الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو النَّوْعُ الثّالِثُ مِنَ الأحْكامِ المَذْكُورَةِ في هَذا المَوْضِعِ، ووَجْهُ اتِّصالِهِ بِما قَبْلَهُ أنَّهُ تَعالى قالَ فِيما تَقَدَّمَ: ﴿لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا﴾ ثُمَّ لَمّا كانَ مِن جُمْلَةِ الأُمُورِ المُسْتَطابَةِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ، لا جَرَمَ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُما غَيْرُ داخِلَيْنِ في المُحَلَّلاتِ، بَلْ في المُحَرَّماتِ. واعْلَمْ أنّا قَدْ ذَكَرْنا في سُورَةِ البَقَرَةِ مَعْنى الخَمْرِ والمَيْسِرِ وذَكَرْنا مَعْنى الأنْصابِ والأزْلامِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾ فَمَن أرادَ الِاسْتِقْصاءَ فَعَلَيْهِ بِهَذِهِ المَواضِعِ. وفِي اشْتِقاقِ لَفْظِ الخَمْرِ وجْهانِ: الأوَّلُ: سُمِّيَتِ الخَمْرُ خَمْرًا لِأنَّها خامَرَتِ العَقْلَ، أيْ خالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ. والثّانِي: قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ، أيْ تَغَيَّرَ رِيحُها، والمَيْسِرُ هو قِمارُهم في الجَزُورِ، والأنْصابُ هي آلِهَتُهُمُ الَّتِي نَصَبُوها يَعْبُدُونَها، والأزْلامُ سِهامٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْها خَيْرٌ وشَرٌّ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ هَذِهِ الأقْسامَ الأرْبَعَةَ بِوَصْفَيْنِ، الأوَّلُ: قَوْلُهُ: (رِجْسٌ) والرِّجْسُ في اللُّغَةِ كُلُّ ما اسْتُقْذِرَ مِن عَمَلٍ، يُقالُ: رَجُسَ الرَّجُلُ رِجْسًا ورَجِسَ يَرْجَسُ: إذا عَمِلَ عَمَلًا قَبِيحًا، وأصْلُهُ مِنَ الرَّجْسِ بِفَتْحِ الرّاءِ، (p-٦٧)وهُوَ شِدَّةُ الصَّوْتِ، يُقالُ: سَحابٌ رَجّاسٌ: إذا كانَ شَدِيدَ الصَّوْتِ بِالرَّعْدِ، فَكانَ الرَّجْسُ هو العَمَلُ الَّذِي يَكُونُ قَوِيَّ الدَّرَجَةِ كامِلَ الرُّتْبَةِ في القُبْحِ. الوَصْفُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ وهَذا أيْضًا مُكَمِّلٌ لِكَوْنِهِ رِجْسًا لِأنَّ الشَّيْطانَ نَجَسٌ خَبِيثٌ لِأنَّهُ كافِرٌ، والكافِرُ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٨] والخَبِيثُ لا يَدْعُو إلّا إلى الخَبِيثِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ [النُّورِ: ٢٦] وأيْضًا كُلُّ ما أُضِيفَ إلى الشَّيْطانِ فالمُرادُ مِن تِلْكَ الإضافَةِ المُبالَغَةُ في كَمالِ قُبْحِهِ. قالَ تَعالى: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ [القَصَصِ: ١٥] ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ هَذِهِ الأرْبَعَةَ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ قالَ: ﴿فاجْتَنِبُوهُ﴾ أيْ كُونُوا جانِبًا مِنهُ، والهاءُ عائِدَةٌ إلى ماذا ؟ فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّها عائِدَةٌ إلى الرِّجْسِ، والرِّجْسٌ واقِعٌ عَلى الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، فَكانَ الأمْرُ بِالِاجْتِنابِ مُتَناوِلًا لِلْكُلِّ. الثّانِي: أنَّها عائِدَةٌ إلى المُضافِ المَحْذُوفِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّما شَأْنُ الخَمْرِ والمَيْسِرِ أوْ تَعاطِيهِما أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب