الباحث القرآني

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين لأنهم الذين كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى، قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه. والمراد هنا النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال آخرون المراد مواضع الصلاة وبه قال الشافعي، وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف، ويقوّي هذا قوله (ولا جنباً إلا عابري سبيل). وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين، وسكارى جمع سكران مثل كسالى جمع كسلان، وقرىء سكرى بالفتح وهو تكسير سكران، وقرأ الأعمش: سكرى كحبلى. والسكر لغة السدّ، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر لأنه يسد ما بين المرء وعقله وأكثر ما يقال السكر لإزالة العقل بالمسكر، وقد يقال ذلك لإزالته بغضب ونحوه من عشق وغيره، والسكر بالفتح وسكون الكاف حبس الماء وبالكسر نفس الموضع المسدود، وأما السكر بفتحهما فما يسكر به من المشروب، ومنه (سكراً ورزقاً حسناً) وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر إلا الضحاك فإنه قال سكر النوم، وقال ابن عباس: النعاس، وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال. (حتى تعلموا ما تقولون) هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه وتصحوا وتفيقوا من السكر. فإن السكران لا يعلم ما يقوله. وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحق وأبي ثور والمزني واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز والسكران معتوه كالموسوس. وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي. واختلف قول الشافعي في ذلك. وقال مالك: يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصالاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن الذي صلّى بهم عبد الرحمن. وروى بألفاظ من طرق [[أخرجه أبو داود 3/ 445 والترمذي 2/ 128 وابن جرير 8/ 376 والإمام أحمد 1/ 379.]]. (ولا جنباً إلا عابري سبيل) الجنب لا يؤنّث ولا يثنّى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب، قال الفراء: جنب الرجل وأجنب من الجنابة وهو المشهور في اللغة والفصيح وبه جاء القرآن، وقيل يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق وطنب وأطناب. والمعنى جنباً بإيلاج وإنزال ونصبه على الحال، والاستثناء مفرغ أي لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمّم، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم. وقال ابن مسعود وعكرمة، والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: " عابر السبيل " هو المجتاز في المسجد وهو مروي عن ابن عباس، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب. وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر، وأن معناه أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء كما يكون في المسافر. وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله (إلا عابري سبيل) وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها. وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله (وأنتم سكارى) تقوي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف؛ وسبب نزول الآية كما سبق يقوّي ذلك، وقوله (إلا عابري سبيل) يقوي تقدير المضاف أي لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن أن يقال إن بعض قيود النهي أعني لا تقربوا وهو قوله (وأنتم سكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله (إلا عابري سبيل) يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيّد كل واحد منهما بقيد وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب. وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور، وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: (ولا جنباً إلا عابري سبيل) إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) الآية فكان معلوماً بذلك أي أن قوله (ولا جنباً إلا عابري سبيل) لو كان معنيّاً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، قال: وعابر السبيل المجتاز مرّاً وقطعاً، يقال منه عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً ومنه قيل عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ومنه قيل للناقة القوية هي عبر أسفار لقوتها على قطع الأسفار. قال ابن كثير: وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية انتهى [[ابن كثير 1/ 502.]]. (حتى تغتسلوا) غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة، والمعنى لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل، وعن علي قال نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي، وقال ابن عباس إن لم تجدوا الماء فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض، وعن مجاهد قال لا يمر الجنب ولا الحائض في المسجد، وإنما أنزلت (ولا جنباً إلا عابري سبيل) للمسافر يتيمم ثم يصلي. (وإن كنتم مرضى) المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين: كبير ويسير، والمراد هنا أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء أو كان ضعيفاً في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء، وروى عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله (ولا تقتلوا أنفسكم) وقوله (يريد الله بكم اليسر). (أو على سفر) فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر، والخلاف مبسوط في كتب الفقه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم لا بد من ذلك، وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر، واختلفوا في الحاضر فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر، وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. (أو جاء أحد منكم من الغائط) هو المكان المنخفض المطمئن من الأرض، والمجيء منه كناية عن الحدث والجمع الغيطان والأغواط، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من الواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس، ثم يسمى الحدث الخارج من الإنسان غائطاً توسعاً من باب تسمية الشيء باسم مكانه، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء. (أو لامستم النساء) وقرىء لمستم قيل المراد بما في القراءتين الجماع، وقيل المراد به مطلق المباشرة، وقيل إنه لمجمع الأمرين جميعاً وقال المبرد الأولى في اللغة أن يكون (لامستم) بمعنى قبّلتم ونحوه (ولمستم) بمعنى غشيتم. واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال: فقالت فرقة الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقد روى هذا عن عمر وابن مسعود، قال ابن عبد البر لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار انتهى. وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذر في تيمم الجنب، وقالت طائفة هو الجماع كما في قوله (ثمّ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وقوله (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وهو يروى عن علي وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان وأبي حنيفة. وقال مالك الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا الْتذّ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد واسحق، وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا، وحكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. قال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى (فلمسوه بأيديهم). وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، وليس الأمر كذلك، فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة، ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل. وهذا الحكم تعم به البلوى وثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه. وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من أجنب ولم يجد الماء فكان الجنب داخلاً في هذا الحكم بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك، وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال. وأما ما استدلوا به من أنه - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل فقال يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل الله (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئآت ذلك ذكرى للذاكرين) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ، قالوا فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها، فلا يخفاك أنه لا دلالة لهذا الحديث على محل النزاع فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء. وأيضاً فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه. وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة، وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ ثم يقبّل ثم يصلي ولا يتوضأ، وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن ماجه. (فلم تجدوا ماء) تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش، وهذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوغان التيمم، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض والمسافر أن يتيمما إلا إذا لم يجدا ماء. ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح والمقيم كالمريض والمسافر إذا لم يجدا الماء تيمما، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر، فقيل وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنّة للعجز عن الوصول إلى الماء وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب. وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء) كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله، وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الأخيرين مع كونه معتبراً في الأولين لندرة وقوعه فيهما، وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد. وقال مالك: ومن تابعه ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم إعتباراً بالأغلب فيمن لم يجد الماء بخلاف الحاضر فإن الغالب وجوده فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه اهـ. والظاهر أن المرض بمجرده مسوغ للتيمم وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المال ولا تعتبر خشية التلف، فالله سبحانه يقول (والله يريد بكم اليسر) ويقول (ما جعل عليكم في الدين من حرج) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " الدين يسر [[الحديث: إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه]] " ويقول: " يسروا ولا تعسروا [[مسلم 1734 - البخاري 61.]] " وقال " قتلوه قتلهم الله [[رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن السكن.]] " ويقول " أمرت بالشريعة السمحة [[الإمام أحمد 6/ 116.]] ". فإذا قلنا: إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المريض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضره فيكون إعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضره، فإن في مجرد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف، وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض. (فتيمّموا) التيمم لغة القصد يقال تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصيد تعمدته، وتيممته بسهمي ورمحي قصدته دون من سواه، قال ابن السكيت: قوله تيمموا أي اقصدوا ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأعرابي في قولهم: قد تيمم الرجل معناه قد مسح التراب على وجهه، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي، فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين وإنما هو معنى شرعي فقط. وظاهر الأمر الوجوب وهو مجمع على ذلك، والأحاديث في هذا الباب كثيرة وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة ومقالات أهل العلم مدونة في كتب الفقه. والتيمم من خصائص هذه الأمة، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء أخرجه مسلم [[مسلم 522.]]. وكان سبب التيمم انقطاع عقد لعائشة في بعض الأسفار وقصته في الصحيحين. (صعيداً طيّباً) الصعيد وجه الأرض سواء كان عليه تراب أم لم يكن قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج، قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة، قال الله تعالى (وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً) أي أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً وقال تعالى (فتصبح صعيداً زلقاً) وإنما سمي صعيداً لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض. قال قتادة الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن زيد المستوى من الأرض، وبه قال الليث، وقال الفراء هو التراب، وبه قال أبو عبيدة، وجمع الصعيد صعدات. وقد اختلف أهل العلم فيما يجزىء التيمم به فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبراني أنه يجزىء بوجه الأرض كله تراباً كان أو رملاً أو حجارة، وحملوا قوله (طيباً) على الطاهر الذي ليس بنجس، وقال الشافعي وأحمد وأصحابهما أنه لا يجزىء التيمم إلا بالتراب فقط، واستدلوا بقوله تعالى (صعيداً زلقاً) أي تراباً أملس طيباً، وكذلك استدلوا بقوله (طيباً) قالوا: والطيب التراب الذي ينبت. وقد تنوزع في معنى الطيب فقيل الطاهر كما تقدم وقيل المنبت كما هنا، وقيل الحلال، والمحتمل لا تقوم به حجة. ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز لكان الحق ما قاله الأولون لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا الطهور إذا لم نجد الماء وفي لفظ وجعل ترابها لنا طهوراً [[مسلم 522.]] " فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية أو مخصص لعمومه أو مقيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد أي خذ من غباره انتهى، والحجر الصلد لا غبار له. (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) هذا المسح مطلق يتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين، وقد بينته السنة بياناً شافياً، وقد جمع الشوكاني بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. والحاصل أن أحاديث الضربتين لا يخلو جميع طرقها من مقال، ولو صحت لكان الأخذ بها متعيّناً لما فيها من الزيادة، فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الاقتصار على ضربة واحدة حتى تصبح الزيادة على ذلك المقدار. قال الخطابي: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين، واحتجوا بالقياس على الوضوء وهو فاسد الاعتبار. قال الحافظ: إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه انتهى، فالحق مع أهل المذهب الأول حتى يقوم دليل يجب المصير إليه، ولا شك أن الأحاديث المشتملة على الزيادة أولى بالقبول، ولكن إذا كانت صالحة للاحتجاج بها، وليس في الباب شيء من ذلك [[البخاري 8/ 189، ومسلم 279، ولفظه عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء (أو بذات الجيش) انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي. فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم " فتيمموا ". وروى عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التيمم ضربة للوجه والكفين رواه البخاري 1/ 377 ومسلم 1/ 280 وغيرهما.]]. (إن الله كان عفوّاً غفوراً) أي عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب