الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٣٧ ] ﴿إنَّما النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عامًا ويُحَرِّمُونَهُ عامًا لِيُواطِئُوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهم سُوءُ أعْمالِهِمْ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ .
﴿إنَّما النَّسِيءُ﴾ أيْ: تَأْخِيرُ حُرْمَةِ شَهْرٍ إلى شَهْرٍ آخَرَ مَصْدَرُ (نَسْأهُ) إذا أخَّرَهُ ﴿زِيادَةٌ في الكُفْرِ﴾ لِأنَّهُ تَحْلِيلُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، وتَحْرِيمُ ما حَلَّلَهُ، فَهو كَفْرٌ آخَرُ مَضْمُومٌ إلى كُفْرِهِمْ ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ: بِاللَّهِ عَنْ أحْكامِهِ إذا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الحِلِّ والحُرْمَةِ في شَهْرٍ واحِدٍ ﴿يُحِلُّونَهُ عامًا﴾ أيْ: يُحِلُّونَ النَّسِيءَ مِنَ الأشْهُرِ الحُرُمِ سَنَةً، ويُحَرِّمُونَ مَكانَهُ شَهْرًا آخَرَ.
﴿ويُحَرِّمُونَهُ عامًا﴾ أيْ: يَتْرُكُونَهُ عَلى حُرْمَتِهِ القَدِيمَةِ، ويُحافِظُونَ عَلَيْها سَنَةً أُخْرى، إذا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَغْيِيرِهِ غَرَضٌ مِن أغْراضِهِمْ، والتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّحْرِيمِ، بِاعْتِبارِ إحْلالِهِمْ لَهُ في العامِ الماضِي، والجُمْلَتانِ تَفْسِيرٌ لِلضَّلالِ، أوْ حالٌ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النَّسِيءُ تَأْخِيرُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ إلى شَهْرٍ آخَرَ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا أصْحابَ حُرُوبٍ وغاراتٍ، فَإذا جاءَ الشَّهْرُ الحَرامُ، وهم مُحارِبُونَ، شَقَّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ المُحارِبَةِ، فَيُحِلُّونَهُ (p-٣١٤٤)ويُحَرِّمُونَ مَكانَهُ شَهْرًا آخَرَ، حَتّى رَفَضُوا تَخْصِيصَ الأشْهُرِ الحُرُمِ بِالتَّحْرِيمِ، فَكانُوا يُحَرِّمُونَ مِن أشَقِّ شُهُورِ العامِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُواطِئُوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ﴾ أيْ: لِيُوافِقُوا العِدَّةَ الَّتِي هي الأرْبَعَةُ، ولا يُخالِفُوها، وقَدْ خالَفُوا التَّخْصِيصَ الَّذِي هو أحَدُ الواجِبَيْنِ، ورُبَّما زادُوا في عَدَدِ الشُّهُورِ، فَيَجْعَلُونا ثَلاثَةَ عَشَرَ، أوْ أرْبَعَةَ عَشَرَ، لِيَتَّسِعَ لَهُمُ الوَقْتُ.
ولِذَلِكَ قالَ عَزَّ وعَلا: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا﴾ [التوبة: ٣٦] يَعْنِي مِن غَيْرِ زِيادَةٍ زادُوها ﴿فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ﴾ بِتَرْكِهِمُ التَّخْصِيصَ لِلْأشْهُرِ بِعَيْنِها ﴿زُيِّنَ لَهم سُوءُ أعْمالِهِمْ﴾ فاعْتَقَدُوا قَبِيحَها حَسَنًا: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّ في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مَسائِلَ:
الأُولى: أنَّ الأحْكامَ تُعَلَّقُ بِالأشْهُرِ العَرَبِيَّةِ، وهي شُهُورُ الأهِلَّةِ، دُونَ الشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ.
قِيلَ: جُعِلَ أوَّلُ الشُّهُورِ الهِلالِيَّةِ المُحَرَّمُ، حَدَثَ في عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُؤَرَّخُ بِعامِ الفِيلِ، ثُمَّ أُرِّخَ في صَدْرِ الإسْلامِ بِرَبِيعٍ الأوَّلِ.
وقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ هُنا عَنِ السَّخاوِيِّ وُجُوهَ تَسْمِيَةِ الأشْهُرِ بِما سُمِّيَتْ بِهِ، ونَحْنُ نُورِدُ ذَلِكَ مَأْثُورًا عَنْ أُمَّهاتِ اللُّغَةِ المُعَوَّلِ عَلَيْها فَنَقُولُ:
١ - المُحَرَّمُ: عَلى أنَّهُ اسْمُ المَفْعُولِ، هو أوَّلُ الشُّهُورِ العَرَبِيَّةِ، أدْخَلُوا عَلَيْهِ الألِفَ واللّامَ لَمْحًا لِلصِّفَةِ في الأصْلِ، وجَعَلُوها عِلْمًا بِهِما، مِثْلَ النَّجْمِ والدَّبَرانِ ونَحْوِهِما، ولا يَجُوزُ دُخُولُهُما عَلى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ عِنْدَ قَوْمٍ، وعِنْدَ قَوْمٍ يَجُوزُ عَلى صَفَرٍ وشَوّالٍ.
وجَمْعُ المُحَرَّمِ مُحَرَّماتٌ، والمُحَرَّمُ شَهْرُ اللَّهِ، سَمَّتْهُ العَرَبُ بِهَذا الِاسْمِ، لِأنَّهم كانُوا لا يَسْتَحِلُّونَ فِيهِ القِتالَ، وأُضِيفَ إلى اللَّهِ تَعالى إعْظامًا لَهُ، كَما قِيلَ لِلْكَعْبَةِ (بَيْتُ اللَّهِ) . وقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأنَّهُ مِنَ الأشْهُرِ الحُرُمِ. قالَ ابْنُ سِيدَهْ: وهَذا لَيْسَ بِقَوِيٍّ.
٢ - صَفَرٌ: الشَّهْرُ الَّذِي بَعْدَ المُحَرَّمِ. قالَ بَعْضُهم: إنَّما سُمِّيَ لِأنَّهم كانُوا يَمْتارُونَ الطَّعامَ فِيهِ مِنَ المَواضِعِ. وقِيلَ: لِإصْفارِ مَكَّةِ مِن أهْلِها إذا سافَرُوا. ورُوِيَ عَنْ رُؤْبَةَ أنَّهُ قالَ: سَمَّوُا الشَّهْرَ (صَفَرًا)، لِأنَّهم كانُوا يَغْزُونَ فِيهِ القَبائِلَ، فَيَتْرُكُونَ مَن لَقُوا صِفْرًا مِنَ المَتاعِ، (p-٣١٤٥)وذَلِكَ أنَّ صَفَرًا بَعْدَ المُحَرَّمِ، فَقالُوا: صَفِرَ النّاسُ مِنّا صَفَرًا. قالَ ثَعْلَبٌ: النّاسُ كُلُّهم يَصْرِفُونَ صَفَرًا إلّا أبا عُبَيْدَةَ، فَمَنَعَهُ لِلْعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ، بِإرادَةِ السّاعَةِ، يَعْنِي أنَّ الأزْمِنَةَ كُلَّها ساعاتٍ، وإذا جَمَعُوهُ مَعَ المُحَرَّمِ قالُوا: (صَفَرانِ)، ومِنهُ قَوْلُ أبِي ذُؤَيْبٌ:
؎أقامَتْ بِهِ كَمَقامِ الحَنِي فِ شَهْرَيْ جُمادى وشَهْرَيْ صَفَرْ
(اسْتُشْهِدَ بِهِ في اللِّسانِ في مادَّةِ:) ص فـ ر (، ولَيْسَ في دِيوانِ الهُذَلِيِّينَ) .
قالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الصَّفَرانِ مِنَ السَّنَةِ شَهْرانِ، سُمِّيَ أحَدُهُما في الإسْلامِ المُحَرَّمَ؛ وجَمْعُهُ أصْفارٌ، مِثْلَ سَبَبٍ وأسْبابٍ، ورُبَّما قِيلَ: (صَفَراتٌ) .
٣ و٤ الرَّبِيعُ شَهْرانِ بَعْدَ صَفَرٍ، سُمِّيا بِذَلِكَ لِأنَّهُما حُدّا في هَذا الزَّمَنِ، فَلَزِمَهُما في غَيْرِهِ قالُوا: لا يُقالُ فِيهِما إلّا شَهْرُ رَبِيعٍ الأوَّلِ وشَهْرُ رَبِيعٍ الآخَرِ، بِزِيادَةِ (شَهْرٍ) وتَنْوِينِ (رَبِيعٍ)، وجَعْلِ (الأوَّلِ) و(الآخَرِ) وصْفًا تابِعًا في الإعْرابِ، ويَجُوزُ فِيهِ الإضافَةُ، وهو مِن بابِ إضافَةِ الشَّيْءِ إلى نَفْسِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، لِاخْتِلافِ اللَّفْظَيْنِ، نَحْوَ: ﴿وحَبَّ الحَصِيدِ﴾ [ق: ٩] ﴿ولَدارُ الآخِرَةِ﴾ [النحل: ٣٠] و: ﴿حَقُّ اليَقِينِ﴾ [الواقعة: ٩٥] ومَسْجِدُ الجامِعِ. قالَ بَعْضُهم: إنَّما التَزَمَتِ العَرَبُ لَفْظَ شَهْرٍ قَبْلَ (رَبِيعٍ)، لِأنَّ لَفْظَ (رَبِيعٍ) مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّهْرِ والفَصْلِ، فالتَزَمُوا لَفْظَ شَهْرٍ (في الشَّهْرِ)، وحَذَفُوهُ في (الفَصْلِ) لِلْفَصْلِ.
قالَ الأزْهَرِيُّ أيْضًا: والعَرَبُ تَذْكُرُ الشُّهُورَ كُلَّها مُجَرَّدَةً مِن لَفْظِ (شَهْرٍ) إلّا شَهْرَيْ رَبِيعٍ ورَمَضانَ.
ويُثَنّى الشَّهْرُ ويُجْمَعُ، فَيُقالُ شَهْرا رَبِيعٍ، وأشْهُرُ رَبِيعٍ، وشُهُورُ رَبِيعٍ.
٥ و٦ - جُمادى الأُولى والآخِرَةِ (كَحُبارى)، الشَّهْرانِ التّالِيانِ لِشَهْرَيْ رَبِيعٍ. وجُمادى (p-٣١٤٦)مَعْرِفَةٌ مُؤَنَّثَةٌ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: أسْماءُ الشُّهُورِ كُلُّها مُذَكَّرَةٌ، إلّا جُمادَيَيْنِ، فَهُما مُؤَنَّثانِ. تَقُولُ مَضَتْ جُمادى بِما فِيها، قالَ الشّاعِرُ:
؎إذا جُمادى مَنَعَتْ قَطْرَها ∗∗∗ زانَ جِنانِي عَطَنٌ مُغْضِفُ
ثُمَّ قالَ: فَإنْ جاءَ تَذْكِيرُ جُمادى في شِعْرٍ، فَهو ذَهابٌ إلى مَعْنى الشَّهْرِ. كَما قالُوا: هَذِهِ ألْفُ دِرْهَمٍ، عَلى مَعْنى: هَذِهِ الدَّراهِمُ.
والجَمْعُ عَلى لَفْظِها جُمادِيّاتٌ، والأُولى والآخِرَةِ صِفَةٌ لَها، فالآخِرَةُ بِمَعْنى المُتَأخِّرَةِ.
قالُوا: ولا يُقالُ جُمادى الأُخْرى، لِأنَّ الأُخْرى بِمَعْنى الواحِدَةِ فَتَتَناوَلُ المُتَقَدِّمَةَ والمُتَأخِّرَةَ، فَيَحْصُلُ اللَّبْسُ. فَقِيلَ الآخِرَةُ لِتَخْتَصَّ بِالمُتَأخِّرَةِ، وإنَّما سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِجُمُودِ الماءِ فِيها، عِنْدَ تَسْمِيَةِ الشُّهُورِ، مِنَ البَرْدِ. قالَ:
؎فِي لَيْلَةٍ مِن جُمادى ذاتِ أنْدِيَةٍ ∗∗∗ لا يُبْصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمائِها الطُّنُبا
؎لا يَنْبَحُ الكَلْبُ فِيها غَيْرَ واحِدَةٍ ∗∗∗ حَتّى يَلُفَّ عَلى خُرْطُومِهِ الذَّنَبا
٧ - رَجَبٌ: سُمِّيَ بِهِ لِتَعْظِيمِهِمْ إيّاهُ في الجاهِلِيَّةِ عَنِ القِتالِ فِيهِ يُقالُ: رَجَبَ فُلانًا، هابَهُ وعَظَّمَهُ. كَرَجَّبَهُ. مُنْصَرِفٌ ولَهُ جُمُوعٌ: أرْجابٌ وأرْجِبَةٌ وأرْجُبٌ، ورِجابٌ ورُجُوبٌ وأراجِبُ، وأراجِيبُ ورَجَباناتٌ.
وإذا ضَمُّوا لَهُ شَعْبانَ قالُوا (رَجَبانِ) لِلتَّغْلِيبِ.
وفِي الحَدِيثِ: ««رَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمادى وشَعْبانَ»»، وقَوْلُهُ: «بَيْنَ جُمادى وشَعْبانَ» تَأْكِيدٌ لِلشَّأْنِ وإيضاحٌ، لِأنَّهم كانُوا يُؤَخِّرُونَهُ مِن شَهْرٍ إلى شَهْرٍ، فَيَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ، فَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ جُمادى وشَعْبانَ، لا ما كانُوا يُسَمُّونَهُ عَلى حِسابِ النَّسِيءِ، وإنَّما قِيلَ: رَجَبُ (p-٣١٤٧)مُضَرَ وأضافَهُ إلَيْهِمْ، لِأنَّهم كانُوا أشَدَّ تَعْظِيمًا لَهُ مِن غَيْرِهِمْ، وكَأنَّهُمُ اخْتَصُّوا بِهِ، وذَكَرَ لَهُ بَعْضُهم سَبْعَةَ عَشَرَ اسْمًا.
٨ - شَعْبانُ: جَمْعُهُ شَعْباناتٌ وشَعابِينُ، مِن (تَشَعَّبَ) إذا تَفَرَّقَ كانُوا يَتَشَعَّبُونَ فِيهِ في طَلَبِ المِياهِ، وقِيلَ في الغاراتِ.
وقالَ ثَعْلَبٌ: قالَ بَعْضُهم: إنَّما سُمِّيَ شَعْبانَ لِأنَّهُ شَعَبَ، أيْ: ظَهَرَ بَيْنَ شَهْرِ رَمَضانَ ورَجَبٍ.
٩ - رَمَضانُ: سُمِّيَ بِهِ لِأنَّ وضْعَهُ وافَقَ الرَّمَضَ (بِفَتْحَتَيْنِ)، وهو شِدَّةُ الحَرِّ، وجَمْعُهُ رَمَضاناتٌ وأرْمِضاءٌ.
وعَنْ يُونُسَ أنَّهُ سَمِعَ رَماضِينَ، مِثْلَ شَعابِينَ. وقِيلَ: هو مُشْتَقٌّ مِن (رَمِضَ الصّائِمُ يَرْمَضُ)، إذا اشْتَدَّ حَرُّ جَوْفِهِ مِن شِدَّةِ العَطَشِ، وهو قَوْلُ الفَرّاءِ.
قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: يُكْرَهُ أنْ يُقالَ جاءَ رَمَضانُ وشَبَهُهُ، إذا أُرِيدَ بِهِ الشَّهْرُ، ولَيْسَ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وإنَّما يُقالُ: جاءَ شَهْرُ رَمَضانَ، واسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ: ««لا تَقُولُوا: رَمَضانُ فَإنَّ رَمَضانَ اسْمٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، ولَكِنْ قُولُوا: شَهْرُ رَمَضانَ»» وهَذا الحَدِيثُ ضَعَّفَهُ البَيْهَقِيُّ، وضَعْفُهُ ظاهِرٌ، لِأنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحَدٍ مِنَ العُلَماءِ أنَّ رَمَضانَ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، فَلا يُعْمَلُ بِهِ.
والظّاهِرُ جَوازُهُ مِن غَيْرِ كَراهَةٍ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ البُخارِيُّ وجَماعَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ، لِأنَّهُ لَمْ يَصِحَّ في الكَراهَةِ شَيْءٌ.
وقَدْ ثَبَتَ في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ ما يَدُلُّ عَلى الجَوازِ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ: ««إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النّارِ وصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ»»
وحَقَّقَ السُّهَيْلِيُّ أنَّ لِحَذْفِ (شَهْرٍ) مَقامًا يُبايِنُ مَقامَ ذِكْرِهِ، يُراعِيهِ البَلِيغُ.
وحاصِلُهُ أنَّ في حَذْفِهِ إشْعارًا بِالعُمُومِ، وفي ذِكْرِهِ خِلافُ ذَلِكَ، لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: شَهْرُ (p-٣١٤٨)كَذا، كانَ ظَرْفًا وزالَ العُمُومُ مِنَ اللَّفْظِ، إذِ المَعْنى في الشَّهْرِ، ولِذَلِكَ قالَ ﷺ: ««مَن صامَ رَمَضانَ»»، ولَمْ يَقُلْ: (شَهْرَ رَمَضانَ)، لِيَكُونَ العَمَلُ فِيهِ كُلِّهِ. انْتَهى. فَلْيُتَأمَّلْ.
١٠ - شَوّالٌ: شَهْرُ عِيدِ الفِطْرِ، وأوَّلُ أشْهُرِ الحَجِّ، وجَمْعُهُ شَوّالاتٌ وشَواوِيلُ، وقَدْ تَدْخُلُهُ الألِفُ واللّامُ.
قالَ ابْنُ فارِسٍ: وزَعَمَ ناسٌ أنَّ الشَّوّالَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ وافَقَ وقْتًا تَشُولُ فِيهِ الإبِلُ، أيْ: تَرْفَعُ ذَنَبَها لِلِّقاحِ، وهو قَوْلُ الفَرّاءِ.
وقالَ غَيْرُهُ: سُمِّيَ بِتَشْوِيلِ ألْبانِ الإبِلِ، وهو تَوَلِّيهِ وإدْبارُهُ، وكَذَلِكَ حالُ الإبِلِ في اشْتِدادِ الحَرِّ، وانْقِطاعِ الرَّطْبِ وكانَتِ العَرَبُ تَتَطَيَّرُ مِن عَقْدِ المَناكِحِ فِيهِ، وتَقُولُ: إنَّ المَنكُوحَةَ تَمْتَنِعُ مِن ناكِحِها، حَتّى تَمْتَنِعَ طَرُوقَةُ الجَمَلِ إذا لَقِحَتْ وشالَتْ بِذَنَبِها. فَأبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ طِيَرَتَهم، «وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في شَوّالٍ، وبَنى بِي في شَوّالٍ، وأيُّ نِسائِهِ كانَ أحْظى عِنْدَهُ مِنِّي ؟»
١١ - ذُو القِعْدَةِ: بِفَتْحِ القافِ والكَسْرِ لُغَةٌ، سُمِّيَ بِهِ لِأنَّ العَرَبَ كانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الأسْفارِ، والغَزْوِ والمِيرَةِ وطَلَبِ الكَلَأِ، ويَحُجُّونَ في ذِي الحِجَّةِ، والجَمْعُ ذَواتُ القِعْدَةِ، وذَواتُ القَعَداتِ، والتَّثْنِيَةُ ذَواتا القِعْدَةِ وذَواتا القِعْدَتَيْنِ، فَثَنَّوُا الِاسْمَيْنِ وجَمَعُوهُما، وهو عَزِيزٌ، لِأنَّ الكَلِمَتَيْنِ بِمَنزِلَةِ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، ولا تَتَوالى عَلى كَلِمَةٍ عَلامَتا تَثْنِيَةٍ ولا جَمْعٍ.
١٢ - ذُو الحِجَّةِ: الشَّهْرُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الحَجُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِلْحَجِّ فِيهِ، والجَمْعُ ذَواتُ الحِجَّةِ، ولَمْ يَقُولُوا: (ذَوُو) عَلى واحِدِهِ، والفَتْحُ فِيهِ أشْهَرُ مِنَ الكَسْرِ، و(الحِجَّةُ) بِالكَسْرِ المَرَّةُ الواحِدَةُ مِنَ الحَجِّ، وهو شاذٌّ لِأنَّ القِياسَ في المَرَّةِ الفَتْحُ - انْتَهى.
وقَدْ أوْرَدْنا هَذا مُلَخَّصًا عَنِ (" المِصْباحِ ") و(" القامُوسِ ") و(" شَرْحِهِ ") .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَدَّمْنا أنَّ الأشْهُرَ الحُرُمَ الأرْبَعَةَ، ثَلاثَةٌ سَرْدٌ أيْ: مُتَتابِعَةٌ، وواحِدٌ فَرْدٌ (p-٣١٤٩)وكانَتِ العَرَبُ لا تَسْتَحِلُّ فِيها القِتالَ، إلّا حَيّانِ: خَثْعَمُ وطَيِّئٌ، فَإنَّهُما كانا يَسْتَحِلّانِ الشُّهُورَ، وكانَ الَّذِينَ يَنْسِؤُونَ الشُّهُورَ أيّامَ المَوْسِمِ يَقُولُونَ حَرَّمْنا عَلَيْكُمُ القِتالَ في هَذِهِ الشُّهُورِ إلّا دِماءَ المُحِلِّينَ، فَكانَتِ العَرَبُ تَسْتَحِلُّ دِماءَهم خاصَّةً في هَذِهِ الشُّهُورِ.
وكانَ لِقَوْمٍ مِن غَطَفانَ وقَيْسٍ، يُقالُ لَهُمُ الهَباءاتُ، ثَمانِيَةُ أشْهُرٍ حُرُمٌ، يُقالُ لَها (البَسْلُ) يُحَرِّمُونَها تَشَدُّدًا وتَعَمُّقًا.
الثّالِثَةُ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إنَّما كانَتِ الأشْهُرُ المُحَرَّمَةُ أرْبَعَةً: ثَلاثَةٌ سَرْدٌ، وواحِدٌ فَرْدٌ، لِأجْلِ أداءِ المَناسِكِ - الحَجِّ والعُمْرَةِ - فَحُرِّمَ قَبْلَ أشْهُرِ الحَجِّ شَهْرٌ وهو ذُو القِعْدَةِ لِأنَّهم يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ القِتالِ، وحُرِّمَ شَهْرُ ذِي الحِجَّةِ لِأنَّهم يُوقِعُونَ فِيهِ الحَجَّ ويَشْتَغِلُونَ بِأداءِ المَناسِكِ.
وحُرِّمَ بَعْدَهُ شَهْرٌ آخَرُ وهو المُحَرَّمُ لِيَرْجِعُوا فِيهِ إلى أقْصى بِلادِهِمْ آمِنِينَ، وحُرِّمَ رَجَبٌ في وسَطِ الحَوْلِ، لِأجْلِ زِيارَةِ البَيْتِ والِاعْتِمارِ بِهِ، لِمَن يَقْدَمُ إلَيْهِ مِن أقْصى جَزِيرَةِ العَرَبِ، فَيَزُورُهُ ثُمَّ يَعُودُ إلى وطَنِهِ فِيهِ آمِنًا.
الرّابِعَةُ: قالَ النَّوَوِيُّ في (" شَرْحِ مُسْلِمٍ "): وقَدِ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ عِدَّتِها عَلى قَوْلَيْنِ حَكاهُما الإمامُ أبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ في كِتابِهِ (" صِناعَةِ الكاتِبِ ") قالَ: ذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّهُ يُقالُ: المُحَرَّمُ ورَجَبٌ وذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ قالَ: والكُتّابُ يَمِيلُونَ إلى هَذا القَوْلِ لِيَأْتُوا بِهِنَّ مِن سَنَةٍ واحِدَةٍ قالَ: وأهْلُ المَدِينَةِ يَقُولُونَ: ذُو القِعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ ورَجَبٌ، وقَوْمٌ يُنْكِرُونَ هَذا ويَقُولُونَ: جاءُوا بِهِنَّ مِن سَنَتَيْنِ.
قالَ أبُو جَعْفَرٍ: وهَذا غَلَطٌ بَيِّنٌ، وجَهْلٌ بِاللُّغَةِ، لِأنَّهُ قَدْ عُلِمَ المُرادُ، وأنَّ المَقْصُودَ ذِكْرُهُ، وأنَّها في كُلِّ سَنَةٍ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أنَّها مِن سَنَتَيْنِ ؟ قالَ: والأوْلى والِاخْتِيارُ ما قالَهُ أهْلُ المَدِينَةِ، لِأنَّ الأخْبارَ قَدْ تَظاهَرَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَما قالُوا، مِن رِوايَةِ ابْنِ عُمَرَ وأبِي هُرَيْرَةَ وأبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، قالَ: وهَذا أيْضًا قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ التَّأْوِيلِ.
الخامِسَةُ: اسْتَنْبَطَ بَعْضُهم مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] أنَّ الإثْمَ (p-٣١٥٠)فِي هَذِهِ الأشْهُرِ المُحَرَّمَةِ آكَدُ وأبْلَغُ في الإثْمِ في غَيْرِها، كَما أنَّ المَعاصِيَ في البَلَدِ الحَرامِ تُضاعَفُ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥] وكَذَلِكَ الشَّهْرُ الحَرامُ تَغْلُظُ فِيهِ الآثامُ، ولِهَذا تَغْلُظُ فِيهِ الدِّيَةُ في مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ وطائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ العُلَماءِ، وكَذا في حَقِّ مَن قَتَلَ في الحَرَمِ أوْ قَتَلَ ذا مُحَرَّمٍ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما رَواهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ: أنَّهُ تَعالى اخْتَصَّ مِنَ الأشْهُرِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ جَعَلَهُنَّ حَرامًا، وعَظَّمَ حُرُماتِهِنَّ، وجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أعْظَمَ، والعَمَلَ الصّالِحَ والأجْرَ أعْظَمَ.
وقالَ قَتادَةُ: إنَّ الظُّلْمَ في الأشْهُرِ الحُرُمِ أعْظَمُ خَطِيئَةً ووِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيما سِواها، وإنْ كانَ الظُّلْمُ عَلى كُلِّ حالٍ عَظِيمًا، ولَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِن أمْرِهِ ما يَشاءُ. وقالَ: إنَّ اللَّهَ اصْطَفى صَفايا مِن خَلْقِهِ، اصْطَفى مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا، ومِنَ النّاسِ رُسُلًا واصْطَفى مِنَ الكَلامِ ذِكْرَهُ، واصْطَفى مِنَ الأرْضِ المَساجِدَ، واصْطَفى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضانَ والأشْهُرَ الحُرُمَ، واصْطَفى مِنَ الأيّامِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، واصْطَفى مِنَ اللَّيالِي لَيْلَةَ القَدْرِ، فَعَظِّمُوا ما عَظَّمَ اللَّهُ، فَإنَّما تَعْظِيمُ الأُمُورِ بِما عَظَّمَ اللَّهُ بِهِ عِنْدَ أهْلِ الفَهْمِ، وأهْلِ العَقْلِ - نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ - . ثُمَّ ذَكَرَ: أنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اخْتارَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] ما قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ فِيما تَقَدَّمَ.
أقْوَلُ: هو الظّاهِرُ المُتَبادِرُ.
السّادِسَةُ: قالَ المَهايِمِيُّ: إنَّما كانَ مِنها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ لِيَكُونَ ثُلْثُ السُّنَّةِ تَغْلِيبًا لِلتَّحْلِيلِ الَّذِي هو مُقْتَضى سِعَةِ الرَّحْمَةِ، عَلى التَّحْرِيمِ الَّذِي هو مُقْتَضى الغَضَبِ فَجُعِلَ أوَّلُ السَّنَةِ وآخِرُها وهو المُحَرَّمُ وذُو الحِجَّةِ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وسَطٌ صَحِيحٌ، أُخِذَ أوَّلُ النِّصْفِ الآخَرِ وهو رَجَبٌ، فَبَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ شَهْرٌ، فَأُخِذَ قَبْلَ الآخَرِ وهو ذُو القِعْدَةِ، لِيَكُونَ مَعَ آخِرِ السَّنَةِ المُتَّصِلَةِ بِأوَّلِها وِتْرًا، وبَقِيَ وتْرِيَّةُ رَجَبٍ فَتَتِمُّ السَّنَةُ عَلى التَّحْرِيمِ بِاعْتِبارِ أوَّلِها وآخِرِها، وأوْسَطِها، مَعَ تَذَكُّرِ وتْرِيَّةِ الحَقِّ المُؤَكِّدِ لِلتَّحْرِيمِ.
انْتَهى.
(p-٣١٥١)السّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ جَماعَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦] عَلى أنَّ تَحْرِيمَ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ ثابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ، وكَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٢] وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥] الآيَةَ.
وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ تَحْرِيمَ القِتالِ فِيها، مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعالى:
﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] قالُوا: ظاهِرُ السِّياقِ مُشْعِرٌ بِأنَّهُ أمَرَ بِذَلِكَ أمْرًا عامًّا في الشَّهْرِ الحَرامِ، لَأوْشَكَ أنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلاخِها، وبِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حاصَرَ أهْلَ الطّائِفِ في شَهْرٍ حَرامٍ، وهو ذُو القِعْدَةِ، كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ أنَّهُ خَرَجَ إلى هَوازِنَ في شَوّالٍ، فَما كَسَرَهم واسْتَفاءَ أمْوالَهم ورَجَعَ فَلُّهم، لَجَؤُوا إلى الطّائِفِ، فَعَمَدَ إلى الطّائِفِ فَحاصَرَهم أرْبَعِينَ يَوْمًا، وانْصَرَفَ ولَمْ يَفْتَتِحْها، فَثَبَتَ أنَّهُ حاصَرَ في الشَّهْرِ الحَرامِ.
وأجابَ الأوَّلُونَ بِأنَّ الأمْرَ بِقَتْلِ المُشْرِكِينَ ومُقاتَلَتِهِمْ مُقَيَّدٌ بِانْسِلاخِ الأشْهُرِ الحُرُمِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ﴾ [التوبة: ٥] الآيَةَ، فَتَكُونُ سائِرُ الآياتِ المُتَضَمِّنَةِ لِلْأمْرِ بِالقِتالِ مُفِيدَةً بِما ورَدَ في تَحْرِيمِ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ، كَما هي مُقَيَّدَةٌ بِتَحْرِيمِ القِتالِ في الحَرَمِ، لِلْأدِلَّةِ الوارِدَةِ في تَحْرِيمِ القِتالِ فِيهِ، فَقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] الآيَةَ، مِن بابِ التَّهْيِيجِ والتَّحْضِيضِ، أيْ: كَما يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِكم إذا حارَبُوكم، فاجْتَمَعُوا كَذَلِكَ لَهم، أوْ هو إذْنٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقِتالِ المُشْرِكِينَ في الشَّهْرِ الحَرامِ، إذا كانَتِ البُداءَةُ مِنهم، كَما قالَ تَعالى: ﴿الشَّهْرُ الحَرامُ بِالشَّهْرِ الحَرامِ والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤] وقالَ تَعالى: ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ فَإنْ قاتَلُوكم فاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] الآيَةَ _، (p-٣١٥٢)وهَكَذا الجَوابُ عَنْ حِصارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أهْلَ الطّائِفِ، واسْتِصْحابِهِ الحِصارِ إلى أنْ دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرامُ، فَإنَّهُ مِن تَتِمَّةِ قِتالِ هَوازِنَ وأحْلافِها مِن ثَقِيفٍ، فَإنَّهم هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَؤُوا القِتالَ، وجَمَعُوا الرِّجالَ، ودَعَوْا إلى الحَرْبِ والنِّزالِ، فَعِنْدَها قَصَدَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَما تَقَدَّمَ، فَلَمّا تَحَصَّنُوا بِالطّائِفِ، ذَهَبَ إلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهم مِن حُصُونِهِمْ، فَنالُوا مِنَ المُسْلِمِينَ، وقَتَلُوا جَماعَةً واسْتَمَرَّ الحِصارُ بِالمَجانِيقِ وغَيْرِها قَرِيبًا مِن أرْبَعِينَ يَوْمًا، وكانَ ابْتِداؤُهُ في شَهْرٍ حَلالٍ، ودَخَلَ الشَّهْرُ الحَرامُ، فاسْتَمَرَّ فِيهِ أيّامًا، ثُمَّ قَفَلَ عَنْهم، لِأنَّهُ يُغْتَفَرُ في الدَّوامِ ما لا يُغْتَفَرُ في الِابْتِداءِ، وهَذا أمْرٌ مُقَرَّرٌ، ولَهُ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ.
فالمُحَرَّمُ هو ابْتِداءُ القِتالِ في الأشْهُرِ الحَرامِ، لا إتْمامُهُ، وبِهَذا يَحْصُلُ الجَمْعُ، ولِذا قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَلَفَ بِاللَّهِ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، ما يَحِلُّ لِلنّاسِ أنْ يَغْزُوا في الحَرَمِ، ولا في الأشْهُرِ الحُرُمِ، وما نُسِخَتْ إلّا أنْ يُقاتِلُوا فِيها.
الثّامِنَةُ: قالَ في (" الإكْلِيلِ ") في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ [التوبة: ٣٦] الآيَةَ، إنَّ اللَّهَ وضَعَ هَذِهِ الأشْهُرَ وسَمّاها ورَتَّبَها عَلى ما هي عَلَيْهِ، وأنْزَلَ ذَلِكَ عَلى أنْبِيائِهِ، فَيُسْتَدَلُّ بِها لِمَن قالَ: إنَّ اللُّغاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ.
التّاسِعَةُ: في (" الإكْلِيلِ ") أيْضًا: اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] مَن قالَ إنَّ الجِهادَ في عَهْدِهِ ﷺ كانَ فَرْضَ عَيْنٍ.
العاشِرَةُ: قالَ ابْنُ إسْحاقَ: كانَ أوَّلَ مَن نَسَأ الشُّهُورَ عَلى العَرَبِ، فَأحَلَّ مِنها ما حَرَّمَ اللَّهُ، وحَرَّمَ مِنها ما أحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ (القَلَمَّسُ) وهو حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الحارِثِ بْنِ مالِكِ بْنِ كِنانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْياسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنانَ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ عَلى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبّادٌ، ثُمَّ ابْنُهُ قَلَعٌ، ثُمَّ أُمَيَّةُ بْنُ قَلَعٍ ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ ابْنُهُ أبُو ثُمامَةَ جُنادَةُ بْنُ (p-٣١٥٣)عَوْفٍ، وكانَ آخِرَهم، وعَلَيْهِ قامَ الإسْلامُ، فَكانَتِ العَرَبُ إذا فَرَغَتْ مِن حَجِّها، اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ، فَقامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَحَرَّمَ رَجَبًا، وذا القِعْدَةِ، وذا الحِجَّةِ، ويُحِلُّ المُحَرَّمَ (عامًا)، ويَجْعَلُ مَكانَهُ (صَفَرَ)، ويُحَرِّمُهُ عامًا لِيُواطِئَ عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، فَيُحِلَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ يَعْنِي ويُحَرِّمَ ما أحَلَّ اللَّهُ. انْتَهى.
و(القَلَمَّسُ) بِقافٍ فَلامٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مِيمٍ مُشَدَّدَةٍ. قالَ في (" القامُوسِ وشَرْحِهِ "): هو رَجُلٌ كِنانِيٌّ مِن نَسَأةِ الشُّهُورِ عَلى مَعَدٍّ في الجاهِلِيَّةِ، كانَ يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ ويَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي ناسِئُ الشُّهُورِ، وواضِعُها مَواضِعَها، ولا أُعابُ ولا أُحابُ. اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ أحْلَلْتُ أحَدَ الصَّفَرَيْنِ، وحَرَّمْتُ صَفَرَ المُؤَخَّرَ، وكَذا في الرَّجَبَيْنِ، (يَعْنِي رَجَبًا وشَعْبانَ)، ثُمَّ يَقُولُ: انْفِرُوا عَلى اسْمِ اللَّهِ تَعالى. قالَ شاعِرُهم:
؎وفِينا ناسِئُ الشَّهْرِ القَلَمَّسُ
وقالَ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ المَعْرُوفُ بِجَذْلِ الطِّعانِ:
؎لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أنَّ قَوْمِي ∗∗∗ كِرامُ النّاسِ أنَّ لَهم كِراما
؎ألَسْنا النّاسِئِينَ عَلى مَعَدٍّ ∗∗∗ شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُها حَراما
؎فَأيُّ النّاسِ فاتُونا بِوِتْرٍ ∗∗∗ وأيُّ النّاسِ لَمْ نُعْلِكْ لِجاما
ورُوِيَ أنَّ أوَّلَ مَن سَنَّ النَّسِيءَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، والَّذِي صَحَّ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ (p-٣١٥٤)وعائِشَةَ، «أنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ أوَّلُ مَن سَيَّبَ السَّوائِبَ، وقالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: «رَأيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَهُ في النّارِ»» .
ثُمَّ حَرَّضَ تَعالى المُؤْمِنِينَ عَلى قِتالِ الكَفَرَةِ، إثْرَ بَيانِ طَرَفٍ مِن قَبائِحِهِمُ المُوجِبَةِ لِذَلِكَ، وأشارَ إلى تَوَجُّهِ العِتابِ والمَلامَةِ إلى المُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
{"ayah":"إِنَّمَا ٱلنَّسِیۤءُ زِیَادَةࣱ فِی ٱلۡكُفۡرِۖ یُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُحِلُّونَهُۥ عَامࣰا وَیُحَرِّمُونَهُۥ عَامࣰا لِّیُوَاطِـُٔوا۟ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَیُحِلُّوا۟ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُیِّنَ لَهُمۡ سُوۤءُ أَعۡمَـٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق