٧)، و«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»(٨).
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب النفقة على الوارث للمولود؛ لقوله: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾. ومن فوائدها أيضًا: أنه يجوز للأم أن تفطم الولد قبل تمام الحولين لكن بشروط: التراضي والتشاور؛ لقوله:
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عناية الله عز وجل بهؤلاء الرضَّع، وأنه لا يمكن أن يُفْصَلوا قبل الحولين إلا بعد التراضي والتشاور؛ للآية الكريمة: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ﴾.
* ومن فوائد الآية: أنه لا يكفي المراضاة بين الزوجين في الفطام؛ بل لا بد أن يكون هذا بعد التشاور والتراجع في الأمر، حتى إذا تبينت المصلحة للطفل أقدم على ذلك، فلو أنها قالت لزوجها: أترخص لي أن أدع الرضاع بقية الحولين؟ فقال: نعم، فهذا تراضي لكن ما فيه تشاور، لا بد أن يقول: ننظر في الموضوع ويتشاورا ويتراجعا في المصلحة حتى يتم الأمر، وهل يؤخذ منه أن الله أرحم بالإنسان من أمه وأبيه؟ نعم؛ لعناية الله سبحانه وتعالى بذلك بقوله: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز استرضاع الإنسان لولده المراضع؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، وهل يشترط إذْن الأم في ذلك؟ ظاهر الآية أن هناك..ولكن لو أن الأم طلبت أن ترضعه وقال الأب: ترضعه غيرك، فهل يُجبر الأب على موافقة الأم؟
الجواب: نعم؛ لأن الله يقول:
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ [البقرة ٢٣٣] فبدأ بالوالدات، ولأن لبن الأم غالبًا أنفع، ولأن الأم أشفق، ولأن ذلك أدعى إلى التعاطف بين الأم وولدها.
ولكن لو طلبتْ عليه أجرة أكثر من غيرها فهل يلزمه دفع الأجرة؟ لا، لا يلزمه دفع الأجرة، والمراد: إذا كانت في حباله على قول، أو إذا كانت منفصلة عنه على القول الثاني، أنتم فاهمين هذه؟
يعني: فيه رأيان لأهل العلم، يعني فيه لأهل العلم رأيين: الرأي الأول: أن للأم أن تطلب الأجرة ولو كانت مع الزوج.
والثاني: أنه إذا كانت مع الزوج فليس لها إلا النفقة، وهذا القول هو الراجح كما سبق.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب دفع العوض في المعاوضة، من أين يؤخذ؟
* طالب: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة ٢٣٣]. وأما أن تسترضع في ولدك ثم لا تدفع الأجرة فإن هذا حرام، وفي الحديث:
«أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ»(٩)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن الله أن الله قال:
«ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ»(١٠).
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجب على الإنسان تسليم العوض بالمعروف؛ أي: بدون مماطلة وبدون نقص؛ لأن هذا هو المعروف الذي يتعارفه الناس بينهم ويعرفه الشرع ويقره؛ لقوله: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
* ومن فوائدها: أنه لا يلزم الأجير سوى ما قُدِّر، أو سوى ما قدره هو إذا وافق عليه المستأجِر، أو بعبارة أوضح: لا يلزم المستأجَر أكثر مما قدَّر، أو مما جرى بينه وبين المؤْجِر؛ لقوله: ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ﴾.فلو أن المستأجِر طُلب منه أن يزيد في الأجرة بعد تمام العقد فإنه لا يلزمه حتى لو غلت الأشياء ولو زادت المؤن، ما دام اتفقوا على شيء فلا يلزمه سوى ما اتفقوا عليه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب تقوى الله؛ لقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، وما أكثر ما يأمر الله تعالى بالتقوى؛ لأن عليها مدار الدين كله؛ إذ إن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله بتصديق خبره وامتثال أمره واجتناب نهيه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الإيمان بصفات الله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
* ومن فوائدها: التحذير من مخالفة الله؛ لأنه بعد أن أمر بالتقوى قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
* ومن فوائدها: عموم علم الله؛ لقوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وما اسم موصول عام.
* ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وقوله أيضًا: ﴿آتَيْتُمْ﴾، ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ﴾ فيها عدة شواهد ترد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله ليس له إرادة فيه.هل يستفاد من الآية الكريمة إثبات البصر لله؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: من قوله: ﴿بَصِيرٌ﴾؛ لأن البصير ذكرنا أن له معنيين: البصير بمعنى الذي يُبصر المرئيات، والبصير بمعنى العليم.
(١) أخرجه أبو داود (٣٥٣٠)، والبيهقي في الكبرى (٧ / ٤٨٠) من حديث عبد الله بن عمرو واللفظ له.
(٢) أخرجه مسلم (١٢١٨ / ١٤٧) من حديث جابر.
(٣) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٢٦٩)، ومسلم (١٢٧ / ٢٠١) من حديث أبي هريرة.
(٤) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٦٣٥)، ومسلم (٦٠٣ / ١٥٥) من حديث أبي قتادة.
(٥) أخرجه النسائي (٦٩٩)، وابن ماجه (١٤١٢) من حديث سهل بن حنيف.
(٦) أخرجه أبو داود (٣٥٣٠)، والبيهقي في الكبرى (٧ / ٤٨٠) من حديث عبد الله بن عمرو واللفظ له.
(٧) أخرجه أبو داود في سننه (٣٦٣٥)، والترمذي في جامعه (١٩٤٠) من حديث أبي صرمة واللفظ له.
(٨) أخرجه ابن ماجه في سننه (٢٣٤٠) من حديث عبادة بن الصامت.
(٩) أخرجه ابن ماجه (٢٤٤٣) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(١٠) أخرجه البخاري (٢٢٢٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.