الباحث القرآني

[بَعْضُ الأغْلاطِ الَّتِي وقَعَ فِيها أهْلُ الألْفاظِ وأهْلُ المَعانِي] قالَ اللَّهُ - تَعالى -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ فَلَفْظُ الخَمْرِ عامٌّ في كُلِّ مُسْكِرٍ، فَإخْراجُ بَعْضِ الأشْرِبَةِ المُسْكِرَةِ عَنْ شُمُولِ اسْمِ الخَمْرِ لَها تَقْصِيرٌ بِهِ وهَضْمٌ لِعُمُومِهِ، بَلْ الحَقُّ ما قالَهُ صاحِبُ الشَّرْعِ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وإخْراجُ بَعْضِ أنْواعِ المَيْسِرِ عَنْ شُمُولِ اسْمِهِ لَها تَقْصِيرٌ أيْضًا بِهِ، وهَضْمٌ لِمَعْناهُ، فَما الَّذِي جَعَلَ النَّرْدَ الخالِيَ عَنْ العِوَضِ مِن المَيْسِرِ وأخْرَجَ الشِّطْرَنْجَ عَنْهُ، مَعَ أنَّهُ مِن أظْهَرْ أنْواعِ المَيْسِرِ كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِن السَّلَفِ إنّهُ مَيْسِرٌ؟ وقالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ -: هو مَيْسِرُ العَجَمِ. * (فائدة) فعل المَأْمُور مَقْصُود لذاته وترك المنْهِي مَقْصُود لتكميل فعل المَأْمُور فَهو مَنهِيّ عَنهُ لأجل كَونه يخل بِفعل المَأْمُور أو يُضعفهُ وينقصه كَما نبه سُبْحانَهُ على ذَلِك في النَّهْي عَن الخمر والميسر بكونهما يصدان عَن ذكر الله وعَن الصَّلاة فالمنهيات قواطع وموانع صادة عَن فعل المأمورات أو عَن كمالها فالنهي عَنْها من باب المَقْصُود لغيره والأمر بالواجبات من باب المَقْصُود لنَفسِهِ. وقال أيضًا: فعل المأمور مقصود لذاته فهو مشروع شرع المقاصد فإن معرفة الله وتوحيده وعبوديته وحده والإنابة إليه والتوكل عليه وإخلاص العمل له ومحبته والرضا به والقيام في خدمته هو الغاية التي خلق لها الخلق وثبت بها الأمر وذلك أمر مقصود لنفسه والمنهيات إنما نهى عنها لأنها صادة عن ذلك أو شاغلة عنه أو مفوتة لكماله ولذلك كانت درجاتها في النهي بحسب صدها عن المأمور وتعويقها عنه وتفويتها لكماله فهي مقصودة لغيرها والمأمور مقصود لنفسه فلو لم يصد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التواد والتحاب الذي وضعه الله بين عباده لما حرمه وكذلك لو لم يحل بين العبد وبين عقله الذي به يعرف الله ويعبده ويحمده ويمجده ويصلي له ويسجد لما حرمه وكذلك سائر ما حرمه إنما حرمه لأنه يصد عما يحبه ويرضاه ويحول بين العبد وبين إكماله. * [فَصْلٌ: الحِكْمَةُ في إيجابِ الحَدِّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِن الخَمْرِ] وَأمّا قَوْلُهُ: " أوْجَبَ الحَدَّ في القَطْرَةِ الواحِدَةِ مِن الخَمْرِ دُونَ الأرْطالِ الكَثِيرَةِ مِن البَوْلِ " فَهَذا أيْضًا مِن كَمالِ الشَّرِيعَةِ، ومُطابِقَتِها لِلْعُقُولِ والفِطَرِ، وقِيامِها بِالمَصالِحِ؛ فَإنَّ ما جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ في طِباعِ الخَلْقِ النَّفْرَةَ عَنْهُ ومُجانَبَتَهُ اكْتَفى بِذَلِكَ عَنْ الوازِعِ عَنْهُ بِالحَدِّ؛ لِأنَّ الوازِعَ الطَّبِيعِيَّ كافٍ في المَنعِ مِنهُ. وَأمّا ما يَشْتَدُّ تَقاضِي الطِّباعِ لَهُ فَإنَّهُ غَلَّظَ العُقُوبَةَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ شِدَّةِ تَقاضِي الطَّبْعِ لَهُ، وسَدِّ الذَّرِيعَةِ إلَيْهِ مِن قُرْبٍ وبُعْدٍ، وجَعَلَ ما حَوْلَهُ حِمًى، ومَنَعَ مِن قُرْبانِهِ، ولِهَذا عاقَبَ في الزِّنا بِأشْنَعِ القِتْلاتِ، وفي السَّرِقَةِ بِإبانَةِ اليَدِ، وفي الخَمْرِ بِتَوْسِيعِ الجَلْدِ ضَرَبًا بِالسَّوْطِ، ومَنَعَ قَلِيلَ الخَمْرِ وإنْ كانَ لا يُسْكِرُ إذْ قَلِيلُهُ داعٍ إلى كَثِيرِهِ؛ ولِهَذا كانَ مَن أباحَ مِن نَبِيذِ التَّمْرِ المُسْكِرِ القَدْرَ الَّذِي لا يُسْكِرُ خارِجًا عَنْ مَحْضِ القِياسِ والحِكْمَةِ ومُوجِبِ النُّصُوصِ، وأيْضًا فالمَفْسَدَةُ الَّتِي في شُرْبِ الخَمْرِ والضَّرَرِ المُخْتَصِّ والمُتَعَدِّي أضْعافُ الضَّرَرِ والمَفْسَدَةِ الَّتِي في شُرْبِ البَوْلِ وأكْلِ القاذُوراتِ، فَإنَّ ضَرَرَها مُخْتَصٌّ بِمُتَناوِلِها. * (فائدة) إنّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ الخَمْرَ لِما فِيها مِن المَفاسِدِ الكَثِيرَةِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى زَوالِ العَقْلِ، وهَذا لَيْسَ مِمّا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ حَرَّمَ القَطْرَةَ الواحِدَةَ مِنها، وحَرَّمَ إمْساكَها لِلتَّخْلِيلِ ونَجَسِها، لِئَلّا تُتَّخَذَ القَطْرَةُ ذَرِيعَةً إلى الحُسْوَةِ ويُتَّخَذَ إمْساكُها لِلتَّخْلِيلِ ذَرِيعَةً إلى إمْساكِها لِلشُّرْبِ، ثُمَّ بالَغَ في سَدِّ الذَّرِيعَةِ فَنَهى عَنْ الخَلِيطَيْنِ، وعَنْ شُرْبِ العَصِيرِ بَعْدَ ثَلاثٍ، وعَنْ الِانْتِباذِ في الأوْعِيَةِ الَّتِي قَدْ يَتَخَمَّرُ النَّبِيذُ فِيها ولا يَعْلَمُ بِهِ، حَسْمًا لِمادَّةِ قُرْبانِ المُسْكِرِ، وقَدْ صَرَّحَ ﷺ بِالعِلَّةِ في تَحْرِيمِ القَلِيلِ فَقالَ: «لَوْ رَخَّصْت لَكم في هَذِهِ لَأوْشَكَ أنْ تَجْعَلُوها مِثْلَ هَذِهِ». * (فائدة) اعترض نفاة المعاني والحكم على مثبتيها في الشريعة بأن قالوا الشرع قد فرق بين المتماثلات فأوجب الحد بشرب الخمر، ولم يحد بشرب الدم والبول وأكل العذرة، وهي أخبث من الخمر، وأوجب قطع اليد في سرقه ربع دينار، ومنع قطعها في نهبه ألف دينار، وأوجب الحد في رمي الرجل بالفاحشة، ولم يوجبه في رميه بالكفر، وهو أعظم منه، ولم يرتب على الربا حدا مع كونه من الكبائر، ورتب الحد على شرب الخمر والزنا وهما من الكبائر. فأجاب المثبتون بأن قالوا: هذا مما يدل على اعتبار المعاني والحكم ونصب الشرع بحسب مصالح العباد فإن الشارع ينظر إلى المحرم مفسدته، ثم ينظر إلى وازعه وداعيه، فإذا عظمت مفسدته رتب عليها من العقوبة بحسب تلك المفسدة، ثم إن كان في الطباع التي ركبها الله تعالى في بني آدم وازعا عنه اكتفى بذلك الوازع عن الحد فلم يرتب على شرب البول والدم والقيء وأكل العذرة حدا، لما في طباع الناس من الامتناع عن هذه الأشياء، فلا تكثر مواقعتها بحيث يدعو إلى الزجر بالحد، بخلاف شرب الخمر والزنا والسرقة فإن الباعث عليها قوي فلولا ترتيب الحدود عليها لعمت مفاسدها وعظمت المصيبة بارتكابها، وأما النهبة فلم يرتب عليها حدا إما لأن بواعث الطباع لا تدعو إليها غالبا خوف الفضيحة والاشتهار وسرعة الأخذ. وإما لأن مفسدتها تندفع بإغاثة الناس ومنعهم المنتهب وأخذهم على يده. وأما الربا فلم يرتب عليها حدا فقيل لأنه يقع في الأسواق وفي الملأ، فوكلت إزالته إلى إنكار الناس، بخلاف السرقة والفواحش وشرب الخمر فإنها إنما تقع غالبا سرا فلو وكلت إزالته إلى الناس لم تزل. وأحسن من هذا أن يقال لما كان المرابي إنما يقضي له برأس ماله فقط فإن أخذ الزيادة قضى عليه بردها إلى غريمة وإن لم يأخذها لم يقض له بها كانت مفسدة الربا منتفيه بذلك فإن غريمة لو سأله لم يعطه إلا رأس ماله فحيث رضي بإعطائه الزيادة فقد رضي باستهلاكها وبذلها مجانا والأخذ لها رضي بأكل النار، وأجود من هذين أن يقال ذنب الربا أكبر من أن يطهره الحد فإن المرابي محارب لله ورسوله آكل للجمر والحد إنما شرع طهرة وكفارة والمرابي لا يزول عنه إثم الربا بالحد لأن حرمته أعظم من ذلك فهو كحرمة مفطر رمضان عمدا من غير عذر ومانع الزكاة بخلا وتارك صلاة العصر وتارك الجمعة عمدا فإن الحدود كفارات وطهر فلا تعمل إلا في ذنب يقبل التكفير والطهر ومن هذا عدم إيجاب الحد بأكل أموال اليتامي لأن آكلها قد وجبت له النار فلا يؤثر الحد في إسقاط ما وجب له من النار وكذلك ترك الصلاة هو أعظم من أن يرتب عليه حد ونظير هذا اليمين الغموس هي أعظم إثما من أن يكون فيها حد أو كفارة. وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين ألبتة ولا تسوى بين مختلفين ولا تحرم شيئا لمفسدة وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته أو رجحته عليه ولا تبيح شيئا لمصلحة وتحرم ما مصلحته تساويه لما إباحته ألبتة، ولا يوجد فيما جاء به الرسول شيء من ذلك ألبتة، ولا يلزمه الأقوال المستندة إلى آراء الناس وظنونهم واجتهاداتهم. ففي تلك من التفريق بين المتماثلات، والجمع بين المختلفات وإباحة الشيء وتحريم نظره وأمثال ذلك ما فيها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب