الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: ٩٠].
تقدَّمَ الكلامُ على حُكْمِ الخمرِ والمَيْسِرِ في سورةِ البقرةِ عندَ قولِ اللهِ تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾ الآيةَ [البقرة: ٢١٩]، وهذه الآيةُ أولُ آيةٍ صريحةٍ في تحريمِ الخمرِ، ولا خلافَ أنّها أصرَحُ مِن آيةِ البقرةِ السابقةِ وآيةِ النِّساءِ: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣]، ورَوى ابنُ جريرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: «لمّا نزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾، فكَرِهَها قومٌ، لقولِهِ: ﴿فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ﴾، وشَرِبَها قومٌ، لقولِهِ: ﴿ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩]، حتى نزَلَتْ: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣]، قال: فكانوا يَدَعُونَها في حينِ الصلاةِ، ويَشرَبونَها في غيرِ حينِ الصلاةِ، حتى نزلَتْ: ﴿إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ﴾، فقال عمرُ: ضَيْعَةً لَكِ! اليَوْمَ قُرِنْتِ بِالمَيْسِرِ»[[«تفسير الطبري» (٨ /٦٨١).]].
وقولُه تعالى: ﴿والأَنْصابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ﴾: تقدَّمَ الكلامُ على الأَزْلامِ في أولِ المائدةِ في قولِهِ: ﴿وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ﴾ [٣]، وتقدَّمَ في آلِ عِمْرانَ التفريقُ بينَ الاستِقسامِ بالأزلامِ وبينَ القُرْعةِ عندَ قولِ اللهِ تعالى: ﴿إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
نوعُ نجاسةِ الخمرِ:
وقولُه: ﴿رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾، فيه إشارةٌ إلى أنّ نجاسةَ الخمرِ في معناها، وهو العملُ، لا في عَيْنِها، ولذا قال: ﴿مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾، واللهُ يُطلِقُ الرِّجْسَ على ما خَبُثَ معناهُ وعملُهُ، لا على ما نَجِسَتْ عينُهُ، ومِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: ١٢٥]، ونحوُهُ قولُهُ: ﴿ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: ١٠٠]، وقولُهُ تعالى: ﴿قالَ قَدْ وقَعَ عَلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ﴾ [الأعراف: ٧١]، وقولُهُ تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ [التوبة: ٩٥].
ولم يَدُلَّ دليلٌ على تحريمِ مماسَّةِ الكافرِ والمُنافِقِ مع تسميةِ اللهِ له رِجْسًا، وإنّما أراد أفعالَهُمْ، ولذا يقولُ تعالى: ﴿وأَمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥]، يعني: خَبَثًا وشرًّا إلى خَبَثِهم وشرِّهم، قد بيَّنَ اللهُ أنّه يُريدُ رفعَ الرِّجْسِ مِن بيانِ أحكامِه، ومنها: الحجابُ، وقَرارُ أمَّهاتِ المؤمِنينَ في بُيُوتِهنَّ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، كما في الأحزابِ، قال: ﴿إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٣٣]، فالرِّجْسُ هنا هو خَبَثُ المعاصي ودَنَسُها، والطهارةُ هي طهارةُ الإيمانِ والطاعةِ، ويعضُدُ ذلك: أنّ اللهَ قَرَنَ بالخمرِ ما لا كلامَ في عدمِ نجاسةِ عَيْنِه، وهي الأَنْصابُ والأَزْلامُ، وقد بَيَّنَ اللهُ أنّ الأوثانَ رِجْسٌ في موضعٍ آخَرَ مِن غيرِ ذِكْرِ الخمرِ، كما في قولِهِ في الحجِّ: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠].
وقد صحَّ عن الصحابةِ رضي الله عنهم: أنّهم أراقُوا الخمرَ في مَجالِسِهِمْ لمّا بلَغَهم تحريمُها، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كُنْتُ قائِمًا عَلى الحَيِّ أسْقِيهِمْ، عُمُومَتِي وأَنا أصْغَرُهُمْ، الفَضِيخَ، فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ، فَقالَ: اكْفِئْها، فَكَفَأْنا»[[أخرجه البخاري (٥٦٢٢) (٧ /١١١)، ومسلم (١٩٨٠) (٣ /١٥٧١).]].
وفي لفظٍ في «الصحيحَيْنِ»، قال أنسٌ: «فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ»[[أخرجه البخاري (٢٤٦٤) (٣ /١٣٢)، ومسلم (١٩٨٠) (٣ /١٥٧٠).]].
ولو كانتْ نَجِسَةً عينًا، لَما أراقُوها في الطُّرُقاتِ.
وأيضًا: لم يأمُرِ النبيُّ ﷺ أحدًا مِن الصحابةِ بغَسْلِ أوانِيهِم منها، ولا تنظيفِ الأرضِ مِن أثرِها، كما أمَرَ بإراقةِ ذَنُوبِ الماءِ على بَوْلِ الأَعرابيِّ في المسجدِ، وكما نضَحَ بَوْلَ الغُلامِ، وغسَلَ بولَ الجاريةِ، وقد ذهَبَ إلى طهارةِ عَيْنِ الخمرِ ونجاسةِ عملِها شربًا وبيعًا وصنعًا: عامَّةُ الصحابةِ والتابِعينَ في ظاهرِ عملِهم، وهو قولُ اللَّيْثِ وربيعةَ، وقال به المُزَنيُّ وغيرُه.
وقد فسَّرَ ابنُ عبّاسٍ الرِّجْسَ في هذه الآيةِ بالسَّخَطِ مِن اللهِ، وفسَّرَه عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ بالشرِّ[[«تفسير الطبري» (٨ /٦٥٦).]].
ويعضُدُ أنّ المرادَ بالرِّجْسِ النجاسةُ المعنويَّةُ: أنّ اللهَ قرَنَ بالخمرِ مِن المحسوساتِ ما لم يَقُلْ أحدٌ مِن السلفِ بنجاسةِ عينِها، وهي (الأنصابُ والأزلامُ)، فيجوزُ تكسيرُ الأنصابِ والانتفاعُ بعينِها سقفًا للبيوتِ وأعتابًا لها، وجعلُها أريكةً وسريرًا، كما يجوزُ الاستفادةُ مِن أقْداحِ الأزلامِ بجعلِها أوانيَ للشُّرْبِ أو لِسَقْيِ الدوابِّ والطيورِ أو غيرِ ذلك، ولو كانتْ نجسةً بعينِها، لَوَجَبَ رميُها، للتنجُّسِ بمسِّها.
والرِّجْسُ والنَّجَسُ لفظانِ يُطلَقانِ على النجاسةِ الحسيَّةِ والمعنويَّةِ، والسياقُ يُبيِّنُ الحُكْمَ، فأمّا الرِّجْسُ، فتقدَّمَ، وأمّا النجاسةُ الحسيَّةُ، فمعلومةٌ مستفيضةٌ، وأمّا المعنويَّةُ، فمنه قولُهُ تعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨].
معنى الخمرِ:
والخمرُ: ما أُعِدَّ للسُّكْرِ، وأمّا وجودُ مادَّتِهِ ممّا لم يُصنَعْ للشُّرْبِ وليس مهيَّأً له إلا بإضافةِ غيرِهِ إليه، فلا يُعَدُّ خمرًا يحرُمُ اقتناؤُه، وهو كاقتِناءِ العِنَبِ والتَّمْرِ والدُّبّاءِ الذي لم يَتخمَّرْ، ومِثلُهُ الأطيابُ الكحوليَّةُ، فما كان منها غيرَ مُعَدٍّ للشُّرْبِ على صورتِهِ الحاليَّةِ، فليس بخمرٍ ولو وُجِدَ في تحليلِهِ كحول، لأنّه في صورتِهِ غيرُ خمرٍ، إذْ لو شَرِبَهُ أحدٌ على هيئتِهِ تلك، لمات أو مَرِضَ بسُمٍّ ونحوِ ذلك، ولأنّه لا يكونُ خمرًا يُشرَبُ إلاَّ بإضافةِ غيرِهِ إليه.
وما كان مِن العطورِ كحولًا يُشرَبُ في صورتِهِ التي يُباعُ عليها بلا حاجةٍ لإضافةِ مادَّةٍ، وإنّما يُسكِرُ بنفسِهِ عادةً: فيحرُمُ اقتناؤُه أصلًا ولو كان طاهِرًا في ذاتِه، لأنّ اللهَ أمَرَ بالبُعْدِ عنه، فقال: ﴿فاجْتَنِبُوهُ﴾، وأمّا العطورُ التي تحتاجُ إلى تركيبٍ وإضافةٍ مع غيرِها لتُسكِرَ، فليستْ خمرًا، ولا يحرُمُ اقتناؤُها للتعطُّرِ وغيرِ ذلك.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق