﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُوا۟ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء ٤٣]
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ .
هَذِهِ الآيَةُ اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ حُكْمَيْنِ يَتَعَلَّقانِ بِالصَّلاةِ، دَعا إلى نُزُولِها عَقِبَ الآياتِ الماضِيَةِ أنَّهُ آنَ الأوانُ لِتَشْرِيعِ هَذا الحُكْمِ في الخَمْرِ حِينَئِذٍ، وإلى قَرْنِهِ بِحُكْمٍ مُقَرَّرٍ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلاةِ أيْضًا، ويَظْهَرُ أنَّ سَبَبَ نُزُولِها طَرَأ في أثْناءِ نُزُولِ الآياتِ الَّتِي قَبْلَها والَّتِي بَعْدَها، فَوَقَعَتْ في مَوْقِعِ وقْتِ نُزُولِها وجاءَتْ كالمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ تِلْكَ الآياتِ. تَضَمَّنَتْ حُكْمًا أوَّلَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلاةِ ابْتِداءً، وهو مَقْصُودٌ في ذاتِهِ أيْضًا بِحَسَبِ الغايَةِ، وهو قَوْلُهُ:
﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ . وذَلِكَ أنَّ الخَمْرَ كانَتْ حَلالًا لَمْ يُحَرِّمْها اللَّهُ تَعالى، فَبَقِيَتْ عَلى الإباحَةِ الأصْلِيَّةِ، وفي المُسْلِمِينَ مَن يَشْرَبُها. ونَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] في أوَّلِ مُدَّةِ الهِجْرَةِ. فَقالَ فَرِيقٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: نَحْنُ نَشْرَبُها لِمَنافِعِها لا لِإثْمِها، وقَدْ عَلِمُوا أنَّ المُرادَ مِنَ الإثْمِ الحَرَجُ والمَضَرَّةُ والمَفْسَدَةُ، وتِلْكَ الآيَةُ كانَتْ إيذانًا لَهم بِأنَّ الخَمْرَ يُوشِكُ أنْ تَكُونَ حَرامًا لِأنَّ ما يَشْتَمِلُ عَلى الإثْمِ مُتَّصِفٌ بِوَصْفٍ مُناسِبٍ لِلتَّحْرِيمِ، ولَكِنَّ اللَّهَ أبْقى إباحَتَها رَحْمَةً لَهم في مُعْتادِهِمْ، مَعَ تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ إلى قَبُولِ تَحْرِيمِها، فَحَدَثَ بَعْدَ ثَلاثِ سِنِينَ ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: صَنَعَ لَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعامًا فَدَعانا وسَقانا خَمْرًا وحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ونَحْنُ نَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ . قالَ أبُو عِيسى: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
والقُرْبُ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ المَجازِيِّ وهو التَّلَبُّسُ بِالفِعْلِ، لِأنَّ (قَرُبَ) حَقِيقَةٌ في الدُّنُوِّ مِنَ المَكانِ أوِ الذّاتِ. يُقالُ: قَرُبَ مِنهُ بِضَمِّ الرّاءِ وقَرِبَهُ بِكَسْرِ الرّاءِ وهُما بِمَعْنًى، ومِنَ النّاسِ مَن زَعَمَ أنَّ مَكْسُورَ الرّاءِ لِلْقُرْبِ المَجازِيِّ خاصَّةً، ولا يَصِحُّ.
وإنَّما اخْتِيرَ هَذا الفِعْلُ دُونَ (لا تُصَلُّوا) ونَحْوِهِ؛ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ تِلْكَ حالَةٌ مُنافِيَةٌ لِلصَّلاةِ، وصاحِبُها جَدِيرٌ بِالِابْتِعادِ عَنْ أفْضَلِ عَمَلٍ في الإسْلامِ، ومِن هُنا كانَتْ مُؤْذِنَةً بِتَغَيُّرِ شَأْنِ الخَمْرِ والتَّنْفِيرِ مِنها، لِأنَّ المُخاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ هم أكْمَلُ النّاسِ إيمانًا وأعْلَقُهم بِالصَّلاةِ، فَلا يَرْمُقُونَ شَيْئًا يَمْنَعُهم مِنَ الصَّلاةِ إلّا بِعَيْنِ الِاحْتِقارِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن تَأوَّلَ الصَّلاةَ هُنا بِالمَسْجِدِ مِن إطْلاقِ اسْمِ الحالِ عَلى المَحَلِّ كَما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وصَلَواتٌ ومَساجِدُ﴾ [الحج: ٤٠]، ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، والحَسَنِ قالُوا: كانَ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ ثُمَّ يَأْتُونَ المَسْجِدَ لِلصَّلاةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَنَهاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. ولا يَخْفى بُعْدُهُ ومُخالَفَتُهُ لِمَشْهُورِ الآثارِ.
وقَوْلُهُ:
﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ غايَةٌ لِلنَّهْيِ وإيماءٌ إلى عِلَّتِهِ، واكْتَفى بِقَوْلِهِ ”تَقُولُونَ“ عَنْ تَفْعَلُونَ؛ لِظُهُورِ أنَّ ذَلِكَ الحَدَّ مِنَ السُّكْرِ قَدْ يُفْضِي إلى اخْتِلالِ أعْمالِ الصَّلاةِ، إذِ العَمَلُ يُسْرِعُ إلَيْهِ الِاخْتِلالُ بِاخْتِلالِ العَقْلِ قَبْلَ اخْتِلالِ القَوْلِ. وفي الآيَةِ إيذانٌ بِأنَّ السُّكْرَ الخَفِيفَ لا يَمْنَعُ الصَّلاةَ يَوْمَئِذٍ؛ أوْ أُرِيدَ مِنَ الغايَةِ أنَّها حالَةُ انْتِهاءِ السُّكْرِ فَتَبْقى بَعْدَها النَّشْوَةُ. وسُكارى جَمْعُ سَكْرانٍ، والسَّكْرانُ مَن أخَذَ عَقْلُهُ في الِانْغِلاقِ، مُشْتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ، وهو الغَلْقُ، ومِنهُ سَكْرُ الحَوْضِ وسَكْرُ البابِ و
﴿سُكِّرَتْ أبْصارُنا﴾ [الحجر: ١٥] .
ولَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ اجْتَنَبَ المُسْلِمُونَ شُرْبَ الخَمْرِ في أوْقاتِ الصَّلَواتِ فَكانُوا لا يَشْرَبُونَ إلّا بَعْدَ صَلاةِ العِشاءِ وبَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ، لِبُعْدِ ما بَيْنَ هاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ وبَيْنَ ما تَلِيانِهِما، ثُمَّ أُكْمِلَ مَعَ تَحْرِيمِ قُرْبانِ الصَّلاةِ في حالَةِ السُّكْرِ تَحْرِيمُ قُرْبانِها بِدُونِ طَهارَةٍ.
* * *﴿ولا جُنُبًا إلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ .
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ
﴿وأنْتُمْ سُكارى﴾ لِأنَّها في مَحَلِّ الحالِ، وهَذا النَّصْبُ بَعْدَ العَطْفِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلى أنَّ جُمْلَةَ الحالِ مُعْتَبَرَةٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ.
والجُنُبُ فُعُلٌ، قِيلَ: مَصْدَرٌ، وقِيلَ: وصْفٌ مِثْلُ أُجُدٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ:
﴿والجارِ الجُنُبِ﴾ [النساء: ٣٦]، والمُرادُ بِهِ المُباعِدُ لِلْعِبادَةِ مِنَ الصَّلاةِ إذا قارَفَ امْرَأتَهُ حَتّى يَغْتَسِلَ.
ووَصْفُ جُنُبٍ وصْفٌ بِالمَصْدَرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ إذْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ جَمْعٍ، مِن قَوْلِهِ:
﴿وأنْتُمْ سُكارى﴾ . وإطْلاقُ الجَنابَةِ عَلى هَذا المَعْنى مِن عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ، فَإنَّ الِاغْتِسالَ مِنَ الجَنابَةِ كانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهم، ولَعَلَّهُ مِن بَقايا الحَنِيفِيَّةِ، أوْ مِمّا أخَذُوهُ عَنِ اليَهُودِ، فَقَدْ جاءَ الأمْرُ بِغُسْلِ الجَنابَةِ في الإصْحاحِ ١٥ مِن سِفْرِ اللّاوِيِّينَ مِنَ التَّوْراةِ. وذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ في السِّيرَةِ أنَّ أبا سُفْيانَ، لَمّا رَجَعَ مَهْزُومًا مِن بَدْرٍ، حَلَفَ أنْ لا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِن جَنابَةٍ حَتّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا. ولَمْ أقِفْ عَلى شَيْءٍ مِن كَلامِ العَرَبِ يَدُلُّ عَلى ذِكْرِ غُسْلِ الجَنابَةِ.
والمَعْنى لا تُصَلُّوا في حالِ الجَنابَةِ حَتّى تَغْتَسِلُوا إلَخْ. والمَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ:
﴿ولا جُنُبًا﴾ التَّمْهِيدُ لِلتَّخَلُّصِ إلى شَرْعِ التَّيَمُّمِ، فَإنَّ حُكْمَ غُسْلِ الجَنابَةِ مُقَرَّرٌ مِن قَبْلُ، فَذِكْرُهُ هُنا إدْماجٌ. والتَّيَمُّمُ شُرِعَ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ عَلى الصَّحِيحِ، وكانَتْ سَنَةَ سِتٍّ أوْ سَنَةَ خَمْسٍ عَلى الأصَحِّ. وظاهِرُ حَدِيثِ مالِكٍ عَنْ عائِشَةَ أنَّ الآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ هي آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَيَظْهَرُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي في سُورَةِ النِّساءِ لِأنَّها لَمْ يُذْكَرْ مِنها إلّا التَّيَمُّمُ. ووَقَعَ في حَدِيثِ عَمْرٍو عَنْ عائِشَةَ أنَّ الآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ هي قَوْلُهُ:
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦] الَّتِي في سُورَةِ المائِدَةِ، أخْرَجَهُ البُخارِيُّ وقَدْ جَزَمَ القُرْطُبِيُّ بِأنَّ الآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ هي آيَةُ سُورَةِ النِّساءِ، قالَ: لِأنَّ آيَةَ سُورَةِ المائِدَةِ تُسَمّى آيَةَ الوُضُوءِ. وكَذَلِكَ الواحِدِيُّ أوْرَدَ في أسْبابِ النُّزُولِ حَدِيثَ عائِشَةَ في سَبَبِ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّساءِ. وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ هَذِهِ مُعْضِلَةٌ ما وجَدْتُ لِدائِها مِن دَواءٍ لا نَعْلَمُ أيَّ الآيَتَيْنِ عَنَتْ عائِشَةُ. وسُورَةُ المائِدَةِ قِيلَ: نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ النِّساءِ، وقِيلَ بَعْدَها، والخَطْبُ سَهْلٌ، والأصَحُّ أنَّ سُورَةَ النِّساءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ المائِدَةِ.
والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ:
﴿إلّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ اسْتِثْناءٌ مِن عُمُومِ الأحْوالِ المُسْتَفادِ مِن وُقُوعِ ”جُنُبًا“، وهو حالٌ نَكِرَةٌ، في سِياقِ النَّفْيِ. وعابِرُ السَّبِيلِ، في كَلامِ العَرَبِ: المُسافِرُ حِينَ سَيْرِهِ في سَفَرِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ العَبْرِ وهو القَطْعُ والِاجْتِيازُ، يُقالُ: عَبَرَ النَّهْرَ وعَبَرَ الطَّرِيقَ. ومِنَ العُلَماءِ مَن فَسَّرَ
﴿عابِرِي سَبِيلٍ﴾ بِمارِّينَ في طَرِيقٍ، وقالَ: المُرادُ مِنهُ طَرِيقُ المَسْجِدِ، بِناءً عَلى تَفْسِيرِ الصَّلاةِ في قَوْلِهِ:
﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾ بِالمَسْجِدِ، وجَعَلُوا الآيَةَ رُخْصَةً في مُرُورِ الجُنُبِ في المَسْجِدِ إذا كانَ قَصْدُهُ المُرُورَ لا المُكْثَ، قالَهُ الَّذِينَ تَأوَّلُوا الصَّلاةَ بِالمَسْجِدِ. ونُسِبَ أيْضًا إلى أنَسِ بْنِ مالِكٍ. وأبِي عُبَيْدَةَ. وابْنِ المُسَيَّبِ، والضَّحّاكِ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، ومَسْرُوقٍ، والنَّخَعِيِّ، وزَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، وعَمْرِو بْنِ دِينارٍ، وعِكْرِمَةَ، وابْنِ شِهابٍ، وقَتادَةَ، قالُوا: كانَ ذَلِكَ أيّامَ كانَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ أبْوابُ دُورٍ في المَسْجِدِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدَ سَدِّ الأبْوابِ كُلِّها إلّا خَوْخَةَ أبِي بَكْرٍ، فَكانَ المُرُورُ كَذَلِكَ رُخْصَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ ولِأبِي بَكْرٍ، وفي رِوايَةٍ ولِعَلِّيٍ، وقِيلَ: أُبْقِيَتْ خَوْخَةُ بَيْتِ عَلِيٍّ في المَسْجِدِ، ولَمْ يَصِحَّ.
وفائِدَةُ هَذا الِاسْتِثْناءِ - عِنْدَ مَن فَسَّرَ
﴿تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾ بِدُخُولِ المَسْجِدِ، وفَسَّرَ
﴿عابِرِي سَبِيلٍ﴾ بِالمارِّينَ في المَسْجِدِ - ظاهِرَةٌ، وهو اسْتِثْناءٌ حَقِيقِيٌّ مِن عُمُومِ أحْوالِ الجُنُبِ بِاسْتِثْناءِ عابِرِي السَّبِيلِ. وعابِرُ السَّبِيلِ المَأْخُوذُ مِنَ الِاسْتِثْناءِ مُطْلَقٌ، وهو عِنْدَ أصْحابِ هَذا المَحْمَلِ باقٍ عَلى إطْلاقِهِ لا تَقْيِيدَ فِيهِ، وأمّا عِنْدَ الجُمْهُورِ الَّذِينَ حَمَلُوا الآيَةَ عَلى ظاهِرِها في مَعْنى تَقْرَبُوا الصَّلاةَ، وفي مَعْنى عابِرِي السَّبِيلِ فَلا تَظْهَرُ لَهُ فائِدَةٌ، لِلِاسْتِغْناءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ
﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ ولِأنَّ في عُمُومِ الحَصْرِ تَخْصِيصًا، فالَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّهُ إنَّما قُدِّمَ هُنا لِأنَّهُ غالِبُ الأحْوالِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وبَيْنَ الِاغْتِسالِ مِن جِهَةِ حاجَةِ المُسافِرِ اسْتِبْقاءَ الماءِ. ولِنَدُورِ عُرُوضِ المَرَضِ. والِاسْتِثْناءُ عَلى مَحْمَلِ الجُمْهُورِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عِنْدَ مَن يَرى المُتَيَمِّمَ جُنُبًا، ويَرى التَّيَمُّمَ غَيْرَ رافِعٍ لِلْحَدَثِ، ولَكِنَّهُ مُبِيحٌ لِلصَّلاةِ لِلضَّرُورَةِ في الوَقْتِ، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ، فَهو عِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، ودَلِيلُهُ ظاهِرُ الِاسْتِثْناءِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ مَن يَرى المُتَيَمِّمَ غَيْرَ جُنُبٍ، ويَرى التَّيَمُّمَ رافِعًا لِلْحَدَثِ حَتّى يَنْتَقِضَ بِناقِضٍ ويَزُولَ سَبَبُهُ، وهَذا قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، فَلِذَلِكَ إذا تَيَمَّمَ الجُنُبُ وصَلّى وصارَ مِنهُ حَدَثٌ ناقِضٌ لِلْوُضُوءِ يَتَوَضَّأُ لِأنَّ تَيَمُّمَهُ بَدَلٌ عَنِ الغُسْلِ مُطْلَقًا، وهَذا هو الظّاهِرُ بِحَسَبِ المَعْنى ولَيْسَ في السُّنَّةِ ما يَقْتَضِي خِلافَهُ. وعَنْ مالِكٍ في ذَلِكَ قَوْلانِ: فالمَشْهُورُ مِن رِوايَةِ ابْنِ القاسِمِ أنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لِلصَّلاةِ ولَيْسَ رافِعًا لِلْحَدَثِ، فَلِذَلِكَ لا يُصَلِّي المُتَيَمِّمُ بِهِ إلّا فَرْضًا واحِدًا، ولَوْ تَيَمَّمَ لِجَنابَةٍ لِعُذْرٍ يَمْنَعُ مِنَ الغُسْلِ وانْتَقَضَ وضُوءُهُ تَيَمَّمَ عَنِ الوُضُوءِ. وعَنْ مالِكٍ، في رِوايَةِ البَغْدادِيِّينَ: أنَّ المَرِيضَ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى مَسِّ الماءِ يَتَيَمَّمُ ويُصَلِّي أكْثَرَ مِن صَلاةٍ، حَتّى يَنْتَقِضَ تَيَمُّمُهُ بِناقِضِ الوُضُوءِ، وكَذَلِكَ فِيمَن ذَكَرَ فَوائِتَ يُصَلِّيها بِتَيَمُّمٍ واحِدٍ، فَعَلى هَذا لَيْسَ تَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ لِغَيْرِهِما إلّا لِأنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَجِدُ الماءَ فَكانَتْ نِيَّةُ التَّيَمُّمِ غَيْرَ جازِمَةٍ في بَقائِهِ، ولَمْ يُنْقَلْ عَنْ مالِكٍ قَوْلٌ بِأنَّ المُتَيَمِّمَ لِلْجَنابَةِ بِعُذْرٍ مانِعٍ مِنَ الغُسْلِ إذا انْتَقَضَ وضَوْءُهُ يَتَوَضَّأُ.
وفِي مَفْهُومِ هَذا الِاسْتِثْناءِ، عِنْدَ القائِلِينَ بِالمَفاهِيمِ مِنَ الجُمْهُورِ، عَلى هَذا المَحْمَلِ تَفْصِيلٌ، فَعابِرُ السَّبِيلِ مُطْلَقٌ قَيَّدَهُ قَوْلُهُ:
﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا﴾ وبَقِيَ عُمُومُ قَوْلِهِ:
﴿ولا جُنُبًا﴾ في غَيْرِ عابِرِ السَّبِيلِ، لِأنَّ العامَّ المَخْصُوصَ يَبْقى عامًّا فِيما عَدا ما خُصِّصَ، فَخَصَّصَهُ الشَّرْطُ تَخْصِيصًا ثانِيًا في قَوْلِهِ:
﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾ . ثُمَّ إنْ كانَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ المُسْلِمِينَ أنَّ الصَّلاةَ تَقَعُ بِدُونِ طَهارَةٍ يَبْقى قَوْلُهُ:
﴿إلّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ مُجْمَلًا لِأنَّهم يَتَرَقَّبُونَ بَيانَ الحُكْمِ في قُرْبانِ الصَّلاةِ عَلى غَيْرِ طَهارَةٍ لِلْمُسافِرِ، فَيَكُونُ في قَوْلِهِ:
﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ بَيانٌ لِهَذا الإجْمالِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ لَمْ يَخْطُرْ بِبالِهِمْ فَلا إجْمالَ، ويَكُونُ قَوْلُهُ:
﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ اسْتِئْنافًا لِأحْكامِ التَّيَمُّمِ.
وتَقْدِيمُ المُسْتَثْنى في قَوْلِهِ:
﴿إلّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ قَبْلَ تَمامِ الكَلامِ المَقْصُودِ قَصْرُهُ بِقَوْلِهِ:
﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ لِلِاهْتِمامِ وهو جارٍ عَلى اسْتِعْمالٍ قَلِيلٍ، كَقَوْلِ مُوسى بْنِ جابِرٍ الحَنَفِيِّ - أُمَوِيٌّ -:
لا أشْتَهِي يا قَوْمِ إلّا كارِهًا بابَ الأمِيرِ ولا دِفاعَ الحاجِبِ
وقَوْلُهُ:
﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ غايَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ إذا كانُوا جُنُبًا، فَهو تَشْرِيعٌ لِلْغُسْلِ مِنَ الجَنابَةِ وإيجابٌ لَهُ، لِأنَّ وُجُوبَ الصَّلاةِ لا يَسْقُطُ بِحالٍ، فَلَمّا نُهُوا عَنِ اقْتِرابِها بِدُونِ الغُسْلِ عُلِمَ مِن ذَلِكَ فَرْضُ الغُسْلِ. والحِكْمَةُ في مَشْرُوعِيَّةِ الغُسْلِ النَّظافَةُ، ونِيطَ ذَلِكَ بِأداءِ الصَّلاةِ لِيَكُونَ المُصَلِّي في حالَةِ كَمالِ الجَسَدِ، كَما كانَ حِينَئِذٍ في حالِ كَمالِ الباطِنِ بِالمُناجاةِ والخُضُوعِ. ومِن أبْدَعِ الحِكَمِ الشَّرْعِيَّةِ أنَّها لَمْ تُنِطْ وُجُوبَ التَّنْظِيفِ بِحالِ الوَسَخِ لِأنَّ مِقْدارَ الحالِ مِنَ الوَسَخِ الَّذِي يَسْتَدْعِي الِاغْتِسالَ والتَّنْظِيفَ مِمّا تَخْتَلِفُ فِيهِ مَدارِكُ البَشَرِ في عَوائِدِهِمْ وأحْوالِهِمْ، فَنِيطَ وُجُوبُ الغُسْلِ بِحالَةٍ لا تَنْفَكُّ عَنِ القُوَّةِ البَشَرِيَّةِ في مُدَّةِ مُتَعارَفِ أعْمارِ البَشَرِ، وهي حالَةُ دَفْعِ فَواضِلِ القُوَّةِ البَشَرِيَّةِ، وحَيْثُ كانَ بَيْنَ تِلْكَ الحالَةِ وبَيْنَ شِدَّةِ القُوَّةِ تَناسُبٌ تامٌّ، إذْ بِمِقْدارِ القُوَّةِ تَنْدَفِعُ فَضَلاتُها، وكانَ أيْضًا بَيْنَ شِدَّةِ القُوَّةِ وبَيْنَ ظُهُورِ الفَضَلاتِ عَلى ظاهِرِ البَدَنِ المُعَبَّرِ عَنْها بِالوَسَخِ تَناسُبٌ تامٌّ، كانَ نَوْطُ الِاغْتِسالِ بِالجَنابَةِ إناطَةً بِوَصْفٍ ظاهِرٍ مُنْضَبِطٍ فَجُعِلَ هو العِلَّةَ أوِ السَّبَبَ، وكانَ مَعَ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِلْمُناسَبَةِ المُقْتَضِيَةِ لِلتَّشْرِيعِ، وهي إزالَةُ الأوْساخِ عِنْدَ بُلُوغِها مِقْدارًا يُناسِبُ أنْ يُزالَ مَعَ جَعْلِ ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِأعْظَمِ عِبادَةٍ وهي الصَّلاةُ، فَصارَتِ الطَّهارَةُ عِبادَةً كَذَلِكَ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في مَشْرُوعِيَّةِ الوُضُوءِ، عَلى أنَّ في الِاغْتِسالِ مِنَ الجَنابَةِ حِكْمَةً أُخْرى، وهي تَجْدِيدُ نَشاطِ المَجْمُوعِ العَصَبِيِّ الَّذِي يَعْتَرِيهِ فُتُورٌ بِاسْتِفْراغِ القُوَّةِ المَأْخُوذَةِ مِن زَبَدِ الدَّمِ، حَسْبَما تَفَطَّنَ لِذَلِكَ الأطِبّاءُ فَقُضِيَتْ بِهَذا الِانْضِباطِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ.
ودَلَّ إسْنادُ الِاغْتِسالِ إلى الذَّواتِ في قَوْلِهِ:
﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ عَلى أنَّ الِاغْتِسالَ هو إحاطَةُ البَدَنِ بِالماءِ، وهَذا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واخْتُلِفَ في وُجُوبِ الدَّلْكِ أيْ إمْرارِ اليَدِ عَلى أجْزاءِ البَدَنِ: فَشَرَطَهُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِناءً عَلى أنَّهُ المَعْرُوفُ مِن مَعْنى الغُسْلِ في لِسانِ العَرَبِ، ولِأنَّ الوُضُوءَ لا يُجْزِئُ بِدُونِ دَلْكٍ بِاتِّفاقٍ، فَكَذَلِكَ الغُسْلُ.
وقالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ: يُجْزِئُ في الغُسْلِ إحاطَةُ البَدَنِ بِالماءِ بِالصَّبِّ أوِ الِانْغِماسِ؛ واحْتَجُّوا بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ وعائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في صِفَةِ غُسْلِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ أفاضَ الماءَ عَلى جَسَدِهِ، ولا حُجَّةَ فِيهِ لِأنَّهُما لَمْ تَذْكُرا أنَّهُ لَمْ يَتَدَلَّكْ، ولَكِنَّهُما سَكَتَتا عَنْهُ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ سُكُوتُهُما لِعِلْمِهِما بِأنَّهُ المُتَبادِرُ، وهَذا أيْضًا رِوايَةٌ عَنْ مالِكٍ رَواها عَنْهُ أبُو الفَرَجِ، ومَرْوانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطّاطَرِيُّ، وهي ضَعِيفَةٌ.
وقَوْلُهُ:
﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾ إلَخْ ذِكْرُ حالَةِ الرُّخْصَةِ في تَرْكِ الِاغْتِسالِ وتَرْكِ الوُضُوءِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ في هَذِهِ السُّورَةِ، وذُكِرَ في سُورَةِ المائِدَةِ، وهي نازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. فالمَقْصُودُ بَيانُ حُكْمِ التَّيَمُّمِ بِحَذافِرِهِ، وفي جَمْعِ هَذِهِ الأشْياءِ في نَسَقٍ حَصَلَ هَذا المَقْصُودُ، وحَصَلَ أيْضًا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ:
﴿ولا جُنُبًا﴾ كَما تَقَدَّمَ.
وقَوْلُهُ:
﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ بَيانٌ لِلْإجْمالِ الواقِعِ في قَوْلِهِ:
﴿إلّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ إنْ كانَ فِيهِ إجْمالٌ، وإلّا فَهو اسْتِئْنافُ حُكْمٍ جَدِيدٍ كَما تَقَدَّمَ.
وقَوْلُهُ:
﴿أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ﴾ زِيادَةٌ عَلى حُكْمِ التَّيَمُّمِ الواقِعِ بَدَلًا عَنِ الغُسْلِ، بِذِكْرِ التَّيَمُّمِ الواقِعِ بَدَلًا عَنِ الوُضُوءِ إيعابًا لِنَوْعَيِ التَّيَمُّمِ. وغَيْرُ ذَلِكَ مِن أسْبابِهِ يُؤْخَذُ بِالقِياسِ عَلى المَذْكُورِ. فالمَرِيضُ أُرِيدَ بِهِ الَّذِي اخْتَلَّ نِظامُ صِحَّتِهِ بِحَيْثُ صارَ الِاغْتِسالُ يَضُرُّهُ أوْ يَزِيدُ عِلَّتَهُ. وجاءَ مِنَ الغائِطِ كِنايَةٌ عَنْ قَضاءِ الحاجَةِ البَشَرِيَّةِ، شاعَ في كَلامِهِمُ التَّكَنِّي بِذَلِكَ لِبَشاعَةِ الصَّرِيحِ.
" والغائِطُ: المُنْخَفِضُ مِنَ الأرْضِ وما غابَ عَنِ البَصَرِ، يُقالُ: غاطَ في الأرْضِ إذا غابَ يَغُوطُ، فَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الواوِ، وكانَتِ العَرَبُ يَذْهَبُونَ عِنْدَ قَضاءِ الحاجَةِ إلى مَكانٍ مُنْخَفِضٍ مِن جِهَةِ الحَيِّ بَعِيدٍ عَنْ بُيُوتِ سُكْناهم، فَيُكِنُّونَ عَنْهُ: يَقُولُونَ ذَهَبَ إلى الغائِطِ أوْ تَغَوَّطَ، فَكانَتْ كِنايَةً لَطِيفَةً ثُمَّ اسْتَعْمَلَها النّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرًا حَتّى ساوَتِ الحَقِيقَةَ فَسَمَجَتْ، فَصارَ الفُقَهاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلى نَفْسِ الحَدَثِ ويُعَلِّقُونَهُ بِأفْعالٍ تُناسِبُ ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ:
﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ قُرِئَ (لامَسْتُمْ) بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ، وقُرِئَ: (لَمَسْتُمْ) بِصِيغَةِ الفِعْلِ كَما سَيَأْتِي، وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ عَلى التَّحْقِيقِ. ومَن حاوَلَ التَّفْصِيلَ لَمْ يَأْتِ بِما فِيهِ تَحْصِيلٌ. وأصْلُ اللَّمْسِ المُباشَرَةُ بِاليَدِ أوْ بِشَيْءٍ مِنَ الجَسَدِ، وقَدْ أُطْلِقَ مَجازًا وكِنايَةً عَلى الِافْتِقادِ، قالَ تَعالى:
﴿وأنّا لَمَسْنا السَّماءَ﴾ [الجن: ٨] وعَلى النُّزُولِ، قالَ النّابِغَةُ:
لِيَلْتَمِسَنْ بِالجَيْشِ دارَ المُحارِبِ
وعَلى قُرْبانِ النِّساءِ، لِأنَّهُ مُرادِفُ المَسِّ، ومِنهُ قَوْلُهم:
فُلانَةٌ لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ، ونَظِيرُهُ ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٧] . والمُلامَسَةُ هُنا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها ظاهِرَها، وهو المُلامَسَةُ بِمُباشَرَةِ اليَدِ أوْ بَعْضِ الجَسَدِ جَسَدَ المَرْأةِ، فَيَكُونُ ذَكَرَ سَبَبًا ثانِيًا مِن أسْبابِ الوُضُوءِ الَّتِي تُوجِبُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ فَقْدِ الماءِ، وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الشّافِعِيُّ، فَجَعَلَ لَمْسَ الرَّجُلِ بِيَدِهِ جَسَدَ امْرَأتِهِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ، وهو مَحْمَلٌ بَعِيدٌ، إذْ لا يَكُونُ لَمْسُ الجَسَدِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ وإنَّما الوُضُوءُ مِمّا يَخْرُجُ خُرُوجًا مُعْتادًا. فالمَحْمَلُ الصَّحِيحُ أنَّ المُلامَسَةَ كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ، وتَعْدِيدُ هَذِهِ الأسْبابِ لِجَمْعِ ما يَغْلِبُ مِن مُوجِباتِ الطَّهارَةِ الصُّغْرى والطَّهارَةِ الكُبْرى. وإنَّما لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بِقَوْلِهِ آنِفًا (ولا جُنُبًا) لِأنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ في مَعْرِضِ الأمْرِ بِالِاغْتِسالِ، وهَذا ذُكِرَ في مَعْرِضِ الإذْنِ بِالتَّيَمُّمِ الرُّخْصَةِ، والمَقامُ مَقامُ تَشْرِيعٍ يُناسِبُهُ عَدَمُ الِاكْتِفاءِ بِدَلالَةِ الِالتِزامِ، وبِذَلِكَ يَكُونُ وجْهٌ لِذِكْرِهِ وجِيهٌ. وأمّا عَلى تَأْوِيلِ الشّافِعِيِّ ومَن تابَعَهُ فَلا يَكُونُ لِذِكْرِ سَبَبِ ثانٍ مِن أسْبابِ الوُضُوءِ كَبِيرُ أهَمِّيَّةٍ. وإلى هَذا مالَ الجُمْهُورُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ الوُضُوءُ مَن لَمْسِ الرَّجُلِ امْرَأتَهُ ما لَمْ يَخْرُجْ مِنهُ شَيْءٌ، إلّا أنَّ مالِكًا قالَ: إذا التَذَّ اللّامِسُ أوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وحَمَلَ المُلامَسَةَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى مَعْنَيَيْها الكِنائِيِّ والصَّرِيحِ، لَكِنَّ هَذا بِشَرْطِ الِالتِذاذِ، وبِهِ قالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ، وأرى مالِكًا اعْتَمَدَ في هَذا عَلى الآثارِ المَرْوِيَّةِ عَنْ أيِمَّةِ السَّلَفِ، ولا أُراهُ جَعْلَهُ المُرادَ مِنَ الآيَةِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (لامَسْتُمْ) بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ؛ وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ: (لَمَسْتُمْ) بِدُونِ ألِفٍ.
وقَوْلُهُ:
﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ عَطْفٌ عَلى فِعْلِ الشَّرْطِ، وهو قَيْدٌ في المُسافِرِ، ومَن جاءَ مِنَ الغائِطِ، ومَن لامَسَ النِّساءَ، وأمّا المَرِيضُ فَلا يَتَقَيَّدُ تَيَمُّمُهُ بِعَدَمِ وِجْدانِ الماءِ لِأنَّهُ يَتَيَمَّمُ مُطْلَقًا، وذَلِكَ مَعْلُومٌ بِدَلالَةِ مَعْنى المَرَضِ، فَمَفْهُومُ القَيْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مُعَطَّلٌ بِدَلالَةِ المَعْنى، ولا يَكُونُ المَقْصُودُ مِنَ المَرِيضِ الزَّمِنِ، إذْ لا يُعْدَمُ الزَّمِنُ مُناوِلًا يُناوِلُهُ الماءَ إلّا نادِرًا.
وقَوْلُهُ (
﴿فَتَيَمَّمُوا﴾) جَوابُ الشَّرْطِ والتَّيَمُّمُ: القَصْدُ. والصَّعِيدُ: وجْهُ الأرْضِ، قالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ خَشْفًا مِن بَقْرِ الوَحْشِ نائِمًا في الشَّمْسِ لا يَكادُ يُفِيقُ:
كَأنَّهُ بِالضُّحى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ ∗∗∗ دَبّابَةٌ في عِظامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ
والطَّيِّبُ: الطّاهِرُ الَّذِي لَمْ تُلَوِّثْهُ نَجاسَةٌ ولا قَذَرٌ، فَيَشْمَلُ الصَّعِيدُ التُّرابَ والرَّمْلَ والحِجارَةَ، وإنَّما عَبَّرَ بِالصَّعِيدِ لِيَصْرِفَ المُسْلِمِينَ عَنْ هَوَسِ أنْ يَتَطَلَّبُوا التُّرابَ أوِ الرَّمْلَ مِمّا تَحْتَ وجْهِ الأرْضِ غُلُوًّا في تَحْقِيقِ طَهارَتِهِ.
وقَدْ شُرِعَ بِهَذِهِ الآيَةِ حُكْمُ التَّيَمُّمِ أوْ قُرِّرَ شَرْعُهُ السّابِقُ في سُورَةِ المائِدَةِ عَلى الأصَحِّ، وكانَ شَرْعُ التَّيَمُّمِ سَنَةَ سِتٍّ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ، وسَبَبُ شَرْعِهِ ما في الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ في بَعْضِ أسْفارِهِ حَتّى إذا كُنّا بِالبَيْداءِ أوْ بِذاتِ الجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأقامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلى التِماسِهِ وأقامَ النّاسُ مَعَهُ ولَيْسُوا عَلى ماءٍ ولَيْسَ مَعَهم ماءٌ فَأتى النّاسُ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقالُوا: ألا تَرى إلى ما صَنَعَتْ عائِشَةُ أقامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ والنّاسِ ولَيْسُوا عَلى ماءٍ ولَيْسَ مَعَهم ماءٌ. فَجاءَ أبُو بَكْرٍ ورَسُولُ اللَّهِ واضِعٌ رَأْسَهُ عَلى فَخِذِي قَدْ نامَ، فَقالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ والنّاسَ ولَيْسُوا عَلى ماءٍ ولَيْسَ مَعَهم ماءٌ ؟ فَعاتَبَنِي أبُو بَكْرٍ وقالَ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَقُولَ وجَعَلَ يَطْعَنُنِي بِيَدِهِ في خاصِرَتِي فَلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إلّا مَكانُ رَسُولِ اللَّهِ عَلى فَخِذِي، فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ أصْبَحَ عَلى غَيْرِ ماءٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: ما هي بِأوَّلِ بَرَكَتِكم يا آلَ أبِي بَكْرٍ، فَواللَّهِ ما نَزَلَ بِكِ أمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكِ ولِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قالَتْ: فَبَعَثْنا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأصَبْنا العِقْدَ تَحْتَهُ.
والتَّيَمُّمُ مِن خَصائِصِ شَرِيعَةِ الإسْلامِ كَما في حَدِيثِ جابِرٍ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ
«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي فَذَكَرَ مِنها وجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا» .
والتَّيَمُّمُ بَدَلٌ جَعَلَهُ الشَّرْعُ عَنِ الطَّهارَةِ، ولَمْ أرَ لِأحَدٍ مِنَ العُلَماءِ بَيانًا في حِكْمَةِ جَعْلِ التَّيَمُّمِ عِوَضًا عَنِ الطَّهارَةِ بِالماءِ وكانَ ذَلِكَ مِن هَمِّي زَمَنًا طَوِيلًا وقْتَ الطَّلَبِ ثُمَّ انْفَتَحَ لِي حِكْمَةُ ذَلِكَ. وأحْسَبُ أنَّ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ تَقْرِيرُ لُزُومِ الطَّهارَةِ في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ، وتَقْرِيرُ حُرْمَةِ الصَّلاةِ، وتَرْفِيعُ شَأْنِها في نُفُوسِهِمْ، فَلَمْ تُتْرَكْ لَهم حالَةٌ يَعُدُّونَ فِيها أنْفُسَهم مُصَلِّينَ بِدُونِ طَهارَةٍ تَعْظِيمًا لِمُناجاةِ اللَّهِ تَعالى، فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهم عَمَلًا يُشْبِهُ الإيماءَ إلى الطَّهارَةِ لِيَسْتَشْعِرُوا أنْفُسَهم مُتَطَهِّرِينَ، وجَعَلَ ذَلِكَ بِمُباشَرَةِ اليَدَيْنِ صَعِيدَ الأرْضِ الَّتِي هي مَنبَعُ الماءِ، ولِأنَّ التُّرابَ مُسْتَعْمَلٌ في تَطْهِيرِ الآنِيَةِ ونَحْوِها، يُنَظِّفُونَ بِهِ ما عَلَقَ لَهم مِنَ الأقْذارِ في ثِيابِهِمْ وأبْدانِهِمْ وماعُونِهِمْ، وما الِاسْتِجْمارُ إلّا ضَرْبٌ مِن ذَلِكَ، مَعَ ما في ذَلِكَ مِن تَجْدِيدِ طَلَبِ الماءِ لِفاقِدِهِ وتَذْكِيرِهِ بِأنَّهُ مُطالَبٌ بِهِ عِنْدَ زَوالِ مانِعِهِ، وإذَ قَدْ كانَ التَّيَمُّمُ طَهارَةً رَمْزِيَّةً اقْتَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ فِيهِ بِالوَجْهِ والكَفَّيْنِ في الطَّهارَتَيْنِ الصُّغْرى والكُبْرى، كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ، ويُؤَيِّدُ هَذا المَقْصِدَ أنَّ المُسْلِمِينَ لَمّا عَدِمُوا الماءَ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ صَلَّوْا بِدُونِ وُضُوءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ. وهَذا مُنْتَهى ما عَرَضَ لِي مِن حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ طُولِ البَحْثِ والتَّأمُّلِ في حِكْمَةٍ مُقْنِعَةٍ في النَّظَرِ، وكُنْتُ أعُدُّ التَّيَمُّمَ هو النَّوْعَ الوَحِيدَ بَيْنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ في مَعْنى التَّعَبُّدِ بِنَوْعِهِ، وأمّا التَّعَبُّدُ بِبَعْضِ الكَيْفِيّاتِ والمَقادِيرِ مِن أنْواعِ عِباداتٍ أُخْرى فَكَثِيرٌ، مِثْلَ عَدَدِ الرَّكَعاتِ في الصَّلَواتِ، وكَأنَّ الشّافِعِيَّ لَمّا اشْتَرَطَ أنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ بِالتُّرابِ خاصَّةً وأنْ يَنْقُلَ المُتَيَمِّمُ مِنهُ إلى وجْهِهِ ويَدَيْهِ، راعى فِيهِ مَعْنى التَّنْظِيفِ كَما في الِاسْتِجْمارِ، إلّا أنَّ هَذا القَوْلَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وهو ما سَبَقَ إلى خاطِرِ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ حِينَ تَمَرَّغَ في التُّرابِ لَمّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاغْتِسالُ، فَقالَ النَّبِيءُ ﷺ
«يَكْفِيكَ مِن ذَلِكَ الوَجْهُ والكَفّانِ» . ولِأجْلِ هَذا أيْضًا اخْتَلَفَ السَّلَفُ في حُكْمِ التَّيَمُّمِ، فَقالَ عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ: لا يَقَعُ التَّيَمُّمُ بَدَلًا إلّا عَنِ الوُضُوءِ دُونَ الغُسْلِ، وأنَّ الجُنُبَ لا يُصَلِّي حَتّى يَغْتَسِلَ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في الحَضَرِ أمْ في السَّفَرِ. وقَدْ تَناظَرَ في ذَلِكَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: رَوى البُخارِيُّ في كِتابِ التَّيَمُّمِ قالَ أبُو مُوسى لِابْنِ مَسْعُودٍ: أرَأيْتَ إذا أجْنَبَ فَلَمْ يَجِدِ الماءَ كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ قالَ عَبْدُ اللَّهِ: لا يُصَلِّي حَتّى يَجِدَ الماءَ. فَقالَ أبُو مُوسى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمّارِ حِينَ قالَ لَهُ النَّبِيءُ:
«كانَ يَكْفِيكَ هَكَذا»، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الأرْضَ ثُمَّ مَسَحَ بِهِما وجْهَهُ وكَفَّيْهِ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ألَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْتَنِعْ مِنهُ بِذَلِكَ، قالَ أبُو مُوسى: فَدَعْنا مِن قَوْلِ عَمّارٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ
﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ فَما دَرى عَبْدُ اللَّهِ ما يَقُولُ، فَقالَ: إنّا لَوْ رَخَّصْنا لَهم في هَذا لَأوْشَكَ إذا بَرَدَ عَلى أحَدِهِمُ الماءَ أنْ يَدَعَهُ ويَتَيَمَّمَ. ولا شَكَّ أنَّ عُمَرَ، وابْنَ مَسْعُودٍ، تَأوَّلا آيَةَ النِّساءِ فَجَعَلا قَوْلَهُ
﴿إلّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ رُخْصَةً لِمُرُورِ المَسْجِدِ، وجَعَلا
﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ مُرادًا بِهِ اللَّمْسُ النّاقِضُ لِلْوُضُوءِ عَلى نَحْوِ تَأْوِيلِ الشّافِعِيِّ، وخالَفَ جَمِيعُ عُلَماءِ الأُمَّةِ عُمَرَ وابْنَ مَسْعُودٍ في هَذا، فَقالَ الجُمْهُورُ: يَتَيَمَّمُ فاقِدُ الماءِ ومَن يَخافُ عَلى نَفْسِهِ الهَلاكَ أوِ المَرَضَ أوْ زِيادَةَ المَرَضِ ولَوْ نَزْلَةً أوْ حُمّى. وقالَ الشّافِعِيُّ: لا يَتَيَمَّمُ إلّا فاقِدُ الماءِ أوْ مَن يَخافُ عَلى نَفْسِهِ التَّلَفَ دُونَ المَرَضِ أوْ زِيادَتِهِ، لِأنَّ زِيادَةَ المَرَضِ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ، ويَرُدُّهُ أنَّ كِلا الأمْرَيْنِ غَيْرُ مُحَقَّقِ الحُصُولِ، وأنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفِ الخَلْقَ بِما فِيهِ مَشَقَّةٌ. وقَدْ
«تَيَمَّمَ عَمْرُو بْنُ العاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في لَيْلَةٍ بارِدَةٍ في غَزْوَةِ ذاتِ السَّلاسِلِ وصَلّى بِالنّاسِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ ﷺ فَسَألَهُ فَقالَ عَمْرٌو: إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم إنَّ اللَّهَ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ [النساء: ٢٩] فَضَحِكَ النَّبِيءُ ﷺ ولَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ» .
وقَوْلُهُ:
﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكُمْ﴾ جَعَلَ التَّيَمُّمَ قاصِرًا عَلى مَسْحِ الوَجْهِ واليَدَيْنِ، وأسْقَطَ مَسْحَ ما سِواهُما مِن أعْضاءِ الوُضُوءِ بَلْهَ أعْضاءِ الغُسْلِ، إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنهُ تَطْهِيرًا حِسِّيًّا، ولا تَجْدِيدَ النَّشاطِ، ولَكِنْ مُجَرَّدَ اسْتِحْضارِ اسْتِكْمالِ الحالَةِ لِلصَّلاةِ، وقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الصَّحابَةِ أنَّ هَذا تَيَمُّمٌ بَدَلٌ عَنِ الوُضُوءِ، وأنَّ التَّيَمُّمَ البَدَلَ عَنِ الغُسْلِ لا يُجْزِي مِنهُ إلّا مَسْحُ سائِرِ الجَسَدِ بِالصَّعِيدِ، فَعَلَّمَهُ النَّبِيءُ ﷺ أنَّ التَّيَمُّمَ لِلْجَنابَةِ مِثْلُ التَّيَمُّمِ لِلْوُضُوءِ، فَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ، قالَ:
«كُنْتُ في سَفَرٍ فَأجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ في التُّرابِ (أيْ تَمَرَّغْتُ) وصَلَّيْتُ فَأتَيْتُ النَّبِيءَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ فَقالَ: يَكْفِيكَ الوَجْهُ والكَفّانِ» . وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
والباءُ لِلتَّأْكِيدِ، مِثْلَ
﴿وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ [مريم: ٢٥] وقَوْلِ النّابِغَةِ يَرْثِي النُّعْمانَ بْنَ المُنْذِرِ:
لَكَ الخَيْرُ إنْ وارَتْ بِكَ الأرْضُ واحِدًا ∗∗∗ وأصْبَحَ جَدُّ النّاسِ يَظْلَعَ عاثِـرا
أرادَ إنْ وارَتْكَ الأرْضُ مُواراةَ الدَّفْنِ. والمَعْنى: فامْسَحُوا وُجُوهَكم وأيْدِيَكم، وقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الباءُ مَعَ المَمْسُوحِ في الوُضُوءِ ومَعَ التَّيَمُّمِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَمَكُّنِ المَسْحِ لِئَلّا تَزِيدَ رُخْصَةٌ عَلى رُخْصَةٍ.
وقَوْلُهُ:
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ الرُّخْصَةِ إذْ عَفا عَنِ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ الغُسْلَ أوِ الوُضُوءَ عِنْدَ المَرَضِ، ولا تَرَقُّبَ وُجُودِ الماءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، حَتّى تَكْثُرَ عَلَيْهِمُ الصَّلَواتُ فَيَعْسُرَ عَلَيْهِمُ القَضاءُ.