الباحث القرآني
* بابُ الجُنُبِ يَمُرُّ في المَسْجِدِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (p-١٦٥)ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اخْتُلِفَ في المُرادِ مِنَ السُّكْرِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وإبْراهِيمُ وقَتادَةُ: " السُّكْرُ مِنَ الشَّرابِ " . وقالَ مُجاهِدٌ والحَسَنُ: " نَسَخَها تَحْرِيمُ الخَمْرِ " . وقالَ الضَّحّاكُ: " المُرادُ بِهِ سُكْرُ النَّوْمِ خاصَّةً " .
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُنْهى السَّكْرانُ في حالِ سُكْرِهِ وهو في مَعْنى الصَّبِيِّ في نَقْصِ عَقْلِهِ ؟ قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ السَّكْرانَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ نُقْصانُ عَقْلِهِ إلى حَدٍّ يَزُولُ التَّكْلِيفُ مَعَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنِ التَّعَرُّضِ لِلسُّكْرِ إذا كانَ عَلَيْهِمْ فَرْضُ الصَّلاةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ النَّهْيُ إنَّما دَلَّ عَلى أنَّ عَلَيْهِمْ أنْ يُعِيدُوها في حالِ الصَّحْوِ إذا فَعَلُوها في حالِ السُّكْرِ، وجائِزٌ أنْ تَكُونَ هَذِهِ المَعانِي كُلُّها مُرادَةً بِالآيَةِ في حالِ نُزُولِها
فَإنْ قالَ قائِلٌ: إذا ساغَ تَأْوِيلُ مَن تَأوَّلَها عَلى السَّكْرانِ الَّذِي لَمْ يُزَلْ عَنْهُ التَّكْلِيفُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنهِيًّا عَنْ فِعْلِ الصَّلاةِ في هَذِهِ الحالِ مَعَ اتِّفاقِ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ الصَّلاةِ في هَذِهِ الحالِ ؟ قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وقَتادَةَ أنَّهُ مَنسُوخٌ، ويَحْتَمِلُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَنسُوخًا أنْ يَكُونَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إلى فِعْلِ الصَّلاةِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ أوْ في جَماعَةٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: والصَّحِيحُ مِنَ التَّأْوِيلِ في مَعْنى السُّكْرِ أنَّهُ السُّكْرُ مِنَ الشَّرابِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدِهِما: أنَّ النّائِمَ ومَن خالَطَ عَيْنَهُ النَّوْمُ لا يُسَمّى سَكْرانَ، ومَن سَكِرَ مِنَ الشَّرابِ يُسَمّى سَكْرانَ حَقِيقَةً، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى الحَقِيقَةِ ولا يَجُوزُ صَرْفُهُ عَنْها إلى المَجازِ إلّا بِدَلالَةٍ.
والثّانِي: ما رَوى سُفْيانُ عَنْ عَطاءِ بْنِ السّائِبِ عَنْ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: " دَعا رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ قَوْمًا فَشَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِصَلاةِ المَغْرِبِ فَقَرَأ: ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] فالتَبَسَ عَلَيْهِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ . وحَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ المُؤَدِّبِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا حَجّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وعُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] وقالَ في سُورَةِ النِّساءِ: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ ثُمَّ نَسَخَتْها هَذِهِ الآيَةُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ﴾ [المائدة: ٩٠] الآيَةَ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: وحَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ صالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩] قالَ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ قالَ: " كانُوا (p-١٦٦)لا يَشْرَبُونَها عِنْدَ الصَّلاةِ فَإذا صَلُّوا العِشاءَ شَرِبُوها " . قالَ أبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيانَ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ أبِي مَيْسَرَةَ قالَ: قالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا في الخَمْرِ فَنَزَلَتْ: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾، وذَكَرَ الحَدِيثَ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: وحَدَّثَنا هُشَيْمٌ قالَ: أخْبَرَنا مُغِيرَةُ عَنْ أبِي رَزِينٍ قالَ: " شُرِبَتِ الخَمْرُ بَعْدَ الآيَةِ الَّتِي في سُورَةِ البَقَرَةِ واَلَّتِي في سُورَةِ النِّساءِ، وكانُوا يَشْرَبُونَها حَتّى تَحْضُرَ الصَّلاةُ فَإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ تَرَكُوها، ثُمَّ حُرِّمَتْ في المائِدَةِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأخْبَرَ هَؤُلاءِ أنَّ المُرادَ السُّكْرُ مِنَ الشَّرابِ، وأخْبَرَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو رَزِينٍ أنَّهم تَرَكُوا شُرْبَها بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ عِنْدَ الصَّلاةِ وشَرِبُوها في غَيْرِ أوْقاتِ الصَّلَواتِ؛ فَفي هَذا دَلالَةٌ عَلى أنَّهم عَقَلُوا مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِها في الحالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيها سُكارى عِنْدَ لُزُومِ فَرْضِ الصَّلاةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ إنَّما أفادَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِها في أوْقاتِ الصَّلَواتِ، وكانَ مَعْناهُ: لا يَكُنْ مِنكم شُرْبٌ تَصِيرُونَ بِهِ إلى حالِ السُّكْرِ عِنْدَ أوْقاتِ الصَّلَواتِ فَتُصَلُّوا وأنْتُمْ سُكارى وذَلِكَ أنَّهم لَمّا كانُوا مُتَعَبِّدِينَ بِفِعْلِ الصَّلَواتِ في أوْقاتِها مَنهِيِّينَ عَنْ تَرْكِها، قالَ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ وقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ بِذَلِكَ فَرْضُ الصَّلاةِ، كانَ في مَضْمُونِ هَذا اللَّفْظِ النَّهْيُ عَمّا يُوجِبُ السُّكْرَ عِنْدَ أوْقاتِ الصَّلَواتِ، كَما أنَّهُ لَمّا نُهِينا عَنْ فِعْلِ الصَّلاةِ مَعَ الحَدَثِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ» .
وكَما قالَ تَعالى: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ كانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الطَّهارَةِ ولَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَنْ فِعْلِ الصَّلاةِ. ولَمْ يُوجِبْ كَوْنُ الإنْسانِ جُنُبًا أوْ مُحْدِثًا سُقُوطَ فَرْضِ الصَّلاةِ؛ وإنَّما نُهِيَ عَنْ فِعْلِها في هَذِهِ الحالِ، وهو مَأْمُورٌ مَعَ ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الطَّهارَةِ لَها؛ كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ في حالِ السُّكْرِ إنَّما دَلَّ عَلى حَظْرِ شُرْبٍ يُوجِبُ السُّكْرَ قَبْلَ الصَّلاةِ، وفَرْضُ الصَّلاةِ قائِمٌ عَلَيْهِ.
فَهَذا التَّأْوِيلُ يَدُلُّ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي رَزِينٍ، وظاهِرُ الآيَةِ وفَحْواها يَقْتَضِي ذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي بَيَّنّا. وهَذا التَّأْوِيلُ لا يُنافِي ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ عَنِ السَّلَفِ في حَظْرِ الصَّلاةِ عِنْدَ السُّكْرِ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونُوا نُهُوا عَنْ شُرْبٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ سَكْرانَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَظْرًا قائِمًا، فَإنِ اتَّفَقَ أنْ يَشْرَبَ حَتّى أنَّهُ كانَ سَكْرانَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلاةِ كانَ مَنهِيًّا عَنْ فِعْلِها مَأْمُورًا بِإعادَتِها في حالِ الصَّحْوِ، أوْ يَكُونُ النَّهْيُ مَقْصُورًا عَلى فِعْلِها مَعَ النَّبِيِّ ﷺ (p-١٦٧)أوْ في جَماعَةٍ؛ وهَذِهِ المَعانِي كُلُّها صَحِيحَةٌ جائِزَةٌ يَحْتَمِلُها لَفْظُ الآيَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ السَّكْرانَ الَّذِي مُنِعَ مِنَ الصَّلاةِ هو الَّذِي قَدْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ إلى حالٍ لا يَدْرِي ما يَقُولُ، وأنَّ السَّكْرانَ الَّذِي يَدْرِي ما يَقُولُ لَمْ يَتَناوَلْهُ النَّهْيُ عَنْ فِعْلِ الصَّلاةِ؛ وهَذا يَشْهَدُ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنا مِن أنَّ النَّهْيَ إنَّما انْصَرَفَ إلى الشُّرْبِ لا إلى فِعْلِ الصَّلاةِ؛ لِأنَّ السَّكْرانَ الَّذِي لا يَدْرِي ما يَقُولُ لا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ في هَذِهِ الحالِ كالمَجْنُونِ والنّائِمِ والصَّبِيِّ الَّذِي لا يَعْقِلُ، واَلَّذِي يَعْقِلُ ما يَقُولُ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ النَّهْيُ؛ لِأنَّ في الآيَةِ إباحَةَ فِعْلِ الصَّلاةِ إذا عَلِمَ ما يَقُولُ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الآيَةَ إنَّما حَظَرَتْ عَلَيْهِ الشُّرْبَ لا فِعْلَ الصَّلاةِ في حالِ السُّكْرِ الَّذِي لا يَعْلَمُ ما يَقُولُ فِيهِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ تَكْلِيفُ السَّكْرانِ الَّذِي لا يَعْقِلُ.
وهِيَ تَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ السُّكْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الحُكْمُ هو الَّذِي لا يَعْقِلُ صاحِبُهُ ما يَقُولُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ في السُّكْرِ المُوجِبِ لِلْحَدِّ " أنَّهُ هو الَّذِي لا يَعْرِفُ فِيهِ الرَّجُلَ مِنَ المَرْأةِ " ومَن لا يَعْقِلُ ما يَقُولُ لا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنَ المَرْأةِ وقَوْلُهُ تَعالى:﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى فَرْضِ القِراءَةِ في الصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ مَنَعَهُ مِنَ الصَّلاةِ لِأجْلِ عَدَمِ إقامَةِ القِراءَةِ فِيها، فَلَوْلا أنَّها مِن أرْكانِها وفُرُوضِها لَما مَنَعَ مِنَ الصَّلاةِ لِأجْلِها.
فَإنْ قِيلَ: لا دَلالَةَ في ذَلِكَ عَلى وُجُوبِ القِراءَةِ فِيها؛ وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ قَدْ دَلَّ عَلى أنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنها في الحالِ الَّتِي لا يَعْلَمُ ما يَقُولُ، ولَمْ يَذْكُرِ القِراءَةَ وإنَّما ذَكَرَ نَفْيَ العِلْمِ بِما يَقُولُ، وهَذا عَلى سائِرِ الأقْوالِ والكَلامِ، ومَن صارَ بِهَذِهِ الحالِ مِنَ السُّكْرِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ إحْضارُ نِيَّةِ الصَّلاةِ ولا فِعْلُ سائِرِ أرْكانِها، فَإنَّما مُنِعَ مِنَ الصَّلاةِ مَن كانَتْ هَذِهِ حالَهُ؛ لِأنَّهُ لا تَصِحُّ مِنهُ نِيَّةُ الصَّلاةِ ولا سائِرُ أفْعالِها، ومَعَ ذَلِكَ فَلا يَعْلَمُ أنَّهُ طاهِرٌ غَيْرُ مُحْدِثٍ.
قِيلَ لَهُ: هَذا عَلى ما ذَكَرْتَ في أنَّ مَن كانَتْ هَذِهِ فَلا يَصِحُّ مِنهُ فِعْلُ الصَّلاةِ عَلى سائِرِ شَرائِطِها، إلّا أنَّ اخْتِصاصَهُ القَوْلَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِن أُمُورِ الصَّلاةِ وأحْوالِها يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ قَوْلٌ مَفْعُولٌ في الصَّلاةِ وأنَّهُ مَتى كانَ مِنَ السُّكْرِ عَلى حالٍ لَمْ يُمْكِنْهُ إقامَةُ القِراءَةِ فِيها لَمْ يَصِحَّ لَهُ فِعْلُها لِأجْلِ عَدَمِ القِراءَةِ، وأنَّ وُجُودَ القِراءَةِ فِيها مِن فُرُوضِها وشَرائِطِها، وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] في إفادَتِهِ أنَّ في الصَّلاةِ قِيامًا مَفْرُوضًا، ومِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] في دَلالَتِهِ عَلى فَرْضِ الرُّكُوعِ في الصَّلاةِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ فَإنَّ أهْلَ العِلْمِ قَدْ تَنازَعُوا تَأْوِيلَهُ، فَرَوى المِنهالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ (p-١٦٨)رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ " إلّا أنْ تَكُونُوا مُسافِرِينَ ولا تَجِدُونَ ما تَتَيَمَّمُونَ بِهِ وتُصَلُّونَ " .
ورَوى قَتادَةُ عَنْ أبِي مِجْلَزٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ، وعَنْ مُجاهِدٍ مِثْلَهُ. ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: " هو المَمَرُّ في المَسْجِدِ " .
ورَوى عَطاءُ بْنُ يَسارٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ في تَأْوِيلِ الآيَةِ، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وعَطاءٍ وعَمْرِو بْنِ دِينارٍ في آخَرِينَ مِنَ التّابِعِينَ. واخْتَلَفَ السَّلَفُ في مُرُورِ الجُنُبِ في المَسْجِدِ، فَرُوِيَ عَنْ جابِرٍ قالَ: " كانَ أحَدُنا يَمُرُّ في المَسْجِدِ مُجْتازًا وهو جُنُبٌ " . وقالَ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ: " كانَ رِجالٌ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ تُصِيبُهُمُ الجَنابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ المَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ " .
وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: " الجُنُبُ لا يَجْلِسُ في المَجْلِسِ ويَجْتازُ " وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ. وما رُوِيَ في ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَإنَّ الصَّحِيحَ فِيهِ ما تَأوَّلَهُ شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ الجَزَرِيِّ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ قالَ: " الجُنُبُ يَمُرُّ في المَسْجِدِ ولا يَجْلِسُ "، ورَواهُ مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ ويُقالُ إنَّ أحَدًا لَمْ يَرْفَعْهُ إلى عَبْدِ اللَّهِ غَيْرُ مَعْمَرٍ وسائِرُ النّاسِ وقَفُوهُ. واخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ في ذَلِكَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ: " لا يَدْخُلُهُ إلّا طاهِرًا سَواءٌ أرادَ القُعُودَ فِيهِ أوِ الِاجْتِيازَ "، وهو قَوْلُ مالِكِ بْنِ أنَسٍ والثَّوْرِيِّ. وقالَ اللَّيْثُ: " لا يَمُرُّ فِيهِ إلّا أنْ يَكُونَ بابُهُ إلى المَسْجِدِ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " يَمُرُّ فِيهِ ولا يَقْعُدُ " .
والدَّلِيلُ عَلى أنَّ الجُنُبَ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَجْتازَ في المَسْجِدِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الواحِدِ بْنُ زِيادٍ قالَ: حَدَّثَنا أفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةٍ قالَ: حَدَّثَتْنِي جَسْرَةُ بِنْتُ دَجاجَةَ قالَتْ: سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها تَقُولُ: «جاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ووُجُوهُ بُيُوتِ أصْحابِهِ شارِعَةٌ في المَسْجِدِ، فَقالَ: وجِّهُوا هَذِهِ البُيُوتَ عَنِ المَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلَ ولَمْ يَصْنَعِ القَوْمُ شَيْئًا رَجاءَ أنْ تَنْزِلَ لَهم رُخْصَةٌ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ بَعْدُ فَقالَ: وجِّهُوا هَذِهِ البُيُوتَ فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحائِضٍ ولا جُنُبٍ» ولَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الِاجْتِيازِ وبَيْنَ القُعُودِ، فَهو عَلَيْهِما سَواءٌ.
والثّانِي: أنَّهُ أمَرَهم بِتَوْجِيهِ البُيُوتِ الشّارِعَةِ لِئَلّا يَجْتازُوا في المَسْجِدِ إذا أصابَتْهم جَنابَةٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ أرادَ القُعُودَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: «وجِّهُوا هَذِهِ البُيُوتَ فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحائِضٍ ولا جُنُبٍ» مَعْنًى؛ لِأنَّ القُعُودَ مِنهم بَعْدَ دُخُولِ المَسْجِدِ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِكَوْنِ البُيُوتُ شارِعَةً إلَيْهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ إنَّما أمَرَ بِتَوْجِيهِ البُيُوتِ لِئَلّا يُضْطَرُّوا عِنْدَ الجَنابَةِ (p-١٦٩)إلى الِاجْتِيازِ في المَسْجِدِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لِبُيُوتِهِمْ أبْوابٌ غَيْرُ ما هي شارِعَةٌ إلى المَسْجِدِ.
وقَدْ رَوى سُفْيانُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ المُطَّلِبِ: " أنَّ «رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ أذِنَ لِأحَدٍ أنْ يَمُرَّ في المَسْجِدِ ولا يَجْلِسَ فِيهِ وهو جُنُبٌ، إلّا عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ فَإنَّهُ كانَ يَدْخُلُهُ جُنُبًا ويَمُرُّ فِيهِ؛ لِأنَّ بَيْتَهُ كانَ في المَسْجِدِ» فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ بِحَظْرِ النَّبِيِّ ﷺ الِاجْتِيازَ كَما حَظَرَ عَلَيْهِمُ القُعُودَ. وما ذُكِرَ مِن خُصُوصِيَّةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهو صَحِيحٌ، وقَوْلُ الرّاوِي: " لِأنَّهُ كانَ بَيْتُهُ في المَسْجِدِ " ظَنًّا مِنهُ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أمَرَ في الحَدِيثِ الأوَّلِ بِتَوْجِيهِ البُيُوتِ الشّارِعَةِ إلى غَيْرِهِ ولَمْ يُبِحْ لَهُمُ المُرُورَ لِأجْلِ كَوْنِ بُيُوتِهِمْ في المَسْجِدِ، وإنَّما كانَتِ الخُصُوصِيَّةُ فِيهِ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، كَما خُصَّ جَعْفَرُ بِأنَّ لَهُ جَناحَيْنِ في الجَنَّةِ دُونَ سائِرِ الشُّهَداءِ، وكَما خُصَّ حَنْظَلَةُ بِغَسْلِ المَلائِكَةِ لَهُ حِينَ قُتِلَ جُنُبًا، وخُصُّ دِحْيَةُ الكَلْبِيُّ بِأنَّ جِبْرِيلَ كانَ يَنْزِلُ عَلى صُورَتِهِ، وخُصَّ الزُّبَيْرُ بِإباحَةِ لُبْسِ الحَرِيرِ لَمّا شَكا مِن أذى القَمْلِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ سائِرَ النّاسِ مَمْنُوعُونَ مِن دُخُولِ المَسْجِدِ مُجْتازِينَ وغَيْرَ مُجْتازِينَ.
وأمّا ما رَوى جابِرٌ: " كانَ أحَدُنا يَمُرُّ في المَسْجِدِ مُجْتازًا وهو جُنُبٌ " فَلا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلِمَ بِذَلِكَ فَأقَرَّهُ عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ ما رُوِيَ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ: " كانَ رِجالٌ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تُصِيبُهُمُ الجَنابَةُ فَيَتَوَضَّئُونَ ثُمَّ يَأْتُونَ المَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُونَ فِيهِ " لا دَلالَةَ فِيهِ لِلْمُخالِفِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أقَرَّهم عَلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مِنهم ولِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أنْ يَحْظُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ؛ ولَوْ ثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ رُوِيَ ما وصَفْنا لَكانَ خَبَرُ الحَظْرِ أوْلى؛ لِأنَّهُ طارِئٌ عَلى الإباحَةِ لا مَحالَةَ فَهو مُتَأخِّرٌ عَنْها ولَمّا ثَبَتَ بِاتِّفاقِ الفُقَهاءِ حَظْرُ القُعُودِ فِيهِ لِأجْلِ الجَنابَةِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ المَسْجِدِ وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الِاجْتِيازِ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ؛ ولِأنَّ العِلَّةَ في حَظْرِ القُعُودِ فِيهِ هو الكَوْنُ فِيهِ جُنُبًا وذَلِكَ مَوْجُودٌ في الِاجْتِيازِ، وكَما أنَّهُ لَمّا كانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ القُعُودُ في مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كانَ حُكْمُ الِاجْتِيازِ فِيهِ حُكْمَ القُعُودِ فَكانَ الِاجْتِيازُ بِمَنزِلَةِ القُعُودِ، كَذَلِكَ القُعُودُ في المَسْجِدِ لَمّا كانَ مَحْظُورًا وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الِاجْتِيازُ اعْتِبارًا بِما ذَكَرْنا؛ والعِلَّةُ في الجَمِيعِ حَظْرُ الكَوْنِ فِيهِ.
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ وتَأْوِيلُ مَن تَأوَّلَهُ عَلى إباحَةِ الِاجْتِيازِ في المَسْجِدِ، فَإنَّ ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ في تَأْوِيلِهِ أنَّ المُرادَ المُسافِرُ الَّذِي لا يَجِدُ الماءَ فَيَتَيَمَّمُ، أوْلى مِن تَأْوِيلِ مَن تَأوَّلَهُ عَلى الِاجْتِيازِ في المَسْجِدِ وذَلِكَ (p-١٧٠)لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ نَهْيٌ عَنْ فِعْلِ الصَّلاةِ نَفْسِها في هَذِهِ الحالِ لا عِنْدَ المَسْجِدِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ ومَفْهُومُ الخِطابِ، وحَمْلُهُ عَلى المَسْجِدِ عُدُولٌ بِالكَلامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلى المَجازِ بِأنْ تَجْعَلَ الصَّلاةَ عِبارَةً عَنْ مَوْضِعِها، كَما يُسَمّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلْمُجاوَرَةِ أوْ لِأنَّهُ تَسَبَّبَ مِنهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ﴾ [الحج: ٤٠] يَعْنِي بِهِ مَواضِعَ الصَّلَواتِ.
ومَتى أمْكَنَنا اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ عَلى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ عَنْها إلى المَجازِ إلّا بِدَلالَةٍ، ولا دَلالَةَ تُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنِ الحَقِيقَةِ وفي نَسَقِ التِّلاوَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ حَقِيقَةُ الصَّلاةِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ ولَيْسَ لِلْمَسْجِدِ قَوْلٌ مَشْرُوطٌ يَمْنَعُ مِن دُخُولِهِ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّكْرِ، وفي الصَّلاةِ قِراءَةٌ مَشْرُوطَةٌ، فَمَنَعَ مِن أجْلِ العُذْرِ عَنْ إقامَتِها عَنْ فِعْلِ الصَّلاةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ حَقِيقَةُ الصَّلاةِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ مَن تَأوَّلَهُ عَلَيْها مُوافِقًا لِظاهِرِها وحَقِيقَتِها.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ فَإنَّ مَعْناهُ المُسافِرَ؛ لِأنَّ المُسافِرَ يُسَمّى عابِرَ سَبِيلٍ، ولَوْلا أنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذا الِاسْمُ؛ لَما تَأوَّلَهُ عَلَيْهِعَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ تَأْوِيلُ الآيَةِ عَلى ما لا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وإنَّما سُمِّيَ المُسافِرُ عابِرَ سَبِيلٍ؛ لِأنَّهُ عَلى الطَّرِيقِ، كَما يُسَمّى ابْنَ السَّبِيلِ؛ فَأباحَ اللَّهُ تَعالى لَهُ في حالِ السَّفَرِ أنْ يَتَيَمَّمَ ويُصَلِّيَ وإنْ كانَ جُنُبًا، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: جازَ التَّيَمُّمُ لِلْجُنُبِ إذا لَمْ يَجِدِ الماءَ والصَّلاةُ بِهِ، والثّانِي: أنَّ التَّيَمُّمَ لا يَرْفَعُ الجَنابَةَ؛ لِأنَّهُ سَمّاهُ جُنُبًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَيَمِّمًا؛ فَهَذا التَّأْوِيلُ أوْلى مِن تَأْوِيلِ مَن حَمَلَهُ عَلى الِاجْتِيازِ في المَسْجِدِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ غايَةٌ لِإباحَةِ الصَّلاةِ، ولا خِلافَ أنَّ الغايَةَ في هَذا المَوْضِعِ داخِلَةٌ في الحَظْرِ إلى أنْ يَسْتَوْعِبَها بِوُجُودِ الِاغْتِسالِ، وأنَّهُ لا تَجُوزُ لَهُ الصَّلاةُ وقَدْ بَقِيَ مِن غُسْلِهِ شَيْءٌ في حالِ وُجُودِ الماءِ وإمْكانِ اسْتِعْمالِهِ مِن غَيْرِ ضَرَرٍ يَخافُهُ؛ فَهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الغايَةَ قَدْ تَدْخُلُ في الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها؛ وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] والغايَةُ خارِجَةٌ مِنَ الجُمْلَةِ؛ لِأنَّهُ بِدُخُولِ أوَّلِ اللَّيْلِ يَخْرُجُ مِنَ الصَّوْمِ؛ لِأنَّ " إلى " غايَةٌ كَما أنَّ " حَتّى " غايَةٌ.
وهَذا أصْلٌ في أنَّ الغايَةَ قَدْ يَجُوزُ دُخُولُها في الكَلامِ تارَةً وخُرُوجُها أُخْرى، وحُكْمُها مَوْقُوفٌ عَلى الدَّلالَةِ في دُخُولِها أوْ خُرُوجِها. وسَنَذْكُرُ أحْكامَ الجَنابَةِ ومَعْناها وحُكْمَ المَرِيضِ والمُسافِرِ في سُورَةِ المائِدَةِ إذا انْتَهَيْنا إلَيْها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
* * *
ذَكْرُ اخْتِلافِ اَلْفُقَهاءِ في فَرْضِ اَلنِّيَّةِ
قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: ( كُلُّ طَهارَةٍ بِماءٍ تَجُوزُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ولا يُجْزِي التَّيَمُّمُ إلّا بِنِيَّةٍ )، وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: ( يُجْزِي الوُضُوءُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ) ولَمْ تُحْفَظْ عَنْهُ في التَّيَمُّمِ. وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: ( لا يُجْزِي الوُضُوءُ ولا الغُسْلُ إلّا بِالنِّيَّةِ، وكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ ) . وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: ( يُجْزِي الوُضُوءُ والتَّيَمُّمُ جَمِيعًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ )، قالَ أبُو جَعْفَرٍ الطَّحاوِيُّ: ولَمْ نَجِدْ هَذا القَوْلَ في التَّيَمُّمِ عَنْ غَيْرِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ:
قَدْ قَدَّمْنا ذِكْرَ دَلالَةِ الآيَةِ عَلى جَوازِ الوُضُوءِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ دالٌ عَلى جَوازِ الِاغْتِسالِ مِنَ الجَنابَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] عَلى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنّا. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] ومَعْناهُ: مُطَهِّرًا؛ فَحَيْثُما وُجِدَ فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا. ولَوْ شَرَطْنا فِيهِ النِّيَّةَ كُنّا قَدْ سَلَبْناهُ الصِّفَةَ الَّتِي وصَفَهُ اللَّهُ بِها مِن كَوْنِهِ طَهُورًا؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ لا يَكُونُ طَهُورًا إلّا بِغَيْرِهِ، واَللَّهُ تَعالى جَعَلَهُ طَهُورًا مِن غَيْرِ شَرْطِ مَعْنًى آخَرَ فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: إيجابُ شَرْطِ النِّيَّةِ فِيهِ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ طَهُورًا كَما وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «جُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا» وقالَ: «التُّرابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ما لَمْ يَجِدِ الماءَ» ولَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إيجابَ النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهِ. قِيلَ لَهُ: إنَّما سَمّاهُ طَهُورًا عَلى وجْهِ المَجازِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالماءِ في بابِ إباحَةِ الصَّلاةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لا يَرْفَعُ الحَدَثَ ولا يُزِيلُ النَّجَسَ، فَعَلِمْنا أنَّهُ سَمّاهُ طَهُورًا اسْتِعارَةً ومَجازًا. ومِن (p-٣٣٧)جِهَةٍ أُخْرى أنَّ إثْباتَ النِّيَّةِ شَرْطٌ في التَّيَمُّمِ جائِزٌ مَعَ قَوْلِهِ: ( التُّرابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ) ولا يَجُوزُ مِثْلُهُ في الوُضُوءِ وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ( فَتَيَمَّمُوا ) يَقْتَضِي إيجابَ النِّيَّةِ؛ إذْ كانَ التَّيَمُّمُ هو القَصْدَ في اللُّغَةِ؛ وقَوْلُهُ: ( التُّرابُ طَهُورُ المُسْلِمِ ) وارِدٌ مِن طَرِيقِ الآحادِ، فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ مُرَتَّبًا عَلى الآيَةِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ تَرْكُ حُكْمِ الآيَةِ بِالخَبَرِ وتَجُوزُ الزِّيادَةُ في حُكْمِ الخَبَرِ بِالآيَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُزادَ في نَصِّ القُرْآنِ إلّا بِمِثْلِ ما يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُنَزِّلُ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ﴾ [الأنفال: ١١] فَأبانَ اللَّهُ تَعالى عَنْ وُقُوعِ التَّطْهِيرِ بِالماءِ مِن غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] الآيَةُ، مُقْتَضِيًا لِفَرْضِ الطَّهارَةِ، فَمِن حَيْثُ كانَ فَرْضًا وجَبَ أنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا في صِحَّتِهِ لِاسْتِحالَةِ وُقُوعِ الفِعْلِ مَوْقِعَ الفَرْضِ إلّا بِالنِّيَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الفَرْضَ يُحْتاجُ في صِحَّةِ وُقُوعِهِ إلى نِيَّتَيْنِ: إحْداهُما نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى والأُخْرى نِيَّةُ الفَرْضِ، فَإذا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ تُوجَدْ صِحَّةُ الفَرْضِ، فَلَمْ يُجْزِ عَنِ الفَرْضِ؛ إذْ هو غَيْرُ فاعِلٍ لِلْمَأْمُورِ بِهِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّما يَجِبُ ما ذَكَرْتَ في الفُرُوضِ الَّتِي هي مَقْصُودَةٌ لِأعْيانِها ولَمْ تُجْعَلْ سَبَبًا لِغَيْرِها، فَأمّا ما كانَ شَرْطًا لِصِحَّةِ فِعْلٍ آخَرَ فَلَيْسَ يَجِبُ ذَلِكَ فِيهِ بِنَفْسِ وُرُودِ الأمْرِ إلّا بِدَلالَةٍ تُقارِنُهُ، فَلَمّا جَعَلَ اللَّهُ الطَّهارَةَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاةِ ولَمْ تَكُنْ مَفْرُوضَةً لِنَفْسِها لِأنَّ مَن لا صَلاةَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُ الطَّهارَةِ كالمَرِيضِ المُغْمى عَلَيْهِ أيّامًا وكالحائِضِ والنُّفَساءِ، وقالَ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وقالَ: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ فَجَعَلَهُ شَرْطًا في غَيْرِهِ ولَمْ يَجْعَلْهُ مَأْمُورًا بِهِ لِنَفْسِهِ، فاحْتاجَ مُوجِبُ النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهِ إلى دَلالَةٍ مِن غَيْرِهِ.
ألا تَرى أنَّ كَثِيرًا مِمّا هو شَرْطٌ في الفَرْضِ ولَيْسَ بِمَفْرُوضٍ بِعَيْنِهِ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ مِن فِعْلِ غَيْرِهِ نَحْوُ الوَقْتِ الَّذِي هو شَرْطٌ في صِحَّةِ أداءِ الصَّلاةِ ولا صُنْعَ لِلْمُصَلِّي فِيهِ، ونَحْوُ البُلُوغِ والعَقْلِ اللَّذَيْنِ هُما شَرْطٌ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ ولَيْسا بِفِعْلِ المُكَلَّفِ ؟ فَبانَ بِما وصَفْنا أنَّ وُرُودَ لَفْظِ الأمْرِ بِما جُعِلَ شَرْطًا في غَيْرِهِ لا يَقْتَضِي وُقُوعُهُ طاعَةً مِنهُ ولا إيجابَ النِّيَّةِ فِيهِ.
ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤] وإنْ كانَ أمْرًا بِتَطْهِيرِ الثَّوْبِ مِنَ النَّجاسَةِ فَإنَّهُ لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النِّيَّةِ شَرْطًا في تَطْهِيرِهِ ؟ إذْ لَمْ تَكُنْ إزالَةُ النَّجاسَةِ مَفْرُوضَةً لِنَفْسِها وإنَّما هي شَرْطٌ في غَيْرِها، وإنَّما تَقْدِيرُهُ: لا تُصَلِّ إلّا في ثَوْبٍ طاهِرٍ ولا تُصَلِّ إلّا مَسْتُورَ العَوْرَةِ.
ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا أنَّ الشّافِعِيَّ قَدْ وافَقَنا عَلى أنَّ رَجُلًا لَوْ قَعَدَ في المَطَرِ يَنْوِي الطَّهارَةَ (p-٣٣٨)فَأصابَ جَمِيعَ أعْضائِهِ أنَّهُ يُجْزِيهِ مِن غَيْرِ فِعْلٍ لَهُ فِيهِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ مَفْرُوضًا لِنَفْسِهِ لَما أجْزاهُ دُونَ أنْ يَفْعَلَهُ هو أوْ يَأْمُرَ بِهِ غَيْرَهُ؛ لِأنَّ هَذا حُكْمُ المَفْرُوضِ.
فَإنْ قِيلَ: فالتَّيَمُّمُ غَيْرُ مَفْرُوضٍ لِنَفْسِهِ ولا يَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ إلّا بِالنِّيَّةِ، فَلَيْسَ إيجابُ النِّيَّةِ مَقْصُورًا عَلى ما كانَ مَفْرُوضًا لِنَفْسِهِ.
قِيلَ لَهُ: هَذا غَيْرُ لازِمٍ لِأنّا لَمْ نُخْرِجْ هَذا القَوْلَ مَخْرَجَ الِاعْتِلالِ فَتَلْزَمُنا عَلَيْهِ المُناقَضَةُ، وإنَّما بَيَّنّا أنَّ لَفْظَ الأمْرِ إذا ورَدَ فِيما كانَ وصْفُهُ ما ذَكَرْنا فَإنَّهُ لا يَقْتَضِي إيجابَ النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهِ إلّا بِدَلالَةٍ أُخْرى مِن غَيْرِهِ، فَإنَّما أسْقَطْنا بِذَلِكَ احْتِجاجَ مَنِ احْتَجَّ بِظاهِرِ وُرُودِ الأمْرِ في إيجابِ النِّيَّةِ، وفي مَضْمُونِ لَفْظِ التَّيَمُّمِ إيجابُ النِّيَّةِ؛ إذْ كانَ التَّيَمُّمُ في اللُّغَةِ اسْمًا لِلْقَصْدِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧] يَعْنِي لا تَقْصِدُوا.
وقالَ الشّاعِرُ:
؎ولَنْ يَلْبَثَ العَصْرانِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ إذا طُلِبا أنْ يُدْرَكا ما تَيَمَّما
وقالَ آخَرُ:
؎فَإنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُها ∗∗∗ فَعَمْدًا عَلى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مالِكا
وقالَ الأعْشى:
؎تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وكَمْ دُونَهُ ∗∗∗ مِنَ الأرْضِ مِن مَهْمَهٍ ذِي شَزَنِ
يَعْنِي قَصَدْتُهُ. فَلَمّا كانَ في لَفْظِ الآيَةِ إيجابُ القَصْدِ والقَصْدُ هو النِّيَّةُ لِفِعْلِ ما أُمِرَ بِهِ، جَعَلْنا النِّيَّةَ شَرْطًا ولَمْ يَكُنْ في إيجابِ النِّيَّةِ فِيهِ إلْحاقُ زِيادَةٍ بِالآيَةِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِيها. وأمّا الغُسْلُ فَلا تَنْطَوِي تَحْتَهُ النِّيَّةُ، وفي إيجابِها فِيهِ إثْباتُ زِيادَةٍ فِيها لَيْسَتْ مِنها، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ.
ووَجْهٌ آخَرُ في الفَصْلِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ والوُضُوءِ: وهو أنَّ التَّيَمُّمَ قَدْ يَقَعُ تارَةً عَنِ الغُسْلِ وتارَةً عَنِ الوُضُوءِ، وهو عَلى صِفَةٍ واحِدَةٍ في الحالَيْنِ، فاحْتِيجَ إلى النِّيَّةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ حُكْمَيْهِما؛ لِأنَّ النِّيَّةَ إنَّما شُرِطَتْ لِتَمْيِيزِ أحْكامِ الأفْعالِ، فَلَمّا كانَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ قَدْ يَخْتَلِفُ فَيَقَعُ تارَةً عَنِ الغُسْلِ وتارَةً عَنِ الوُضُوءِ اِحْتِيجَ إلى النِّيَّةِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ ما يَقَعُ مِنهُ عَنِ الغُسْلِ عَمّا يَقَعُ مِنهُ عَنِ الوُضُوءِ؛ وأمّا الغُسْلُ فَلا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ في نَفْسِهِ ولا فِيما يَقَعُ لَهُ فاسْتُغْنِيَ عَنِ النِّيَّةِ فِيهِ والتَّمْيِيزِ؛ إذْ كانَ المَقْصِدُ مِنهُ إيقاعَ الفِعْلِ كَما قِيلَ: لا تُصَلِّ حَتّى تَغْسِلَ النَّجاسَةَ مِن بَدَنِكَ أوْ ثَوْبِكَ، ولا تُصَلِّ إلّا مَسْتُورَ العَوْرَةِ، ولَيْسَ يَقْتَضِي شَيْءٌ مِن ذَلِكَ إيجابَ النِّيَّةِ فِيهِ.
ويَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْنا مِن جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ رِفاعَةَ بْنِ رافِعٍ وأبِي هُرَيْرَةَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في تَعْلِيمِهِ الأعْرابِيَّ (p-٣٣٩)الصَّلاةَ وقَوْلُهُ: لا تَتِمُّ صَلاةُ امْرِئٍ حَتّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَواضِعَهُ، فَيَغْسِلَ وجْهَهُ ويَدَيْهِ ويَمْسَحَ بِرَأْسِهِ ويَغْسِلَ رِجْلَيْهِ» فَقَوْلُهُ: ( حَتّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَواضِعَهُ ) يَقْتَضِي جَوازَهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأنَّ مَواضِعَ الطَّهُورِ مَعْلُومَةٌ مَذْكُورَةٌ في القُرْآنِ، فَصارَ كَقَوْلِهِ: حَتّى يَغْسِلَ هَذِهِ الأعْضاءَ، وقَوْلُهُ: ( فَيَغْسِلَ وجْهَهُ ويَدَيْهِ ) يُوجِبُ ذَلِكَ أيْضًا، إذْ لَمْ يَشْرِطْ فِيهِ النِّيَّةَ، فَظاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوازَهُ عَلى أيِّ وجْهٍ غَسَلَهُ.
ويَدُلُّ مِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ الأعْرابِيَّ كانَ جاهِلًا بِأحْكامِ الصَّلاةِ والطَّهارَةِ، فَلَوْ كانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِيها لَما أخْلاهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ التَّوْقِيفِ عَلَيْها، وفي ذَلِكَ أوْضَحُ دَلِيلٍ عَلى أنَّها لَيْسَتْ مِن فُرُوضِها. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ ﷺ في غُسْلِ الجَنابَةِ لِأُمِّ سَلَمَةَ: «إنَّما يَكْفِيكَ أنْ تَحْثِي عَلى رَأْسِكِ ثَلاثَ حَثَياتٍ وعَلى سائِرِ جَسَدِكِ فَإذا أنْتِ قَدْ طَهُرْتِ» ولَمْ يَشْرِطْ فِيهِ النِّيَّةَ.
ورَوى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ تَوَضَّأ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قالَ: هَذا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إلّا بِهِ» فَأشارَ إلى الفِعْلِ المُشاهَدِ دُونَ النِّيَّةِ الَّتِي هي ضَمِيرٌ لا تَصِحُّ الإشارَةُ إلَيْهِ وأخْبَرَ بِقَبُولِ الصَّلاةِ بِهِ، وقالَ: «إذا وجَدْتَ الماءَ فَأمْسِسْهُ جِلْدَكَ» وقالَ: «إنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنابَةً، فَبُلُّوا الشَّعْرَ وأنْقُوا البَشَرَةَ». ومِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ الوُضُوءَ طَهارَةٌ بِالماءِ كَغَسْلِ النَّجاسَةِ، وأيْضًا هو سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى صِحَّةِ أداءِ الصَّلاةِ لا عَلى وجْهِ البَدَلِ عَنْ غَيْرِهِ، فَأشْبَهَ غَسْلَ النَّجاسَةِ وسَتْرَ العَوْرَةِ والوُقُوفَ عَلى مَكانٍ طاهِرٍ، ولا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ لِأنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ. فَإنِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] وذَلِكَ يَقْتَضِي إيجابَ النِّيَّةِ لَهُ لِأنَّ ذَلِكَ أقَلُّ أحْوالِ الإخْلاصِ. قِيلَ لَهُ: يَنْبَغِي أنْ يَثْبُتَ أنَّ الوُضُوءَ عِبادَةٌ أوْ أنَّهُ مِنَ الدِّينِ إذْ جائِزٌ أنْ يُقالَ: إنَّ العِباداتِ هي ما كانَ مَقْصُودًا لِعَيْنِهِ في التَّعَبُّدِ، فَأمّا ما أُمِرَ بِهِ لِأجْلِ غَيْرِهِ أوْ جُعِلَ شَرْطًا فِيهِ أوْ سَبَبًا لَهُ فَلَيْسَ يَتَناوَلُهُ هَذا الِاسْمُ، ولَوْ لَزِمَ أنْ يَكُونَ تارِكُ النِّيَّةِ في الطَّهارَةِ غَيْرَ مُخْلِصٍ لِلَّهِ لَوَجَبَ مِثْلُهُ في تارِكِ النِّيَّةِ في غَسْلِ النَّجاسَةِ وسَتْرِ العَوْرَةِ، فَلَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ تارِكُ النِّيَّةِ فِيما وصَفْنا غَيْرَ مُخْلِصٍ؛ إذْ كانَ مَأْمُورًا بِهِ لِأجْلِ الصَّلاةِ كانَ كَذَلِكَ في الطَّهارَةِ وأيْضًا فَإنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ الإسْلامَ فَهو مُخْلِصٌ لِلَّهِ تَعالى فِيما يَفْعَلُهُ مِنَ العِباداتِ؛ إذْ لَمْ يُشْرِكْ في النِّيَّةِ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأنَّ ضِدَّ الإخْلاصِ هو الإشْراكُ، فَمَتى لَمْ يُشْرِكْ فَهو مُخْلِصٌ بِنَفْسِ اعْتِقادِ الإيمانِ في جَمِيعِ ما يَفْعَلُهُ مِنَ العِباداتِ ما لَمْ يُشْرِكْ غَيْرَهُ فِيهِ. واحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «الأعْمالُ بِالنِّيّاتِ» وهَذا لا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِهِ في مَوْضِعِ الخِلافِ، مِن قِبَلِ أنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ تَقْتَضِي كَوْنَ العَمَلِ مَوْقُوفًا عَلى النِّيَّةِ والعَمَلُ مَوْجُودٌ (p-٣٤٠)مَعَ فَقْدِ النِّيَّةِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وإنَّما أرادَ مَعْنًى مُضْمَرًا فِيهِ غَيْرَ مَذْكُورٍ؛ فالمُحْتَجُّ بِعُمُومِ الخَبَرِ في ذَلِكَ مُغَفَّلٌ.
فَإنْ قِيلَ: مُرادُهُ حُكْمُ العَمَلِ. قِيلَ لَهُ: الحُكْمُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فالِاحْتِجاجُ بِعُمُومِهِ ساقِطٌ. فَإنْ تَرَكَ الِاحْتِجاجَ بِظاهِرِ اللَّفْظِ وقالَ: لَمّا لَمْ يَجُزْ أنْ يَخْلُوَ كَلامُ النَّبِيِّ ﷺ مِن فائِدَةٍ، وقَدْ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْسَ العَمَلِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ حُكْمَ العَمَلِ. قِيلَ لَهُ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ فَضِيلَةَ العَمَلِ لا حُكْمَهُ، وإذا احْتَمَلَ الأمْرَيْنِ اِحْتِيجَ إلى دَلالَةٍ مِن غَيْرِهِ في إثْباتِ المُرادِ وسَقَطَ الِاحْتِجاجُ بِهِ.
فَإنْ قِيلَ: هو عَلى الأمْرَيْنِ. قِيلَ لَهُ: هَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ المُحْتَمِلَ لِلْمَعْنَيَيْنِ غَيْرُ مَلْفُوظٍ بِهِ فَيُقالُ هو عَلَيْهِما، وإنَّما يُقالُ ذَلِكَ فِيما هو مَلْفُوظٌ بِهِ وفِيهِ احْتِمالٌ لِلْمَعانِي فَيُقالُ عُمُومُهُ شامِلٌ لِلْجَمِيعِ، فَأمّا ما لَيْسَ بِمَذْكُورٍ وهو ضَمِيرٌ لَيْسَ اللَّفْظُ عِبارَةً عَنْهُ فَقَوْلُ القائِلِ أحْمِلُهُ عَلى العُمُومِ خَطَأٌ. وأيْضًا فَغَيْرُ جائِزٍ إرادَةُ الأمْرَيْنِ؛ لِأنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ فَضِيلَةُ العَمَلِ صارَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ لا فَضِيلَةَ لِلْعَمَلِ إلّا بِالنِّيَّةِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي إثْباتَ حُكْمِ العَمَلِ حَتّى يَصِحَّ نَفْيُ فَضِيلَتِهِ لِأجْلِ عَدَمِ النِّيَّةِ، ومَتى أرادَ بِهِ حُكْمَ العَمَلِ لَمْ يَجُزْ أنْ يُرِيدَ بِهِ الفَضِيلَةَ والأصْلُ مُنْتَفٍ، فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُزادا جَمِيعًا بِلَفْظٍ واحِدٍ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ لَفْظٌ واحِدٌ لِنَفْيِ الأصْلِ ونَفْيِ الكَمالِ؛ وأيْضًا غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُزادَ في حُكْمِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الآحادِ عَلى ما بَيَّنّا، وهَذا مِن أخْبارِ الآحادِ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُوا۟ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِی سَبِیلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق