الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ولا جُنُبًا إلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: ٤٣].
التدرُّجُ في تحريمِ الخَمْرِ:
لم يكُنِ النبيُّ ﷺ يُحِلُّ الخمرَ ولا يتناوَلُها قبلَ تحريمِه، وإنّما غايةُ الأمرِ: السكوتُ عنها لسكوتِ اللهِ عنها، توطينًا للنفوسِ وتدرُّجًا في التشريعِ، وإنّما كان النبيُّ يتركُهُ، لنُفُورِ الفِطَرِ الصحيحةِ عمّا يُغَيِّبُ العقلَ ويَجلِبُ السَّفَهَ وسُوءَ التصرُّفِ والهَذَيانَ، وأصَحُّ الفِطَرِ فِطَرُ الأنبياءِ، وقد جاء الوحيُ متدرِّجًا مُستصلِحًا للفِطَرِ التي طرَأَ عليها تبديلٌ مِن أعمالِ الجاهليَّةِ، ولم يكُنْ مَن يشربُ الخمرَ قبلَ تحريمِهِ آثمًا، لأنّ اللهَ لا يُؤاخِذُ أحدًا قبلَ البلاغِ والبيانِ، وأوَّلُ ما نزَلَ مِن القرآنِ في الخمرِ هذه الآيةُ، إشارةً إلى تطهيرِ العِبادةِ ومَوْضِعِها مِن السُّكارى، وكأنّ في الآيةِ ذمًّا وتنقُّصًا لشارِبِ الخمرِ، إذْ مُنِعَ مِن قُرْبِ الصلاةِ، لفَقْدِ عقلِه وعدمِ إقامتِهِ العِبادةَ على ما يُرِيدُ اللهُ، وهذا ظاهرٌ في قولِه تعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾.
والعِلمُ بالصلاةِ وما فيها شرطٌ لصحَّةِ الصلاةِ، ولا يكونُ هذا إلا مِن عاقلٍ.
صلاةُ غيرِ العاقِلِ:
ولا خلافَ عندَ العلماءِ: أنّه لا تَصِحُّ صلاةُ فاقِدِ العقلِ بجنونٍ أو سُكْرٍ.
وأمّا مَن شَرِبَ الخمرَ، ولم يَفْقِدْ عقلَهُ كشاربِ القليلِ، أو شَرِبَ كثيرًا ممّا لا يُسكِرُ إلاَّ الكثيرُ الفاحِشُ منه، فقد أثِمَ واستوجَبَ الحَدَّ، وصلاتُهُ صحيحةٌ لسلامةِ عقلِهِ.
حكمُ تصرُّفاتِ السَّكْرانِ:
وألحَقَ بعضُ الفقهاءِ ببُطْلانِ صلاتِهِ بطلانَ قولِهِ وفعلِهِ في غيرِ الصلاةِ، كالطَّلاقِ والعَتاقِ والنِّكاحِ والبيعِ، وفي المسألةِ خلافٌ قديمٌ عندَ السلفِ وتَبِعَهم الخَلَفُ على أقوالٍ:
الـقـولُ الأولُ: كلُّ قولٍ مِن السَّكْرانِ باطلٌ، مِن بيعٍ وعَتاقٍ ونِكاحٍ وطلاقٍ، ويُحَدُّ بما تَجْنِيهِ جوارحُهُ مِن سرقةٍ وقتلٍ وزِنًى.
وهذا قولُ القاسمِ بنِ محمدٍ وطاوسٍ وعطاءٍ، وذهَبَ إليه اللَّيْثُ والمُزَنِيُّ وأبو العبّاسِ بنُ سُرَيْجٍ، ونَسَبَهُ بعضُ فُقهاءِ الشافعيَّةِ قولًا قديمًا للشافعيِّ، وأنكَرَ نِسبَتَهُ للشافعيِّ الماوَرْدِيُّ وغيرُه.
القولُ الثـاني: يَلزَمُ السكرانَ كلُّ شيءٍ مِن تَبِعَةِ قوْلِهِ وفِعْلِهِ، وهذا قولُ أبي حنيفةَ، واستثنى ما استثناهُ غيرُه مِن العلماءِ ما كان مِن حقِّ اللهِ، كألفاظِ الكفرِ والرِّدَّةِ، وكذا الإقرارُ بالحدودِ على نفسِه.
القولُ الثالثُ: يَلزَمُ السَّكْرانَ الطلاقُ والعَتاقُ والقَوَدُ، ولا يَلزَمُهُ النِّكاحُ والبيعُ، وهذا قولُ مالكٍ.
وفي كلامِ بعضِ الفُقَهاءِ تداخُلٌ في بعضِ صُوَرِ ما يَلزَمُ السَّكْرانَ، بخلافِ ما كان بينَ العلماءِ القائِلينَ بلزومِ كلِّ شيءٍ وبينَ القائلينَ بعدمِ لزومِ أيِّ شيءٍ.
وهذانِ القولانِ أقَلُّ الأقوالِ حظًّا مِن الأدلةِ ومقاصِدِ الشريعةِ.
وللشافعيَّةِ تفصيلٌ يُعَدُّ قولًا رابعًا: وهو أنّهم يُفرِّقونَ بينَ السَّكْرانِ بمُباحٍ كالبَنْجِ المُخَدِّرِ للعلاجِ وكحالةِ المُكْرَهِ، وبينَ السَّكْرانِ بمحرَّمٍ، فالأوَّلُ: لا يُؤخَذُ بقولِهِ ولا يَلزَمُهُ منه شيءٌ، والثاني: يُؤخَذُ بقولِهِ وتَلزَمُهُ لوازمُه، مِن بيعٍ وزواجٍ وطلاقٍ وعَتاقٍ.
وللفقهاءِ كلامٌ كثيرٌ وتفصيلٌ واستثناءٌ في مسألةِ ما يَلزَمُ السَّكرانَ وما لا يَلزَمُهُ، ومَن تتبَّعَ أقوالَ السلفِ، وجَدَ أنّ بعضَ الاستثناءِ عندَ الفقهاءِ لا يحتاجُ إلى بحثٍ ونظرٍ، لتَواتُرِ الأدلةِ على عدمِ مؤاخَذتِهِ به، فإنّ السلفَ لا يَختلِفونَ في أنّ ألفاظَ الرِّدَّةِ لا تَلزَمُ السَّكْرانَ، وأنّ مَن سَكِرَ مُكرَهًا أو مُخطِئًا، أو فقَدَ عَقْلَهُ ببَنْجٍ لا يُسكِرُ: أنّه لا يُؤاخَذُ بشيءٍ مِن أقوالِه، سواءٌ بعَتاقٍ أو طلاقٍ أو نِكاحٍ أو بيعٍ أو قَوَدٍ، لأنّه في حُكْمِ المجنونِ المَطْبُوعِ على الجُنُونِ، ولا حاجةَ لاستثناءِ هذه الصُّوَرِ، للإجماعِ عليها عندَ السلفِ.
وقد صَحَّ عن عثمانَ بنِ عفّانَ: عدمُ إلزامِ السَّكْرانِ بالطلاقِ، مِن غيرِ تفريقٍ بينَ أسبابِ سُكْرِه، لارتفاعِ التكليفِ عنه ولو كان مختارًا لذلك السببِ.
قربُ السَّكْرانِ للصلاةِ:
وفي المرادِ مِن قُرْبِ الصلاةِ في قولِه: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾ خلافٌ عندَ المفسِّرينَ مِن السلفِ في قولِه: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾:
فمنهم: مَن جعَلَ المرادَ بالقُرْبِ: قَصْدَ الصلاةِ ودخولَها، لا دخولَ المساجدِ بِعَيْنِها بلا صلاةٍ، وبهذا القولِ قال عليٌّ وابنُ عبّاسٍ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ والحسنُ وقتادةُ ومجاهدٌ، وهذا هو القولُ الأولُ.
والقولُ الثاني: أنّ المرادَ بالقُرْبِ: مواضِعُها، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ في روايةٍ عنه، وابنِ مسعودٍ وابنِ المسيَّبِ وعطاءٍ وعمرِو بنِ دِينارٍ وعِكْرِمةَ والزُّهْريِّ.
والقولُ الأولُ لا يُنافي الثانيَ، ولا الثاني يُنافي الأولَ، لأنّ مَن منَعَ مِن دخولِ المساجدِ لا يُجيزُ دخولَ الصلاةِ للسَّكْرانِ ولو في البَرِّيَّةِ، ومَن قال بأنّ المرادَ دخولُ الصلاةِ لا يَلزَمُ مِن قولِهِ حصرُ الحُكْمِ فيه، وإنّما قصَدَ أنّ المساجدَ عُظِّمَتْ لأجلِ الصلاةِ والعِبادةِ، ولولاها ما كانتْ مُعظَّمةً، فذكَرُوا غايةَ الحُكْمِ وترَكُوا بدايتَهُ، وتركُهُمْ للبدايةِ لا يعني خروجَها عن الحُكْمِ، ولكنْ يعني أنّ دخولَ الصلاةِ مِن السَّكْرانِ ولو في الفضاءِ أعظَمُ عندَ اللهِ مِن دخولِهِ المسجدَ بلا صلاةٍ، ويُؤكِّدُ هذا: أنّ اللهَ رخَّصَ في دخولِ المسجدِ عُبُورًا، ولم يُرخِّصْ في شيءٍ مِن دخولِ الصلاةِ بأيِّ حالٍ للسَّكْرانِ والجُنُبِ إلاَّ مع الوضوءِ والتيمُّمِ للجُنُبِ خاصَّةً، ومِن قرائنِ هذا: أنّه جاء عن ابنِ عبّاسٍ روايتانِ، وأصحابُهُ منهم مَن ذكَرَ المعنى الأولَ كسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ومجاهدٍ، ومنهم مَن ذكَرَ المعنى الثانيَ كعطاءٍ وعِكْرِمةَ.
ومِثلُ هذا كثيرًا ما يقعُ في قولِ ابنِ عبّاسٍ ويَعُدُّهُ بعضُ الفُقَهاءِ قولَيْنِ عنه.
وليس في حَمْلِ الآيةِ على قُرْبِ المسجدِ صرفٌ لها عن ظاهرِها، بل حملٌ لها على ظاهرِها، لقرائنَ، منها: أنّ اللهَ نَهى عن القُرْبِ: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾، كالنهيِ عن قُرْبِ الخمرِ والمَيْسِرِ: تحريمٌ لاقتنائِها والجلوسِ في موضعٍ تُستعمَلُ هي فيه.
ومِن القرائنِ قولُه: ﴿إلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ﴾، فالعبورُ إشارةٌ إلى أنّ المرادَ به محلُّ الصلاةِ، فضلًا عن فِعْلِها.
والخِطابُ في قولِه تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى﴾ توجيهٌ للمُسْلِمِينَ قبلَ القطعِ بتحريمِ الخمرِ، فلم يُنْهَ الناسُ عنها فضلًا عن عِقابِهم بالحَدِّ عليها، والنهيُ تَوَجَّهَ للمؤمِنِ قبلَ سُكْرِهِ أنْ يَسكَرَ عندَ قُرْبِ الصلاةِ، فيتسبَّبَ ذلك في تركِهِ الصلاةَ أو تَرْكِهِ إقامتَها على وجهِها فلا تُقبَلَ، ويتضمَّنُ الخِطابُ حِينَها بدَلالةِ المفهومِ جوازَ السُّكْرِ في غيرِ وقتِ قُرْبِ الصلاةِ، فالخِطابُ تَوَجَّهَ للعاقلِ ألاَّ يسكَرَ عندَ قُرْبِ الصلاةِ، لا للسَّكْرانِ أنْ يقترِبَ مِن الصلاةِ، لأنّ السَّكْرانَ غيرُ مُخاطَبٍ لعدمِ عقلِه.
وفي هذا قرينةٌ على نهيِ الرجُلِ عن أكلِ الثُّومِ والبصلِ عندَ قُرْبِ الصلاةِ جماعةً، ففي الحديثِ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنْ هاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الخَبِيثَتَيْنِ، وقالَ: (مَن أكَلَهُما، فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنا)[[أخرجه أحمد (١٦٢٤٧) (٤/١٩)، وأبو داود (٣٨٢٧) (٣/٣٦١)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٦٦٤٧) (٦/٢٣٦).]]، فالسكرُ عندَ نزولِ هذه الآيةِ لم يكُنْ مُحرَّمًا، فنُهِيَ السكرانُ وآكِلُ الثُّومِ والبصلِ عن قُرْبِ الصلاةِ، يعني: موضعَها، وتعدّى نهيُ السكرانِ عن أداءِ الصلاةِ نفسِها أيضًا، لعدمِ العقلِ عندَ أدائِها، فكان نهيُ الرجلِ عن قُرْبِ الصلاةِ وهو سكرانُ أشَدَّ، لهذا جاء في القرآنِ، وجاء النهيُ عن الصلاةِ جماعةً لآكِلِ الثُّومِ والبصلِ في السُّنَّةِ، ولو أدّاها صحَّتْ منه، بخلافِ فاقِدِ العقلِ بسُكْرٍ ونحوِه.
قربُ الصلاةِ جماعةً برائحة كريهة:
ولا يجوزُ لأحدٍ أنْ يتعمَّدَ أكْلَ الثُّومِ والبصلِ ليُعذَرَ بتركِ الصلاةِ جماعةً، كما أنّه لا يُفهَمُ مِن الآيةِ: أنّه يجوزُ للصحابةِ شربُ الخمرِ قبلَ تحريمِهِ قُبيلَ الصلاةِ فيُعذَرُوا بتركِ الصلاةِ، بل إنّ الآيةَ دالَّةٌ على النهيِ عن الفعلِ قبلَ الصلاةِ حتى لا تُترَكَ الصلاةُ، ولهذا كانوا يَشربونَها بعدَ نزولِ هذه الآيةِ وقبلَ التصريحِ بالتحريمِ بعدَ صلاةِ العِشاءِ، وبعد صلاةِ الغداةِ، كما روى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «كانوا لا يشرَبونَها عندَ الصلاةِ، فإذا صَلَّوُا العِشاءَ شَرِبوها، ولا يُصبِحُونَ حتى يَذْهَبَ عنهم السُّكْرُ، فإذا صلَّوُا الغَداةَ شَرِبُوها، فما يأتي الظُّهْرُ حتى يذهَبَ عنهم السُّكْرُ»[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٧١٧).]].
ويُستثنى مَن لم يَجِدْ طعامًا إلاَّ ثُومًا أو بصلًا، فله أكلُهُ ولو قبلَ الصلاةِ، ويُعذَرُ بتركِها جماعةً، واللهُ أعلَمُ.
دخولُ المساجِدِ للجُنُبِ:
وقولُه تعالى: ﴿ولا جُنُبًا إلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ يتضمَّنُ تحريمَ الصلاةِ بلا طهارةٍ، وتحريمَ دخولِ المسجدِ إلاَّ برفعِ الحَدَثِ الأكبرِ أو تخفيفِهِ بوضوءٍ، كما هو عملُ الصحابةِ.
والنهيُ عن قُرْبِ الصلاةِ إلاَّ بغُسْلٍ للجُنُبِ مُطلَقٌ قُيِّدَ بما بعدَهُ مِن جوازِ التيمُّمِ عندَ فقدِ الماءِ، وليس في الآيةِ منعُ الجُنُبِ مِن قُرْبِ الصلاةِ عندَ فقدِ الماءِ في الحَضَرِ بدَلالةِ اقترانِهِ مع السَّكْرانِ، وذكَرَ الغُسْلَ في قولِه: ﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾، لأنّ الآيةَ جَرَتْ مَجرى الغالبِ، فالماءُ يُوجَدُ في الحَضَرِ، وكذا في المساجدِ، فالمسافِرُ مَظِنَّةُ فَقْدِ الماءِ والصلاةِ في العراءِ، وليس في الآيةِ حَصْرٌ، وإنّما هي لبيانِ اشتراكِ الحُكْمِ بينَ السَّكْرانِ والجُنُبِ في تحريمِ دخولِ المسجدِ فضلًا عن أداءِ الصلاةِ، فنهيُ الجُنُبِ قَدْرٌ زائدٌ عن نهيِ المُحْدِثِ حَدَثًا أصغَرَ، فيجوزُ للمُحْدِثِ حَدَثًا أصغَرَ أنْ يدخُلَ المسجِدَ، ولكنَّ السَّكْرانَ والجُنُبَ يَحرُمُ عليهما ذلك، لقولِه: ﴿لا تَقْرَبُوا﴾، فالقُرْبُ قَدْرٌ فوقَ المُباشَرةِ، ولرفعِ الالتباسِ ذكَرَ اللهُ جوازَ تيمُّمِ الجُنُبِ عندَ فقدِ الماءِ بعدَ ذلك كما في قولِه: ﴿ولا جُنُبًا إلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾، ففي قولِه: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ بعدَ قولِه: ﴿ولا جُنُبًا﴾ إشارةٌ إلى اختلافِ الموضعَيْنِ في الحُكْمِ، فالأولُ نهيٌ عن موضعِ الصلاةِ، والثاني يتضمَّنُ نهيَ الجُنُبِ عن الصلاةِ بلا وضوءٍ أو تيمُّمٍ.
ولا فَرْقَ في حُكْمِ الجُنُبِ بينَ الحاضِرِ والمسافِرِ عندَ فقدِ الماءِ عندَ عامَّةِ السلفِ وجمهورِ الفقهاءِ، خلافًا لأبي حنيفةَ، وجماعةٌ مِن فُقَهاءِ الحنفيَّةِ لا يُفرِّقونَ كالجمهورِ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ والأوزاعيِّ.
مباشرةُ المعتكِفِ لزوجتهِ:
وفي الآيةِ: دليلٌ على تحريمِ الجِماعِ في المسجدِ للمُعتكِفِ وغيرِه، لدَلالةِ الآيةِ بالنهيِ عن قُرْبِ الصلاةِ للجُنُبِ، فسببُ الجنابةِ مِن بابِ الأَوْلى.
الاحتلامُ في المسجد، وتخفيفهُ بالوضوء:
ومَن نام أوِ احتلَمَ لا يأثَمُ، لعدمِ تكليفِهِ عندَ وُرُودِ السببِ عليه، ويخرُجُ يغتسلُ أو يتخفَّفُ مِن الجنابةِ بوضوءٍ، كما هو عملُ الصحابةِ، كما رواهُ سعيدُ بنُ منصورٍ والأثرَمُ، عن عطاءٍ، قال: «رأيتُ أصحابَ النبيِّ ﷺ يَجلِسونَ في المسجدِ وهم مُجْنِبُونَ إذا توَضَّؤُوا وُضوءَ الصلاةِ»[[«التفسير من سنن سعيد بن منصور» (٦٤٦) (٤/١٢٧٥)، و«تفسير ابن كثير» (٢/٣١٣).]].
وسندُه صحيحٌ.
وبنحوِه روى زيدُ بنُ أسلَمَ عنهم.
وقال بهذا أحمدُ وإسحاقُ: أنّ الوضوءَ يُخفِّفُ، ويجوزُ معه المُكْثُ.
وقال مالكٌ: بمنعِ المُكْثِ والمرورِ بكلِّ حالٍ، وهو ظاهرُ مذهبِ الحنفيَّةِ.
وكان أبو حنيفةَ يمنعُ المرورَ إلا للمتيمِّمِ، وأمّا المُكْثُ: فيمنعُهُ بكلِّ حالٍ، أخذًا بظاهرِ الحديثِ المرويِّ في «سُننِ أبي داودَ»، مِن حديثِ أفْلَتَ بنِ خليفةَ، عن جَسْرَةَ بنتِ دِجاجَةَ، عن عائشةَ مرفوعًا: (لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحائِضٍ ولا جُنُبٍ)[[أخرجه أبو داود (٢٣٢) (١/٦٠).]].
والحديثُ ضعيفٌ لا يُحتَجُّ به، تفرَّدتْ به جَسْرَةُ، وعنها أفْلَتُ، قال البخاريُّ: «عندَها عجائبُ»[[«التاريخ الكبير» للبخاري (٢/٦٧ رقم ١٧١٠).]].
وجَسْرَةُ كوفيَّةٌ ليستْ معروفةً بالحديثِ ولا بالفقهِ، وليستْ معروفةً بالأخذِ عن عائشةَ ولا بمجالستِها، ولعائشةَ أصحابٌ كثرٌ يَرْوُونَ عنها حديثَها، ويَحمِلونَ فِقهَها مِن الرِّجالِ والنِّساءِ، وفي قَراباتِها مِن النِّساءِ والرِّجالِ ما لا يَفُوتُ عليهم مِثلُه، ولا يَفُوتُ عليها تحديثُهم به.
وضعَّفَ أحمدُ أفْلَتَ مرَّةً[[ينظر: «شرح السُّنَّة» للبغوي (٢/٤٦)، و«تهذيب التهذيب» (١/٣٦٦ رقم ٦٦٨).]]، وقال في أُخرى: «لا أرى به بأسًا»[[«العلل ومعرفة الرجال» لأحمد رواية ابنه عبد الله (٣/١٣٦ رقم ٤٥٩٢).]].
وجاء مِن حديثِ أبي الخطّابِ، عن مَحْدُوجٍ الذُّهْلِيِّ، عن جَسْرَةَ، عن أمِّ سَلَمَةَ عندَ ابنِ ماجَهْ[[أخرجه ابن ماجه (٦٤٥) (١/٢١٢).]]، وفيه مجهولانِ، واضطرَبَتْ فيه جَسْرَةُ، تارةً تَرْوِيهِ عن عائشةَ، وتارةً عن أمِّ سلمةَ، والصحيحُ عن عائشةَ كما قاله أبو زُرْعةَ[[«علل الحديث» لابن أبي حاتم (٢/١٣٨).]].
دخولُ الحائِضِ للمسجِدِ:
وقد ذهَبَ المُزَنِيُّ: إلى جوازِ دخولِ الحائضِ للمسجدِ.
وجعَلَ أحمدُ حُكْمَها كالجُنُبِ، لو توضَّأتْ جاز أنْ تدخُلَ، وإنّما ذكَرَ الجُنُبَ، لأنّ وصفَ الجنابةِ يقعُ مِن الرجالِ والنساءِ، ولأنّ الرجالَ أكثَرُ قُرْبًا للمساجدِ ومُكْثًا فيها.
ولا يَلزَمُ اشتراكُ الحائضِ في الحُكْمِ، لأنّ الجنابةَ سببٌ يُمكِنُ لصاحِبِهِ رفعُهُ، بخلافِ الحيضِ، فالمرأةُ لا يُرفَعُ حيضُها إلاَّ بأمرِ اللهِ، وذِكرُهُ مؤكَّدٌ لو اشترَكَ مع الجُنُبِ في الحُكْمِ، فالحائضُ أيسَرُ مِن الجُنُبِ، والأَوْلى لها الوضوءُ إنْ دخَلَتْ بشرطِ عدمِ تلوثِ المسجدِ باستثفارٍ وحَفائِظَ ونحوِها، وتُبتلى النساءُ بدخولِ المساجدِ كنساءِ أهلِ الصُّفَّةِ ومَن تَقُمُّ المسجدَ، وعدمُ بيانِ الحُكْمِ القطعيِّ أمارةٌ على التيسيرِ.
وحديثُ عائشةَ، أنّ النبيَّ ﷺ قال لها: (ناوِلِينِي الخُمْرَةَ)، وهي بِساطٌ للصلاةِ، قالتْ: إنِّي حائِضٌ! فقال: (إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ)[[أخرجه مسلم (٢٩٨) (١/٢٤٤).]].
بيَّنَ به المرادَ: أنّ الحَيْضَ لا يُرفَعُ كالجنابةِ فتَرفعَهُ بالغُسْلِ، فإنّ الغُسْلَ لا يَرفَعُ الحيضَ ما دام نازِلًا، وانقطاعُهُ بيدِ اللهِ لا بيدِها، فخُفِّفَ في الحائضِ أكثَرَ مِن الجُنُبِ.
واستدَلَّ جماعةٌ مِن الفُقَهاءِ بهذا الحديثِ: على منعِ الحائضِ مِن دخولِ المسجدِ.
وليس بصريحٍ، ولو استُدلَّ به، فلخوفِ تنجيسِ أرضِ المسجدِ، فالنساءُ في زمانِهم لا يَجِدُ كثيرٌ منهنَّ ما يَسْتَثْفِرْنَ به، لِضَعْفِ الحالِ، واللهُ أعلَمُ.
وفي قولِه تعالى: ﴿إلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ﴾ استثناءٌ للتيسيرِ ورفعِ الحَرَجِ لمَن دخَلَ المسجدَ مِن غيرِ مُكْثٍ، كالعابرِ الذي يأخُذُ متاعًا أو يبحثُ عن حاجتِه، أو يدخُلُ مِن بابٍ ويخرُجُ مِن بابٍ آخَرَ لكونِه أيسَرَ له، وقد روى ابنُ جريرٍ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ: أنّ سببَ نزولِ الآيةِ في رجالٍ مِن الأنصارِ كانتْ أبوابُهُمْ في المسجدِ، فتُصِيبُهُمْ جَنابةٌ ولا ماءَ عندَهم، فيُرِيدُونَ الماءَ ولا مَمَرَّ لهم إلاَّ في المسجدِ، فأنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ[[«تفسير الطبري» (٧/٥٧).]].
والخبرُ مرسَلٌ لا يصحُّ.
ورُوِيَ عن بعضِ السلفِ: أنّ عابرَ السبيلِ في الآيةِ هو المسافرُ، رُوِيَ هذا عن عليٍّ وابنِ عبّاسٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٥٠ ـ ٥٣)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٢١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٥٩).]].
ورُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ وابنِ مسعودٍ وسعيدٍ وعمرِو بنِ دِينارٍ: أنّ عابرَ السبيلِ: المارُّ[[«تفسير الطبري» (٧/٥٤ ـ ٥٨)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٢٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٦٠).]].
ويظهَرُ أنّ مَن حَمَلَهُ على المسافرِ، حَمَلَهُ على الأغلبِ، لفقدِهم الماءَ الذي يَرْفَعُونَ به الحَدَثَ، ويتخفَّفونَ به ولو بالوضوءِ، وليس المرادُ تقييدَهُ بالمسافرِ وخروجَ غيرِه مِن حُكْمِهِ، ولذا رُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ المَعْنَيانِ.
ثمَّ قال تعالى: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾.
وفي ذِكرِ السفرِ: حَمْلٌ للأغلبِ، لأنّ المسافرَ لا يَجِدُ الماءَ، وليس فيه أنّ الحاضرَ لا يستعملُهُ عندَ فَقْدِه، لأنّ الغالبَ في الحاضرِ: أنّه في بلدٍ معمورةٍ بالبساتينِ والآبارِ، بخلافِ المسافِرِ في زمانِهم.
والقولُ بأنّه خاصٌّ بالمسافرِ لظاهرِ السياقِ غلطٌ، لأنّه يَلزَمُ منه منعُ الصحيحِ العاجزِ، وجوازُهُ لكلِّ مريضٍ ولو كان قادرًا، لأنّه قال: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾، ولأنّ اللهَ قيَّدَ الجميعَ بعدمِ وجودِ الماءِ في آخِرِها: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾، وبهذا استَدَلَّ أحمدُ على أنّ كلَّ شيْءٍ يتحوَّلُ عن اسم الماء لا يتوضَّأُ به، لظاهر الآية[[«مسائل ابن هانئ» (١/٥).]].
والمرضُ في الآيةِ مخصوصٌ بما يُعجَزُ معه عن استعمالِ الماءِ كالحروقِ، أو يُقدَرُ معه على استعمالِ الماءِ ولكنَّه يُؤخِّرُ العافيةَ والبُرْءَ، فيجوزُ التيمُّمُ، وخوفُ المرضِ كالمرضِ، مِثلُ البردِ الشديدِ الذي يُخشى معه مِن الموتِ والمرضِ عندَ الغُسْلِ والوضوءِ، فيجوزُ معه التيمُّمُ.
العاجزُ عن استعمالِ الماء:
ومَن لا يَستقِلُّ بنفسِهِ في استعمالِ الوضوءِ وغَسْلِ أعضائِه: يجوزُ له التيمُّمُ ولو كان الماءُ حاضرًا، كالمشلولِ الذي لا يستطيعُ رفعَ الماءِ ولا إدارتَهُ على يدَيْهِ ووجهِهِ وقدمَيْهِ، ويَقْوى على بسطِ كفَّيْهِ على الترابِ ورفعِهما إلى وجهِه، يجوزُ له التيمُّمُ ما دام لا يَستقِلُّ بنفسِهِ في استعمالِ الماءِ ولو وجَدَ مَن يُوَضِّئُه، كحالِ المُصلِّي الذي لا يستطيعُ القيامَ إلاَّ بغيرِه، لا يجبُ عليه ما دام عاجزًا بنفسِه، وذلك كالشيخِ الكبيرِ الذي يَقْوى على التيمُّمِ ويَعجِزُ عن الوضوءِ إلاَّ بوَلَدِهِ أو زوجِهِ أو خادمِهِ، ولو وضَّأَهُ غيرُهُ، صحَّ بلا خلافٍ، لكنَّه لا يجبُ، لأنّ الخِطابَ تَوَجَّهَ إليه لا إلى غيرِه، كما في قولِه تعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، وفي الصلاةِ قولُهُ ﷺ: (صَلِّ قائِمًا، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقاعِدًا)[[أخرجه البخاري (١١١٧) (٢/٤٨).]].
ولو وجَبَ عليه الوضوءُ عندَ عجزِهِ مع قُدْرتِهِ بغيرِه، لانصرَفَ الأمرُ إلى غيرِه بإعانتِه، ولَحِقَهُ الإثمُ بتقصيرِه.
والقدرةُ الخاصَّةُ في استعمالِ الماءِ شرطٌ في وجوبِه، بخلافِ القدرةِ الخاصَّةِ في جلبِ الماءِ واستخراجِه، ليستْ شرطًا في الوجوبِ، فمَن عجَزَ بنفسِهِ عن إخراجِ الماءِ مِن البئرِ إلاَّ بإعانةِ خادمِهِ، وجَبَ عليه استخراجُهُ ما دام قادرًا على استعمالِهِ بنفسِه، لأنّ الوحيَ نزَلَ ولا يستقِلُّ كلُّ واحدٍ مِن الناسِ بنفسِهِ في استخراجِ الماءِ وجلبِهِ، فجاء الأمرُ بالوضوءِ مِن غيرِ تقييدٍ، فدَلَّ على وجوبِهِ على كلِّ قادرٍ على إخراجِهِ وجلبِهِ بنفسِهِ أو بغيرِه، وجاء الاستثناءُ في الوحيِ على العاجزِ بمرضٍ، والعادمِ للماءِ لسفرٍ ونحوِه، وهذا معنًى يتعلَّقُ بالنفسِ لا يتعدّاها.
تقديمُ المَرَضِ على السَّفَرِ:
وإنّما ذكَرَ اللهُ المرضَ قبلَ السفرِ، لأنّ المرضَ أكثَرُ وقوعًا في الناسِ، خاصَّةً في أزمِنةِ مشقَّةِ الأسفارِ، ولأنّ المرضَ عذرٌ يَنْزِلُ بلا اختيارٍ ولا سببٍ مِن المريضِ، بخلافِ السفرِ فيختارُهُ المسافِرُ.
الوضوءُ مِن الخارِجِ من السبيلَيْنِ:
والمرادُ بقولِه: ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكُمْ مِنَ الغائِطِ﴾، يعني: مكانَ قضاءِ الحاجةِ، وفيه كنايةٌ عن الخارِجِ مِن السَّبِيلَيْنِ، وجَرى الحُكْمُ في الآيةِ مَجرى العادةِ والسلامةِ، لا مجرى الشذوذِ والمرضِ، كمَن تخرُجُ فَضَلاتُهُ مِن غيرِ السبيلَيْنِ لمرضٍ أو عاهةٍ، فالحُكْمُ واحدٌ.
الخارجُ مِن غيرِ السبيلَيْنِ:
وما خرَجَ مِن البدنِ مِن غيرِ السبيلَيْنِ، لا الخارجُ منهما ولو مِن غيرِهما: لا يَنقُضُ الوضوءَ، كالقَيْءِ والرُّعافِ، فضلًا عن النُّخامةِ والبُزاقِ، ولو أنتَنَ رِيحُها.
الخارجُ مِن السبيلَيْنِ غيرُ النجسِ:
وقد اتَّفَقَ العلماءُ في نقضِ الوضوءِ بما خرَجَ مِن السبيلَيْنِ مِن النجاسةِ والمَنِيِّ، واختلَفُوا فيما خرَجَ منهما وليس بنجسٍ، أو مِن غيرِهما، سواءٌ كان نجسًا أو ليس بنجسٍ، كرُطُوبةِ فَرْجِ المرأةِ والرُّعافِ والقيءِ والحِجامةِ والفَصْدِ، لاختلافِهم في علةِ النقضِ في الآيةِ والأحاديثِ:
فمنهم: مَن علَّقَ الحُكْمَ بالمَخرَجِ، كالشافعيِّ وأصحابِه.
ومنهم: مَن علَّقَه بالخارِجِ، كمالكٍ وأصحابِه.
ومنهم: مَن علَّقَهُ بهما جميعًا، فجعَلَ الوضوءَ ينتقِضُ بما خرَجَ مِن محلِّ النجاسةِ ولو كان طاهرًا، لأنّ الممرَّ يُنَجِّسُهُ، وجعَلَ كلَّ نجسٍ ينقُضُ الوضوءَ ولو مِن مَخرَجٍ طاهرٍ، كالرُّعافِ والحجامةِ والفصدِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأحمدَ.
وفي رطوبةِ المرأةِ عندَ أحمدَ وغيرِهِ اختلافٌ.
ولأنّ مالكًا وأصحابَهُ عَلَّقُوا العِلةَ بالخارِجِ، فلا ينتقِضُ الوضوءُ عندَهم بخروجِ الحَصاةِ مِن الدُّبُرِ، وكذا الدودةُ والمَعْدِنُ والخيطُ والشَّعْرُ.
والشافعيُّ عَلَّقَهُ بالمَخرَجِ، فيَرى كلَّ ما خرَجَ مِن السبيلَيْنِ ناقضًا، وما خرَجَ مِن غيرِهما لا ينقضُ، كالدمِ والرُّعافِ، والقيءِ والحِجامةِ، قالوا: لأنّ الريحَ تنقُضُ الوضوءَ مِن أسفلُ، ولا تنقُضُ الوضوءَ إنْ خرَجَتْ مِن أعْلى، وكِلاهما ريحٌ خارجةٌ مِن الجَوْفِ.
وإنْ كان هذا الرأيُ قويًّا، إلا أنّ التعليلَ فيه نظرٌ، فإنّ الرِّيحَيْنِ وإنْ خرَجا مِن الجوفِ، فإنّهما يختلِفانِ، فوجَبَ اختلافُ حُكْمِهما، فليس جوفُهما واحدًا، فالفرقُ بينَ الرِّيحَيْنِ كالفرقِ بينَ الطعامَيْنِ: القيءِ والغائطِ، فجوفُ الغائطِ غيرُ جوفِ القيءِ، وكذلك الريحُ.
الجماعُ ولَمْسُ المرأةِ:
وقولُه: ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ المرادُ به: الجِماعُ في قولِ أكثرِ السلفِ مِن المفسِّرينَ والفقهاءِ، كعليٍّ وابنِ عبّاسٍ وأُبَيِّ بنِ كعبٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ والشعبيِّ وطاوسٍ وقتادةَ[[«تفسير الطبري» (٧/٦٣ ـ ٦٨)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٢٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٦١).]].
وقال بعضُهم: إنّ المرادَ بالملامَسةِ مسُّ الجسدِ مِن غيرِ جِماعٍ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ والليثِ والأوزاعيِّ.
رَوى طارقٌ عن ابنِ مسعودٍ، قال: «اللمسُ: ما دونَ الجِماعِ»[[«تفسير الطبري» (٧/٦٩)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٢٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٦١).]].
وقال غيرُ واحدٍ مِن السلفِ بأنّ مسَّ المرأةِ ينقُضُ الوضوءَ، كابنِ عمرَ وغيرِه فيما رواهُ نافعٌ عنه: «أنّه كان يتوضَّأُ مِن قُبْلةِ المرأةِ»[[«تفسير الطبري» (٧/٧١).]].
ولكنَّهم اختلَفُوا في الحالِ التي يجبُ معها الوضوءُ:
فمنهم: مَن قيَّدَهُ بلمسِ الشهوةِ، كمالكٍ والشافعيِّ، بحائلٍ أو بغيرِ حائلٍ، ويخرُجُ على هذا مسُّ الزوجةِ للسلامِ وتناوُلِ المتاعِ، أو مسُّ المَحارِمِ والصِّغارِ اللاتي لا يُشتهى مِثلُهُنَّ.
ومنهم: مَن قيَّدَهُ بمسِّ اليدِ لا بغيرِها مِن البدنِ، كالأوزاعيِّ.
وظاهرُ فعلِ ابنِ عمرَ تقييدُهُ بالشهوةِ التي يكونُ معها انتشارٌ، فإنّه كان يتوضَّأُ مِن القُبْلةِ، وغالبًا ما يكونُ معها شَهْوةٌ، وأمّا سائرُ المسِّ للمرأةِ، فكثيرٌ، ولو كان يَتوضَّأُ مِن كلِّ مسٍّ، لَذُكِرَ ولم تُخَصَّصِ القُبْلةُ وشِبْهُها.
وروى سالمٌ، عن أبيهِ، أنّه قال: «مَن قَبَّلَ امْرَأَتَهُ، أوْ جَسَّها بِيَدِهِ، فَعَلَيْهِ الوُضُوءُ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٦٤) (١/٤٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (١/١٢٤).]]، وظاهرُه جَسُّ الشَّهْوةِ، لأنّه قَرَنَهُ بالقُبْلةِ وما أطلَقَ المسَّ.
ويُفسِّرُ الحُكْمَ المُجمَلَ في الآيةِ ـ على القولِ بأنّ اللمسَ هو ما دونَ الجِماعِ ـ السُّنَّةُ الثابتةُ بأنّ النبيَّ ﷺ لم يكُنْ يَتوضَّأُ مِن لمسِ غيرِ الشهوةِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ عائشةَ، أنّ النبيَّ ﷺ كان يُصلِّي وهي مُعْتَرِضَةٌ بينَ يدَيْهِ، فإذا سجَدَ، غَمَزَها[[أخرجه البخاري (٣٨٢) (١/٨٦)، ومسلم (٥١٢) (١/٣٦٧).]].
وفي «صحيحِ مسلمٍ»: أنّها تفقَّدَتِ النبيَّ ﷺ في ليلةٍ وهو يُصلِّي، فوقَعَتْ يدُها على قَدَمِهِ وهو ساجدٌ[[أخرجه مسلم (٤٨٦) (١/٣٥٢).]].
ويستدلُّ الشافعيُّ على أنّ المرادَ بالمسِّ في الآيةِ: مسُّ اليدِ، لا الجنابةُ، لأنّ حُكْمَ الجنابةِ مَضى أولَ الآيةِ فلا يُكرَّرُ، وهذا يُمكنُ أنْ يُقالَ عندَ الاشتراكِ في الحُكْمِ في الموضعَيْنِ، فالحُكْمُ بينَهما مختلفٌ، كما تقدَّمَ.
ومَن استدَلَّ بأنّ اللمسَ هو مسُّ الجسدِ وليس الجِماعَ، أخذًا مِن النهيِ عن بيعِ المُلامَسةِ وهي مسُّ اليدِ، فهذا غلطٌ، لأنّ للشريعةِ وضعًا واستعمالًا للمسِّ يُفهَمُ مِن السِّياقِ، لا مِن اللفظةِ المجرَّدةِ، وقياسُ اللمسِ الواردِ في الشريعةِ بعضِهِ على بعضٍ لمجرَّدِ الاشتراكِ اللفظيِّ مِن غيرِ الاعتبارِ بالسياقِ، ليس مِن طريقةِ العربِ، وإنّما مِن طريقةِ الأعاجمِ، فلا يُمكنُ أنْ يَفْهَمَ عربيٌّ فصيحٌ مِن النهيِ عن بيعِ المُلامَسةِ معنى الجِماعِ ولا ما يُقارِبُه، بل ولا وُرُودَ للذكورةِ والأنوثةِ فيه، فالسياقُ له أثرٌ على الألفاظِ، وقد روى ابنُ جريرٍ وابنُ المُنذِرِ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: «ذكَرُوا اللمسَ، فقال ناسٌ مِن المَوالي: ليس بالجِماعِ، وقال ناسٌ مِن العربِ: اللمسُ الجِماعُ، قال: فأتيتُ ابنَ عبّاسٍ، فقلتُ له: إنّ ناسًا مِن المَوالي والعربِ اختلَفُوا في اللمسِ، فقالَتِ المَوالي: ليس بالجِماعِ، وقالتِ العربُ: الجماعُ، قال: فمِن أيِّ الفريقَيْنِ كنتَ؟ قلتُ: كنتُ مِن المَوالي، قال: غُلِبَ فريقُ المَوالي، إنّ اللمسَ والمسَّ والمباشرةَ: الجِماعُ، ولكنَّ اللهَ يُكَنِّي ما شاء بما شاء»[[«تفسير الطبري» (٧/٦٣)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٢٦).]].
وفي هذا أنّ خطَأَ بعضِ المُفسِّرينَ مِن السلفِ ليس مِن جهةِ وقوعِ التأويلِ على صحيحِ اللُّغةِ، ولكنَّ خَطَأَهم بسببِ فَهْمِ السياقِ وتنزيلِهِ على أصحِّ مَعاني اللغةِ المقصودِ في التنزيلِ، وهذا ما يَغْلَطُ فيه الأعاجمُ مِن السلفِ، وكذلك بعضُ العربِ الذين لم يَقْرُبُوا مِن وضعِ اللِّسانِ الذي نزَلَ عليه القرآنُ، فنَأَتْ مساكنُهُمْ وتواضَعُوا على مَعانٍ تختلفُ عن وضعِ العربِ حالَ نزولِ القرآنِ في مكةَ والمدينةِ.
التيمُّمُ وصفتهُ:
قولُه تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأَيْدِيكُمْ إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾:
لا يَختلِفونَ في التيمُّمِ، ولا في المسحِ للوجهِ واليدَيْنِ، ولا في أنّ المرادَ: المسحُ، لا الدَّلْكُ والفَرْكُ، ولكنْ يَختلِفُونَ في العَدَدِ، والترتيبِ، ومقدارِ ما يُمسَحُ مِن العضوَيْنِ، ونوعِ الصعيدِ المقصودِ في الآيةِ.
وجمهورُ العلماءِ: على أنّ المسحَ يكونُ للوجهِ والكفَّيْنِ فقطْ، خلافًا للشافعيِّ في الجديدِ، فقد قال بمسحِ اليدَيْنِ إلى المرفقَيْنِ، ولا تصحُّ الأحاديثُ الدالَّةُ على مسحِ غيرِ الكفَّيْنِ، وعلى هذا ظاهِرُ القرآن، فإنّ اللهَ قال: ﴿وأَيْدِيَكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، واليدُ إذا أُطلِقَت في القرآنِ فالمرادُ بها الكَفُّ، ولهذا أطلَقَها اللهُ في آيةِ السَّرِقَةِ: ﴿فاقْطَعُوا أيدِيَهُما﴾ [المائدة: ٣٨]، ولَـمّا أرادَ الله سبحانَه تجاوُزَ الكَفِّ في الوُضوءِ قال: ﴿وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ﴾ [المائدة: ٦]، وبهذا استدَلَّ أحمدُ.
وقولُه تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا﴾: الصعيدُ: ما على الأرضِ مِن الترابِ:
فمنهم مَن جعَلَهُ في الترابِ الخالصِ الذي له غبارٌ، كالشافعيِّ وأحمدَ، وذلك لظاهِرِ الآيةِ، ولقولِهِ ﷺ: (جُعِلَتْ لَنا الأَرْضُ كُلُّها مَسْجِدًا، وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لَنا طَهُورًا)، رواهُ مسلمٌ عن حُذَيْفَةَ[[أخرجه مسلم (٥٢٢) (١/٣٧١).]]، فإنّه جعَلَ الصلاةَ في الأرضِ كلِّها، وخَصَّ التيمُّمَ بالترابِ منها.
ومِن الفُقَهاءِ: مَن جعَلَ التيمُّمَ بكلِّ ما صَعِدَ مِن الأرضِ مِن أجزائِها، وهو قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ، وأجاز مالكٌ التيمُّمَ بالحشيشِ والحِجارةِ والخشبِ والمِلْحِ.
ورُوِيَ عن حمّادٍ، قال: «كلُّ شيءٍ وضَعْتَ عليه يَدَكَ، فهو صعيدٌ، حتى غبارُ يَدِك، فتيمَّمْ به»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٦٢).]].
ثمَّ ذكَرَ اللَّهُ اسمَيْنِ مِن أسمائِه: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾، تنبيهًا على التيسيرِ في التشريعِ، فعفا اللهُ عن واجباتٍ، ورخَّصَ في منهيّاتٍ، تيسيرًا ورحمةً وصَفْحًا، وتنبيهًا على عدمِ المؤاخَذةِ على ذلك.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُوا۟ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق