الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ﴾ الآيَةَ.
يُفْهَمُ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ الخَمْرَ نَجِسَةُ العَيْنِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ إنَّها: رِجْسٌ، والرِّجْسُ في كَلامِ العَرَبِ كُلُّ مُسْتَقْذَرٍ تَعافُّهُ النَّفْسُ.
وَقِيلَ: إنَّ أصْلَهُ مِنَ الرَّكْسِ، وهو العُذْرَةُ والنَّتْنُ. قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ويَدُلُّ لِهَذا مَفْهُومُ المُخالَفَةِ في قَوْلِهِ تَعالى في شَرابِ أهْلِ الجَنَّةِ: ﴿وَسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١]؛ لِأنَّ وصْفَهُ لِشَرابِ أهْلِ الجَنَّةِ بِأنَّهُ طَهُورٌ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ خَمْرَ الدُّنْيا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، ومِمّا يُؤَيِّدُ هَذا أنَّ كُلَّ الأوْصافِ الَّتِي مَدَحَ بِها تَعالى خَمْرَ الآخِرَةِ مَنفِيَّةٌ عَنْ خَمْرِ الدُّنْيا، كَقَوْلِهِ: ﴿لا فِيها غَوْلٌ ولا هم عَنْها يُنْزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٧]، وكَقَوْلِهِ: ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ولا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة: ١٩]، بِخِلافِ خَمْرِ الدُّنْيا فَفِيها غَوْلٌ يَغْتالُ العُقُولَ (p-٤٢٧)وَأهْلُها يُصَدَّعُونَ، أيْ يُصِيبُهُمُ الصُّداعُ الَّذِي هو وجَعُ الرَّأْسِ بِسَبَبِها، وقَوْلُهُ: لا يُنْزَفُونَ، عَلى قِراءَةِ فَتْحِ الزّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَمَعْناهُ: أنَّهم لا يَسْكَرُونَ، والنَّزِيفُ السَّكْرانُ، ومِنهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: [ الطَّوِيلُ ]
؎نَزِيفٌ تَرى رَدْعَ العَبِيرِ يُجِيبُها كَما ضَرَّجَ الضّارِي النَّزِيفَ المُكْلَما
يَعْنِي أنَّها في ثِقَلِ حَرَكَتِها كالسَّكْرانِ، وأنَّ حُمْرَةَ العَبِيرِ الَّذِي هو الطِّيبُ في جَيْبِها كَحُمْرَةِ الدَّمِ عَلى الطَّرِيدِ الَّذِي ضَرَّجَهُ الجَوارِحُ بِدَمِهِ، فَأصابَهُ نَزِيفُ الدَّمِ مِن جُرْحِ الجَوارِحِ لَهُ، ومِنهُ أيْضًا قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: [ المُتَقارِبُ ]
؎وَإذْ هي تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيفِ ∗∗∗ يَصْرَعُهُ بِالكَثِيبِ البُهُرْ
وَقَوْلُهُ أيْضًا: [ الطَّوِيلُ ]
؎نَزِيفٌ إذا قامَتْ لِوَجْهٍ تَمايَلَتْ ∗∗∗ تُراشِي الفُؤادَ الرَّخْصَ ألّا تَخْتَرا
وَقَوْلُ ابْنِ أبِي رَبِيعَةَ أوْ جَمِيلٍ: [ الكامِلُ ]
؎فَلَثَمَتْ فاها آخِذًا بِقُرُونِها ∗∗∗ شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ
وَعَلى قِراءَةِ يَنْزِفُونَ بِكَسْرِ الزّايِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، فَفِيهِ وجْهانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَماءِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ مِن أنْزَفَ القَوْمُ إذا حانَ مِنهُمُ النُّزْفُ وهو السُّكْرُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم: أحْصَدَ الزَّرْعُ إذا حانَ حَصادُهُ، وأقْطَفَ العِنَبُ إذا حانَ قِطافُهُ، وهَذا القَوْلُ مَعْناهُ راجِعٌ إلى الأوَّلِ.
والثّانِي: أنَّهُ مِن أنْزَفَ القَوْمُ إذا فَنِيَتْ خُمُورُهم، ومِنهُ قَوْلُ الحُطَيْئَةِ: [ الطَّوِيلُ ]
؎لَعَمْرِي لَئِنْ أنْزَفْتُمُوا أوْ صَحَوْتُمُوا ∗∗∗ لَبِئْسَ النَّدامى أنْتُمْ آلٌ أبْجَرا
وَجَماهِيرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ الخَمْرَ نَجِسَةُ العَيْنِ لِما ذَكَرْنا، وخالَفَ في ذَلِكَ رَبِيعَةُ، واللَّيْثُ، والمُزَنِيُّ صاحِبُ الشّافِعِيِّ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِنَ البَغْدادِيِّينَ والقَرَوِيِّينَ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ القُرْطُبِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“ .
واسْتَدَلُّوا لِطَهارَةِ عَيْنِها بِأنَّ المَذْكُوراتِ مَعَها في الآيَةِ مِن مالِ مَيْسِرٍ، ومالِ قِمارٍ، وأنْصابٍ، وأزْلامٍ لَيْسَتْ نَجِسَةَ العَيْنِ، وإنْ كانَتْ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمالِ.
(p-٤٢٨)وَأُجِيبَ مِن جِهَةِ الجُمْهُورِ بِأنَّ قَوْلَهُ: رِجْسٌ، يَقْتَضِي نَجاسَةَ العَيْنِ في الكُلِّ، فَما أخْرَجَهُ إجْماعٌ، أوْ نَصٌّ خَرَجَ بِذَلِكَ، وما لَمْ يُخْرِجْهُ نَصٌّ ولا إجْماعٌ لَزِمَ الحُكْمُ بِنَجاسَتِهِ؛ لِأنَّ خُرُوجَ بَعْضِ ما تَناوَلَهُ العامُّ بِمُخَصِّصٍ مِنَ المُخَصِّصاتِ، لا يَسْقُطُ الِاحْتِجاجُ بِهِ في الباقِي، كَما هو مُقَرَّرٌ في الأُصُولِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِ صاحِبِ ”مَراقِي السُّعُودِ“: [ الرَّجَزُ ]
؎وَهُوَ حُجَّةٌ لَدى الأكْثَرِ إنْ ∗∗∗ مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيِّنًا يَبِنْ
وَعَلى هَذا، فالمُسْكِرُ الَّذِي عَمَّتِ البَلْوى اليَوْمَ بِالتَّطَيُّبِ بِهِ المَعْرُوفُ في اللِّسانِ الدّارِجِيِّ بِالكُولانْيا نَجَسٌ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ بِهِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى في المُسْكِرِ: فاجْتَنِبُوهُ، يَقْتَضِي الِاجْتِنابَ المُطْلَقَ الَّذِي لا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ مِنَ المُسْكِرِ، وما مَعَهُ في الآيَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، كَما قالَهُ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: لا يَخْفى عَلى مُنْصِفٍ أنَّ التَّضَمُّخَ بِالطِّيبِ المَذْكُورِ، والتَّلَذُّذَ بِرِيحِهِ واسْتَطابَتَهُ، واسْتِحْسانَهُ مَعَ أنَّهُ مُسْكِرٌ، واللَّهُ يُصَرِّحُ في كِتابِهِ بِأنَّ الخَمْرَ رِجْسٌ فِيهِ ما فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أنْ يَتَطَيَّبَ بِما يَسْمَعُ رَبَّهُ يَقُولُ فِيهِ: إنَّهُ رِجْسٌ، كَما هو واضِحٌ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّهُ ﷺ «أمَرَ بِإراقَةِ الخَمْرِ» فَلَوْ كانَتْ فِيها مَنفَعَةٌ أُخْرى لَبَيَّنَها، كَما بَيَّنَ جَوازَ الِانْتِفاعِ بِجُلُودِ المَيْتَةِ، ولَما أراقَها.
واعْلَمْ أنَّ ما اسْتَدَلَّ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الحَدّادِ القَرَوِيُّ عَلى طَهارَةِ عَيْنِ الخَمْرِ بِأنَّ الصَّحابَةَ أراقُوها في طُرُقِ المَدِينَةِ؛ ولَوْ كانَتْ نَجِسَةً لَما فَعَلُوا ذَلِكَ؛ ولَنَهاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، كَما نَهاهم عَنِ التَّخَلِّي في الطُّرُقِ، لا دَلِيلَ لَهُ فِيهِ، فَإنَّها لا تَعُمُّ الطُّرُقَ، بَلْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنها، لِأنَّ المَدِينَةَ كانَتْ واسِعَةً، ولَمْ تَكُنِ الخَمْرُ كَثِيرَةً جِدًّا بِحَيْثُ تَكُونُ نَهَرًا أوْ سَيْلًا في الطُّرُقِ يَعُمُّها كُلَّها، وإنَّما أُرِيقَتْ في مَواضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنها، قالَهُ القُرْطُبِيُّ، وهو ظاهِرٌ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق