الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ الآيَةُ:
اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بِالسُّكْرِ بِالآيَةِ.
فَقالَ قائِلُونَ: هو السَّكْرانُ الَّذِي لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ، وهَذا مُعْتَلٌّ مِن وجْهٍ: فَإنَّ الَّذِي لا يَعْقِلُ كَيْفَ يُنْهى.
فَقِيلَ في ذَلِكَ: أرادَ بِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلسُّكْرِ، إذا كانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الصَّلاةِ، والنَّهْيُ عَلى أنَّ عَلَيْهِمْ أنْ يُعِيدُوها، وهَذا بَعِيدٌ مِن وجْهٍ، وهو أنَّ السُّكْرَ إذا نافى ابْتِداءَ الخِطابِ، يُنافِي دَوامَهُ، وهَذا حَسَنٌ في إبْطالِ هَذا القَوْلِ، إلّا أنْ يُقالَ:
إنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ السُّكْرِ، وإزالَةِ العَقْلِ بِشُرْبِ القَدْرِ المُسْكِرِ، حالَةَ وُجُوبِ الصَّلاةِ، وهَذا رَفْعُ ما دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ بِالكُلِّيَّةِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: (p-٤٥٨)﴿”لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾“، أيْ في حالَةِ سُكْرِكُمْ، فَلا وجْهَ لِلتَّأْوِيلِ.
الوَجْهُ الآخَرُ: قالُوا المُرادُ بِهِ السَّكْرانُ الَّذِي لَمْ يَنْتَبِذْ نُقْصانُ عَقْلِهِ إلى حَدٍّ يَزُولُ التَّكْلِيفُ مَعَهُ، بَلْ هو فاهِمٌ لِلْخِطابِ، وهَذا بَعِيدٌ، فَإنَّهُ إنْ كانَ كَذَلِكَ، فَلا يَكُونُ مَنهِيًّا عَنْ فِعْلِ الصَّلاةِ، بَلِ الإجْماعُ مُنْعَقِدٌ عَلى أنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ الصَّلاةِ والحالَةُ هَذِهِ.
ومِن أجْلِ ذَلِكَ قالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، في هَذِهِ الآيَةِ: فَإنَّها مَنسُوخَةُ الحُكْمِ.
وعَلى الجُمْلَةِ، اضْطِرابُ هَذِهِ المَحامِلِ يَنْشَأُ مِنهُ قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وهو أنَّ المُرادَ مِنَ الصَّلاةِ مَوْضِعُ الصَّلاةِ، فَتَقْدِيرُهُ: لا تَقْرُبُوا المَساجِدَ الَّتِي هي مَواضِعُ الصَّلاةِ وأنْتُمْ سُكارى، فَإنَّهُ يُتَوَقَّعُ مِنكُمُ الفُحْشُ في المَنطِقِ، وتَلْوِيثُ المَسْجِدِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾، يَعْنِي أنَّ السَّكْرانَ رُبَّما نَزِقَ، فَتَكَلَّمَ بِما لا يَجُوزُ لَهُ، كَما قالَ عَلِيٌّ:
إذا سَكِرَ هَذى، وإذا هَذى افْتَرى.
فَنَهاهم عَنْ دُخُولِ المَسْجِدِ والصَّلاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَماعَةً.
وهَذا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ تَشْهَدُ لَهُ الأُصُولُ والمَعْقُولُ، ومِن أجْلِهِ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ﴾، وذَلِكَ يَقْتَضِي جَوازَ العُبُورِ لِلْجُنُبِ في المَساجِدِ.
وأبُو حَنِيفَةَ يُخالِفُ ذَلِكَ ويَقُولُ:
(p-٤٥٩)بَلِ المُرادُ بِهِ الصَّلاةُ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ والَّذِي ذَكَرْتُمْ يُعْلِمُ ذَلِكَ.
فَيُقالُ: هَذا في ضَرْبِ المَثَلِ، كالَّذِي يَقُولُ لِلْغَضْبانِ: اتَّئِدْ وتَثَبَّتْ حَتّى يَرْجِعَ إلَيْكَ نَفْسُكَ وتَعْلَمَ ما تَقُولُ، إلّا أنَّ المُرادَ بِهِ عَدَمُ العِلْمِ حَقِيقَةً.
وأبُو حَنِيفَةَ يُخالِفُ ذَلِكَ ويَقُولُ: بَلِ المُرادُ بِهِ أيْضًا، إذا حَمَلَ ذَلِكَ عَلى الصَّلاةِ حَمَلَ قَوْلَهُ: إلّا عابِرِي سَبِيلٍ، عَلى الجُنُبِ المُسافِرِ إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ، فَإنَّهُ يَتَيَمَّمُ ويُصَلِّي، فَيَتَعَيَّنُ إضْمارُ عَدَمِ الماءِ فِيهِ، وإذا عَدِمَ الماءَ في الحَضَرِ، كانَ كَذَلِكَ.
وأحْسَبُهُ يَقُولُ: بَنى عَلى الغالِبِ، في أنَّ الماءَ لا يُعْدَمُ في الحَضَرِ، فَيُقالُ: فالَّذِي يَتَيَمَّمُ لَيْسَ جُنُبًا عِنْدَكم حَتّى يُصَلِّيَ صَلَواتِ التَّيَمُّمِ، وأحْسَبُهُ يَمْنَعُ هَذا أيْضًا ويُكابِرُ، فَيُقالُ لَهُ:
إنَّ تَيَمُّمَ الجُنُبِ قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ هَذا، بَلْ فَصَّلَ فَقالَ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ .
وكَيْفَ يَذْكُرُ المُسافِرَ والسَّفَرَ، ثُمَّ يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِن غَيْرِ فَصْلٍ؟ وهَذا واضِحٌ في بُطْلانِ قَوْلِهِ.
وأمّا إذا أرادَ التَّيَمُّمَ، ذَكَرَ الوُجُوهَ الَّتِي بِها يَجُوزُ التَّيَمُّمُ، فَذَكَرَ المَرَضَ وذَكَرَ السَّفَرَ، وذَكَرَ المَجِيءَ مِنَ الغائِطِ، وعَدَمَ الماءِ مُطْلَقًا في أيِّ مَوْضِعٍ كانَ، فَكَيْفَ عَنى بِعابِرِ السَّبِيلِ المُسافِرَ ها هُنا، ولَمْ يَذْكُرْ (p-٤٦٠)عَدَمَ الماءِ، وهو الشَّرْطُ لا السَّفَرُ؟ وهَذا لا جَوابَ عَنْهُ فاعْلَمْهُ، ولِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾، فَأحالَ المَنعَ عَلى عَدَمِ العِلْمِ بِالقَوْلِ، والسَّكْرانُ الطّافِحُ في سُكْرِهِ، المُغَشَّيُّ عَلَيْهِ، تَمْتَنِعُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ لا يَعْلَمُ ما يَقُولُ، بَلْ لِأنَّهُ مُحْدِثٌ غَيْرُ طاهِرٍ، ولا ساجِدٍ ولا راكِعٍ ولا ناوٍ، فَدَلَّ أنَّ الِامْتِناعَ إنَّما نَشَأ مِنَ القَوْلِ فَقَطْ، وذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي قُلْناهُ في تَنْزِيهِ المَسْجِدِ عَنْ هُجْرِ القَوْلِ والخَنا في المَنطِقِ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ بَطَلَ تَأْوِيلُ مَن حَمَلَ السُّكْرَ عَلى النَّوْمِ، لِأنَّ النّائِمَ لا يُصَلِّي، ولا يُتَصَوَّرُ مِنهُ الصَّلاةُ مَعَ النَّوْمِ، ولا طَهارَةَ مَعَ النَّوْمِ.
وبِالجُمْلَةِ، كُلُّ ما اعْتَرَضْنا بِهِ عَلى الفَصْلِ الأوَّلِ، فَهو مُتَوَجِّهٌ ها هُنا فاعْلَمْ.
فَإنْ قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ دَعا رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ قَوْمًا فَشَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ عَوْفٍ لِصَلاةِ المَغْرِبِ فَقَرَأ: ﴿”قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾“، [الكافرون: ١] فالتَبَسَ عَلَيْهِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ .
والجَوابُ أنَّ المُرادَ بِهِ ما قُلْناهُ، فَإنَّهُ إذَنِ التَبَسَ عَلَيْهِ، وتَلا بِداخِلِ المَسْجِدِ، حَتّى تَكَلَّمَ بِما لا يَجُوزُ، وإلّا فالصَّلاةُ واجِبَةٌ في تِلْكَ الحالَةِ قَطْعًا، والَّذِينَ مَنَعُوا اجْتِيازَ الجُنُبِ في المَسْجِدِ، عَرَفُوا أنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ حَمَلُوا الآيَةَ عَلى ما قُلْناهُ، وإنْ كانَ مِنهم مَن خالَفَ.
قالَ: ومَذاهِبُ السَّلَفِ مُسْتَقْصاةٌ في كُتُبِ الأئِمَّةِ، ولَيْسَ ذِكْرُها مُتَعَلِّقًا بِغَرَضِنا، إلّا أنَّ مِنهم مَن تَعَلَّقَ بِما رُوِيَ عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجاجَةَ أنَّها قالَتْ: "سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تَقُولُ:
(p-٤٦١)«جاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ووُجُوهُ بُيُوتِ أصْحابِهِ شارِعَةٌ في المَسْجِدِ، فَقالَ: وجِّهُوا هَذِهِ البُيُوتَ عَنِ المَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ ولَمْ يَصْنَعِ القَوْمَ شَيْئًا رَجاءَ أنْ تَنْزِلَ لَهم رُخْصَةٌ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ بَعْدُ فَقالَ: وجِّهُوا هَذِهِ البُيُوتَ فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحائِضٍ ولا جُنُبٍ"».
قالَ: فَأمَرَهم بِتَوْجِيهِ البُيُوتِ الشّارِعَةِ في المَسْجِدِ، صِيانَةً لِلْمَسْجِدِ عَنِ اجْتِيازِ الجُنُبِ، لِأنَّهُ لَوْ أرادَ القُعُودَ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: «وجِّهُوا هَذِهِ البُيُوتَ فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحائِضٍ ولا جُنُبٍ» مَعْنًى، لِأنَّهُ القُعُودُ مِنهم بَعْدَ دُخُولِ المَسْجِدِ، لا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَوْنِ البُيُوتِ شارِعَةً إلَيْهِ، فَدَلَّ أنَّهُ إنَّما أمَرَ بِتَوْجِيهِ البُيُوتِ، لِئَلّا يُضْطَرُّوا عِنْدَ الجَنابَةِ إلى الِاجْتِيازِ في المَسْجِدِ، إذا لَمْ يَكُنْ لِبُيُوتِهِمْ أبْوابٌ غَيْرُ ما هي شارِعَةٌ إلى المَسْجِدِ.
والِاعْتِراضُ عَلى هَذا، أنَّ الخَبَرَ لا يَجُوزُ أنْ يَثْبُتَ، فَإنَّ الغالِبَ مِن أحْوالِهِمُ المَنقُولَةِ، أنَّهم كانُوا يَغْتَسِلُونَ في بُيُوتِهِمْ، ولِأنَّ المَنعَ مِنَ المُرُورِ لَوْ كانَ المَقْصُودَ، ولَمْ يَتَأتَّ لَهُمُ الِاغْتِسالُ في بُيُوتِهِمْ، لَقالَ لَهُمْ: اتَّخِذُوا أبْوابًا تَجْتازُونَ مِنها لِلِاغْتِسالِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ كانَ بابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَأفْضى إلى المَسْجِدِ وأبْوابِ حُجَرِ نِسائِهِ، وبابِ أبِي بَكْرٍ، وبابِ عَلِيٍّ، وقالَ:
«”سُدُّوا هَذِهِ الخَوْخاتِ غَيْرَ خَوْخَةِ أبِي بَكْرٍ وعَلِيٍّ“».
وعَلى أنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذا القائِلُ، تَسْلِيمٌ مِنهُ لِجَوازِ ذَلِكَ مِن قَبْلُ، ويُدْعى نَسْخًا لا يَصِحُّ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ (p-٤٦٢)أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ﴾ .
قَوْلُهُ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾ يَمْنَعُ مِنَ التَّوَضُّؤِ، وأنْ يَكُونَ مِن إمْساسِ الماءِ خَطَرُ الهَلاكِ أوْ فَسادُ عُضْوٍ، ولَيْسَ المُرادُ بِهِ مُطْلَقَ المَرَضِ إجْماعًا، وقَدْ أطْلَقَ اللَّهُ المَرَضَ في مَواضِعَ مِن كِتابِهِ، وباطَنَهُ رُخَصًا مُخْتَلِفَةً، والمُرادُ بِهِ الأمْراضُ المُخْتَلِفَةُ، لا نَوْعَ واحِدٌ مِنَ المَرَضِ، فَقالَ تَعالى في مَوْضِع: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] .
والمُرادُ ما يَظْهَرُ أثَرُهُ في مَنعِ الصَّوْمِ.
وقالَ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦] .
وعَنى بِهِ نَوْعًا آخَرَ.
وها هُنا عَنى بِالمَرَضِ، القُرُوحَ الَّتِي تَمْنَعُ إيصالَ الماءِ إلى الأعْضاءِ، ويُخْشى مِنهُ فَسادُ عُضْوٍ وهَلاكُ الجُمْلَةِ، أوْ طُولُ الضَّنا عَلى ما اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيهِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾، بِناءً عَلى الغالِبِ، ولا يُشْتَرَطُ فِيهِ السَّفَرُ الطَّوِيلُ، بَلْ ما يُسَمّى سَفَرًا، فَإنَّ عُمُومَ كِتابِ اللَّهِ تَعالى يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وفِي اللَّفْظِ أيْضًا خِلافٌ، والفَرْقُ بَيْنَهُما عِنْدَ مَن فَرَّقَ مَأْخُوذٌ مِن (p-٤٦٣)السُّنَّةِ، ووَرَدَ في تَيَمُّمِ المَجْرُوحِ أخْبارٌ ذَكَرَها الفُقَهاءُ في كُتُبِهِمْ، وهي صَحِيحَةٌ، دالَّةٌ عَلى أنَّهُ يَتَيَمَّمُ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ . اعْلَمْ أوَّلًا أنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ، «”قَبَّلَ بَعْضَ نِسائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إلى الصَّلاةِ ولَمْ يَتَوَضَّأْ“».
ورَوى إبْراهِيمَ التَّيْمِيُّ عَنْ عائِشَةَ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «”كانَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُقَبِّلُ ثُمَّ يُصَلِّي ولا يَتَوَضَّأُ، رُبَّما فَعَلَهُ بِي“».
وعَنْ شَبّابَةَ مَوْلى عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: «رُبَّما يَلْقانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وهو خارِجٌ إلى الصَّلاةِ، فَيُقَبِّلُنِي ثُمَّ يَأْتِي المَسْجِدَ، فَيُصَلِّي ولا يَتَوَضَّأُ».
كُلُّ ذَلِكَ رَواهُ القاضِي إسْماعِيلُ بْنُ إسْحاقَ بِأسانِيدِهِ المُتَّصِلَةِ في كِتابِ أحْكامِ القُرْآنِ.
ورَوى بِإسْنادِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: قالَ عَلِيٌّ: اللَّمْسُ الجِماعُ ولَكِنَّهُ كَنّى عَنْهُ.
ورَوى بِإسْنادٍ عَنْ عاصِمٍ الأحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: المُلامَسَةُ والمُباشَرَةُ الجِماعُ.
(p-٤٦٤)ورَوى بِإسْنادِهِ عَنْ عاصِمٍ الأحْوَلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ:
إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي عَمّا شاءَ، وإنَّ المُباشَرَةَ والرَّفَثَ والتَّغَشِّيَ والإفْضاءَ والمَسِيسَ عَنى بِهِ الجِماعَ.
قالَ: والتَّغَشِّي قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا تَغَشّاها﴾ [الأعراف: ١٨٩] .
والإفْضاءُ: قَوْلُهُ ﴿وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] .
ورَوى بِإسْنادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: كُنّا عَلى بابِ ابْنِ عَبّاسٍ واخْتَلَفْنا في المُلامَسَةِ بِاليَدِ، ومَن كانَ عَرَبِيًّا قالَ الجِماعُ، فَخَرَجَ ابْنُ عَبّاسٍ فَقالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُونَ؟ قالُوا في المُلامَسَةِ، فَمَن كانَ عَرَبِيًّا قالَ الجِماعُ، ومَن كانَ مَوْلًى قالَ اللَّمْسُ بِاليَدِ، فَقالَ: هو مِن فَرِيقِ المَوالِي إنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ يُكَنِّي ما شاءَ، فَكَنّى الجِماعَ مُلامَسَةً، وكَنّى الجِماعَ مُباشَرَةً.
وأكْثَرَ القاضِي إسْماعِيلُ في هَذِهِ الرِّوايَةِ، وأسْنَدَها كُلَّها عَنِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ.
واعْلَمْ أنَّهُ رُوِيَ في مُقابَلَةِ ذَلِكَ بِأسانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأتَهُ وجَسُّها بِيَدِهِ مِنَ المُلامَسَةِ، ومِنها الوُضُوءُ.
وحَدِيثُ القُبْلَةِ مُنْكَرٌ.
قالَ إسْماعِيلُ بْنُ إسْحَقَ: حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ في القُبْلَةِ عَرَضَهُ عَلى نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ وعِيسى بْنِ شاذانَ، فَعَجِبُوا مِنهُ وأنْكَرُوهُ.
وهُوَ مِمّا يُعْتَدُّ بِهِ عَلى حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ، ومَن يُحْسِنُ أمْرَهُ يَقُولُ: (p-٤٦٥)أرادَ أنَّهُ ﷺ كانَ يُقَبِّلُها وهو صائِمٌ، فَغَلِطَ بِهَذا، فَهَذا غايَةُ ما قالَهُ.
والَّذِي يَحْمِلُ المُلامَسَةَ عَلى الجِماعِ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ الأحْداثَ كُلَّها بِألْفاظٍ هي كِنايَةٌ، فَإنَّهُ ذَكَرَ الغائِطَ وهو كِنايَةٌ، فَيَظْهَرُ أنْ يَكُونَ هَذا أيْضًا كِنايَةً عَنِ الجِماعِ.
وهَذا يُجابُ عَنْهُ بِأنَّ الغائِطَ كِنايَةٌ مَشْهُورَةٌ غالِبَةٌ في عُرْفِ الِاسْتِعْمالِ حَتّى لا يُعْرَفَ مِنَ المُتَعارَفِ سِواهُ، والكِنايَةُ المَشْهُورَةُ في الجَنابَةِ الجِماعُ، فالجِماعُ كِنايَةٌ عَنِ اللَّفْظِ الأصْلِيِّ الَّذِي يَسْتَحْيِي عَنْ ذِكْرِهِ، مِثْلُ الغائِطِ كِنايَةٌ عَنِ الفَضْلَةِ المُسْتَقْذَرَةِ، فاللَّهُ تَعالى لَمْ يُكَنِّ عَنْ سَبَبِ الجَنابَةَ بِاللَّفْظِ الأصْلِيِّ المَوْضُوعِ لِلْكِنايَةِ، وإنَّما ذَكَرَ المُلامَسَةَ، وما اشْتُهِرَ في العُرْفِ أنْ يُكَنّى بِها عَنْ سَبَبِ الجَنابَةِ، فَلَوْ أرادَ الكِنايَةَ، لَذَكَرَ اللَّفْظَ المَوْضُوعَ لِلْكِنايَةِ، وهَذا بَيِّنٌ ظاهِرٌ لا غُبارَ عَلَيْهِ.
ومِن وجْهٍ آخَرَ: وهو أنَّهُ ذَكَرَ الغائِطَ وهو سَبَبُ الوُضُوءِ دُونَ الغُسْلِ، فَيَظْهَرُ أنْ يَكُونَ قَرِينَهُ سَبَبَ الوُضُوءِ، لِأنَّهُ تَعالى أفْرَدَ الجَنابَةَ فَقالَ: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ .
وذَكَرَ في مَوْضِعٍ: ”فاطَّهَرُوا“ وهو يَعْنِي الغُسْلَ.
والمُخالِفُ يَقُولُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى الجَنابَةَ ولَمْ يُذْكَرْ سَبَبَها، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبَبَ الحَدَثِ، وهو المَجِيءُ مِنَ الغائِطِ، فَيُشْبِهُ أنْ يَكُونَ قَدْ (p-٤٦٦)ذَكَرَ سَبَبَ الجَنابَةِ، والسَّبَبُ الأصْلِيُّ في الحَدَثِ خُرُوجُ الغائِطِ، والأصْلِيُّ في الجَنابَةِ الجِماعُ، فَيُشْبِهُ أنْ يَكُونَ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُما.
ومِن وجْهٍ آخَرَ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى وتَقَدَّسَ، قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ طَهارَةِ الجُنُبِ والمُحْدِثِ عِنْدَ وُجُودِ الماءِ، فَيُشْبِهُ أنْ يَتَبَيَّنَ طَهارَتَهُما مِن عَدَمِهِ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا بِحَمْلِ المُلامَسَةِ عَلى الجَنابَةِ، لِيَكُونَ قَدْ بَيَّنَ أحْوالَهُما عِنْدَ عَدَمِ الماءِ ووُجُودِهِ، فَأمّا عِنْدَ وُجُودِهِ، فَهو أنَّهُ ذَكَرَ السُّكْرَ النّاقِضَ لِلطَّهارَةِ والجَنابَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ حُكْمَ المُحْدِثِ، فَيُشْبِهُ أنْ يَكُونَ قَدْ ذَكَرَ حُكْمَ الجُنُبِ أيْضًا.
هَذا ما ذَكَرُوهُ وهو ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ حُكْمَ السَّكْرانِ لا لِإيجابِ الطَّهارَةِ، ولَكِنْ لِلْمَنعِ مِن دُخُولِ المَسْجِدِ، كَما ذَكَرْناهُ، وذَكَرَ الجُنُبَ عَلى هَذا الوَجْهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلطَّهارَتَيْنِ، إذْ لَمْ يَذْكُرْ ما يُحْتاجُ فِيهِ إلى الطَّهارَتَيْنِ، فَإنَّ دُخُولَ المَسْجِدِ لا يُحْتاجُ فِيهِ إلى الطَّهارَتَيْنِ، إنَّما يُحْتاجُ فِيهِ إلى إحْداهُما، فَلَمّا فَرَغَ مِن بَيانِ دُخُولِ المَسْجِدِ قالَ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا، وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ﴾ [المائدة: ٦] .
تَعَرَّضَ لِلتَّيَمُّمِ في حَقِّ المُحْدِثِ، لِبَيانِ حُكْمِ طَهارَتِهِ بَعْدَ الفَراغِ مِن أمْرِ المَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُنِ الحُكْمُ الثّانِي مُتَعَلِّقًا بِالأوَّلِ.
والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ، اخْتِلافُ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في تَيَمُّمِ الجُنُبِ.
فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا يُصَلِّي ولا يَتَيَمَّمُ حَتّى يَجِدَ الماءَ، لِأنَّ التَّيَمُّمَ إنَّما (p-٤٦٧)ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى مَعَ ما يَكُونُ مِنهُ الوُضُوءُ، ولَمْ يُذْكَرْ في مَوْضِعِ الجَنابَةِ.
وذَهَبَ قَوْمٌ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أنَّ الجُنُبَ يَتَيَمَّمُ لِلرِّوايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَهم أنْ يَقُولُوا: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في القُرْآنِ ولَكِنَّهُ يُسْتَدْرَكُ بِالِاجْتِهادِ والنَّظَرِ، مِثْلُ ما بَيَّنّا وجْهَهُ، ولَيْسَ كُلُّ ما في القُرْآنِ يَكُونُ جَلِيًّا يُدْرِكُهُ كُلُّ واحِدٍ، ولِذَلِكَ لَمْ يَفْهَمْ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ أنَّ الجُنُبَ يَصِحُّ صَوْمُهُ إذا أصْبَحَ جُنُبًا، حَتّى احْتَجَّ ابْنُ عَبّاسٍ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] إلى قَوْلِهِ ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطُ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ، ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] .
فَإباحَةُ المُباشَرَةِ إلى الصُّبْحِ تَقْتَضِي وُقُوعَ الغُسْلِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وهَذا لَمْ يَفْهَمْهُ غَيْرُهُ، وهو في القُرْآنِ تَحْقِيقًا.
واسْتَدَلَّ بِالقُرْآنِ في أنَّ أقَلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةُ أشْهُرٍ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ احْتِجاجاتٍ غامِضَةٍ بِالقُرْآنِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا أيْضًا في القُرْآنِ ولَكِنَّهُ لا يُعْرَفُ قَبْلَ إعْمالِ الفِكْرِ وإجالَةِ الِاجْتِهادِ، وهَذا بَيِّنٌ.
وبِالجُمْلَةِ، هَذا أقْرَبُ مِن أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ طَهارَةَ الجُنُبِ والمُحْدِثِ عِنْدَ وُجُودِ الماءِ، ثُمَّ يَذْكُرُ طَهارَةَ المُحْدِثِ عِنْدَ عَدَمِهِ ولا يَذْكُرُ طَهارَةَ الجُنُبِ، مَعَ أنَّ الإشْكالَ في تَيَمُّمِ الجُنُبِ أعْظَمُ، فَإنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ المُحْدِثِ والجُنُبِ في الطَّهارَةِ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ، مَعَ افْتِراقِهِما عِنْدَ وُجُودِهِ.
وقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ في الآيَةِ الَّتِي تُقارِبُ هَذِهِ في سُورَةِ (p-٤٦٨)المائِدَةِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا، يَقْتَضِي اشْتِمالَ كِتابِ اللَّهِ تَعالى عَلى تَيَمُّمِ الجُنُبِ.
وإذا قَرَّرْنا ذَلِكَ زالَ هَذا الخَيالُ.
فَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦]، الآيَةُ، فَإنَّما نَسَقُها وسِياقَتُها فِيما يُرى، واللَّهُ أعْلَمُ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ مِن نَوْمٍ، أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ، أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، فاغْسِلُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ، إلى قَوْلِهِ: إلى الكَعْبَيْنِ، وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَرُوا، يَعْنِي بِالماءِ.
وقَدْ فَسَّرَهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ: حَتّى تَغْتَسِلُوا، وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ، ولَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، لِيَكُونَ ذاكِرًا لِلطَّهارَتَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ ووُجُودِهِ، وفي القُرْآنِ تَأْخِيرٌ وتَقْدِيمٌ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿إلا قَلِيلا﴾ [النساء: ٨٣] .
وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكا مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا﴾ [النور: ٢١] .
فَعَلى هَذا، لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لاتَّبَعُوا الشَّيْطانَ إلّا قَلِيلًا، يَرْجِعُ إلى ما قالَ قَبْلَها مِمّا أمَرَهم أنْ يَرُدُّوهُ إلى الرَّسُولِ، وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهم (p-٤٦٩)وأخْبَرَهم أنَّهُ يَعْلَمُهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهم إلّا قَلِيلًا، فَكانَ الِاسْتِثْناءُ إلى ها هُنا.
ويَكْثُرُ في القُرْآنِ التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ في النَّسَقِ.
ورَوى مالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، مِمّا دَلَّ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ فَقالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦]: مَعْناهُ مِنَ المَضاجِعِ، فالنَّوْمُ بِسَبَبِ الحَدَثِ، والغائِطُ ومُلامَسَةُ النِّساءِ: سَبَبانِ آخَرانِ لِلْوُضُوءِ، مِثْلُ القِيامِ مِنَ المَضاجِعِ، فَهَذِهِ أسْبابٌ ثَلاثَةٌ.
وقَوْلُهُ: ﴿وأرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، نَسَقٌ عَلى الوَجْهِ واليَدَيْنِ، ومَنصُوبٌ عَلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الفِعْلِ الواقِعِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] فَأضْمَرَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦]، لَهُ مُوجِبٌ آخَرُ غَيْرُ المَذْكُورِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُذْكَرَ غَسْلُ الوَجْهِ واليَدَيْنِ مُوجِبًا لِلْغائِطِ المَذْكُورِ بَعْدَهُ، فَلْيَكُنِ المُوجِبُ مُقَدَّمًا عَلى المُوجَبِ، وهَذا بَيِّنٌ، ولِأنّا لَوْ لَمْ نُقَدِّرْ هَذا، عَدَدْنا السَّفَرَ والمَرَضَ حَدَثًا، والغائِطَ ولَمْسَ النِّساءِ، ولَيْسَ المَرَضُ والسَّفَرُ حَدَثًا، ولا هُما مِن أسْبابِ الحَدَثِ.
الِاعْتِراضُ عَلَيْهِ أنَّ المُخالِفَ يَقُولُ: لا يُمْكِنُ أنْ تُحْمَلَ الآيَةُ عَلى وجْهٍ لا يُحْتاجُ فِيهِ إلى تَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ، فَإنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦] مُحْدِثِينَ، مِن غَيْرِ أنْ يَذْكُرَ سَبَبَ الحَدَثِ، ذَكَرَ الطَّهارَةَ الصُّغْرى، ثُمَّ قالَ مُطْلِقًا: ﴿وإنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة: ٦]، مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ ذاكِرًا لِسَبَبِ الجَنابَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ﴾، فَذَكَرَ السَّبَبَ بَعْدَ ذِكْرِ المُسَبَّبِ، وأرادَ أنْ يَتَعَرَّضَ لِلسَّبَبَيْنِ الأصْلِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْصُلُ بِهِما الحَدَثانِ غالِبًا، فَقالَ: ﴿أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ .
(p-٤٧٠)والسَّبَبُ الأصْلِيُّ لِلْجَنابَةِ الجِماعُ، والحَدَثُ خُرُوجُ الخارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ والنَّوْمُ وزَوالُ العَقْلِ حَدَثٌ، بِناءً عَلى تَوَهُّمِ خُرُوجِ الخارِجِ، فَرَجَعَ إلَيْهِ، وفي حَقِّ الرَّجُلِ، السَّبَبُ الأصْلِيُّ الجِماعُ، وخُرُوجُ المِنِيِّ مُلْحَقٌ بِهِ، فَهَذا لا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ، بَلْ يَكُونُ الكِتابُ مُبَيِّنًا حُكْمَ الطَّهارَتَيْنِ عِنْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ المُطْلَقِ، ومُبَيِّنًا تَفْصِيلَ السَّبَبَيْنِ عَلى الوَجْهِ الأصْلِيِّ، وهَذا حَسَنٌ بَيِّنٌ.
ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا حاجَةَ إلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، أنَّهُ إذا أمْكَنَ التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ في آيَةِ الطَّهارَةِ المَذْكُورَةِ في سُورَةِ المائِدَةِ، فَلا يُمْكِنُ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ولا جُنُبًا﴾ .
ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ﴾ .
ولَيْسَ الَّذِي تَقَدَّمَ ها هُنا مِمّا سَنَّ بِهِ نَسَقَ الخِطابِ في التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، ولِأجْلِ ذَلِكَ رَوى الأعْمَشُ عَنْ أبِي وائِلٍ، قالَ: كُنْتُ جالِسًا مَعَ أبِي مُوسى وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقالَ أبُو مُوسى:
أرَأيْتَ لَوْ أنَّ رَجُلًا أجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ الماءَ شَهْرًا، يَتَيَمَّمُ ثُمَّ يُصَلِّي؟
فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: لا يَتَيَمَّمُ، وإنْ لَمْ يَجِدِ الماءَ شَهْرًا، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ عَمّارٍ فَرَجَعَ عَنْهُ، وذَكَرَ أنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ، وقالَ: إنَّ عُمَرَ لَمْ يُقْنِعْهُ قَوْلُ عَمّارٍ، وذَكَرَ أنَّهُ لَوْ رَخَّصْنا لَهم في ذَلِكَ، اسْتَثْقَلُوا الِاغْتِسالَ عِنْدَ وُجُودِ الماءِ وقَنِعُوا بِالتَّيَمُّمِ.
(p-٤٧١)وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يَرَوْا في كِتابِ اللَّهِ تَعالى تَيَمُّمَ الجُنُبِ، ولَمْ يُرْشِدْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺعَمّارًا، لَكِنَّهُ كَما أرْشَدَ عُمَرُ إلى الآيَةِ السَّيْفَ مَعَ ما فِيها مِنَ الإشْكالِ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُوا۟ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق