الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة ١٩٦] ﴿أَتِمُّوا﴾ الإتمام يراد به إنهاء الشيء، ويراد به إكمال الشيء، ﴿أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة ٣] أي: أكملتها، أتممت هذا العمل يعني أنهيته، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٣٦)، ومسلم (٦٠٢ / ١٥١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، فتبين الآن أن الإتمام يراد به الإنهاء، أيش بعد؟ والإكمال، مثاله في الإكمال ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾، ليس المراد أنهيتها؛ إذ إن نعمة الله لا تزال تترى، ومثال الإنهاء: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» أي: أنهوه. ﴿أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ يشمل المعنيين: أتموهما بالإكمال وأتموهما بالإنهاء، أما الإكمال فيكون بالإخلاص لله والمتابعة لرسول الله ﷺ، هذا الإكمال، ولهذا فسّر معنى الإتمام أو فسر الإتمام كثير من السلف بأن المراد أن تنشئ الحج والعمرة من دويرة أهلك، ويش معنى تنشئهما؟ أي: تسافر من بلدك قاصدًا الحج والعمرة، ولا تحمل تجارة فإذا وصلت إلى الميقات قلت: لعلّي أُحرِم، وعلى هذا التفسير يكون معنى الإتمام؟ * طالب: الإكمال. * الشيخ: الإكمال بإخلاص النية لله عز وجل، وكذلك الإكمال بكون الحج موافقًا لشرع الله على حسب ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام قولًا أو فعلًا أو أقرّه، «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[[أخرجه مسلم (١٢٩٧ / ٣١٠)، والطبراني في مسند الشاميين (٩٠٨)، واللفظ له من حديث جابر رضي الله عنه.]]، هذا إتمام. المعنى الثاني للإتمام؛ الإنهاء؛ بمعنى أنك إذا شرعت فيهما لا تقطعهما، ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾. يقول: ﴿أَتِمُّوا﴾ ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، قد يقول قائل: إن قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ يعيّن المعنى الثاني وهو أن الإتمام بمعنى الإنهاء؛ لقوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، ولكننا نقول كما قررنا سابقًا: إن عطف الشيء بذكر أحكام بعض أفراده لا يقتضي التخصيص، ذكر الشيء أو عطف الشيء بذكر حكم بعض أفراده لا يقتضي التخصيص، ومثّلنا بالحديث: «قضى النبي ﷺ بالشفعة في كل ما لم يُقْسَم، فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة.[[أخرجه البخاري (٢٢١٤) من حديث جابر رضي الله عنه.]] » وقلنا: إن بعض أهل العلم قال: إن الشفعة ما تكون إلا بالعقار؛ لقوله: «إذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق، » ولا تكون في السيارات أو في المواشي أو ما أشبهها؛ لأن هذه لا تقع فيها الحدود ولا تُصَرَّف فيها الطرق، وقلنا: إن الصحيح أن الشفعة عامة حتى فيما لو كان بيني وبينك سيارة وبعت نصيبك منها فإن لي حق الشفعة؛ لأن الضرر الحاصل بالشريك الجديد في السيارة كالضرر الحاصل بالشريك الجديد في العقار، المهم أن قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ وإن كان هذا حكمًا خاصًّا يتعلق بالإتمام الذي بمعنى الإنهاء فإنه لا يقتضي تخصيص الآية به؛ إذ لا مانع من أن نعطف بذكر حُكم بعض أفراد العام. وقوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ (أُحْصِرَ) الحصر بمعنى التضييق، ومنه سمّينا الكلام الدالّ على التخصيص سميناه حصرًا؛ لأنه يضيق الدائرة، فالحصر بمعنى التضييق، والمعنى: ﴿إِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أي: ضُيِّق عليكم حتى مُنِعتم من إتمامهما؟ ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ يعني: فعليكم ما استيسر من الهدي، وعلى هذا فـ(إن) شرطية، فعل الشرط (أحصرتم)، وجوابه ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، فالفاء رابطة للجواب، و(ما) مبتدأ خبره محذوف، والتقدير؟ * طالب: فعليكم. * الشيخ: فعليكم ما استيسر من الهدي، لم يقل: ما تيسر، قال: ما استيسر، مبالغة في سهولته، فإنه (استيسر) بمعنى انقاد وسهل جدًّا حتى كان بمتناولكم وأيديكم. وقوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ (من) هذه بيانية، بيان لـ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، يعني: كأنه بيّن معنى قوله: ﴿مَا اسْتَيْسَرَ﴾، ما استيسر من أين؟ من الدراهم؟ من الطعام؟ * الطلبة: من الهدي. * الشيخ: من الثياب؟ لا، من الهدي، فتكون ﴿مِنَ﴾ بيان لـ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، وما المراد بالهدي؟ الهدي ما كان من الأزواج الثمانية، ويش الأزواج الثمانية؟ * طالب: الإبل، والبقر، والأغنام. * الشيخ: والأغنام. * الطالب: بنوعيها الذكر والأنثى. * الشيخ: لا. * الطالب: الضأن والمعز. * الشيخ: إي، بنوعيها الضأن والمعز، هذا معنى الهدي، والدليل ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة «أن الرسول ﷺ بعث بهديه من الغنم فأهدى غنمًا[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١٧٠١)، ومسلم (١٣٢١ / ٣٦٧) من حديث عائشة بلفظ: أهدى النبي ﷺ مرةً غنمًا. ]] »، وقيل: إن المراد بالهدي ما كان من الإبل والبقر؛ لأن هذه الآية لا شك أن أول ما يدخل فيها ما حصل في صلح الحديبية، والصحابة ما أهدوا إلا إبلًا وبقرًا، ما معهم غنم، ولكن يقال هذا: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ الفعل مبني للمجهول، ومن فوائد بناء الفعل المجهول: إرادة العموم؛ لأنه لو بُنِي للفاعل وذُكِر الفاعل اختص الحكمُ به، إذا قلت مثلًا: أقام زيدٌ عمرًا، صار المقيم زيدًا، فإذا قلت: أُقِيمَ عمرٌو، صار عمرو، إذن ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ بأي سبب من الأسباب؛ بعدو، بمرض، بكسر، بضلال طريق، بضياع نفقة، بأي شيء، ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾. ﴿مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ثم ماذا؟ ثم نحل، من أين نأخذ أن المعنى ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ ثم حِل؟ من قوله: ﴿وَأَتِمُّوا﴾؛ لأن ﴿مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ عوض عن وجوب الإتمام الذي ألزمنا الله به، فالمعنى ﴿إِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ عن الإتمام فلم تتمكنوا من إتمامهما فعليكم ما استيسر من الهدي. ما تقولون لو قال قائل: أحصرتم بعدو؟ لأن الآية نزلت في الحديبية والإحصار كان فيها بعدوّ، فالجواب؟ * الطلبة: أن هذا عام. * الشيخ: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولهذا بإجماع المسلمين أن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ إلى آخره [المجادلة: ٣] أنها لا تختص بالذي نزلت فيه بالإجماع، وكذلك: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ [البقرة ٢٢٦] وغيرها ما تختص بمن نزلت فيهم، هذه أيضًا لا تختص، وإن كان سببها حصر النبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية لكنها لا تختص بالسبب. وقوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، ولم يقل: من هدي، إشارة هنا إلى أن المراد بالهدي الهدي المعروف الذي يجزئ التقرب به إلى الله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ»[[أخرجه مسلم (١٩٦٣ / ١٣) من حديث جابر رضي الله عنه.]]، وعلى هذا لا بد في الهدي من أن يكون قد بلغ السن المعتبر شرعًا، أما بعض الناس بعض العوام يأتي بهدي كُبر البِسّ يقول: هذا ما استيسر من الهدي؛ لأن الله يقول: ﴿مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، هكذا يقولون ويجادلون، فنقول لهم: ما قال الله عز وجل: فما استيسر من هدي، بل قال: ﴿مِنَ الْهَدْيِ﴾ (أل) التي للعهد العرفي المعروف شرعًا هو الذي قال فيه الرسول ﷺ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً». ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ في الإحصار ولّا في غيره مطلقًا؟ * طالب: في غيره. * الشيخ: في الإحصار؛ لأنه قال: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، هذا إذا قلنا: إن قوله: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا﴾ معطوف على قوله: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، أما على القول بأنه معطوف على قوله: ﴿أَتِمُّوا﴾ ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه﴾ ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ (...) يكون شاملًا للمحصر وغير المحصر، والمعنى الثاني هو الصواب، بدليل قول رسول الله ﷺ لما سئل في حجة الوداع: «ما بال الناس حلوا ولم تحل؟ قال: «إِنِّي قَدْ سُقْتُ الْهَدْيَ فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٦٩٧)، ومسلم (١٢٢٩ / ١٧٦، ١٧٧) من حديث حفصة رضي الله عنها.]]، وهل في ذلك حصر؟ * طالب: لا. * الشيخ: في حصر في حجة الوداع؟ لا، ما فيه، إذن هو شامل. وقوله: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾، ﴿رُءُوسَكُمْ﴾ هل المعنى: لا تحلقوا جميعها فحلق بعضها جائز؟ * طالب: لا. * الشيخ: لا، رؤوسكم، نقول: هنا قاعدة مهمة، أن الأمر إذا عُلِّق بالكل شمل الكل، ولا يحصل الامتثال به إلا بفعل الكل، الأمر إذا عُلِّق بالكل وتعلق به فلا يصح الامتثال إلا به، فقوله: ﴿امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة ٦] يشمل الرأس كله؛ لأنه أمر، ولا يتحقق الامتثال إلا بفعل المأمور به جميعه، أما في النهي فإنه يتعلق النهي بكله وبعضه؛ لأن المنهي عنه مفسدة، والمفسدة تكون بالقليل وبالكثير، فعلى هذا يكون قول الله: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ شاملًا للقليل وللكثير، ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾، إذا قلت لك: لا تأكل هذه الخبزة، مشيت عليها وكلتها حتى بقي مثقال ذرة، امتثلت ولّا لا؟ لم تمتثل، لكن لو قلت: كلها، فأكلتها إلا مثقال ذرة امتثلت ولّا لا؟ * طالب: نعم، نعم. * الشيخ: سبحان الله، ما امتثلت، كُلْها، أكلتها إلا مثقال ذرة، ما امتثلت؛ لأن الأمر يتعلق بالجميع، إذا أمر الشارع بشيء فالمراد جميعه، ما يحصل الامتثال إلا بفعل جميعه، ﴿امْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ ما هي بعيدة، مسح الإنسان برأسه إلا قليلًا منه يمتثل ولَّا لا؟ * الطلبة: لا. * الشيخ: ما يمتثل، لكن إذا نهى عن شيء تعلق الحكم به جميعه، بمعنى أن فعل بعضه كفعل كله؛ لأنه مفسدة، ولا يتحقق اجتنابه إلا باجتناب جميعه، فاهمين ولَّا لا؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: ما يتحقق اجتنابه إلا باجتناب جميعه، إذن ﴿لَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾: لا تحلقوا شيئًا منها ولا كلها، ﴿حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ (حتى) حرف غاية، والمُغَيَّا ما هو؟ * الطلبة: بلوغه. * الشيخ: المغيا يا إخوان؟ * طالب: يبلغ الهدي محله. * الشيخ: أيش المغيا؟ * طالب: بلوغ الهدي. * الشيخ: الغاية بلوغ الهدي محله، والمغيا حلق الرأس. ﴿لَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ إلى أن يبلغ ﴿الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، (محل) يحتمل أن تكون اسم زمان، بمعنى أن يصل إلى وقت حلوله وهو يوم؟ * طالب: النحر. * الشيخ: يوم العيد، وليس المراد: إلى أن تذبحوا الهدي، وهذا من بلاغة القرآن، إلى أن يبلغ الهدي محله، ولهذا لو قدم الإنسان الحلق على النحر يجوز ولَّا لا؟ * الطلبة: يجوز. * الشيخ: في يوم العيد قدم الحلق على النحر يجوز لأن الهدي قد بلغ محله وإن كان ما ذُبِح، قد بلغ محله أي وقت حلوله. وقوله: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ معروف يعني ظاهر السياق أنه فيمن ساق الهدي، أما من لا هدي معه فلا يصح أن يتوجه إليه مثل هذا القول، وعلى هذا فيكون الحكم فيمن ساق الهدي سواء ساقه من بلده أو من الميقات، وبعضهم قال: أو من الحل، وبعضهم قال: أو من الحرم، ما لم يصل إلى مكة، فالمهم إذا ساقه الإنسان ما عاد يمكن يحل إلا يوم العيد، ولهذا رسول الله ﷺ على الرغم من حبه للحل ما حل في حجة الوداع، وكان تمنى قال: «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَأَحْلَلْتُ مَعَكُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٢٢٩)، ومسلم (١٢١١ / ١٣٠) من حديث عائشة رضي الله عنها.]]، دل هذا على أنه ما يجوز أن الإنسان إذا كان معه هدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله، ولهذا قال: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ﴾ الخطاب لمن؟ لمن وُجِّه إليه الأمر الأول وهو قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾، إذن فالخطاب لمن شرع في الحج والعمرة. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾، الآية لا شك أن فيها تقديرًا، يعني ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ فحلق فعليه فدية، مثل ما قلنا في الصيام ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [البقرة ١٨٤] فأفطر فعليه عدة. يقول الله عز وجل: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ ﴿أَوْ بِهِ أَذًى﴾، التأذي غير الضرر، إنسان مريض قال له الأطباء: ما يشفي مرض رأسك وصداعك إلا أن تحلق، إذا حلقت راح عنك الصداع، يجوز يحلق ولَّا لا؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: يجوز؛ لأنه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾، إنسان ما هو مريض، متعافي، لكن به أذى من رأسه، كيف أذى؟ الرأس إذا كان كثير الشعر يكون غالبًا كثير الوسخ إذا لم يتعهده الإنسان بالتنظيف، وإذا كان كثير الوسخ كان كثير القمل، والقمل معروف، ومعلوم أن القمل يؤذي الإنسان؛ لأنه يعض به ويشرب دمه، أليس كذلك؟ * الطلبة: بلى. * الشيخ: إذا كان به أذى من رأسه فحلق فالأمر مُيَسَّر والحمد لله، الأمر ميسر لكن عليه فدية، ولهذا قال: ﴿فَفِدْيَةٌ﴾، هل يدخل في أذى الرأس الأذى ما لو كان به حكّة وقال له الأطباء: ما تزول إلا بحلق الرأس؟ * الطلبة: نعم. * الشيخ: يدخل، أن تدخلها إما في المرض أو الأذى، لو قال له الأطباء هو الآن داخ وقال الأطباء: ما تزول منك الدوخة إلا إذا حجمت على رأسك، والحجامة تحتاج إلى حلق، يجوز؟ * طالب: يجوز كذلك. * الشيخ: نعم، يجوز أن يحلق ويحتجم، وكذلك الجرح، لو قالوا: ما نصل إلى مداواة هذا الجرح إلا بحلق ما حوله من الشعر، نقول أيضًا: يجوز. وقوله: ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ ويش إعراب فدية؟ * الطلبة: خبر لمبتدأ محذوف. * الشيخ: خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير؟ * طالب: فعليه. * الشيخ: فعليه فدية، فعليه الفدية. وقوله: ﴿فِدْيَةٌ﴾ الفدية ما يُدفع لفداء شيء أغلى منه، الفدية ما يُدفع للافتداء عن شيء أغلى منه، إذن الآن لو أن أحدًا أخذ منك سيارة وقال: ما أدفعها لك إلا بعشرة آلاف ريال، والسيارة ما تسوى إلا ألف، تدفع له عشرة؟ * الطلبة: لا. * الشيخ: أخلي العشرة عندي ولا أدفع له عشرة وآخذ الألف ريال، خسر تسعة آلاف، لكن إذا كانت تسوى.. هذا فدية جعله فدية يَفدي به نفسه من العذاب، وليس المراد أنها فدية عن الشَّعر، ليست فدية عن الشعر، لماذا؟ لأن الشعر لا قيمة له؛ ولأننا لو قلنا: بأنها فدية عن الشعر لكان الشايب اللي ما في رأسه إلا الربع من الشعر كم عليه؟ ربع فدية، بخلاف الإنسان الشاب اللي كل رأسه ممتلئ شعرًا، ولكان اللي شعره طويل تكون فدية أكثر، وليس كذلك، فهي ليست فدية عن الشعر لكن فدية عما كان متوقَّعًا من العقاب لهذا الذي عصى الله، وقوله تعالى: ﴿مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة ١٩٦] لم يبيِّن الله عز وجل الصيام كم ولا الصدقة، أما النسك فقد نقول: إنه معروف ومشهور وبيّن، ولكن بيّن ذلك الرسول ﷺ، فبين لنا أن الصيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة ثلاثة آصُع لستة مساكين، لكل مسكين كم؟ نصف صاع، «وأما النسك فقال: إنه شاة[[متفق عليه؛ البخاري (١٨١٤)، ومسلم (١٢٠١ / ٨٢) من حديث كعب بن عجرة، ولفظ البخاري: «احلقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ، أَوِ انْسكْ بِشَاةٍ». ]] » وهو واضح، وفي هذا أكبر دليل على أن السنة تفسِّر القرآن، وأن من طعن في السنة فقد طعن في القرآن، وأن من طعن في السنة فإنه لم يؤمن بقول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩]؛ إذ إن الكتاب لم يُبيّن الصيام والصدقة هنا فبيّنته السنة، إذن فيكون القرآن قد أحال البيان على أيش؟ على السنة، وحينئذٍ يكون البيان بالسنة كما يكون البيان بالقرآن، فمن أنكر شيئًا من السنة الثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أنكر القرآن وكذّب قول الله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾. بدأ الله تعالى ﴿مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ بدأ بالأسهل ولَّا بالأغلظ ولَّا بماذا؟ * طالب: بالأسهل. * طالب آخر: يختلف على حسب الأحوال. * الشيخ: أيهم؟ كيف يختلف؟ أيهم أشد الصيام أو الصدقة؟ * طالب: تختلف الصدقة على الغني، الصدقة أهون. * الشيخ: نعم، صحيح على الغني الصدقة أسهل وعلى الفقير الصيام أسهل، وأما النسك فالظاهر أنها غالبًا أشد. * طالب: تختلف من (...). * الشيخ: إي نعم تختلف، لكن الغالب أنها أشد، ولهذا بدأ الله تعالى بالأسهل مع أن الله تعالى أحيانًا يجعل الصيام بدلًا عن الإطعام، وأحيانًا يجعل الإطعام بدلًا عن الصيام حتى فيما هو على الترتيب، أحيانًا يجعل الله الصيام بدلًا عن الإطعام، وأحيانًا يجعل الإطعام بدلًا، ففي كفّارة اليمين أيهما البدل؟ الصيام ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ [البقرة ١٩٦]، وفي كفارة الظهار أيهما البدل؟ الإطعام ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة ٤]. لكن هذا في الغالب أن الصيام أسهل، ثم الصدقة، ثم النسك، وفي حديث كعب بن عجرة «أن الرسول ﷺ أمره أن يذبح شاة، فإن لم يسْتَطِع فليُطْعِم سِتَّة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام[[سبق تخريجه. ]] » فبدأ النبي عليه الصلاة والسلام بما هو أشد؛ لأنه أكمل، وبدأ الله بالأسهل؛ لأنه أيسر. وهنا مسألة، وهي أن كثيرًا من الناس -يهدينا الله وإياهم- كلما رأوا مخالفة من شخص قالوا: عليك دم، لو يقول: حككت رأسي فسقطت منه شعرة بدون اختيار ولا قصد قالوا: عليك دم. * طالب: في (...). * الشيخ: وكل شيء دم، وكل شيء دم، نحن شاهدنا ناس. * طالب: هذا استعراض. * الشيخ: كل من جاء قالوا: عليك دم، وهذا غلط، أولًا: إنه خلاف ما أمر الله به، الله أوجب واحدة من ثلاثة: من صيام، أو صدقة، أو نسك. الثاني: أن فيه إلزامًا لعباد الله بما لا يلزمهم. الثالث: أن الدم في أوقاتنا هذه في أيام مِنى غالبه يضيع هدرًا ما يُنتفع به. الرابع: أن فيه إخفاءً لحكم الله عز وجل؛ لأن الناس إذا صاروا ما يفتون إلا بالدم كأن ما فيه فدية إلا هذا، وأن ما فيه إطعام أو صيام، فالواجب على طالب العلم أنه يختار واحدًا من أمرين: إما أن يرى الأسهل ويفتي بالأسهل، وإما أن يقول: عليك هذا أو هذا أو هذا، واختر لنفسك، أما أن يذكر أشدها فقط ويسكت فهذا خلاف ما ينبغي للمفتي. ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة ١٩٦] قال: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ أمنتم منين؟ من الإحصار، إذا أمنتم من الإحصار وأتيتم بالعمرة والحج على وجه الكمال ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾، وهنا دخل شرط في شرط، وين؟ ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ هذا الشرط الأول، ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ﴾ هذا الشرط الثاني، و﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ هذا جواب الشرط الثاني، والجملة من الشرط الثاني وجوابه في محل جزم جواب الشرط الأول. * طالب: ليست جازمة. * طالب آخر: الصح (إذا). * الشيخ: صحيح؛ لأن إذا لا تجزم، الإنسان قد يغلط وقد يغالط، ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ تمتع وأيش معنى تمتع؟ يعني تناول ما أحل الله له بعد التحلُّل مثل: الطيب واللباس والنساء وغير ذلك مما أحل الله له بعد تحلُّله. إذن ﴿مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ﴾ الباء هنا للسببية أي: بسبب العمرة، أو أنها (الباء) كالباء في قولك: كتبت بالقلم، أي: أنها آلة الاستمتاع؛ أي: أنها التي حصل بها الاستمتاع، وأيًّا كان فالمعنى أن الإنسان إذا تمتع فيما بين الحج والعمرة بسبب العمرة وتحلُّله منها إلى الحج، متى يبدأ الحج الإحرام بالحج فعلًا متى يبدأ؟ في اليوم الثامن من ذي الحجة. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي: فعليه ما استيسر من الهدي، ويقال في قوله: ﴿مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ كما قلنا في قوله أول الآية: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾. فإذا تمتّع الإنسان بالعمرة إلى الحج فعليه ما استيسر من الهدي، ولكن يجب أن تعرفوا الفرق بين هذا الهدي وبين الهدي السابق؛ الهدي السابق هدي جبران، والهدي الثاني هدي شكران، ولهذا قال العلماء: في الهدي الأول لا يأكل منه، وفي الثاني يأكل منه؛ لأن الثاني هدي شكران وليس هدي جبران، وأما الأول فهو هدي جبران. ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ من لم يجد، أيش من لم يجد هديًا ولا دراهم يحاسب بها الهدي؟ عام؛ يعني ما وجد لا هديًا أو ما وجد دراهم يشتري بها الهدي، وأظن بينهما فرقًا، والذي لم يجدهما جميعًا من باب أولى. [[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب