الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ رُوِيَ أنَّ جَماعَةً مِنَ الصَّحابَةِ شَرِبُوا الخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وحانَتْ صَلاةٌ، فَتَقَدَّمَ أحَدُهم فَقَرَأ: قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ فَخَلَطَ فِيها فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْلِ عُمَرَ ثانِيًا: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا في الخَمْرِ بَيانًا شافِيًا، وكانُوا يَتَحامَوْنَها أوْقاتَ الصَّلَواتِ، فَإذا صَلَّوُا العِشاءَ شَرِبُوها، فَلا يُصْبِحُونَ إلّا وقَدْ ذَهَبَ عَنْهُمُ السُّكْرُ، إلى أنْ سَألَ عُمَرُ ثالِثًا فَنَزَلَ تَحْرِيمُها مُطْلَقًا. وهَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ. وذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ إلى أنَّها مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ المائِدَةِ. وأعْجَبُ مِن هَذا قَوْلُ عِكْرِمَةَ: إنَّ قَوْلَهُ ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦] الآيَةَ أيْ أُبِيحَ لَهم أنْ يُؤَخِّرُوا الصَّلاةَ حَتّى يَزُولَ السُّكْرُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَأُمِرُوا بِالصَّلاةِ عَلى كُلِّ حالٍ، ثُمَّ نُسِخَ شُرْبُ الخَمْرِ بِقَوْلِهِ: (فاجْتَنِبُوهُ) ولَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ في إباحَةِ الخَمْرِ فَلا تَكُونُ مَنسُوخَةً، ولا أباحَ بَعْدَ إنْزالِها مُجامَعَةَ الصَّلاةِ مَعَ السُّكْرِ. ووَجْهُ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ مَفْهُومَ الخِطابِ يَدُلُّ عَلى جَوازِ السُّكْرِ، وإنَّما حَرُمَ قُرْبانُ الصَّلاةِ في تِلْكَ الحالِ، فَنُسِخَ ما فُهِمَ مِن جَوازِ الشُّرْبِ والسُّكْرِ بِتَحْرِيمِ الخَمْرِ.
ومُناسِبَةُ (p-٢٥٥)هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هي: أنَّهُ لَمّا أمَرَ تَعالى بِعِبادَةِ اللَّهِ والإخْلاصِ فِيها، وأمَرَ بِبِرِّ الوالِدَيْنِ ومَكارِمِ الأخْلاقِ، وذَمَّ البُخْلَ، واسْتَطْرَدَ مِنهُ إلى شَيْءٍ مِن أحْوالِ القِيامَةِ، وكانَ قَدْ وقَعَ مِن بَعْضِ المُسْلِمِينَ تَخْلِيطٌ في الصَّلاةِ الَّتِي هي رَأْسُ العِبادَةِ بِسَبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ، ناسَبَ أنْ تَخْلُصَ الصَّلاةُ مِن شَوائِبِ الكَدَرِ الَّتِي يُوقِعُها عَلى غَيْرِ وجْهِها، فَأمَرَ تَعالى بِإتْيانِها عَلى وجْهِها دُونَ ما يُفْسِدُها، لِيَجْمَعَ لَهم بَيْنَ إخْلاصِ عِبادَةِ الحَقِّ ومَكارِمِ الأخْلاقِ الَّتِي بَيْنَهم، وبَيْنَ الخَلْقِ، والخِطابُ بِقَوْلِهِ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِلصّاحِينَ، لِأنَّ السَّكْرانَ إذا عَدِمَ التَّمْيِيزَ لِسُكْرِهِ لَيْسَ بِمُخاطَبٍ، لَكِنَّهُ مُخاطَبٌ إذا صَحا بِامْتِثالِ ما يَجِبُ عَلَيْهِ، وبِتَكْفِيرِهِ ما أضاعَ في وقْتِ سُكْرِهِ مِنَ الأحْكامِ الَّتِي تَقَرَّرَ تَكْلِيفُهُ إيّاها قَبْلَ السُّكْرِ، ولَيْسَ في هَذا تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ النّاسِ.
وبالَغَ تَعالى في النَّهْيِ عَنْ أنْ يُصَلِّيَ المُؤْمِنُ وهو سَكْرانُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾ لِأنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبانِ الصَّلاةِ أبْلَغُ مِن قَوْلِهِ: لا تُصَلُّوا وأنْتُمْ سُكارى ومِنهُ: (ولا تَقْرَبُوا الزِّنى) ﴿ولا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ﴾ [الأنعام: ١٥١] ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ﴾ [الأنعام: ١٥٢] والمَعْنى: لا تَغُشُّوا الصَّلاةَ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: لا تَقْرَبُوا مَواضِعَ الصَّلاةِ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا جُنُبًا إلّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ عَلى أحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ في عابِرِي سَبِيلٍ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ. ومَواضِعُ الصَّلاةِ هي المَساجِدُ لِقَوْلِهِ: (جَنِّبُوا مَساجِدَكم صِبْيانَكم ومَجانِينَكم) .
والجُمْهُورُ عَلى أنَّ المُرادَ: وأنْتُمْ سُكارى مِنَ الخَمْرِ. وقالَ الضَّحّاكُ: المُرادُ السُّكْرُ مِنَ النَّوْمِ، لِقَوْلِهِ: (إذا نَعَسَ أحَدُكم في الصَّلاةِ فَلْيَرْقُدْ حَتّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ) وقالَ عَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ: المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿وأنْتُمْ سُكارى﴾ إذا كُنْتُمْ حاقِنِينَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: (لا يُصَلِّيَنَّ أحَدُكم وهو حاقِنٌ) . وفي رِوايَةٍ: (وهُوَ ضامٌّ فَخِذَيْهِ) واسْتُضْعِفَ قَوْلُ الضَّحّاكِ وعَبِيدَةَ واسْتُبْعِدَ. وقالَ القُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُما صَحِيحُ المَعْنى، لِأنَّ المَطْلُوبَ مِنَ المُصَلِّي الإقْبالُ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى بِقَلْبِهِ وقالَبِهِ، بِصَرْفِ الأسْبابِ الَّتِي تُشَوِّشُ عَلَيْهِ وتُقِلُّ خُشُوعَهُ مِن: نَوْمٍ، وحُقْنَةٍ، وجُوعٍ، وغَيْرِهِ مِمّا يَشْغَلُ البالَ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى النَّهْيِ عَنْ قُرْبانِ الصَّلاةِ في حالَةِ السُّكْرِ. وقِيلَ: المُرادُ النَّهْيُ عَنِ السُّكْرِ، لِأنَّ الصَّلاةَ قَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ وأوْقاتُ السُّكْرِ لَيْسَتْ مَحْفُوظَةً عِنْدَهم ولا بِمُقَدَّرَةٍ، لِأنَّ السُّكْرَ قَدْ يَقَعُ تارَةً بِالقَلِيلِ وتارَةً بِالكَثِيرِ، وإذا لَمْ يَتَحَرَّرْ وقْتُ ذَلِكَ عِنْدَهم تَرَكُوا الشُّرْبَ احْتِياطًا لِأداءِ ما فُرِضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَواتِ. وأيْضًا فالسُّكْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أمْزِجَةِ الشّارِبِينَ، فَمِنهم مَن سُكْرُهُ الكَثِيرُ، ومِنهم مَن سُكْرُهُ القَلِيلُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: سُكارى بِضَمِّ السِّينِ. واخْتَلَفُوا: أهْوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ ؟ أمِ اسْمُ جَمْعٍ ؟ ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ. قالَ سِيبَوَيْهِ في حَدِّ تَكْسِيرِ الصِّفاتِ: وقَدْ يَكْسِرُونَ بَعْضَ هَذِهِ عَلى فُعالى، وذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: سُكارى وعُجالى. فَهَذا نَصٌّ مِنهُ عَلى أنَّ فُعالى جَمْعٌ. ووَهِمَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ الباذِشِ فَنَسَبَ إلى سِيبَوَيْهِ أنَّهُ اسْمٌ جَمْعٌ، وأنَّ سِيبَوَيْهِ بَيَّنَ ذَلِكَ في الأبْنِيَةِ. قالَ ابْنُ الباذِشِ: وهو القِياسُ، لِأنَّهُ جاءَ عَلى بِناءٍ لَمْ يَجِئْ عَلَيْهِ جَمْعٌ ألْبَتَّةَ، ولَيْسَ في الأبْنِيَةِ إلّا نَصُّ سِيبَوَيْهِ عَلى أنَّهُ تَكْسِيرٌ، وذَلِكَ أنَّهُ قالَ: ويَكُونُ فُعالى في الِاسْمِ نَحْوَ حُبارى وسُمانى وكُبارى، ولا يَكُونُ وصْفًا، إلّا أنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ الواحِدُ لِلْجَمْعِ نَحْوَ عُجالى وسُكارى وكُسالى. وحَكى السِّيرافِيُّ فِيهِ القَوْلَيْنِ، ورَجَّحَ أنَّهُ تَكْسِيرٌ، وأنَّهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلامُ سِيبَوَيْهِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: سُكارى بِفَتْحِ السِّينِ نَحْوَ نَدْمانَ ونَدامى، وهو جَمْعُ تَكْسِيرٍ. وقَرَأ النَّخَعِيُّ: سَكْرى، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِواحِدَةٍ مُؤَنَّثَةٍ كامْرَأةٍ سَكْرى، وجَرى عَلى جَماعَةٍ إذْ مَعْناهُ: وأنْتُمْ جَماعَةٌ سَكْرى. وقالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هو جَمْعُ سَكْرانَ عَلى وزْنِ فَعْلى كَقَوْلِهِ: رَوْبى نِيامًا وكَقَوْلِهِمْ: هَلْكى ومَيْدى جَمْعُ هالِكٍ ومائِدٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ: (سُكْرى) بِضَمِّ السِّينِ عَلى وزْنِ حُبْلى، وتَخْرِيجُهُ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِجَماعَةٍ أيْ: وأنْتُمْ جَماعَةٌ سُكْرى. وحَكى جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ: كَسْلى وكُسْلى بِالضَّمِّ (p-٢٥٦)والفَتْحِ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ومَعْنى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ: حَتّى تَصْحُوا فَتَعْلَمُوا. جَعَلَ غايَةَ السَّبَبِ والمُرادُ السَّبَبُ، لِأنَّهُ ما دامَ سَكْرانُ - لا يَعْلَمُ ما يَقُولُ، وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ السَّكْرانَ لا يَعْلَمُ ما يَقُولُ، ولِذَلِكَ ذَهَبَ عُثْمانُ، وابْنُ عَبّاسٍ، وطاوُسٌ، وعَطاءٌ، والقاسِمُ، ورَبِيعَةُ، واللَّيْثُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ، والمُزَنِيُّ إلى أنَّ السَّكْرانَ لا يَلْزَمُهُ طَلاقٌ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ. وقالَ أجْمَعُ العُلَماءِ: عَلى أنَّ طَلاقَ المَعْتُوهِ لا يَجُوزُ، والسَّكْرانُ مَعْتُوهٌ كالمُوَسْوِسِ مَعْتُوهٌ بِالوَسْواسِ. ولا يَخْتَلِفُونَ في أنَّ طَلاقَ مَن ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالبِنْجِ غَيْرُ جائِزٍ، فَكَذَلِكَ مَن سَكِرَ مِنَ الشَّرابِ. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ ومُعاوِيَةَ وجَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ: أنَّ طَلاقَهُ نافِذٌ عَلَيْهِ وهو قَوْلُ: أبِي حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ. قالَ أبُو حَنِيفَةَ: أفْعالُهُ وعُقُودُهُ كُلُّها ثابِتَةٌ كَأفْعالِ الصّاحِي إلّا الرِّدَّةَ، فَإنَّهُ إذا ارْتَدَّ لا تَبِينُ امْرَأتُهُ مِنهُ. وقالَ أبُو يُوسُفَ: يَكُونُ مُرْتَدًّا في حالِ سُكْرِهِ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، إلّا أنَّهُ لا يَقْتُلُهُ في حالِ سُكْرِهِ، ولا يَسْتَتِيبُهُ. واخْتَلَفَ قَوْلُهُ في الطَّلاقِ، وألْزَمَ مالِكٌ السَّكْرانَ الطَّلاقَ والقَوَدَ في الجِراحِ والعَقْلَ، ولَمْ يُلْزِمْهُ النِّكاحَ والبَيْعَ. قالَ الماوَرْدِيُّ: وقَدْ رُوِيَتْ عِنْدَنا رِوايَةٌ شاذَّةٌ أنَّهُ لا يَلْزَمُهُ طَلاقُهُ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: لا يَلْزَمُهُ طَلاقٌ ولا عِتاقٌ. واخْتَلَفُوا في السُّكْرِ. فَقِيلَ: هو الَّذِي لا يَعْرِفُ صاحِبُهُ الرَّجُلَ مِنَ المَرْأةِ قالَهُ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ . فَظاهِرُهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الحُكْمُ هو الَّذِي لا يَعْقِلُ صاحِبُهُ ما يَقُولُ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: السُّكْرُ اخْتِلالُ العَقْلِ، فَإذا خَلَطَ في قِراءَتِهِ وتَكَلَّمَ بِما لا يَعْرِفُ حَدَّهُ. وقالَ أحْمَدُ: إذا تَغَيَّرَ عَقْلُهُ في حالِ الصِّحَّةِ فَهو سَكْرانُ. وحُكِيَ عَنْ مالِكٍ نَحْوُهُ.
قِيلَ: وفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الشُّرْبَ كانَ مُباحًا في أوَّلِ الإسْلامِ حَتّى يَنْتَهِيَ بِصاحِبِهِ إلى السُّكْرِ. وقالَ القَفّالُ: يُحْتَمَلُ أنَّهُ كانَ أُبِيحَ لَهم مِنَ الشَّرابِ ما يُحَرِّكُ الطَّبْعَ إلى السَّخاءِ والشَّجاعَةِ والحَمِيَّةِ، وأمّا ما يُزِيلُ العَقْلَ حَتّى يَصِيرَ صاحِبُهُ في حالَةِ الجُنُونِ والإغْماءِ فَما أُبِيحَ قَصْدُهُ، بَلْ لَوْ أنْفَقَ مِن غَيْرِ قَصْدٍ كانَ مَرْفُوعًا عَنْ صاحِبِهِ.
* * *
﴿ولا جُنُبًا﴾ هَذِهِ حالَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: وأنْتُمْ سُكارى. إذْ هي جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، والجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أبْلَغُ لِتَكْرارِ الضَّمِيرِ، فالتَّقْيِيدُ بِها أبْلَغُ في الِانْتِفاءِ مِنها مِنَ التَّقْيِيدِ بِالمُفْرَدِ الَّذِي هو: ولا جُنُبًا. ودُخُولُ لا دالٌّ عَلى مُراعاةِ كُلِّ قَيْدٍ مِنهُما بِانْفِرادِهِ. وإذا كانَ النَّهْيُ عَنْ إيقاعِ الصَّلاةِ مُصاحِبَةً لِكُلِّ حالٍ مِنهُما بِانْفِرادِهِ، فالنَّهْيُ عَنْ إيقاعِها بِهِما مُجْتَمِعَيْنِ، وأُدْخِلَ في الحَظْرِ. والجُنُبُ: هو غَيْرُ الطّاهِرِ مِن إنْزالٍ أوْ مُجاوَزَةِ خِتانٍ، هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ الأُمَّةِ وعَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ: لا غُسْلَ إلّا عَلى مَن أنْزَلَ، وبِهِ قالَ الأعْمَشُ وداوُدُ. وهي مَسْألَةٌ تُذْكَرُ أدِلَّتُها في عِلْمِ الفِقْهِ.
والجُنُبُ مِنَ الجَنابَةِ وهي البُعْدُ، كَأنَّهُ جانَبَ الطُّهْرَ، أوْ مِنَ الجَنْبِ كَأنَّهُ ضاجَعَ ومَسَّ بِجَنْبِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الجَنُبُ يَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ والجَمْعُ، والمُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، لِأنَّهُ اسْمٌ جَرى مَجْرى المَصْدَرِ الَّذِي هو الإجْنابُ انْتَهى. والَّذِي ذَكَرَهُ هو المَشْهُورُ في اللُّغَةِ والفَصِيحِ، وبِهِ جاءَ القُرْآنُ. وقَدْ جَمَعُوهُ جَمْعَ سَلامَةٍ بِالواوِ والنُّونِ قالُوا: قَوْمٌ جُنُبُونَ، وجَمْعَ تَكْسِيرٍ قالُوا: قَوْمٌ أجْنابٌ. وأمّا تَثْنِيَتُهُ فَقالُوا: جُنُبانِ.
﴿إلّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ العُبُورُ: الخُطُورُ والجَوازُ، ومِنهُ ناقَةٌ عُبْرُ الهَواجِرِ وعُبْرُ أسْفارٍ قالَ:
؎عَيْرانَةٌ سُرُحُ اليَدَيْنِ شَمْلَةٌ عُبْرُ الهَواجِرِ كالهِجَفِّ الخاضِبِ
وعابِرُ السَّبِيلِ هو المارُّ في المَسْجِدِ مِن غَيْرِ لُبْثٍ فِيهِ، وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ قالَ: يَمُرُّ فِيهِ ولا يَقْعُدُ فِيهِ. وقالَ اللَّيْثُ: لا يَمُرُّ فِيهِ إلّا إنْ كانَ بابُهُ إلى المَسْجِدِ. وقالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ: إذا تَوَضَّأ الجُنُبُ فَلا بَأْسَ بِهِ أنْ يَقْعُدَ في المَسْجِدِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَن فَسَّرَ الصَّلاةَ بِالمَسْجِدِ قالَ: مَعْناهُ لا تَقْرَبُوا المَسْجِدَ جُنُبًا إلّا (p-٢٥٧)مُجْتازِينَ فِيهِ، إذا كانَ الطَّرِيقُ فِيهِ إلى الماءِ، أوْ كانَ الماءُ فِيهِ، أوِ احْتَلَمْتُمْ فِيهِ. وقِيلَ: إنَّ رِجالًا مِنَ الأنْصارِ كانَتْ أبْوابُهم في المَسْجِدِ فَتُصِيبُهُمُ الجَنابَةُ ولا يَجِدُونَ مَمَرًّا إلّا في المَسْجِدِ، فَرُخِّصَ لَهم.
ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ: (لَمْ يَأْذَنْ لِأحَدٍ أنْ يَجْلِسَ في المَسْجِدِ أنْ يَمُرَّ فِيهِ وهو جُنُبٌ، إلّا لِعَلِيٍّ. لِأنَّهُ بَيْتُهُ كانَ في المَسْجِدِ) وقالَ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ والحَكَمُ وغَيْرُهم: عابِرُ السَّبِيلِ المُسافِرُ، فَلا يَصِحُّ لِأحَدٍ أنْ يَقْرَبَ الصَّلاةَ وهو جُنُبٌ إلّا بَعْدَ الِاغْتِسالِ، إلّا المُسافِرَ فَإنَّهُ يَتَيَمَّمُ وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، وأبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّدٍ، وزُفَرَ، قالُوا: لا يَدْخُلُ المَسْجِدَ إلّا الطّاهِرُ سَواءٌ أرادَ القُعُودَ فِيهِ أمِ الِاجْتِيازَ، وهو قَوْلُ: مالِكٍ والثَّوْرِيِّ وجَماعَةٍ. ورُجِّحَ هَذا القَوْلُ بِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾ يَبْقى عَلى ظاهِرِهِ، وحَقِيقَتُهُ بِخِلافِ تَأْوِيلِ مَواضِعِ الصَّلاةِ فَإنَّهُ مَجازٌ، ولا يُعْدَلُ إلَيْهِ إلّا بَعْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ الكَلامِ عَلى حَقِيقَتِهِ. ولَيْسَ في المَسْجِدِ قَوْلٌ مَشْرُوطٌ يَمْنَعُ مِن دُخُولِهِ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّكْرِ، وفي الصَّلاةِ قِراءَةٌ مَشْرُوطَةٌ يُمْنَعُ لِأجْلِ تَعَذُّرِ إقامَتِها مِن فِعْلِ الصَّلاةِ. وسُمِّيَ المُسافِرُ عابِرَ سَبِيلٍ لِأنَّهُ عَلى الطَّرِيقِ، كَما سُمِّيَ ابْنُ السَّبِيلِ.
وأفادَ الكَلامُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: جَوازُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ والصَّلاةِ بِهِ. والثّانِي: أنَّ التَّيَمُّمَ لا يَرْفَعُ الجَنابَةَ، لِأنَّهُ سَمّاهُ جُنُبًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَيَمِّمًا. وعَلى هَذا المَعْنى فَسَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الآيَةَ أوَّلًا فَقالَ: إلّا عابِرِي سَبِيلٍ، الِاسْتِثْناءُ مِن عامَّةِ أحْوالِ المُخاطَبِينَ، وانْتِصابُهُ عَلى الحالِ. فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الحالِ والَّتِي قَبْلَها ؟ قُلْتُ: كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ في حالِ الجَنابَةِ إلّا ومَعَكم حالٌ أُخْرى تُعْذَرُونَ فِيها وهي حالُ السَّفَرِ، وعُبُورُ السَّبِيلِ عِبارَةٌ عَنْهُ. ويَجُوزُ أنْ لا يَكُونُ حالًا ولَكِنْ صِفَةً كَقَوْلِهِ: جُنُبًا أيْ: ولا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ جُنُبًا غَيْرَ عابِرِي سَبِيلٍ، أيْ: جُنُبًا مُقِيمِينَ غَيْرَ مَعْذُورِينَ. فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَصِحُّ صَلاتُهم عَلى الجَنابَةِ لِعُذْرِ السَّفَرِ ؟ قُلْتُ: أُرِيدَ بِالجُنُبِ الَّذِينَ لَمْ يَغْتَسِلُوا، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ غَيْرَ مُغْتَسِلِينَ حَتّى تَغْتَسِلُوا، إلّا أنْ تَكُونُوا مُسافِرِينَ انْتَهى كَلامُهُ. ومَن قالَ بِمَنعِ الجُنُبِ مِنَ المُرُورِ في المَسْجِدِ والجُلُوسِ فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ، فالأوْلى أنْ يَمْنَعَهُ والحائِضَ مِن قِراءَةِ القُرْآنِ، وبِهِ قالَ الجُمْهُورُ، فَلا يَجُوزُ لَهُما أنْ يَقْرَآ مِنهُ شَيْئًا سَواءٌ كانَ كَثِيرًا أمْ قَلِيلًا حَتّى يَغْتَسِلا، ورَخَّصَ مالِكٌ لَهُما في الآيَةِ اليَسِيرَةِ لِلتَّعَوُّذِ، وأجازَ لِلْحائِضِ أنْ تَقْرَأ مُطْلَقًا إذا خافَتِ النِّسْيانَ عِنْدَ الحَيْضِ، وذَكَرُوا هَذِهِ المَسْألَةَ ولا تَعَلُّقَ لَها في التَّفْسِيرِ بِلَفْظِ القُرْآنِ.
* * *
﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ هَذِهِ غايَةٌ لِامْتِناعِ الجُنُبِ مِنَ الصَّلاةِ، وهي داخِلَةٌ في الحَظْرِ إلى أنْ يُوقِعَ الِاغْتِسالَ مُسْتَوْعِبًا جَمِيعَهُ. والخِلافُ: هَلْ يَدْخُلُ في ماهِيَّةِ الغُسْلِ إمْرارُ اليَدِ أوْ شَبَهِها مَعَ الماءِ عَلى المَغْسُولِ ؟ فَلَوِ انْغَمَسَ في الماءِ أوْ صَبَّهُ عَلَيْهِ فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ: أنَّهُ لا يُجْزِئُهُ حَتّى يَتَدَلَّكَ، وبِهِ قالَ المُزَنِيُّ: ومَذْهَبُ الجُمْهُورِ: أنَّهُ يُجْزِئُهُ مِن غَيْرِ تَدَلُّكٍ. وهَلْ يَجِبُ في الغَسْلِ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ ؟ فِيهِ عَنْ مالِكٍ خِلافٌ. وأمّا المَضْمَضَةُ والِاسْتِنْشاقُ في الغَسْلِ فَذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ إلى فَرْضِيَّتِهِما فِيهِ لا في الوُضُوءِ. وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى وإسْحاقُ وأحْمَدُ وبَعْضُ أصْحابِ داوُدَ: هُما فَرْضٌ فِيهِما. ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ، والزُّهْرِيِّ وقالَ مُجاهِدٌ وجَماعَةٌ مِنَ التّابِعِينَ، ومالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، واللَّيْثُ، والشّافِعِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: لَيْسا بِفَرْضٍ فِيهِما. ورُوِيَ عَنْ أحْمَدَ: أنَّ المَضْمَضَةَ سُنَّةٌ، والِاسْتِنْشاقَ فَرْضٌ، وقالَ بِهِ بَعْضُ أصْحابِ داوُدَ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ حُصُولُ الِاغْتِسالِ، ولَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ نِيَّةُ الِاغْتِسالِ، بَلْ ذُكِرَ حُصُولُ مُطْلَقِ الِاغْتِسالِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ في كُلِّ طَهارَةٍ بِالماءِ. ورَوى هَذا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مالِكٍ، ومَشْهُورُ مَذْهَبِهِ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وإسْحاقُ وأبُو ثَوْرٍ.
* * *
﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكُمْ﴾ (p-٢٥٨)قالَ الجُمْهُورُ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدَمِ الصَّحابَةِ الماءَ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ، حِينَ أقامَ عَلى التِماسِ العِقْدِ. وقالَ النَّخَعِيُّ: في قَوْمٍ أصابَتْهم جِراحٌ وأجْنَبُوا. وقِيلَ: كانَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، و(مَرْضى) يَعْنِي في الحَضَرِ. ويَدُلُّ عَلى مُطْلَقِ المَرَضِ قَلَّ أوْ كَثُرَ، زادَ أوْ نَقَصَ، تَأخَّرَ بُرْؤُهُ أوْ تَعَجَّلَ، وبِهِ قالَ داوُدُ. فَأجازَ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ مَن صَدَقَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الِاسْمِ. وخَصَّصَ العُلَماءُ غَيْرُهُ المَرَضَ بِالجُدَرِيِّ، والحَصْبَةِ، والعِلَلِ المَخُوفِ عَلَيْها مِنَ الماءِ فَقالُوا: إنْ خافَ تَيَمَّمَ بِلا خِلافٍ، إلّا ما رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ والحَسَنِ: أنَّهُ يَتَطَهَّرُ وإنْ ماتَ، وهُما مَحْجُوجانِ «بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاصِ في غَزْوَةِ ذاتِ السَّلاسِلِ، وأنَّهُ أشْفَقَ أنْ يَهْلَكَ إنِ اغْتَسَلَ فَتَيَمَّمَ، فَأقَرَّهُ الرَّسُولُ ﷺ عَلى ذَلِكَ»، خَرَّجَهُ أبُو داوُدَ والدّارَقُطْنِيُّ.
* * *
وإنْ خافَ حُدُوثَ مَرَضٍ أوْ زِيادَتَهُ، أوْ تَأخُّرَ البُرْءِ، فَذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ: إلى أنَّهُ يَتَيَمَّمُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: لا يَجُوزُ، وقِيلَ: الصَّحِيحُ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ إذا خافَ طُولَ المَرَضِ جازَ لَهُ التَّيَمُّمُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ مُطْلَقُ السَّفَرِ، فَلَوْ لَمْ يَجِدِ الماءَ في الحَضَرِ جازَ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ والطَّبَرِيُّ: لا يَتَيَمَّمُ. وقالَ اللَّيْثُ والشّافِعِيُّ أيْضًا: إنْ خافَ فَوْتَ الوَقْتِ تَيَمَّمَ وصَلّى، ثُمَّ إذا وجَدَ الماءَ أعادَ. وقالَ أبُو يُوسُفَ وزُفَرُ: لا يَتَيَمَّمُ إلّا لِخَوْفِ الوَقْتِ. والسَّفَرُ المُبِيحُ عِنْدَ الجُمْهُورِ مُطْلَقُ السَّفَرِ، سَواءٌ أكانَ مِمّا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاةُ أوْ لا تُقْصَرُ. وشَرَطَ قَوْمٌ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاةُ، وشَرَطَ آخَرُونَ أنْ يَكُونَ سَفَرَ طاعَةٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لَوْ خَرَجَ مِن مِصْرِهِ لِغَيْرِ سَفَرٍ فَلَمْ يَجِدِ الماءَ جازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، وقَدْرُ المَسافَةِ أنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الماءِ مَيْلٌ. وقِيلَ: إذا كانَ بِحَيْثُ لا يَسْمَعُ أصْواتَ النّاسِ، لِأنَّهُ في مَعْنى المُسافِرِ. فَلَوْ وجَدَ ماءً قَلِيلًا إنْ تَوَضَّأ بِهِ خافَ عَلى نَفْسِهِ العَطَشَ تَيَمَّمَ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، فَلَوْ وجَدَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَلا خِلافَ أنَّهُ يَلْزَمُهُ شِراؤُهُ، أوْ بِما زادَ. فَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ: يَتَيَمَّمُ. ومَذْهَبُ مالِكٍ: يَشْتَرِيهِ بِمالِهِ كُلِّهِ ويَبْقى عَدِيمًا. فَلَوْ حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الماءِ عَدُوٌّ أوْ سَبُعٌ أوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا يَحُولُ فَكالعادِمِ لِلْماءِ.
* * *
ومَجِيئُهُ مِنَ الغائِطِ كِنايَةٌ عَنِ الحَدَثِ بِالغائِطِ، وحُمِلَ عَلَيْهِ الرِّيحُ والبَوْلُ والمَنِيُّ والوَدْيُ، لا خِلافَ أنَّ هَذِهِ السِّتَّةَ أحْداثٌ. وقَدِ اخْتَلَفُوا في أشْياءَ ذُكِرَتْ في كُتُبِ الفِقْهِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: (مِنَ الغَيْطِ)، وخُرِّجَ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَصْدَرٌ إذْ قالُوا: غاطَ يَغِيطُ. والثّانِي: أنَّ أصْلَهُ فَيْعِلٌ، ثُمَّ حُذِفَ كَمَيِّتٍ. واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ اللَّمْسِ، فَقالَ عَمْرُو بْنُ مَسْعُودٍ وغَيْرُهُما: هو اللَّمْسُ بِاليَدِ، ولا ذِكْرَ لِلْجُنُبِ إنَّما يَغْتَسِلُ أوْ يَدَعُ الصَّلاةَ حَتّى يَجِدَ الماءَ. قالَ أبُو عُمَرَ: لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِهِمْ أحَدٌ مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ لِحَدِيثِ عَمّارٍ، وأبِي ذَرٍّ، وعُمْرانَ بْنِ حَصِينٍ في تَيَمُّمِ الجُنُبِ. وقالَ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: المُرادُ الجِماعُ، والجُنُبُ يَتَيَمَّمُ. ولا ذِكْرَ لِلّامِسِ بِيَدِهِ، وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ. فَلَوْ قَبَّلَ ولَوْ بِلَذَّةٍ لَمْ يَنْتَقِضِ الوُضُوءُ. وقالَ مالِكٌ: المُلامِسُ بِالجِماعِ يَتَيَمَّمُ، وكَذا بِاليَدِ إذا التَذَّ فَإنْ لَمَسَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلا وُضُوءَ، وبِهِ قالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا أفْضى بِشَيْءٍ مِن جَسَدِهِ إلى بَدَنِ المَرْأةِ نَقَضَ الطَّهارَةَ، وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عُمَرَ، والزُّهْرِيِّ، ورَبِيعَةَ، وعُبَيْدَةَ، والشَّعْبِيِّ، وإبْراهِيمَ، ومَنصُورٍ، وابْنِ سِيرِينَ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: إنْ كانَ بِاليَدِ نَقَضَ وإلّا فَلا. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: (لَمَسْتُمْ)، وباقِي السَّبْعَةِ بِالألْفِ، وفاعِلُ هُنا مُوافِقٌ فِعْلَ المُجَرَّدِ نَحْوَ: جاوَزْتُ الشَّيْءَ وجُزْتُهُ، ولَيْسَتْ لِأقْسامِ الفاعِلِيَّةِ والمَفْعُولِيَّةِ لَفْظًا، والِاشْتِراكُ فِيهِما مَعْنًى، وقَدْ حَمَلَها الشّافِعِيُّ عَلى ذَلِكَ في أظْهَرِ قَوْلَيْهِ.
فَقالَ: المَلْمُوسُ كاللّامِسِ في نَقْضِ الطَّهارَةِ.
* * *
وقَوْلُهُ: ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلى (مَرْضى) . وفي قَوْلِهِ: أوْ جاءَ، أوْ لامَسْتُمْ دَلِيلُ عَلى جَوازِ وُقُوعِ الماضِي خَبَرًا لِكانَ مِن غَيْرِ قَدْ، وادِّعاءُ إضْمارِها تَكَلُّفٌ خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ لِعَطْفِها عَلى خَبَرِ كانَ، والمَعْطُوفُ عَلى الخَبَرِ خَبَرٌ.
(p-٢٥٩)﴿فَلَمْ تَجِدُوا ماءً﴾ الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى مَن أُسْنِدَ إلَيْهِمُ الحُكْمُ في الأخْبارِ الأرْبَعَةِ. وفِيهِ تَغْلِيبُ الخِطابِ إذْ قَدِ اجْتَمَعَ خِطابٌ وغَيْبَةٌ، فالخِطابُ: ﴿كُنْتُمْ مَرْضى﴾، ﴿أوْ عَلى سَفَرٍ﴾، ﴿أوْ لامَسْتُمُ﴾ . والغَيْبَةُ قَوْلُهُ: ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ﴾ . وما أحْسَنَ ما جاءَتْ هَذِهِ الغَيْبَةُ، لِأنَّهُ لَمّا كَنّى عَنِ الحاجَةِ بِالغائِطِ كَرِهَ إسْنادَ ذَلِكَ إلى المُخاطَبِينَ، فَنَزَعَ بِهِ إلى لَفْظِ الغائِبِ بِقَوْلِهِ: ﴿أوْ جاءَ أحَدٌ﴾، وهَذا مِن أحْسَنِ المُلاحَظاتِ وأجْمَلِ المُخاطَباتِ. ولَمّا كانَ المَرَضُ والسَّفَرُ ولَمْسُ النِّساءِ لا يَفْحُشُ الخِطابُ بِها جاءَتْ عَلى سَبِيلِ الخِطابِ. وظاهِرُ انْتِفاءِ الوِجْدانِ سَبَقَ تَطَلُّبُهُ وعَدَمُ الوُصُولِ إلَيْهِ، فَأمّا في حَقِّ المَرِيضِ فَجَعَلَ المَوْجُودَ حِسًّا في حَقِّهِ إذا كانَ لا يَسْتَطِيعُ اسْتِعْمالَهُ كالمَفْقُودِ شَرْعًا، وأمّا غَيْرُهُ باقِي الأرْبَعَةِ فانْتِفاءُ وِجْدانِ الماءِ في حَقِّهِمْ هو عَلى ظاهِرِهِ. و﴿فَلَمْ تَجِدُوا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى فِعْلِ الشَّرْطِ ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ هَذا جَوابُ الشَّرْطِ، أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبٍ مِن هَذِهِ الأسْبابِ الأرْبَعَةِ وفُقْدانِ الماءِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ نَظَمَ في سِلْكٍ واحِدٍ بَيْنَ المَرْضى والمُسافِرِينَ، وبَيْنَ المُحْدِثِينَ والمُجْنِبِينَ، والمَرَضُ والسَّفَرُ سَبَبانِ مِن أسْبابِ الرُّخْصَةِ، والحَدَثُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الوُضُوءِ، والجَنابَةُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الغُسْلِ ؟ قُلْتُ: أرادَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنْ يُرَخِّصَ لِلَّذِينِ وجَبَ عَلَيْهِمُ التَّطَهُّرُ وهم عادِمُونَ لِلْماءِ في التَّيَمُّمِ والتُّرابِ، فَخَصَّ أوَّلًا مِن بَيْنِهِمْ مَرْضاهم وسَفَرَهم لِأنَّهُمُ المُتَقَدِّمُونَ في اسْتِحْقاقِ بَيانِ الرُّخْصَةِ لَهم، لِكَثْرَةِ المَرَضِ والسَّفَرِ وغَلَبَتِهِما عَلى سائِرِ الأسْبابِ المُوجِبَةِ لِلرُّخْصَةِ، ثُمَّ عَمَّ كُلَّ مَن وجَبَ عَلَيْهِ التَّطَهُّرُ وأعْوَزَهُ الماءُ لِخَوْفِ عَدُوٍّ، أوْ سَبُعٍ، أوْ عَدَمِ آلَةِ اسْتِقاءٍ، أوْ إرْهاقٍ في مَكانٍ لا ماءَ فِيهِ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يَكْثُرُ كَثْرَةَ المَرَضِ والسَّفَرِ انْتَهى. وفِيهِ: تَفْسِيرُهُ ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الجِماعُ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الجَنابَةُ، فَسَّرَ ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ، ولَمْ يَنْقُلْ غَيْرَهُ مِنَ المَذاهِبِ. ومُلَخَّصُ ما طُوِّلَ بِهِ: أنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ تَقْدِيمِ المَرَضِ والسَّفَرِ بِما ذَكَرَ. ومَن يَحْمِلُ اللَّمْسَ عَلى ظاهِرِهِ يَقُولُ: إنَّ هَذا مِن بابِ التَّرَقِّي مِنَ الأقَلِّ إلى الأكْثَرِ، لِأنَّ حالَةَ المَرَضِ أقَلُّ مِن حالَةِ السَّفَرِ، وحالَةُ السَّفَرِ أقَلُّ مِن حالَةِ قَضاءِ الحاجَةِ، وحالَةُ قَضاءِ الحاجَةِ أقَلُّ مِن حالَةِ لَمْسِ المَرْأةِ. ألا تَرى أنَّ حالَةَ الصِّحَّةِ غالِبًا أكْثَرُ مِن حالِ المَرَضِ، وكَذا في سائِرِ البَواقِي ؟ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ والفَرّاءُ: الصَّعِيدُ التُّرابُ. وقالَ اللَّيْثُ: الصَّعِيدُ الأرْضُ المُسْتَوِيَةُ لا شَيْءَ فِيها مِن غِراسٍ ونَباتٍ، وهو قَوْلُ قَتادَةَ، قالَ: الصَّعِيدُ الأرْضُ المَلْساءُ. وقالَ الخَلِيلُ: الصَّعِيدُ ما صَعِدَ مِن وجْهِ الأرْضِ، يُرِيدُ وجْهَ الأرْضِ. وقالَ الزَّجّاجُ: الصَّعِيدُ وجْهُ الأرْضِ تُرابًا كانَ أوْ غَيْرَهُ، وإنْ كانَ صَخْرًا لا تُرابَ عَلَيْهِ، زادَ غَيْرُهُ: أوْ رَمْلًا، أوْ مَعْدِنًا، أوْ سَبْخَةً. والطَّيِّبُ الطّاهِرُ وهَذا تَفْسِيرُ طائِفَةٍ، ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ ومالِكٍ واخْتِيارُ الطَّبَرِيِّ. ومِنهُ ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾ [النحل: ٣٢] أيْ طاهِرِينَ مِن أدْناسِ المُخالَفاتِ. وقالَ قَوْمٌ: الطَّيِّبُ هُنا الحَلالُ، قالَهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وغَيْرُهُ. وقالَ الشّافِعِيُّ وجَماعَةٌ: الطَّيِّبُ المَنبَتِ، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ﴾ [الأعراف: ٥٨] فالصَّعِيدُ عَلى هَذا التُّرابُ. وهَؤُلاءِ يُجِيزُونَ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَحَلُّ الإجْماعِ هو أنْ يَتَيَمَّمَ بِتُرابٍ مُنْبِتٍ طاهِرٍ غَيْرِ مَنقُولٍ ولا مَغْصُوبٍ. ومَحَلُّ المَنعِ إجْماعًا هو: أنْ يَتَيَمَّمَ عَلى ذَهَبٍ صَرْفٍ، أوْ فِضَّةٍ، أوْ ياقُوتٍ، أوْ زُمُرُّدٍ، وأطْعِمَةٍ كَخُبْزٍ ولَحْمٍ، أوْ عَلى نَجاسَةٍ، واخْتُلِفَ في المَعادِنِ: فَأُجِيزَ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، ومُنِعَ وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ. وفي المِلْحِ، وفي الثَّلْجِ، وفي التُّرابِ المَنقُولِ، وفي المَطْبُوخِ كالآجُرِّ، وعَلى الجِدارِ، وعَلى النَّباتِ، والعُودِ، والشَّجَرِ خِلافٌ. وأجازَ الثَّوْرِيُّ وأحْمَدُ بِغُبارِ اليَدِ. وقالَ أحْمَدُ وأبُو يُوسُفَ: لا يَجُوزُ إلّا بِالتُّرابِ والرَّمْلِ، والجُمْهُورُ عَلى إجازَتِهِ بِالسِّباخِ، إلّا ابْنَ راهَوَيْهِ. وأجازَ ابْنُ عُلَيَّةَ وابْنُ كَيْسانَ التَّيَمُّمَ بِالمِسْكِ والزَّعْفَرانِ.
* * *
وظاهِرُ الكَلامِ: أنَّ التَّيَمُّمَ مَسْحُ الوَجْهِ واليَدَيْنِ مِنَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فَمَتى حَصَلَتْ هَذِهِ الكَيْفِيَّةُ حَصَلَ التَّيَمُّمُ. والعَطْفُ بِالواوِ لا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا بَيْنَ الوَجْهِ واليَدَيْنِ (p-٢٦٠)والباءُ في ﴿بِوُجُوهِكُمْ﴾ مِمّا يُعَدّى بِها الفِعْلُ تارَةً، وتارَةً بِنَفْسِهِ. حَكى سِيبَوَيْهِ: مَسَحْتُ رَأْسَهُ وبِرَأْسِهِ، وخَشَنْتُ صَدْرَهُ وبِصَدْرِهِ عَلى مَعْنًى واحِدٍ. وظاهِرُ مَسْحِ الوَجْهِ التَّعْمِيمُ، فَيَمْسَحُهُ جَمِيعَهُ كَما يَغْسِلُهُ بِالماءِ جَمِيعَهُ. وأجازَ بَعْضُهم ألّا يَتَتَبَّعَ الغُضُونَ. وأمّا اليَدانِ فَظاهِرُ مَسْحِهِما تَعْمِيمُ مَدْلُولِهِما، وهي تَنْطَلِقُ لُغَةً إلى المَناكِبِ، وبِهِ قالَ ابْنُ شِهابٍ، قالَ: يَمْسَحُ إلى الآباطِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وفي سُنَنِ أبِي داوُدَ: (أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَسَحَ إلى أنْصافِ ذِراعَيْهِ) قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِهَذا الحَدِيثِ فِيما حَفِظْتُ. انْتَهى. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأصْحابُهُما، والثَّوْرِيُّ، وابْنُ أبِي سَلَمَةَ، واللَّيْثُ: أنَّهُ يَمْسَحُ إلى بُلُوغِ المِرْفَقَيْنِ فَرْضًا واجِبًا، وهو قَوْلُ جابِرٍ، وابْنِ عُمَرَ، والحَسَنِ، وإبْراهِيمَ. وذَهَبَ طائِفَةٌ إلى أنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ إلى الكُوعَيْنِ وهُما الرُّسْغانِ، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ، وعَطاءٍ، والشَّعْبِيِّ، ومَكْحُولٍ، والأوْزاعِيِّ، وأحْمَدَ، وإسْحاقَ، وداوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، والطَّبَرِيِّ، والشّافِعِيِّ في القَدِيمِ، ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ. وذَهَبَ الشَّعْبِيُّ إلى أنَّهُ يَمْسَحُ كَفَّيْهِ فَقَطْ، وبِهِ قالَ بَعْضُ فُقَهاءِ الحَدِيثِ، وهو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُذْهَبَ إلَيْهِ لِصِحَّتِهِ في الحَدِيثِ. فَفي مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ عَمّارٍ (إنَّما كانَ يَكْفِيكَ أنْ تَضْرِبَ بِيَدِكَ الأرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ وتَمْسَحَ بِها وجْهَكَ وكَفَّيْكَ) وعَنْهُ في هَذا الحَدِيثِ: (وضَرَبَ بِيَدِهِ الأرْضَ فَنَفَضَ يَدَيْهِ، فَمَسَحَ وجْهَهُ وكَفَّيْهِ)، ولِلْبُخارِيِّ: (أدْناهُما مِن فِيهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِما وجْهَهُ وكَفَّيْهِ) وفي مُسْلِمٍ أيْضًا: (أما يَكْفِيكَ أنْ تَقُولَ بِيَدِكَ هَكَذا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ الأرْضَ ضَرْبَةً واحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمالَ عَلى اليَمِينِ وظاهِرَ كَفَّيْهِ ووَجْهَهُ) وعِنْدَ أبِي داوُدَ (فَضَرَبَ بِيَدِهِ الأرْضَ فَقَبَضَها، ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمالِهِ عَلى يَمِينِهِ وبِيَمِينِهِ عَلى شِمالِهِ عَلى الكَفَّيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ وجْهَهُ) . فَهَذِهِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُبِيِّنَةٌ ما تَطَرَّقَ إلَيْهِ الِاحْتِمالُ في الآيَةِ مِن مَحَلِّ المَسْحِ وكَيْفِيَّتِهِ. وظاهِرُ هَذِهِ الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى الِاجْتِزاءِ بِضَرْبَةٍ واحِدَةٍ لِلْوَجْهِ واليَدَيْنِ، وهو قَوْلُ عَطاءٍ والشَّعْبِيِّ في رِوايَةٍ، والأوْزاعِيِّ في الأشْهَرِ عَنْهُ، وأحْمَدَ وإسْحاقَ وداوُدَ والطَّبَرِيِّ. وذَهَبَ مالِكٌ في المُدَوَّنَةِ، والأوْزاعِيُّ في رِوايَةٍ، وأبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ وأصْحابُهم، والثَّوْرِيُّ، واللَّيْثُ، وابْنُ أبِي سَلَمَةَ: إلى وُجُوبِ ضَرْبَتَيْنِ: ضَرْبَةٍ لِلْوَجْهِ، وضَرْبَةٍ لِلْيَدَيْنِ، وذَهَبَ ابْنُ أبِي لَيْلى والحَسَنُ إلى أنَّهُ ضَرْبَتانِ، ويَمْسَحُ بِكُلِّ ضَرْبَةٍ مِنهُما وجْهَهُ وذِراعَيْهِ ومِرْفَقَيْهِ، ولَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أحَدٌ مِن أهْلِ العِلْمِ غَيْرَهُما. وأحْكامُ التَّيَمُّمِ ومَسائِلُهُ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، ولَمْ يُذْكَرْ في هَذِهِ السُّورَةِ مِنهُ، وذُكِرَ ذَلِكَ في المائِدَةِ، فَدَلَّتْ عَلى مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ في نَقْلِ شَيْءٍ مِنَ المَمْسُوحِ بِهِ إلى الوَجْهِ والكَفَّيْنِ، وحُمِلَ هَذا المُطْلَقُ عَلى ذَلِكَ المُقَيَّدِ، ولِذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَما تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ في سُورَةِ المائِدَةِ: ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكم وأيْدِيكم مِنهُ﴾ [المائدة: ٦] أيْ بَعْضَهُ وهَذا لا يَتَأتّى في الصَّخْرِ الَّذِي لا تُرابَ عَلَيْهِ ؟ قُلْتُ: قالُوا: إنَّها - أيْ: مِن - لِابْتِداءِ الغايَةِ. فَإنْ قُلْتَ: قَوْلُهم إنَّها لِابْتِداءِ الغايَةِ قَوْلٌ مُتَعَسِّفٌ، ولا يَفْهَمُ أحَدٌ مِنَ العَرَبِ مِن قَوْلِ القائِلِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ مِنَ الدُّهْنِ، ومِنَ الماءِ، ومِنَ التُّرابِ - إلّا مَعْنى التَّبْعِيضِ؛ قُلْتُ: هو كَما تَقُولُ، والإذْعانُ لِلْحَقِّ أحَقُّ مِنَ المِراءِ.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ كِنايَةٌ عَنِ التَّرْخِيصِ والتَّيْسِيرِ، لِأنَّ مَن كانَتْ عادَتُهُ أنْ يَعْفُوَ عَنِ الخَطّائِينَ ويَغْفِرَ لَهم، آثَرَ أنْ يَكُونَ مُيَسِّرًا غَيْرَ مُعَسِّرٍ انْتَهى كَلامُهُ. والعَجَبُ مِنهُ إذْ أذَعْنَ إلى الحَقِّ، ولَيْسَ مَن عادَتِهِ، بَلْ عادَتُهُ أنْ يُحَرِّفَ الكَلامَ عَنْ ظاهِرِهِ ويَحْمِلَهُ عَلى غَيْرِ مَحْمَلِهِ لِأجْلِ ما تَقَرَّرَ مِن مَذْهَبِهِ. وأيْضًا فَكَلامُهُ أخِيرًا حَيْثُ أطْلَقَ أنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنِ الخَطّائِينَ ويَغْفِرُ لَهم، العَجَبُ لَهُ إذْ لَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ عَلى مَذْهَبِهِ وعادَتِهِ فِيما هو يُشْبِهُ هَذا الكَلامَ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُوا۟ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق