الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ۝ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝فَإذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ۝ومِنهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ ۝أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ ۝﴾ [البقرة: ١٩٨ ـ ٢٠٢]. وسَّعَ اللهُ لأُمَّتِهِ إذْ جعَلَ مَوْسِمَ الحجِّ واجتماعَ الناسِ فيه مَغْنَمًا لراغبِ الفضلِ بتجارةٍ أو إجارةٍ أو غيرِها، وقد امتَنَّ اللهُ على عبادِهِ بهذا في مواضعَ عديدةٍ، منها في دعاءِ إبراهيمَ: ﴿وارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ﴾ [البقرة: ١٢٦]، ومكةُ ليستْ بذاتِ زَرْعٍ، كما قال إبراهيمُ: ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، ولكنَّ المقصودَ بدعائِهِ جبايةُ الثمراتِ مِن مَنابِتِها حولَ أُمِّ القُرى ومِن عمومِ الأرضِ، وهذا ما امتَنَّ به اللهُ على قريشٍ في سورةِ القَصَصِ، فقال: ﴿أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَدُنّا﴾ [القصص: ٥٧]، وهذا رزقٌ يأتي هذا البَلَدَ المبارَكَ ولا يَنقطِعُ. التجارةُ في الحج: وقد كان الناسُ يَجِدُونَ حَرَجًا لمّا جاء الإسلامُ أن يتَّخِذُوا الحجَّ موسمًا للتجارةِ، فرَخَّصَ اللهُ فيه بقولِه: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾، قال ابنُ عباسٍ: «في مواسمِ الحجِّ»، رواهُ البخاريُّ[[أخرجه البخاري (١٧٧٠) (٢/١٨٢).]]. وروى أبو داودَ، مِن حديثِ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ: أنّ الناسَ في أولِ الحجِّ كانوا يَتَبايَعُونَ بمِنًى وعَرَفةَ وسُوقِ ذي المَجازِ ومواسمِ الحجِّ، فخافُوا البيعَ وهم حُرُمٌ، فأنزَلَ اللَّهُ سبحانَهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ في مواسمِ الحجِّ، قال: فحدَّثَني عُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ، أنّه كان يقرؤُها في المصحفِ[[أخرجه أبو داود (١٧٣٤) (٢/١٤٢).]]. وروى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: «لا حرَجَ عليكم في الشراءِ والبيعِ قبلَ الإحرامِ وبعدَهُ»[[«تفسير الطبري» (٣/٥٠٢)، وتفسير ابن أبي حاتم (١/٣٥١).]]. وسببُ نزولِ هذه الآيةِ رفعُ الحَرَجِ عن الأُمَّةِ بالانتفاعِ في دُنْياها مِن مَجْمَعِ الناسِ للحجِّ حينَما يأتُونَ مِن كلِّ مكانٍ، فيتبايَعونَ فيما بينَهم كلٌّ يبيعُ نِتاجَ بلادِهِ مِن زَرْعٍ وثَمَرٍ، وصناعةٍ ونسيجٍ وحِدادةٍ، فبهذا ينتفِعُ أهلُ مكةَ وما حولَها، وينتفعُ الحُجّاجُ كلُّهم بِتَبايُعِهم فيما بينَهم، فيَرْجِعونَ بأجرٍ وغنيمةٍ مِن الدُّنيا تَكْفِيهم مُؤْنَةَ الحجِّ ونفقةَ الطريقِ وقد تَزِيدُ، فقد روى أحمدُ في «مسندِهِ»، مِن حديثِ أبي أُمامةَ التَّيْمِيِّ، قال: قلتُ لابنِ عمرَ: إنّا نُكْرِي، فهل لنا مِن حَجٍّ؟ قال: أليس تَطُوفُونَ بالبَيْتِ، وتأتُونَ المُعَرَّفَ، وتَرْمُونَ الجِمارَ، وتَحْلِقُونَ رُؤُوسَكم؟ قال: قلْنا: بلى! فقال ابنُ عمرَ: جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فسَأَلَهُ عن الذي سَأَلْتَني، فلم يُجِبْهُ حتى نزَلَ عليه جبريلُ عليه السلام بهذه الآيةِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾، فدَعاهُ النبيُّ ﷺ، فقال: (أنْتُمْ حُجّاجٌ)[[أخرجه أحمد (٦٤٣٤) (٢/١٥٥).]]. ومن الأئمة من يرى أن ترك التجارة في الحج أخلص للعمل مع جوازها، وقد سئل أحمد عن التجارة في الحج؟ فقال: من الناس من يتأول هذه الآية في مواسم الحج، ولكن لو لم يكن معه تجارة كان أخلص[[مسائل أبي داود (١٧٢).]]. وقولُهُ تعالى: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ۝﴾. الإفاضةُ: الانصرافُ مِن عَرَفاتٍ، وقد غَيَّرَ زمانَها أهلُ الجاهليَّةِ، فكانوا يُفِيضُونَ قبلَ غروبِ الشمسِ إذا كانتِ الشمسُ على الجبالِ كأنّها العمائِمُ، فجعَلَ اللهُ الإفاضةَ بعدَ غروبِ الشمسِ أنْ ينصرِفَ الناسُ إلى مُزْدَلِفَةَ، وهي (المَشْعَرُ الحَرامُ). حكمُ الوقوفِ بعَرَفة وزمانُه ومكانُهُ: والوقوفُ بعَرَفَةَ ركنُ الحجِّ بلا خلافٍ، ويُستحَبُّ النزولُ بعُرَنَةَ قُبَيْلَ عَرَفَةَ بعدَ ارتفاعِ الشمسِ، كما فعَلَ النبيُّ ﷺ، وليستْ عُرَنَةُ مِن عرفةَ، وإنّما يَبقى فيها ويُصلِّي الظهرَ والعصرَ جَمْعَ تقديمٍ، ثمَّ يدخُلُ عرفةَ، ويخطُبُ الإمامُ الناسَ قبلَ جَمْعِ الصلاتَيْنِ. ومَن فاتَهُ الوقوفُ بعَرَفةَ ولو ساعةً مِن الليلِ أو النهارِ، فليس له حَجٌّ، ويبدأُ الوقوفُ بها مِن زوالِ الشمسِ يومَ التاسعِ مِن ذي الحِجَّةِ إلى طلوعِ الفجرِ مِن يومِ النحرِ، وهذا وقتُ الوقوفِ العامِّ فاضلُهُ ومفضولُهُ، وأفضلُ الوقوفِ وقوفُ النبيِّ ﷺ حيثُ دخَلَ عَرَفةَ بعدَ الزوالِ، ودَفَعَ منها بعدَ غروبِ الشمسِ. وصحَّحَ أحمدُ في روايةٍ الوقوفَ أيَّ ساعةٍ مِن النهارِ ولو قبلَ الزوالِ، وليلًا ولو قُبَيْلَ فجرِ يومِ النحرِ، لقولِ النبيِّ ﷺ في حديثِ عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسٍ، وهو بمُزْدَلِفَةَ: (مَن صَلّى مَعَنا هَذِهِ الصَّلاةَ فِي هَذا المَكانِ، ثُمَّ وقَفَ مَعَنا هَذا المَوْقِفَ حَتّى يُفِيضَ الإمامُ، أفاضَ قَبْلَ ذلك مِن عَرَفاتٍ لَيْلًا أوْ نَهارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وقَضى تَفَثَهُ) [[أخرجه أحمد (١٨٣٠١) (٤/٢٦١).]]. وحكى بعضُهم الإجماعَ على عَدَمِ صحةِ الوقوفِ قبلَ الزوالِ وحدَهُ، مِن غيرِ وقوفٍ بعدَه ليلًا أو نهارًا. وفي الإجماعِ نظرٌ، ولأحمدَ قولٌ بصِحَّتِهِ، لظاهرِ حديثِ عُرْوةَ بنِ مُضَرِّسٍ، ولكنَّ عَمَلَ النبيِّ ﷺ وخلفائِهِ مِن بعدِهِ وعَمَلَ الصحابةِ: أنّهم لم يكونُوا يَقِفُونَ قبلَ زوالِ الشمسِ بِعَرَفةَ، ولا يُحفَظُ عن واحدٍ منهم أنّه وقَفَ قبلَ الزوالِ، أو أمَرَ به. واختُلِفَ فيمَن دفَعَ قبلَ غروبِ الشمسِ: وجمهورُ العلماءِ على صحةِ وقوفِهِ وحَجِّه. وذهَبَ مالكٌ: إلى وجوبِ الوقوفِ ليلًا ولو قليلًا بعدَ غروبِ الشمسِ، ورَأى على مَن أفاضَ قبلَ الغروبِ الرجوعَ إلى عَرَفةَ، أو إعادةَ الحجِّ مِن قابِلٍ، مع الدمِ عليه مِن العامِ القابِلِ. ومَن صَحَّحُوا الحَجَّ اختَلَفُوا في وجوبِ الدمِ عليه، فأَوْجَبَهُ جمهورُهُمْ، وهو مرويٌّ عن أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ وسُفْيانَ. واختَلَفَ هؤلاء فيه إذا رجَعَ إلى عَرَفَةَ ليلًا فوقَفَ فيها، فأَوْجَبَ عليه الدمَ أبو حنيفةَ، ولم يَرَهُ عليه الباقُونَ، لأنّهم يرَوْنَ وقوفَهُ بعدَ رجوعِهِ صحيحًا، كما لو كان باقيًا فيها لم يَخْرُجْ منها. ولا يجبُ للوقوفِ طهارةٌ أو يقظةٌ، فمَن وقَفَ مُحْدِثًا أو مَرَّ بها نائمًا كلَّ الوقوفِ، صحَّ وقوفُه عندَ السلفِ لا يَختَلِفُونَ في ذلك، وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ. فضلُ الدعاءِ والذِّكْر بِعرفَة ومزدَلِفة: وليس في الآيةِ تفضيلُ الذِّكْرِ عندَ المَشْعَرِ الحرامِ على الذِّكْرِ بعَرَفةَ، فإنّ الذِّكْرَ والدعاءَ بعرفةَ أفضلُ، ولكنَّ اللهَ أرادَ بيانَ مشروعيَّةِ الإفاضةِ إلى مزدَلِفةَ والوقوفِ عندَها والمبيتِ فيها ذاكِرينَ اللهَ، لا كما يفعلُ أهلُ الجاهليَّةِ مِن تبديلٍ، فإنّ قريشًا لا تَقِفُ بِعَرَفةَ، فكانت تشدِّدُ على نفسِها، ولا تخرُجُ في حجِّها مِن حدودِ الحرمِ، فتقفُ بمزدَلِفةَ ثمَّ تنصرِفُ إلى مِنًى، وكانوا يُسَمُّونَ أنفُسَهمُ الحُمْسَ مِن دونِ العربِ، إلا مَن تَحَمَّسَ معها وهم قليلٌ، وكانت بقيةُ العربِ تقفُ بِعَرَفةَ وتنصرِفُ قبلَ غروبِ الشمسِ، فَبيَّنَ اللهُ هَدْيَهُ ومناسكَ الحجِّ للنّاسِ على ما كان عليه الخليلُ إبراهيمُ، ولذا قال اللَّهُ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾، لا مِن مزدَلِفةَ، كما بَدَّلَتْ قريشٌ حيثُ كانت تُفِيضُ منها، ولمّا ذكَرَ اللهُ الإفاضةَ مِن مزدَلِفةَ بعدَ عَرَفةَ، قال: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾، يعني: العربَ وقريشًا وغيرَهم، فكانوا كلُّهم يجتمعونَ في مزدَلِفةَ فيُفِيضُونَ منها، لأنّهم لم يكونوا يختلِفونَ في الإفاضةِ مِن مُزْدَلِفةَ، وإنّما يختلِفونَ في الإفاضةِ مِن عَرَفةَ. ولا خلافَ أنّ المشعرَ الحرامَ هو مزدَلِفةُ، صَحَّ هذا عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمةَ، والحَسَنِ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/٥١٦ ـ ٥٢١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٥٣).]]. وفي قولِهِ: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ۝﴾: بيانُ فضلِ الذِّكْرِ عندَ تذكُّرِ النِّعَمِ، فمِن شُكْرِ النعمِ ذِكْرُ اللهِ عندَ تذكُّرِها، كما أنّ تذكُّرَ الضلالِ بعدَ الهدايةِ، والجهلِ بعدَ العلمِ: يَكْسِرُ النَّفْسَ للخالقِ، وأنّ مَن هَداها قادرٌ على إزاغتِها، ومَن عَلَّمَها قادرٌ على أنْ يُنْسِيَها. والمرادُ بالضلالِ في الآيةِ: الجهلُ وعَدَمُ العِلْمِ، كقولِهِ تعالى: ﴿ووَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدى ۝﴾ [الضحى: ٧]. وبعدَما أمَرَ اللهُ بالإفاضةِ مِن مزدَلِفةَ، أمَرَ بالاستغفارِ: ﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۝﴾، وفيه استحبابُ الاستغفارِ عندَ الانصرافِ مِن مزدَلِفةَ، والاستغفارُ في هذا الوقتِ أفضلُ الأذكارِ، فإنّه يُستحَبُّ إظهارُ الافتقارِ بالاستغفارِ عندَ تمامِ الأعمالِ، حتى لا يُورِثَ تمامُ الأعمالِ في النفوسِ تواكُلًا، فيَقَعَ الإنسانُ في الأمنِ والاتكالِ على عملِه، فيَنقطِعَ ويُسرِفَ على نَفْسِه. جمعُ الصلاتَيْن بمزدَلِفة: وفسَّرَ بعضُ السلفِ ذِكْرَ اللهِ بعدَ الإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ في الآيةِ بأنّه جَمْعُ صَلاتَيِ المغربِ والعشاءِ يومَ عَرَفةَ بمزدَلِفةَ، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، عن سفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٥٢).]]. وقال به ابنُ جريرٍ، ورواهُ عن زكريّا، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ: «أنّها الصلاةُ بمزدَلِفةَ»[[«تفسير الطبري» (٣/٥١٦).]]. وكلُّ ذلك: مقصودُ عمومِ الذِّكْرِ وإقامِ الصلاةِ فيها، ففِعْلُ النبيِّ يُترجِمُ عمومَ القرآنِ، وكذا أصحابُهُ مِن بَعْدِه. وجمعُ الصلاتَيْنِ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ عندَ عامَّةِ العلماءِ، تُجمَعانِ جمعَ تأخيرٍ بمزدَلِفةَ. وذهَبَ قلةٌ مِن الفقهاءِ: إلى وجوبِ الجمعِ. وكأنّهم جعَلُوهُ مِن النُّسُكِ، أو جعَلُوا ذلك الجمعَ المؤخَّرَ بعَرَفةَ وقتًا للصلاةِ كمواقيتِ الصلاةِ الأُخرى، ومَن أدّاها قبلَه كمَن أدّى الصلاةَ قبلَ وقتِها، ولا قائلَ بذلك مِن السلفِ مِن الصحابةِ وكِبارِ التابعينَ، وهو قولٌ لأبي حنيفةَ، وقال به ابنُ حَبِيبٍ مِن المالكيَّةِ، واستدَلُّوا بقولِ النبيِّ ﷺ لأسامةَ بنِ زَيْدٍ: (الصَّلاةُ أمامَكَ) [[أخرجه البخاري (١٣٩) (١/٤٠)، ومسلم (١٢٨٠) (٢/٩٣١).]]، فأمَرُوا مَن جَمَعَ بغيرِ مزدَلِفةَ وجاءَها قبلَ الفجرِ أنْ يُعِيدَ. وبعضُ الفقهاءِ يرى إعادةَ العشاءِ إنْ صلاَّها قبلَ مغيبِ الشَّفَقِ، وهو قولُ بعضِ أصحابِ مالكٍ وقولٌ للشافعيِّ. والصحيحُ: أنّ جَمْعَ الصلاتَيْنِ بمزدَلِفةَ، كالجمعِ بعَرَفةَ ومِنًى لغيرِ أهلِ مكةَ: جَمْعُ سَفَرٍ، لا جَمْعُ نُسُكٍ، ولكنْ يُقتدى بالنبيِّ ﷺ في تقديمِ الصلاتَيْنِ بعَرَفةَ، وتأخيرِ الصلاتَيْنِ بمزدَلِفةَ، للانشغالِ بالدعاءِ، ولأنّه أيسَرُ للمُفِيضِ مِن عَرَفةَ. المبيتُ بمزدَلِفةَ وحكم التعجُّلِ: ومزدَلِفةُ كلُّها مَبِيتٌ ومَوْقِفٌ، لا يفضُلُ بعضُها على بعضٍ باتِّفاقِ السلفِ، وإنّما وقَفَ النبيُّ في مكانٍ منها اتِّفاقًا، لا اختيارًا وتفضيلًا عن بقيَّةِ المشعرِ الحرامِ. ويُستحَبُّ الوقوفُ بعدَ صلاةِ الفجرِ بمزدَلِفةَ قليلًا، ثمَّ يُفِيضُ الحاجُّ قبلَ طلوعِ الشمسِ إلى مِنًى ليَرْمِيَ الجمرةَ، والمَبِيتُ واجبٌ إلى صلاةِ الفجرِ، والوقوفُ بعدَ الفجرِ سُنَّةٌ. ويجوزُ الدفعُ للضَّعَفَةِ مِن المَرْضى وكبارِ السنِّ والأطفالِ، وكذلك الصحيحُ إنْ كان مرافقًا لضعيفٍ أنْ يدفَعَ معه منتصَفَ الليلِ، أو بعدَ مَغِيبِ القمرِ، والقويُّ الحارسُ للضَّعَفَةِ والقائدُ لهم وخادمُهُمْ يأخُذُ حُكْمَهم، ومِثْلُهم مَن خَشِيَ فواتَ رُفْقَتِهِ مِن الضَّعَفَةِ يدفَعُ معهم متعجِّلًا ولو كان في نفسِهِ قويًّا، فقد كان مَوْلى أسماءَ يدفَعُ معها، وهي مِن الضَّعَفَةِ، وهو قويٌّ. وقولُهُ تعالى: ﴿فَإذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾، المرادُ بقضاءِ المناسكِ: هي أعمالُ يومِ النَّحْرِ، قاله مجاهدٌ[[«تفسير الطبري» (٣/٥٣٥).]]. قال عطاءٌ: قضَيْتُمْ حَجَّكم[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٥٥).]]. وبهذه الآيةِ يُستدَلُّ لمَن قال بركنيَّةِ الوقوفِ بمزدَلِفةَ، لأنّ اللهَ جعَلَ قضاءَ المناسكِ بها، وهو قولُ قِلَّةٍ مِن السلفِ، قال به بعضُ أصحابِ الشافعيِّ كابنِ خُزَيْمَةَ، وأظهَرُ ما استدَلُّوا به حديثُ عُرْوةَ بنِ المُضَرِّسِ، رواهُ أحمدُ، وأهلُ «السننِ»، مِن حديثِ الشَّعبيِّ، عن عُرْوةَ بنِ مضرِّسِ بنِ حارثةَ بنِ لامٍ، قال: أتيتُ رسولَ اللهِ ﷺ وهو بجَمْعٍ، فقلتُ له: هل لي مِن حَجٍّ؟ فقال: (مَن صَلّى مَعَنا هَذِهِ الصَّلاةَ فِي هَذا المَكانِ، ثُمَّ وقَفَ مَعَنا هَذا المَوْقِفَ حَتّى يُفِيضَ الإمامُ، أفاضَ قَبْلَ ذلك مِن عَرَفاتٍ لَيْلًا أوْ نَهارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وقَضى تَفَثَهُ) [[أخرجه أحمد (١٨٣٠١) (٤/٢٦١).]]. وفي المبيتِ بمزدَلِفةَ أقوالٌ، أشهرُها ثلاثةٌ: أنّه ركنٌ، وقد سبَقَ. وقال الجمهورُ بوجوبِهِ، ويجبُ على تاركِه دمٌ. وقال بعضُهم بأنّه سُنَّةٌ. والأظهرُ: وجوبُ المبيتِ بمزدَلِفةَ، واستحبابُ الوقوفِ بها. وقد صحَّ عن عُمَرَ: أنّه أمَرَ رجلًا فاتَهُ الوقوفُ بعَرَفةَ أنْ يذهَبَ ليلًا إلى عَرَفَةَ لِيَقِفَ ويَرجِعَ، فوقَفَ وصلّى عمرُ الفجرَ، ولم يَرْجِعِ الرجلُ ووقَفَ عمرُ على راحلتِهِ ينتظرُهُ، ولو كان المَبِيتُ واجبًا، لَما انْتَظَرَهُ ودفَعَ به مِن مزدَلِفةَ. والأَثَرُ رواهُ سعيدُ بنُ منصورٍ، ويتضمَّنُ صحةَ الوقوفِ ليلًا بعَرَفةَ ولو لم يقفْ مِن النهارِ شيئًا. وقولُه تعالى: ﴿فَإذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ۝ومِنهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ ۝أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ ۝﴾. كانتِ العربُ شديدةَ المُفاخَرةِ بأنسابِها وأحسابِها، وصنائعِ آبائِها وأجدادِها، واتَّخَذَتْ مِن مَجامِعِها في الحجِّ في الجاهليَّةِ مواضعَ لذلك تذكُرُ آباءَها وتفاخِرُ بهم، رُوِيَ هذا المعنى عن ابنِ عباسٍ، وأنسٍ، وابنِ الزبيرِ، ومحمدِ بنِ كعبٍ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/٥٣٥ ـ ٥٣٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٥٥ ـ ٣٥٦).]]. وروى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ: «كان أهلُ الجاهليَّةِ يَقِفُونَ في المَوْسِمِ، فيقولُ الرجلُ منهم: كان أبي يُطْعِمُ ويَحْمِلُ الحَمالاتِ، ويَحْمِلُ الدِّياتِ، ليس لهم ذِكْرٌ غيرُ فِعالِ آبائِهم، فأنزَلَ اللَّهُ على محمَّدٍ ﷺ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْرًا﴾»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٥٥).]]. وذَكَّرَ اللهُ عِبادَهُ بأمرِ الآخِرَةِ، لا كما يفعلُهُ العربُ في الجاهليَّةِ مِن استغلالِ المناسِكِ للدعاءِ بالرخاءِ في الدُّنْيا والسَّعَةِ فيها، فعن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ: «كان قومٌ مِنَ الأعرابِ يَجِيئُونَ إلى المَوْقِفِ، فيقولونَ: اللهمَّ، اجْعَلْهُ عامَ غَيْثٍ، وعامَ خِصْبٍ، وعامَ وِلادٍ حَسَنٍ، لا يَذْكُرونَ مِن أمرِ الآخِرةِ شيئًا، فأنزَلَ اللَّهُ فيهم: ﴿فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ۝﴾»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٣٥٧).]]. ثمَّ ذَكَرَ اللهُ الحالَ الصالحةَ، فمدَحَها في قولِهِ: ﴿ومِنهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ ۝أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ ۝﴾. وهي حالُ قومٍ مِن الحاجِّ سَأَلُوا اللهَ دُنْيا وآخِرةً، فجعَلَ اللهُ لهم نصيبًا ممّا سَأَلُوا، ولم يَلُمْهُمْ على سؤالِ الدُّنيا مع الآخِرةِ، ولا في تقديمِ الدُّنيا في الدعاءِ على الآخِرةِ، رحمةً منه وسَعَةً على عِبادِه. وفي الآيةِ: استحبابُ الإجمالِ في الدعاءِ، وسؤالِ اللهِ مِن عمومِ فَضْلِه، فإنّ سؤالَ اللهِ حَسَنةَ الدُّنْيا: كافٍ في قضاءِ اللهِ لمطلوبِ العَبْدِ، لأنّ اللهَ أعلَمُ بما يُصلِحُهُ وما ينفَعُهُ، ومِثلُهُ سؤالُ اللهِ حَسَنةَ الآخِرةِ، فيه تسليمُ أمرِ العبدِ للهِ، وإيكالُ ذلك إلى كَرَمِ اللهِ وفَضْلِهِ وإحسانِه. وفي هذه الآياتِ: سَعَةٌ على الأُمَّةِ في العملِ للدُّنْيا في الحجِّ بما لا يفوِّتُ مَناسِكَهُ، ويَقْدَحُ في نِيَّتِه، مِنَ التجارةِ والإجارةِ والصناعةِ وغيرِ ذلك، وقد كان ابنُ عباسٍ يَستدِلُّ بهذه الآيةِ على كلِّ انتفاعٍ دنيويٍّ يحتاجُ إليه العبدُ في مَناسِكِهِ ولو وجَدَهُ في غيرِه، فقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، والحاكمُ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: «جاءَ رجلٌ إلى ابنِ عباسٍ، فقال: إنِّي أجَّرْتُ نفسي مِن قَوْمٍ على أنْ يَحْمِلُونِي، ووَضَعْتُ لهم مِن أُجْرَتِي على أنْ يَدَعُونِي أحُجُّ معهم، أفيُجْزِي ذلك؟ فقال: أنتَ مِن الذين قال اللَّهُ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ ۝﴾»[[أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (٢/٣٥٩)، والحاكم في «المستدرك» (٢/٢٧٧).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب