الباحث القرآني

(p-٥٧١)قوله عزّ وجلّ: ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَضاعَةَ﴾ ﴿يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ﴾ خَبَرٌ مَعْناهُ الأمْرُ عَلى الوُجُوبِ لِبَعْضِ الوالِداتِ، والأمْرُ عَلى جِهَةِ النَدْبِ والتَخْيِيرِ لِبَعْضِهِنَّ، فَأمّا المَرْأةُ الَّتِي في العِصْمَةِ فَعَلَيْها الإرْضاعُ وهو عُرْفٌ يَلْزَمُ، إذْ قَدْ صارَ كالشَرْطِ، إلّا أنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ذاتَ تَرَفُّهٍ فَعُرْفُها ألّا تُرْضِعَ، وذَلِكَ كالشَرْطِ، فَإنْ ماتَ الأبُ ولا مالَ لِلصَّبِيِّ فَمَذْهَبُ مالِكٍ في المُدَوَّنَةِ أنَّ الرَضاعَ لازِمٌ لِلْأُمِّ بِخِلافِ النَفَقَةِ، وفي كِتابِ ابْنِ الجَلّابِ: رَضاعُهُ في بَيْتِ المالِ. وقالَ عَبْدُ الوَهّابِ: هو مِن فُقَراءِ المُسْلِمِينَ، وأمّا المُطَلَّقَةُ طَلاقَ بَيْنُونَةٍ فَلا رَضاعَ عَلَيْها، والرَضاعُ عَلى الزَوْجِ إلّا أنْ تَشاءَ هِيَ، فَهي أحَقُّ بِهِ بِأُجْرَةِ المِثْلِ، هَذا مَعَ يُسْرِ الزَوْجِ، فَإنْ كانَ مُعْدَمًا لَمْ يَلْزَمْها الرَضاعُ إلّا أنْ يَكُونَ المَوْلُودُ لا يَقْبَلُ غَيْرَها فَتُجْبَرُ حِينَئِذٍ عَلى الإرْضاعِ، ولَها أجْرُ مِثْلِها في يُسْرِ الزَوْجِ، وكُلُّ ما يَلْزَمُها الإرْضاعُ فَإنْ أصابَها عُذْرٌ يَمْنَعُها مِنهُ عادَ الإرْضاعُ عَلى الأبِ. ورُوِيَ عن مالِكٍ أنَّ الأبَ إذا كانَ مُعْدَمًا ولا مالَ لِلصَّبِيِّ فَإنَّ الرَضاعَ عَلى الأُمِّ، فَإنْ كانَ بِها عُذْرٌ ولَها مالٌ فالإرْضاعُ عَلَيْها في مالِها. وهَذِهِ الآيَةُ هي في المُطَلَّقاتِ، قالَهُ السُدِّيُّ، والضَحّاكُ، وغَيْرُهُما، جَعَلَها اللهُ حَدًّا عِنْدَ اخْتِلافِ الزَوْجَيْنِ في مُدَّةِ الرَضاعِ، فَمَن دَعا مِنهُما إلى إكْمالِ الحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ: وقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذَيْنَ الحَوْلَيْنِ لِكُلِّ ولَدٍ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: هي في الوَلَدِ الَّذِي يَمْكُثُ في البَطْنِ سِتَّةَ أشْهُرٍ، فَإنْ مَكَثَ سَبْعَةَ أشْهُرٍ فَرَضاعُهُ ثَلاثَةٌ وعِشْرُونَ شَهْرًا، فَإنْ مَكَثَ ثَمانِيَةَ أشْهُرٍ فَرَضاعُهُ اثْنانِ (p-٥٧٢)وَعِشْرُونَ شَهْرًا، فَإنْ مَكَثَ تِسْعَةَ أشْهُرٍ فَرَضاعُهُ أحَدٌ وعِشْرُونَ شَهْرًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَأنَّ هَذا القَوْلَ انْبَنى عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥] إلّا أنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَلى الإنْسانِ عُمُومًا. وسُمِّيَ العامُ حَوْلًا لِاسْتِحالَةِ الأُمُورِ فِيهِ في الأغْلَبِ. ووَصْفُهُما بِـ "كامِلَيْنِ" إذْ مِمّا قَدِ اعْتِيدَ تَجَوُّزًا أنْ يُقالَ: في حَوْلٍ وبَعْضٍ آخَرَ حَوْلَيْنِ، وفي يَوْمٍ وبَعْضٍ آخَرَ مَشَيْتُ يَوْمَيْنِ، وصَبَرْتُ عَلَيْكَ في دَيْنِي يَوْمَيْنِ وشَهْرَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَضاعَةَ﴾ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الحَوْلَيْنِ لَيْسا بِفَرْضٍ لا يُتَجاوَزُ. وقَرَأ السَبْعَةُ: "أنْ يُتِمَّ الرَضاعَةَ" بِضَمِّ الياءِ ونَصْبِ الرَضاعَةِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وحُمَيْدٌ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ: "تَتِمُّ الرَضاعَةُ" بِفَتْحِ التاءِ الأُولى ورَفْعِ الرَضاعَةِ، عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلَيْها. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والجارُودُ بْنُ أبِي سَبْرَةَ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهم كَسَرُوا الراءَ مِنَ "الرَضاعَةِ"، وهي لُغَةٌ كالحَضارَةِ والحِضارَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ. ورُوِيَ عن مُجاهِدٍ أنَّهُ قَرَأ: "الرَضْعَةُ" عَلى وزْنِ الفَعْلَةِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ: "أنْ يُكْمِلَ الرَضاعَةَ" بِالياءِ المَضْمُومَةِ وانْتَزَعَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ، وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الرَضاعَةَ المُحَرَّمَةَ الجارِيَةَ مَجْرى النَسَبِ إنَّما هي ما كانَ في الحَوْلَيْنِ لِأنَّ بِانْقِضاءِ الحَوْلَيْنِ تَمَّتِ الرَضاعَةُ، فَلا رَضاعَةَ، ورُوِيَ عن قَتادَةَ أنَّهُ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ تَضَمَّنَتْ فَرْضَ الإرْضاعِ عَلى الوالِداتِ، ثُمَّ يُسِّرَ ذَلِكَ وخُفِّفَ بِالتَخْيِيرِ الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿لِمَن أرادَ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ. *** (p-٥٧٣)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلا وُسْعَها لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ولا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ "المَوْلُودِ": اسْمُ جِنْسٍ وصِنْفٌ مِنَ الرِجالِ، والرِزْقُ في هَذا الحُكْمِ: الطَعامُ الكافِي. وقَوْلُهُ: "بِالمَعْرُوفِ:" يَجْمَعُ حُسْنُ القَدْرِ في الطَعامِ وجَوْدَةُ الأداءِ لَهُ، وحُسْنُ الِاقْتِضاءِ مِنَ المَرْأةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ الإنْفاقَ عَلى قَدْرِ غِنى الزَوْجِ ومَنصِبِها بِقَوْلِهِ: ﴿لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلا وُسْعَها﴾، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "تُكَلَّفُ" بِضَمِّ التاءِ، "نَفْسٌ" عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: "تَكَلَّفُ" بِفَتْحِ التاءِ بِمَعْنى تَتَكَلَّفُ "نَفْسٌ" فاعِلُهُ. ورَوى عنهُ أبُو الأشْهَبِ: "لا نُكَلِّفُ" بِالنُونِ "نَفْسًا" بِالنَصْبِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبانُ، عن عاصِمٍ: "لا تُضارُّ والِدَةٌ" بِالرَفْعِ في الراءِ وهو خَبَرٌ مَعْناهُ الأمْرُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الأصْلُ "لا تُضارِرْ" بِكَسْرِ الراءِ الأُولى، فَـ "والِدَةٌ" مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، ويُعْطَفْ "مَوْلُودٌ" لَهُ عَلى هَذا الحَدِّ في الِاحْتِمالَيْنِ. وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وعاصِمٌ "لا تُضارَ" بِفَتْحِ الراءِ المُشَدَّدَةِ وهَذا عَلى النَهْيِ، ويُحْتَمَلُ أصْلُهُ ما ذَكَرْنا في الأُولى. ومَعْنى الآيَةِ -فِي كُلِّ قِراءَةٍ- النَهْيُ عن أنْ تُضارَّ الوالِدَةُ زَوْجَها المُطَلِّقَ بِسَبَبِ ولَدِها، وأنْ يُضارَّها هو بِسَبَبِ الوَلَدِ أو يُضارَّ الظِئْرَ؛ لِأنَّ لَفْظَةَ نَهْيِهِ تَعُمُّ الظِئْرَ، وقَدْ قالَ عِكْرِمَةُ في قَوْلِهِ: ﴿لا تُضارَّ والِدَةٌ﴾ مَعْناهُ: الظِئْرُ. ووُجُوُهُ الضَرَرِ لا تَنْحَصِرُ وكُلُّ ما ذُكِرَ مِنها في التَفاسِيرِ فَهو مِثالٌ. (p-٥٧٤)وَرُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قَرَأ. "لا تُضارِرْ" بَرّاءَيْنِ الأُولى مَفْتُوحَةٌ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنِ القَعْقاعِ: "لا تُضارْرُ" بِإسْكانِ الراءِ الأُولى. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَعَلى الوارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ فَقالَ قَتادَةُ، والسُدِّيُّ، والحَسَنَ، وعُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وغَيْرُهُمْ: هو وارِثُ الصَبِيِّ إنْ لَوْ ماتَ. قالَ بَعْضُهُمْ: وارِثُهُ مِنَ الرِجالِ خاصَّةً يَلْزَمُهُ الإرْضاعُ كَما كانَ يَلْزَمُ أبا الصَبِيِّ لَوْ كانَ حَيًّا، وقالَهُ مُجاهِدٌ، وعَطاءٌ. وقالَ قَتادَةُ أيْضًا وغَيْرُهُ: هو وارِثُ الصَبِيِّ مَن كانَ مِنَ الرِجالِ والنِساءِ، ويَلْزَمُهم إرْضاعُهُ عَلى قَدْرِ مَوارِيثِهِمْ مِنهُ. وحَكى الطَبَرِيُّ عن أبِي حَنِيفَةَ، وأبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ أنَّهم قالُوا: الوارِثُ الَّذِي يَلْزَمُهُ إرْضاعُ المَوْلُودِ هو ولِيُّهُ ووارِثُهُ إذا كانَ ذا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنهُ، فَإنْ كانَ ابْنَ عَمٍّ وغَيْرِهِ ولَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ فَلا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا القَوْلُ تَحَكُّمٌ. وقالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، والضَحّاكُ، وبَشِيرُ بْنُ نَصْرٍ قاضِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ: الوارِثُ هو الصَبِيُّ نَفْسُهُ، أيْ عَلَيْهِ في مالِهِ إذا ورِثَ أباهُ إرْضاعُ نَفْسِهِ. وقالَ سُفْيانُ رَحِمَهُ اللهُ: الوارِثُ هو الباقِي مِن والِدَيِ المَوْلُودِ بَعْدَ وفاةِ الآخَرِ مِنهُما، ويَرى مَعَ ذَلِكَ إنْ كانَتِ الوالِدَةُ هي الباقِيَةُ- أنْ يُشارِكَها العاصِبُ في إرْضاعِ المَوْلُودِ عَلى قَدْرِ حَظِّهِ مِنَ المِيراثِ. ونَصَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ذْكِرَتْ أقْوالُهم عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ الرِزْقُ (p-٥٧٥)والكُسْوَةُ، وذَكَرَ ذَلِكَ أيْضًا مِنَ العُلَماءِ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ، وعُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، والشَعْبِيُّ، والحَسَنُ، وابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهم. وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ في "المُدَوَّنَةِ"، وجَمِيعُ أصْحابِهِ، والشَعْبِيُّ أيْضًا، والزُهْرِيُّ، والضَحّاكُ، وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: بَلِ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِثْلُ ذَلِكَ﴾ ألّا يُضارَّ، وأمّا الرِزْقُ والكُسْوَةُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنهُ. ورَوى ابْنُ القاسِمِ عن مالِكٍ أنَّ الآيَةَ تَضَمَّنَتْ أنَّ الرِزْقَ والكُسْوَةَ عَلى الوارِثِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فالإجْماعُ مِنَ الأُمَّةِ في ألّا يُضارَّ الوارِثُ، والخِلافُ هَلْ عَلَيْهِ رِزْقٌ وكُسْوَةٌ أمْ لا؟ وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمُرَ: "وَعَلى الوَرَثَةِ مِثْلُ ذَلِكَ" بِالجَمْعِ. *** قوله عزّ وجلّ: ﴿فَإنْ أرادا فِصالا عن تَراضٍ مِنهُما وتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أولادَكم فَلا جُناحَ عَلَيْكم إذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ واتَّقُوا اللهَ واعْلَمُوا أنْ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ الضَمِيرُ في "أرادا" لِلْوالِدَيْنِ، و"فِصالًا" مَعْناهُ: فِطامًا عَنِ الرَضاعِ، ولا يَقَعُ التَشاوُرُ ولا يَجُوزُ التَراضِي إلّا بِما لا ضَرَرَ فِيهِ عَلى المَوْلُودِ، فَإذا ظَهَرَ مِن حالِهِ الِاسْتِغْناءُ عَنِ اللَبَنِ قَبْلَ تَمامِ الحَوْلَيْنِ فَلا جُناحَ عَلى الأبَوَيْنِ في فَصْلِهِ، هَذا مَعْنى الآيَةِ. وقالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، وسُفْيانُ وغَيْرُهم وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا جُناحَ مَعَ التَراضِي في فَصْلِهِ قَبْلَ الحَوْلَيْنِ وبَعْدَهُما. (p-٥٧٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وتَحْرِيرُ القَوْلِ في هَذا أنَّ فَصْلَهُ قَبْلَ الحَوْلَيْنِ لا يَصِحُّ إلّا بِتَراضِيهِما، وألّا يَكُونَ عَلى المَوْلُودِ ضَرَرٌ، وأمّا بَعْدَ تَمامِهِما فَمَن دَعا إلى الفَصْلِ فَذَلِكَ لَهُ، إلّا أنْ يَكُونَ في ذَلِكَ عَلى الصَبِيِّ ضَرَرٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا﴾ مُخاطَبَةٌ لِجَمِيعِ الناسِ، تَجْمَعُ الآباءَ والأُمَّهاتِ، أيْ لَهُمُ اتِّخاذُ الظِئْرِ مَعَ الِاتِّفاقِ عَلى ذَلِكَ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا سَلَّمْتُمْ﴾ فَمُخاطَبَةٌ لِلرِّجالِ خاصَّةً إلّا -عَلى أحَدِ التَأْوِيلَيْنِ- في قِراءَةِ مَن قَرَأ "أتَيْتُمْ" وقَرَأ السِتَّةُ مِنَ السَبْعَةِ: "آتَيْتُمْ" بِالمَدِّ. المَعْنى: أُعْطِيتُمْ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ "أتَيْتُمْ" بِمَعْنى ما جِئْتُمْ وفَعَلْتُمْ، كَما قالَ زُهَيْرٌ:. ؎ وما كانَ مِن خَيْرٍ أتَوْهُ فَإنَّما تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِمْ قَبْلُ قالَ أبُو عَلِيٍّ: المَعْنى: إذا سَلَّمْتُمْ ما أتَيْتُمْ نَقْدَهُ أو إعْطاءَهُ أو سُوقَهُ، فَحُذِفَ المُضافُ، وأُقِيمَ الضَمِيرُ مَقامَهُ، فَكانَ التَقْدِيرُ: ما أتَيْتُمُوهُ، ثُمَّ حُذِفَ الضَمِيرُ مِنَ الصِلَةِ، ويَحْتَمِلُ اللَفْظُ مَعْنًى آخَرَ -قالَهُ قَتادَةُ - وهُوَ: إذا سَلَّمْتُمْ ما أتَيْتُمْ مِن إرادَةِ الِاسْتِرْضاعِ، أيْ سِلْمِ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الأبَوَيْنِ ورَضِيَ، وكانَ ذَلِكَ عَنِ اتِّفاقٍ مِنهُما وقَصْدِ خَيْرٍ وإرادَةِ مَعْرُوفٍ مِنَ الأمْرِ. وعَلى هَذا الِاحْتِمالِ فَيَدْخُلُ في الخِطابِ بـِ "سَلَّمْتُمُ" الرِجالُ والنِساءُ، وعَلى التَأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ أبُو عَلِيٍّ وغَيْرُهُ فالخِطابُ لِلرِّجالِ، لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ أجْرَ الرَضاعِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "ما" مَصْدَرِيَّةً، أيْ إذا سَلَّمْتُمُ الإتْيانَ، والمَعْنى كالأوَّلِ، لَكِنْ يُسْتَغْنى عَنِ الصَنْعَةِ مِن حَذْفِ المُضافِ، ثُمَّ حَذْفِ الضَمِيرِ. قالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى: إذا سَلَّمْتُمْ إلى الأُمَّهاتِ أجْرَهُنَّ، بِحِسابِ ما أرْضَعْنَ إلى (p-٥٧٧)وَقْتِ إرادَةِ الِاسْتِرْضاعِ. وقالَ سُفْيانُ: المَعْنى: إذا سَلَّمْتُمْ إلى المُسْتَرْضِعَةِ وهي الظِئْرُ أجْرَها بِالمَعْرُوفِ. وباقِي الآيَةِ أمْرٌ بِالتَقْوى، وتَوْقِيفٌ عَلى أنَّ اللهَ تَعالى بَصِيرٌ بِكُلِّ عَمَلٍ، وفي هَذا وعِيدٌ وتَحْذِيرٌ، أيْ فَهو مَجازٌ بِحَسَبَ عَمَلِكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب