الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ قال أبو جعفر: يعني بقول جل ثناؤه:" فإذا قضيتم مناسككم "، فإذا فرَغتم من حَجكم فذبحتم نَسائككم، فاذكروا الله [[انظر تفسير"قضى" فيما سلف ٢: ٥٤٢، ٥٤٣.]] * * * يقال منه:"نسك الرجل يَنسُك نُسْكًا ونُسُكًا ونسيكة ومَنْسَكًا"، إذا ذبح نُسُكه، و"المنسِك" اسم مثل"المشرق والمغرب"، فأما"النُّسْك" في الدين، فإنه يقال منه:" ما كان الرجل نَاسكًا، ولقد نَسَك، ونَسُك نُسْكًا نُسُكًا ونَساكة"، [[انظر تفسير"نسك" فيما سلف من ٣: ٧٥- ٨٠/ ثم هذا الجزء وفي النسك الذي هو الذبح. مصادر لم تذكر في كتب اللغة.]] وذلك إذا تقرَّأ. [[تقرأ الرجل: تفقه وتنسك فهو قارئ ومتقرى وقراء (بضم القاف وتشديد الراء) .]] * * * وبمثل الذي قلنا في معنى"المناسك" في هذا الموضع قال مجاهد: ٣٨٤٥ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضَيتم مَناسككم"، قال: إهراقة الدماء. [["إهراقة" مصدر هراق الدم يهريقه، هراقة وإهراقة وهو سفحه وصبه.]] ٣٨٤٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * وأما قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدَّ ذكرًا"، فإنّ أهل التأويل اختلفوا في صفة" ذكر القوم آباءهم"، الذين أمرَهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكرًا. فقال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظيرَ ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم. * ذكر من قال ذلك: ٣٨٤٧ - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن القاسم بن عثمان، عن أنس في هذه الآية، قال: كانوا يذكرون آباءهم في الحج، فيقول بعضهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم: كان أبي جزَّ نواصي بني فلان!. ٣٨٤٨ - حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. عن عبد العزيز، عن مجاهد قال: كانوا يقولون: كان آباؤنا ينحرون الجُزُر، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية:" أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا": ٣٨٤٩ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كان أهل الجاهلية يذكرون فَعَال آبائهم. ٣٨٥٠ - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، قال: كان أهل الجاهلية إذا فَرغوا من الحج قاموا عند البيت فيذكرون آباءَهم وأيامهم: كان أبي يُطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم"= قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل. ٣٨٥١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني حجاج عمن حدثه، عن مجاهد في قوله:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكهم وقفوا عند الجَمرة فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفَعال آبائهم، فنزلت هذه الآية. ٣٨٥٢ - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وَقفوا عند الجمرة، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم. قال: فنزلت هذه الآية. ٣٨٥٣ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: تفاخرت العرب بَينها بفعل آبائها يوم النحر حين فَرَغوا فأمروا بذكر الله مكانَ ذلك. ٣٨٥٤ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. ٣٨٥٥ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنىً قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفَعالَهم به، يخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا. ٣٨٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا، وذكروا آباءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكرَ الله، يذكرونه كذكرهم آبائهم، أو أشد ذكرًا. ٣٨٥٧ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وَقفوا بعرفة، فنزلت هذه الآية. ٣٨٥٨ - حدثنا القاسم، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول ذلك يومَ النحر، حين ينحرون. قال: قال" فاذكروا الله كذكركم آبائكم" قال: كانت العرب يوم النحر حين يفرُغون يَتفاخرون بفَعَال آبائها، فأمروا بذكر الله عز وجل مكانَ ذلك: * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ. * ذكر من قال ذلك: ٣٨٥٩ - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبي رواد، عن عطاء أنه قال في هذه الآية:" كذكركم آباءَكم" قال: هو قول الصبيّ: يا أباه!. ٣٨٦٠ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" يعني بالذكر، ذكر الأبناء الآباء. ٣٨٦١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء:" كذكركم آباءكم": أبَهْ! أمَّهْ!. ٣٨٦٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: كالصبي، يَلهج بأبيه وأمه. ٣٨٦٣ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرًا"، يقول: كذكر الأبناء الآباءَ أو أشد ذكرًا. ٣٨٦٤ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، يقول: كما يذكر الأبناء الآباء. ٣٨٦٥ - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" كذكركم آباءكم" يعني ذكر الأبناء الآباء. * * * وقال آخرون: بل قيل لهم:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم، لم يذكروا غير آبائهم، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم. * ذكر من قال ذلك: ٣٨٦٦ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كانت العرب إذا قَضت مناسكها، وأقاموا بمنى، يقومُ الرجل فيسأل الله ويقول:"اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عَظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيتَ أبي!! "، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن يُعطى في الدنيا. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك"الذكر" جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [سورة البقرة:٢٠٣] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه. وإنما قلنا:"الذكر" الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا":"جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا"، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى. فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه= كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا قَضيتم مناسككم أيها المؤمنون فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا، وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصًا ولطلب مرضاته، وقولوا:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرة حَسنة وقنا عذاب النار"، ولا تكونوا كمن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظَّ لهم في ثواب الله، ولا نصيبَ لهم في جناته وكريم ما أعدَّ لأوليائه، كما قال في ذلك أهل التأويل. ٣٨٦٧ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فمن الناس من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا"، هب لنا غنمًا! هب لنا إبلا! " وماله في الآخرة من خلاق". ٣٨٦٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: كانوا في الجاهلية يقولون:" هبْ لنا إبلا! "، ثم ذكر مثله. ٣٨٦٩ - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش في قوله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ومَا له في الآخرة من خَلاق"، قال: كانوا = يَعني أهلَ الجاهلية = يقفون - يعني بعد قضاء مناسكهم - فيقولون:" اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا غنمًا! "، فأنزل الله هذه الآية:" فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" = قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل. ٣٨٧٠ - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة فيدعون فيقولون:" اللهم اسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، ورُدَّنا صَالحين إلى صالحين!. ٣٨٧١ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا" نَصرًا ورزقًا، ولا يسألون لآخرتهم شيئًا. ٣٨٧٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٣٨٧٣ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا، لها عملَ، ولها نَصِب. ٣٨٧٤ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر اللهَ الرجلُ منهم، وإنما يذكر أباه، ويسأل أن يُعطَي في الدنيا. ٣٨٧٥ - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال كانوا أصنافًا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ: رسول الله ﷺ، وأهلُ الكفر، وأهلُ النفاق. فمن الناس من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق" إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة، ولا يؤمنون بها= ومنهم من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، الآية= قال: والصنف الثالث:" ومنَ الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" الآية. وأما معنى"الخلاق" فقد بيناه في غير هذا الموضع، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف ٢: ٤٥٢- ٤٥٤.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب