الباحث القرآني

﴿فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا﴾، قالُوا: بَيَّنَ تَعالى حالَ الذّاكِرِينَ لَهُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وحالَ المُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ، وعِلْمَهم بِالثَّوابِ والعِقابِ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ هَذا تَقْسِيمٌ لِلْمَأْمُورِينَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ المَناسِكِ، وأنَّهم يَنْقَسِمُونَ في السُّؤالِ إلى مَن يَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الدُّنْيا، فَلا يَدْعُو إلّا بِها، ومِنهم مَن يَدْعُو بِصَلاحِ حالِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وأنَّ هَذا مِنَ الِالتِفاتِ. ولَوْ جاءَ عَلى الخِطابِ لَكانَ فَمِنكم مَن يَقُولُ: ومِنكم. وحِكْمَةُ هَذا الِالتِفاتِ أنَّهم ما وجَّهُوا بِهَذا الَّذِي لا يَنْبَغِي أنْ يَسْلُكَهُ عاقِلٌ، وهو الِاقْتِصارُ عَلى الدُّنْيا، فَأُبْرِزُوا في صُورَةِ أنَّهم غَيْرُ المُخاطَبِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ بِأنْ جُعِلُوا في صُورَةِ الغائِبِينَ، وهَذا مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي هو مِن جُمْلَةِ ضُرُوبِ البَيانِ، وهو تَقْسِيمٌ بَدِيعٌ يَحْصُرُهُ المُقَسِّمُ إلى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، لا عَلى ما يَذْهَبُ إلَيْهِ الصُّوفِيَّةَ مِن أنَّ ثَمَّ قِسْمًا ثالِثًا لَمْ يَذْكُرْ لَهم تَعالى، قالُوا: وهُمُ الرّاضُونَ بِقَضائِهِ، المُسْتَسْلِمُونَ لِأمْرِهِ، السّاكِتُونَ عَنْ كُلِّ دُعاءٍ، وافْتِشاءٍ، ومَفْعُولُ ”آتِنا“ الثّانِي مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: ما نُرِيدُ، أوْ مَطْلُوبَنا، أوْ ما أشْبَهَ. هَذا وجَعْلُ ”في“ زائِدَةً، وتَكُونُ الدُّنْيا المَفْعُولَ الثّانِيَ قَوْلٌ ساقِطٌ، وكَذَلِكَ جَعْلُ (p-١٠٥)”في“ بِمَعْنى: مِن، حَتّى يَكُونَ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ، وحَذْفُ مَفْعُولَيْ آتى وأحَدِهِما جائِزٌ اخْتِصارًا واقْتِصارًا: لِأنَّ هَذا بابُ أعْطى، وذَلِكَ جائِزٌ فِيهِ. ﴿وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ [البقرة: ١٠٢]، واحْتَمَلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ هُنا مَعْنَيَيْنِ، أحَدُهُما: الإخْبارُ بِأنَّهُ لا نَصِيبَ لَهُ في الآخِرَةِ لِاقْتِصارِهِ عَلى الدُّنْيا. والثّانِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى إخْبارًا عَنِ الدّاعِي بِأنَّهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن طَلَبِ نَصِيبٍ، فَيَكُونُ هَذا كالتَّوْكِيدِ لِاقْتِصارِهِ عَلى طَلَبِ الدُّنْيا، وجَمَعَ في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا﴾، ولَوْ جَرى عَلى لَفْظِ مَن، لَكانَ: رَبِّ آتِنِي. ورُوعِيَ الجَمْعُ هُنا لِكَثْرَةِ مَن يَرْغَبُ في الِاقْتِصارِ عَلى مَطالِبِ الدُّنْيا ونَيْلِها، ولَوْ أفْرَدَ لَتُوُهِّمَ أنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ. ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً﴾، الحَسَنَةُ مُطْلَقَةٌ، والمَعْنى: أنَّهم سَألُوا اللَّهَ في الدُّنْيا الحالَةَ الحَسَنَةَ، وقَدْ مَثَّلَ المُفَسِّرُونَ ذَلِكَ بِأنَّها المَرْأةُ الصّالِحَةُ، قالَهُ عَلِيٌّ. أوِ العافِيَةُ في الصِّحَّةِ وكَفافُ المالِ، قالَهُ قَتادَةُ. أوِ العِلْمُ، أوِ العِبادَةُ، قالَهُ الحَسَنُ. أوِ المالُ، قالَهُ السُّدِّيُّ، وأبُو وائِلٍ، وابْنُ زَيْدٍ. أوِ الرِّزْقُ الواسِعُ، قالَهُ مُقاتِلٌ. أوِ النِّعْمَةُ في الدُّنْيا، قالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ. أوِ القَناعَةُ بِالرِّزْقِ، أوِ التَّوْفِيقُ والعِصْمَةُ، أوِ الأوْلادُ الأبْرارُ، أوِ الثَّباتُ عَلى الإيمانِ، أوْ حَلاوَةُ الطّاعَةِ، أوِ اتِّباعُ السُّنَّةِ، أوْ ثَناءُ الخَلْقِ، أوِ الصِّحَّةُ والأمْنُ والكَفاءَةُ والنُّصْرَةُ عَلى الأعْداءِ، أوِ الفَهْمُ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى. أوْ صُحْبَةُ الصّالِحِينَ، قالَهُ جَعْفَرٌ. وعَنِ الصُّوفِيَّةِ في ذَلِكَ مُثُلٌ كَثِيرَةٌ. ﴿وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾، مَثَّلُوا حَسَنَةَ الآخِرَةِ بِأنَّها الجَنَّةُ، أوِ العَفْوُ والمَغْفِرَةُ والسَّلامَةُ مِن هَوْلِ المَوْقِفِ وسُوءِ الحِسابِ، أوِ النِّعْمَةُ، أوِ الحُورُ العِينُ، أوْ تَيْسِيرُ الحِسابِ، أوْ مُرافَقَةُ الأنْبِياءِ، أوْ لَذَّةُ الرُّؤْيَةِ، أوِ الرِّضا، أوِ اللِّقاءُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي الحَسَنَةُ بِإجْماعٍ. قِيلَ: ويَنْبَغِي أنْ تَكُونَ الحَسَنَتانِ هُما العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ: لِثُبُوتِ ذَلِكَ في حَدِيثِ الَّذِي زارَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقَدْ صارَ مِثْلَ الفَرْخِ، وأنَّهُ سَألَهُ عَمّا كانَ يَدْعُو بِهِ، فَأخْبَرَهُ أنَّهُ سَألَ اللَّهَ في الدُّنْيا تَعْجِيلَ ما يُعاقِبُهُ بِهِ في الآخِرَةِ، وأنَّهُ قالَ لَهُ: ”لا تَسْتَطِيعُهُ“ وقالَ: ”هَلّا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا. . .“ إلى آخِرِهِ. فَدَعا بِهِما اللَّهَ تَعالى فَشَفاهُ. وصَحَّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أكْثَرُ ما كانَ يَدْعُو بِهِ، وكانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِيما بَيْنَ الرُّكْنِ والحَجَرِ الأسْوَدِ، وكانَ يَأْمُرُ أنْ يَكُونَ أكْثَرُ دُعاءِ المُسْلِمِ في المَوْقِفِ. وأبُو بَكْرٍ أوَّلُ مَن قالَها في المَوْسِمِ عامَ الفَتْحِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلِيٌّ، والنّاسُ أجْمَعُونَ. وأنَسٌ سُئِلَ الدُّعاءَ فَدَعا بِها، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيادَةَ فَأعادَها، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيادَةَ فَقالَ: ما تُرِيدُونَ ؟ قَدْ سَألْتُ اللَّهَ خَيْرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ. ”وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً“: الواوُ فِيها لِعَطْفِ شَيْئَيْنِ عَلى شَيْئَيْنِ، فَعَطَفَتْ ”في الأخَرَةِ حَسَنَةً“ عَلى ”الدُّنْيا حَسَنَةً“، والحَرْفُ قَدْ يَعْطِفُ شَيْئَيْنِ فَأكْثَرَ عَلى شَيْئَيْنِ فَأكْثَرَ، تَقُولُ: أعْلَمْتُ زَيْدًا أخاكَ مُنْطَلِقًا وعَمْرًا أباهُ مُقِيمًا، إلّا إنْ نابَ عَنْ عامِلَيْنِ فَفِيهِ خِلافٌ، وفي الجَوازِ تَفْصِيلٌ. ولَيْسَ هَذا مِنَ الفَصْلِ بَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ والمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ والمَجْرُورِ كَما ظَنَّ بَعْضُهم، فَأجازَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلى ضِعْفِ مَذْهَبِ الفارِسِيِّ في أنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ: لِأنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ مِن هَذا البابِ، بَلْ مِن عَطْفِ شَيْئَيْنِ فَأكْثَرَ عَلى شَيْئَيْنِ فَأكْثَرَ، وإنَّما الَّذِي وقَعَ فِيهِ خِلافُ أبِي عَلِيٍّ هو: ضَرَبْتُ زَيْدًا وفي الدّارِ عَمْرًا، وإنَّما يُسْتَدَلُّ عَلى ضَعْفِ مَذْهَبِ أبِي عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢]، وبِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨]، وتَمامُ الكَلامِ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ مَذْكُورٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. ﴿وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ هو سُؤالٌ بِالوِقايَةِ مِنَ النّارِ، وهو أنْ لا يَدْخُلُوها، وهي نارُ جَهَنَّمَ، وقِيلَ: المَرْأةُ السُّوءُ الكَثِيرَةُ الشَّرِّ. وقالالقُشَيْرِيُّ: واللّامُ في النّارِ لامُ الجِنْسِ، فَتَحْصُلُ الِاسْتِعاذَةُ عَنْ نِيرانِ الحُرْقَةِ ونِيرانِ الفُرْقَةِ، انْتَهى. وظاهِرُ هَذا الدُّعاءِ أنَّهُ لَمّا كانَ قَوْلُهم: وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، يَقْتَضِي أنَّ مَن دَخَلَ الجَنَّةَ، ولَوْ آخِرَ النّاسِ، صَدَقَ عَلَيْهِ أنَّهُ أُوتِيَ في الآخِرَةِ حَسَنَةً، فَدَعَوُا (p-١٠٦)اللَّهَ تَعالى أنْ يَكُونُوا مَعَ دُخُولِ الجَنَّةِ يَقِيهِمْ عَذابَ النّارِ، فَكَأنَّهُ دُعاءٌ بِدُخُولِ الجَنَّةِ أوَّلًا دُونَ عَذابٍ، وأنَّهم لا يَكُونُونَ مِمَّنْ يُدْخَلُ النّارَ بِمَعاصِيهِمْ ويُخْرَجُونَ مِنها بِالشَّفاعَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُولِ الجَنَّةِ، كَما قالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ: «إنَّما أقُولُ في دُعائِي: اللَّهُمَّ أدْخِلْنِي الجَنَّةَ، وعافِنِي مِنَ النّارِ، ولا أدْرِي ما دَنْدَنَتُكَ ولا دَنْدَنَةُ مُعاذٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”حَوْلَها نُدَنْدِنُ“» . ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا﴾، تَقَدَّمَ انْقِسامُ النّاسِ إلى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ اقْتَصَرَ في سُؤالِهِ عَلى دُنْياهُ، وفَرِيقٌ أشْرَكَ في دُنْياهُ أُخْراهُ، فالظّاهِرُ أنَّ ”أُولَئِكَ“ إشارَةٌ إلى الفَرِيقَيْنِ، إذِ المَحْكُومُ بِهِ، وهو كَوْنُ نَصِيبٍ لَهم مِمّا كَسَبُوا، مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُما، والمَعْنى: أنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَهُ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبَ، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. ولا يَكُونُ الكَسْبُ هُنا الدُّعاءَ، بَلْ هَذا مُجَرَّدُ إخْبارٍ مِنَ اللَّهِ بِما يَئُولُ إلَيْهِ أمْرُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ، وأنَّ أنْصِباءَهم مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ تابِعَةٌ لِأكْسابِهِمْ. وقِيلَ: المُرادُ بِالكَسْبِ هُنا الدُّعاءُ، أيْ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم نُصِيبٌ مِمّا دَعا بِهِ. وسُمِّيَ الدُّعاءُ كَسْبًا لِأنَّهُ عَمَلٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ضَمانًا لِلْإجابَةِ، وعْدًا مِنهُ تَعالى أنَّهُ يُعْطِي كُلًّا مِنهُ نَصِيبًا مِمّا اقْتَضاهُ دُعاؤُهُ، إمّا الدُّنْيا فَقَطْ، وإمّا الدُّنْيا والآخِرَةُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ [الشورى: ٢٠]، و﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ﴾ [الإسراء: ١٨]، و﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها﴾ [هود: ١٥] الآياتِ. وكَما جاءَ في الصَّحِيحِ: وأمّا الكافِرُ فَيُطَعَمُ بِحَسَناتِهِ في الدُّنْيا ما عَمِلَ لِلَّهِ بِها، فَإذا أفْضى إلى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزى بِها. وفي المَعْنى الأوَّلِ لا يَكُونُ فِيهِ وعْدٌ بِالإجابَةِ. و”مِن“ في قَوْلِهِ: ”مِمّا كَسَبُوا“ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، أيْ: نَصِيبٌ مِن جِنْسِ ما كَسَبُوا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلسَّبَبِ، و”ما“ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً لِمَعْنى الَّذِي، أوْ مَوْصُولَةً مَصْدَرِيَّةً أيْ: مِن كَسْبِهِمْ، وقِيلَ: ”أُولَئِكَ“ مُخْتَصٌّ بِالإشارَةِ إلى طالِبِي الحَسَنَتَيْنِ فَقَطْ، ولَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهَ. وذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإزائِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعَدَ عَلى كَسْبِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ في صِيغَةِ الإخْبارِ المُجَرَّدِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولَئِكَ الدّاعُونَ بِالحَسَنَتَيْنِ لَهم نَصِيبٌ مِن جِنْسِ ما كَسَبُوا مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، وهو الثَّوابُ الَّذِي هو مَنافِعُ الحَسَنَةِ، أوْ مِن أجْلِ ما كَسَبُوا، كَقَوْلِهِ: ”مِمّا خَطاياهم أُغْرِقُوا“، ثُمَّ قالَ بَعْدَ كَلامٍ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وأنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ نَصِيبًا مِن جِنْسِ ما كَسَبُوا. انْتَهى كَلامُهُ. والأظْهَرُ ما قَدَّمْناهُ مِن أنَّ ”أُولَئِكَ“ إشارَةٌ إلى الفَرِيقَيْنِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾، وهَذا لَيْسَ مِمّا يَخْتَصُّ بِهِ فَرِيقٌ دُونَ فَرِيقٍ، بَلْ هَذا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، والحِسابُ يَعُمُّ مُحاسَبَةَ العالَمِ كُلِّهِمْ، لا مُحاسَبَةَ هَذا الفَرِيقِ الطّالِبِ الحَسَنَتَيْنِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ النَّصِيبَ هُنا مَخْصُوصٌ بِمَن حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ، يَكُونُ الثَّوابُ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَيِّتِ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا، في حَدِيثِ الَّذِي سَألَ هَلْ يَحُجُّ عَنْ أبِيهِ، وكانَ ماتَ ؟ وفي آخِرِهِ، قالَ: فَهَلْ لِي مِن أجْرٍ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قِيلَ: وإذا صَحَّ هَذا فَتَكُونُ الآيَةُ مُنْفَصِلَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَها، مُعَلَّقَةً بِما قَبْلَهُ مِن ذِكْرِ الحَجِّ ومَناسِكِهِ وأحْكامِهِ، انْتَهى. ولَيْسَتْ كَما ذَكَرَ مُنْفَصِلَةً، بَلْ هي مُتَّصِلَةٌ بِما قَبْلَها: لِأنَّ ما قَبْلَها هو في الحَجِّ، وأنَّ انْقِسامَ الفَرِيقَيْنِ هو في الحَجِّ، فَمِنهم مَن كانَ يَسْألُ اللَّهَ الدُّنْيا فَقَطْ، ومِنهم مَن يَسْألُ الدُّنْيا والآخِرَةَ. وحَصَلَ الجَوابُ لِلسّائِلِ عَنْ حَجِّهِ عَنْ أبِيهِ: ألَهُ فِيهِ أجْرٌ ؟ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا﴾، وقَدْ أجابَ ابْنُ عَبّاسٍ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن سَألَهُ أنْ يَكْرِيَ دابَّتَهُ ويَشْرُطُ عَلَيْهِمْ أنْ يَحُجَّ، فَهَلْ يَجْزِي عَنْهُ ؟ وذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا﴾ . ﴿واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾، ظاهِرُهُ الإخْبارُ عَنْهُ تَعالى بِسُرْعَةِ حِسابِهِ، وسُرْعَتُهُ بِانْقِضائِهِ عاجِلًا كَقَصْدِ مُدَّتِهِ، فَرُوِيَ: بِقَدَرِ حَلْبِ شاةٍ، ورُوِيَ بِمِقْدارِ فَواقِ ناقَةٍ، ورُوِيَ بِمِقْدارِ لَمْحَةِ البَصَرِ. أوْ لِكَوْنِهِ لا يَحْتاجُ إلى فِكْرٍ، ولا رَوِيَّةٍ كالعاجِزِ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ. أوْ لِما عَلِمَ ما لِلْمُحاسَبِ وما عَلَيْهِ قَبْلَ حِسابِهِ، قالَهُ الزَّجّاجُ. أوْ لِكَوْنِ حِسابِ العالَمِ كَحِسابِ رَجُلٍ واحِدٍ، ولِقُرْبِ مَجِيءِ الحِسابِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وقِيلَ: كُنِّيَ (p-١٠٧)بِالحِسابِ عَنِ المُجازاةِ عَلى الأعْمالِ إذْ كانَتْ ناشِئَةً عَنْها كَقَوْلِهِ: ﴿ولَمْ أدْرِ ما حِسابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٦]، يَعْنِي ما جَزائِي، وقِيلَ: كُنِّيَ بِالحِسابِ عَنِ العِلْمِ بِمَجارِي الأُمُورِ: لِأنَّ الحِسابَ يُفْضِي إلى العِلْمِ، قالَهُ الزَّجّاجُ أيْضًا. وقِيلَ: عَبَّرَ بِالحِسابِ عَنِ القَبُولِ لِدُعاءِ عِبادِهِ، وقِيلَ: عَبَّرَ بِهِ عَنِ القُدْرَةِ والوَفاءِ، أيْ: لا يُؤَخِّرُ ثَوابَ مُحْسِنٍ ولا عِقابَ مُسِيءٍ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: سَرِيعُ مَجِيءِ يَوْمِ الحِسابِ. فالمَقْصُودُ بِالآيَةِ الإنْذارُ بِسُرْعَةِ يَوْمِ القِيامَةِ. وقِيلَ: سُرْعَةِ الحِسابِ، تَعالى رَحْمَتُهُ وكَثْرَتُها، فَهي لا تُغَبُّ ولا تَنْقَطِعُ. ورُوِيَ ما يُقارِبُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وظاهِرُ سِياقِ هَذا الكَلامِ عُمُومُ الحِسابِ لِلْكافِرِ والمُؤْمِنِ إذْ جاءَ بَعْدَ ما ظاهِرُهُ أنَّهُ لِلطّائِعِينَ، ويَكُونُ حِسابُ الكُفّارِ تَقْرِيعًا وتَوْبِيخًا: لِأنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ في الآخِرَةِ يُجْزى بِها، وهو ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ أدْرِ ما حِسابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٦]، وقالَ الجُمْهُورُ: الكُفّارُ لا يُحاسَبُونَ، قالَ تَعالى: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾ [الكهف: ١٠٥]، ﴿وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣]، وظاهِرُ ثِقَلِ المَوازِينِ وخِفَّتِها، وما تَرَتَّبَ عَلَيْها في الآياتِ الوارِدَةِ في القُرْآنِ شُمُولُ الحَسَناتِ لِلْبَرِّ والفاجِرِ، والمُؤْمِنِ والكافِرِ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الشَّرِيفَةُ: أنَّ الحَجَّ لَهُ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، وجَمَعَها عَلى أشْهُرٍ لِقِلَّتِها، وهي: شَوّالٌ، وذُو القَعْدَةِ، وذُو الحَجَّةِ، بِكَمالِها، عَلى ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الجَمْعِ، ووَصَفَها بِمَعْلُوماتٍ: لِعِلْمِهِمْ بِها. وأخْبَرَ تَعالى أنَّ مَن ألْزَمَ نَفْسَهُ الحَجَّ فِيها فَلا يَرْفُثُ ولا يَفْسُقُ ولا يُجادِلُ، فَنَهاهُ عَنْ مُفْسِدِ الحَجِّ مِمّا كانَ جائِزًا قَبْلَهُ، وما كانَ غَيْرَ جائِزٍ مُطْلَقًا لِيُسَوِّيَ بَيْنَ التَّحْرِيمَيْنِ، وإنْ كانَ أحَدُهُما مُؤَقَّتًا، والآخَرُ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ. ثُمَّ لَمّا نَهى عَنْ هَذِهِ المُفْسِداتِ، أخْبَرَ تَعالى أنَّ ما يَفْعَلُهُ الإنْسانُ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي فَرْضُ الحَجِّ مِنهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، فَهو تَعالى يُثِيبُ عَلَيْهِ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِالتَّزَوُّدِ لِلدّارِ الآخِرَةِ بِأعْمالِ الطّاعاتِ، ودَخَلَ فِيها ما هم مُلْتَبِسُونَ بِهِ مِنَ الحَجِّ، وأخْبَرَ أنَّ خَيْرَ الزّادِ هو ما كانَ وِقايَةً بَيْنِكَ وبَيْنَ النّارِ، ثُمَّ نادى ذَوِي العُقُولِ، الَّذِينَ هم أهْلُ الخِطابِ، وأمَرَهم بِاتِّقاءِ عِقابِهِ: لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ المَناهِي، فَناسَبَ أنْ يَنْتَهُوا عَلى اتِّقاءِ عَذابِ اللَّهِ بِالمُخالَفَةِ فِيما نَهى عَنْهُ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا كانَ الحاجُّ مَشْغُولًا بِهَذِهِ العِبادَةِ الشّاقَّةِ، مُلْتَبِسًا بِأقْوالِها وأفْعالِها، كانَ مِمّا يُتَوَهَّمُ أنَّها لا يُمْزَجُ وقْتُها بِشَيْءٍ غَيْرِ أفْعالِها، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ لا حَرَجَ عَلى مَنِ ابْتَغى فِيها فَضْلًا بِتِجارَةٍ، أوْ إجارَةٍ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْمالِ المُعِينَةِ عَلى كُلَفِ الدُّنْيا، ثُمَّ أمَرَهم تَعالى بِذِكْرِهِ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ إذا أفاضُوا مِن عَرَفاتٍ، لِيُرْجِعَهم بِذِكْرِهِ إلى الِاشْتِغالِ بِأفْعالِ الحَجِّ، لِئَلّا يَسْتَغْرِقَهُمُ التَّعَلُّقُ بِالتِّجاراتِ والمَكاسِبِ، ثُمَّ أمَرَهم بِالذِّكْرِ عَلى هِدايَتِهِ الَّتِي مَنَحَها إيّاهم، وقَدْ كانُوا قَبْلُ في ضَلالٍ، فاصْطَفاهم لِلْهِدايَةِ، ثُمَّ أمَرَهم بِأنْ يُفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ، وهي الَّتِي جَرَتْ عادَةُ النّاسِ بِأنْ يُفِيضُوا مِنها، وذَلِكَ المَكانُ هو عَرَفَةُ، والمَعْنى أنَّهم أُمِرُوا أنْ يَكُونُوا تِلْكَ الإفاضَةَ السّابِقَةَ مِن عَرَفَةَ لا مِن غَيْرِها، كَما ذُكِرَ في سَبَبِ النُّزُولِ. وأتى ”بِثُمَّ“ لا لِتَرْتِيبٍ في الزَّمانِ، بَلْ لِلتَّرْتِيبِ في الذِّكْرِ، لا في الوُقُوعِ. ثُمَّ أمَرَ بِالِاسْتِغْفارِ، ثُمَّ أمَرَ بَعْدَ أداءِ المَناسِكِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، ولَمّا كانَ الإنْسانُ كَثِيرًا ما يَذْكُرُ أباهُ ويُثْنِي عَلَيْهِ بِما أسْلَفَهُ مِن كَرِيمِ المَآثِرِ، وكانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ الغايَةَ في الذِّكْرِ، مَثَّلَ ذِكْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ، ثُمَّ أكَّدَ مَطْلُوبِيَّةَ المُبالَغَةِ في الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ: ”أوْ أشَدَّ“ لِيُفْهَمَ أنَّ ما مَثَّلَ بِهِ أوَّلًا لَيْسَ إلّا عَلى طَرِيقِ ضَرْبِ المَثَلِ لَهم. والمَقْصُودُ أنْ لا يَغْفُلُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى طَرْفَةَ عَيْنٍ. ثُمَّ قَسَّمَ مَقْصِدَ الحاجِّ إلى دُنْيَوِيٍّ صِرْفٍ، وإلى دُنْيَوِيٍّ وأُخْرَوِيٍّ، وبَيَّنَ ذَلِكَ في سُؤالِهِ إيّاهُ، وذَكَرَ أنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلى دُنْياهُ، فَإنَّهُ لا حَظَّ لَهُ في الآخِرَةِ، ثُمَّ أشارَ إلى مَجْمُوعِ الصِّنْفَيْنِ بِأنَّ كُلًّا مِنهُما لَهُ مِمّا كَسَبَ مِن أعْمالٍ حَظٌّ، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وأنَّهُ تَعالى حِسابُهُ سَرِيعٌ، فَيُجازِي العَبْدَ بِما كَسَبَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب