الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ الناسُ واسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿فَإذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكم فاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكم آباءَكم أو أشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُنْيا وما لَهُ في الآخِرَةِ مَن خَلاقٍ﴾ ﴿وَمِنهم مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النارِ﴾ ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا واللهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ ﴿واذْكُرُوا اللهَ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى واتَّقُوا اللهَ واعْلَمُوا أنَّكم إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعائِشَةُ، وعَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُمْ: المُخاطَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ (p-٤٩٠)قُرَيْشٌ، ومَن وُلِدَتْ، وهُمُ الحُمْسُ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ قِطَّيْنُ اللهِ فَيَنْبَغِي لَنا أنْ نُعَظِّمَ الحَرَمَ، ولا نُعَظِّمَ شَيْئًا مِنَ الحَلِّ، فَسَنُّوا شَقَّ الثِيابِ في الطَوافِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وكانُوا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ وإقْرارِهِمْ أنَّ عَرَفَةَ هي مَوْقِفُ إبْراهِيمَ، لا يَخْرُجُونَ مِنَ الحَرَمِ، ويَقِفُونَ بِجَمْعٍ، ويُفِيضُونَ مِنهُ، ويَقِفُ الناسُ بِعَرَفَةَ. فَقِيلَ لَهم أنْ يُفِيضُوا مَعَ الجُمْلَةِ. "ثُمَّ" لَيْسَتْ في هَذِهِ الآيَةِ لِلتَّرْتِيبِ، إنَّما هي لِعَطْفِ جُمْلَةِ كَلامٍ عَلى جُمْلَةٍ هي مِنها مُنْقَطِعَةٌ، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الحَمْسِ، ولَكِنَّهُ كانَ يَقِفُ مُذْ كانَ بِعَرَفَةَ هِدايَةً مِنَ اللهِ. وقالَ الضَحّاكُ: "المُخاطَبُ بِالآيَةِ جُمْلَةُ الأُمَّةِ، والمُرادُ بِـ الناسِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ كَما قالَ: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ الناسُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] وهو يُرِيدُ واحِدًا"، ويَحْتَمِلُ عَلى هَذا أنْ يُؤْمَرُوا بِالإفاضَةِ مِن عَرَفَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ إفاضَةً أُخْرى، وهي الَّتِي مِنَ المُزْدَلِفَةِ فَتَجِيءُ "ثُمَّ" عَلى هَذا الِاحْتِمالِ عَلى بابِها، وعَلى هَذا الِاحْتِمالِ عَوَّلَ الطَبَرِيُّ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٌ: "الناسِي" وتَأْوِيلُهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ، ويَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ تَخْفِيفُ الياءِ فَيَقُولُ: الناسُ كالقاضِّ والهادِّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: أمّا جَوازُهُ في العَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وأمّا جَوازُهُ مَقْرُوءًا بِهِ فَلا أحْفَظُهُ. وأمَرَ تَعالى بِالِاسْتِغْفارِ لِأنَّها مَواطِنُهُ، ومَظانُّ القَبُولِ، ومَساقِطُ الرَحْمَةِ، وفي (p-٤٩١)الحَدِيثِ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقالَ: أيُّها الناسُ: إنَّ اللهَ تَطَوَّلَ عَلَيْكم في مَقامِكم هَذا فَقَبِلَ مِن مُحْسِنِكُمْ، ووَهَبَ مُسِيئِكم لِمُحْسِنِكُمْ، إلّا التَبِعاتُ فِيما بَيْنَكُمْ، أفِيضُوا عَلى اسْمِ اللهِ. فَلَمّا كانَ غَداةَ جُمَعٍ؛ خَطَبَ فَقالَ: أيُّها الناسُ إنِ اللهَ تَطاوُلَ عَلَيْكم فَعَوَّضَ التَبِعاتِ مِن عِنْدِهِ». وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: واسْتَغْفَرُوا اللهَ مِن فِعْلِكُمُ الَّذِي كانَ مُخالِفًا لِسُنَّةِ إبْراهِيمَ في وُقُوفِكم بِقُزَحٍ مِنَ المُزْدَلِفَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ﴾ الآيَةُ، قالَ مُجاهِدٌ: المَناسِكُ الذَبائِحُ وهِراقَةُ الدِماءِ. والمَناسِكُ عِنْدِي: العِباداتُ في مَعالِمِ الحَجِّ ومَواضِعِ النُسُكِ فِيهِ. والمَعْنى: إذا فَرَغْتُمْ مِن حَجِّكُمُ، الَّذِي هو الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، فاذْكُرُوا اللهَ بِمَحامِدِهِ، وأثْنُوا عَلَيْهِ بِآلائِهِ عِنْدَكُمْ، وخُصَّ هَذا الوَقْتُ بِالقَضاءِ لِما يَقْضِي الناسُ فِيهِ مَناسِكَهم في حِينٍ واحِدٍ، وما قَبْلُ وما بَعْدُ فَهو عَلى الِافْتِراقِ، هَذا في طَوافٍ، وهَذا في رَمْيٍ، وهَذا في حَلاقٍ، وغَيْرِ ذَلِكَ. وكانَتْ عادَةُ العَرَبِ -إذا قَضَتْ حَجَّها- تَقِفُ عِنْدَ الجَمْرَةِ، فَتَتَفاخَرُ بِالآباءِ، وتَذْكُرُ أيّامَ أسْلافِها مِن بَسالَةٍ وكَرَمٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ لِيُلْزِمُوا أنْفُسَهم ذِكْرَ اللهِ تَعالى أكْثَرَ مِنَ التِزامِهِمْ ذِكْرَ آبائِهِمْ بِأيّامِ الجاهِلِيَّةِ، هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَطاءٌ: مَعْنى الآيَةِ: اذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِ الأطْفالِ آباءَهم وأُمَّهاتِهِمْ، أيْ: فاسْتُغِيثُوا بِهِ، والجَئُوا إلَيْهِ كَما كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ في حالِ صِغَرِكم بِآبائِكم. وقالَتْ (p-٤٩٢)طائِفَةٌ: مَعْنى الآيَةِ: اذْكُرُوا اللهَ وعَظِّمُوهُ وذَبُّوا عن حَرَمِهِ، وادْفَعُوا مَن أرادَ الشِرْكَ والنَقْصَ في دِينِهِ ومَشاعِرِهِ، كَما تَذْكُرُونَ آباءَكم بِالخَيْرِ، إذا غَضَّ أحَدٌ مِنهم وتَحْمُونَ جَوانِبَهُمْ، وتَذُبُّونَ عنهم. وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: "كَذِكْرِكم آباؤُكُمْ"، أيِ اهْتَبِلُوا بِذِكْرِهِ كَما يَهْتَبِلُ المَرْءُ بِذِكْرِ ابْنِهِ، فالمَصْدَرُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ، و"أشَدَّ" في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى "ذِكْرِكُمْ"، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ التَقْدِيرُ: أوِ اذْكُرُوهُ أشَدَّ ذِكْرًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ﴾ الآيَةُ. قالَ أبُو وائِلٍ، والسُدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ: كانَتْ عادَتُهم في الجاهِلِيَّةِ أنْ يَدْعُوا في مَصالِحِ الدُنْيا فَقَطْ، إذْ كانُوا لا يَعْرِفُونَ الآخِرَةَ، فَنُهُوا عن ذَلِكَ الدُعاءِ المَخْصُوصِ بِأمْرِ الدُنْيا، وجاءَ النَهْيُ في صِيغَةِ الخَبَرِ عنهم. والخَلاقُ: النَصِيبُ والحَظُّ، و"مِن" زائِدَةٌ لِأنَّها بَعْدَ النَفْيِ، فَهي مُسْتَغْرِقَةٌ لِجِنْسِ الحُظُوظِ. وقالَ قَتادَةُ: حَسَنَةُ الدُنْيا: العافِيَةُ في الصِحَّةِ وكَفافُ المالِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: حَسَنَةُ الدُنْيا: العِلْمُ والعِبادَةُ. وقالَ السُدِّيُّ: حَسَنَةُ الدُنْيا: المالُ، وقِيلَ: حَسَنَةُ الدُنْيا: المَرْأةُ الحَسْناءُ، واللَفْظَةُ تَقْتَضِي هَذا كُلَّهُ، وجَمِيعُ مُحابِّ الدُنْيا. (p-٤٩٣)وَحَسَنَةُ الآخِرَةِ: الجَنَّةُ بِإجْماعٍ. ﴿وَقِنا عَذابَ النارِ﴾ دُعاءٌ في ألّا يَكُونَ المَرْءُ مِمَّنْ يَدْخُلُها بِمَعاصِيهِ، وتُخْرِجُهُ الشَفاعَةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ دُعاءً مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُولِ الجَنَّةِ، لِتَكُونَ الرَغْبَةُ في مَعْنى النَجاةِ، والفَوْزُ مِنَ الطَرَفَيْنِ، كَما «قالَ أحَدُ الصَحابَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: "أنا إنَّما أقُولُ في دُعائِي: اللهُمَّ أدْخِلْنِي الجَنَّةَ، وعافِنِي مِنَ النارِ. ولا أدْرِي ما دَنْدَنَتُكَ ولا دَنْدَنَةَ مُعاذٍ ؟" فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "حَوْلَها نُدَنْدِنُ"». وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا﴾ الآيَةُ. وعُدَّ عَلى كَسْبِ الأعْمالِ الصالِحَةِ في صِيغَةِ الإخْبارِ المُجَرَّدِ. والرَبُّ تَعالى سَرِيعُ الحِسابِ لِأنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى عَقْدٍ، ولا إلى إعْمالِ فِكْرٍ، وقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كَيْفَ يُحاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ في يَوْمٍ؟ فَقالَ: كَما يَرْزُقُهم في يَوْمٍ، وقِيلَ: الحِسابُ هُنا المُجازاةُ، كَأنَّ المُجازِي يُعِدُّ أجْزاءَ العَمَلِ ثُمَّ يُجازِي بِمِثْلِها، وقِيلَ مَعْنى الآيَةِ: سَرِيعٌ مَجِيءُ يَوْمِ الحِسابِ، فالمَقْصِدُ بِالآيَةِ الإنْذارُ بِيَوْمِ القِيامَةِ، وأمَرَ اللهُ تَعالى عِبادَهُ بِذِكْرِهِ في الأيّامِ المَعْدُوداتِ، وهي الثَلاثَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَحْرِ. وهي أيّامُ التَشْرِيقِ، ولَيْسَ يَوْمَ النَحْرِ مِنَ المَعْدُوداتِ، ودُلَّ عَلى ذَلِكَ إجْماعُ الناسِ عَلى أنَّهُ لا يَنْفِرُ أحَدٌ يَوْمَ القَرِّ وهو ثانِي (p-٤٩٤)يَوْمِ النَحْرِ، فَإنَّ يَوْمَ النَحْرِ مِنَ المَعْلُوماتِ، ولَوْ كانَ يَوْمَ النَحْرِ في المَعْدُوداتِ لَساغَ أنْ يَنْفِرَ مَن شاءَ مُتَعَجِّلًا يَوْمَ القَرِّ لِأنَّهُ قَدْ أخَذَ يَوْمَيْنِ مِنَ المَعْدُوداتِ. وحَكى مَكِّيٌّ، والمَهْدَوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: المَعْدُوداتُ هي أيّامُ العَشْرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا إمّا أنْ يَكُونَ مِن تَصْحِيفِ النُسْخَةِ، وإمّا أنْ يُرِيدَ العَشْرَ الَّذِي بَعْدَ يَوْمِ النَحْرِ وفي ذَلِكَ بُعْدٌ. والأيّامُ المَعْلُوماتُ: هي يَوْمُ النَحْرِ ويَوْمانِ بَعْدَهُ، لِإجْماعِهِمْ عَلى أنَّهُ لا يَنْحَرُ أحَدٌ في اليَوْمِ الثالِثِ. والذِكْرُ في المَعْلُوماتِ إنَّما هو عَلى ما رَزَقَ اللهُ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَعْلُوماتُ عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ وأيّامُ التَشْرِيقِ، وفي هَذا القَوْلِ بُعْدٌ. وجَعَلَ اللهُ الأيّامَ المَعْدُوداتِ أيّامَ ذِكْرِ اللهِ، وقَدْ قالَ النَبِيُّ ﷺ: «هِيَ أيّامُ أكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرٍ لِلَّهِ». ومِن جُمْلَةِ الذِكْرِ التَكْبِيرُ في إثْرِ الصَلَواتِ. واخْتَلَفَ في طَرَفَيْ مُدَّةِ التَكْبِيرِ. فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وابْنُ عَبّاسٍ: يُكَبِّرُ مِن صَلاةِ الصُبْحِ مِن يَوْمِ عَرَفَةَ إلى العَصْرِ مِن آخِرِ أيّامِ التَشْرِيقِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ مِن غَداةِ عَرَفَةَ إلى صَلاةِ العَصْرِ مِن يَوْمِ النَحْرِ. وقالَ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ: يُكَبِّرُ مِن صَلاةِ الظُهْرِ يَوْمِ النَحْرِ إلى صَلاةِ الظُهْرِ مِن آخِرِ يَوْمِ التَشْرِيقِ. وقالَ مالِكٌ: يُكَبِّرُ مِن صَلاةِ الظُهْرِ يَوْمِ النَحْرِ إلى صَلاةِ الصُبْحِ مِن آخِرِ أيّامِ التَشْرِيقِ، وبِهِ قالَ الشافِعِيُّ. وقالَ ابْنُ شِهابٍ: يُكَبِّرُ مِنَ الظَهْرِ يَوْمَ النَحْرِ إلى العَصْرِ مِن آخِرِ أيّامِ التَشْرِيقِ. (p-٤٩٥)وَقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُكَبِّرُ مِنَ الظُهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلى العَصْرِ مِن آخِرِ أيّامِ التَشْرِيقِ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: يُكَبِّرُ مِن صَلاةِ الظُهْرِ يَوْمَ النَحْرِ إلى صَلاةِ الظُهْرِ يَوْمَ النَفَرِ الأوَّلِ. وقالَ أبُو وائِلٍ: يُكَبِّرُ مِن صَلاةِ الظُهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلى صَلاةِ الظُهْرِ يَوْمَ النَحْرِ. ومَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ أنَّهُ يُكَبِّرُ إثْرَ كُلِّ صَلاةِ ثَلاثِ تَكْبِيراتٍ. وفي المَذْهَبِ رِوايَةٌ أنَّهُ يُقالُ بَعْدَ التَكْبِيراتِ الثَلاثِ: لا إلَهَ إلّا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ، ولِلَّهِ الحَمْدُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ الآيَةُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ: المَعْنى: مَن نَفَرَ في اليَوْمِ الثانِي مِنَ الأيّامِ المَعْدُوداتِ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ، ومَن تَأخَّرَ إلى الثالِثِ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ، فَمَعْنى الآيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ مُباحٌ، وعَبَّرَ عنهُ بِهَذا التَقْسِيمِ اهْتِمامًا وتَأْكِيدًا إذْ كانَ مِنَ العَرَبِ مَن يَذُمُّ المُتَعَجِّلَ وبِالعَكْسِ فَنَزَلَتِ الآيَةُ رافِعَةً لِلْجَناحِ في كُلِّ ذَلِكَ. ومِنَ العُلَماءِ مَن رَأى أنَّ التَعَجُّلَ إنَّما أُبِيحَ لِمَن بَعُدَ قُطْرُهُ لا لِلْمَكِّيِّ والقَرِيبِ، إلّا أنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ، قالَهُ مالِكٌ، وغَيْرُهُ. ومِنهم مَن رَأى أنَّ الناسَ كُلَّهم مُباحٌ لَهم ذَلِكَ. قالَهُ عَطاءٌ وغَيْرُهُ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وإبْراهِيمُ: مَعْنى الآيَةِ: مَن تَعَجَّلَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ، ومَن تَأخَّرَ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَلامُ: «مِن حَجِّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِن خَطاياهُ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ» فَقَوْلُهُ تَعالى: "فَلا إثْمَ" نَفْيٌ عامٌّ وتَبْرِئَةٌ مُطْلَقَةٌ. وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: مَعْنى الآيَةِ: مَن تَعَجَّلَ أو تَأخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إلى العامِ القابِلِ، وأسْنَدَ في هَذا القَوْلِ أثَرٌ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: المَعْنى في الآيَةِ: لا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى بَقِيَّةَ عُمْرِهِ، والحاجُّ مَغْفُورٌ لَهُ البَتَّةَ. وقالَ أبُو صالِحٍ وغَيْرُهُ: مَعْنى الآيَةِ: لا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى قَتْلَ الصَيْدِ وما يَجِبُ عَلَيْهِ تَجَنُّبُهُ في الحَجِّ. (p-٤٩٦)وَقالَ أيْضًا: لِمَنِ اتَّقى في حَجِّهِ فَأتى بِهِ تامًّا حَتّى كانَ مَبْرُورًا. واللامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾، مُتَعَلِّقَةٌ إمّا بِالغُفْرانِ عَلى بَعْضِ التَأْوِيلاتِ، أو بِارْتِفاعِ الإثْمِ في الحَجِّ عَلى بَعْضِها. وقِيلَ: بِالذِكْرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "واذْكُرُوا"، أيِ الذِكْرُ لِمَنِ اتَّقى، ويَسْقُطُ رَمْيُ الجَمْرَةِ الثالِثَةِ عَمَّنْ تَعَجَّلَ. وقالَ ابْنُ أبِي زَمَنَيْنِ: يَرْمِيها في يَوْمِ النَفَرِ الأوَّلِ حِينَ يُرِيدُ التَعَجُّلَ. قالَ ابْنُ المَوّازِ: يَرْمِي المُتَعَجِّلُ في يَوْمَيْنِ بِإحْدى وعِشْرِينَ حَصاةً، كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَياتٍ فَيَصِيرُ جَمِيعُ رَمْيِهِ بِتِسْعٍ وأرْبَعِينَ حَصاةً. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: لِأنَّهُ قَدْ رَمى جَمْرَةَ العَقَبَةِ بِسَبْعِ يَوْمِ النَحْرِ، قالَ ابْنُ المَوّازِ: ويَسْقُطُ رَمْيُ اليَوْمِ الثالِثِ. وقَرَأ سالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: "فَلا اثْمَ عَلَيْهِ" بِوَصْلِ الألِفِ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِالتَقْوى، وذَكَّرَ بِالحَشْرِ والوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب