الباحث القرآني

ولَمّا تَمَّ بَيانُ حالِ المَأْكَلِ؛ وكانَ داعِيَةً إلى المَشْرَبِ؛ احْتِيجَ إلى بَيانِهِ؛ فَبَيَّنَ (تَعالى) المُحَرَّمَ مِنهُ؛ فَعُلِمَ أنَّ ما عَداهُ مَأْذُونٌ في التَّمَتُّعِ بِهِ؛ (p-٢٩١)وذَلِكَ مُحاذٍ في تَحْرِيمِ شَيْءٍ مُقْتَرِنٍ بِاللّازِمِ؛ بَعْدَ إحْلالِ آخَرَ؛ لِما في أوَّلِ السُّورَةِ مِن تَحْرِيمِ المَيْتَةِ؛ وما ذُكِرَ مَعَها بَعْدَ إحْلالِ بَهِيمَةِ الأنْعامِ؛ وما مَعَها؛ فَقالَ (تَعالى) - مُذَكِّرًا لَهم بِما أقَرُّوا بِهِ مِنَ الإيمانِ؛ الَّذِي مَعْناهُ الإذْعانُ -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أيْ: أقَرُّوا بِهِ؛ ونَبَّهَهم عَلى ما يُرِيدُ العَدُوُّ بِهِمْ مِنَ الشَّرِّ؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إنَّما الخَمْرُ﴾؛ وهي كُلُّ ما أسْكَرَ؛ سَواءٌ فِيهِ قَلِيلُهُ؛ وكَثِيرُهُ؛ وأضافَ إلَيْها ما واخاها في الضَّرَرِ دِينًا؛ ودُنْيا؛ وفي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْخِصامِ؛ وكَثْرَةِ اللَّغَطِ المُقْتَضِي لِلْحَلِفِ والإقْسامِ؛ تَأْكِيدًا لِتَحْرِيمِ الخَمْرِ؛ بِالتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الكُلَّ مِن أفْعالِ الجاهِلِيَّةِ؛ فَلا فارِقَ بَيْنَ شارِبِها؛ والذّابِحِ عَلى النُّصْبِ؛ والمُعْتَمِدِ عَلى الأزْلامِ؛ فَقالَ: ﴿والمَيْسِرُ﴾؛ أيْ: الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في ”البَقَرَةِ“؛ ﴿والأنْصابُ والأزْلامُ﴾؛ المُتَقَدِّمُ أيْضًا ذِكْرُهُما أوَّلَ السُّورَةِ؛ والزَّلْمُ: القِدْحُ لا رِيشَ لَهُ؛ قالَهُ البُخارِيُّ؛ وحِكْمَةُ تَرْتِيبِها هَكَذا أنَّهُ لَمّا كانَتِ الخَمْرُ غايَةً في الحَمْلِ عَلى إتْلافِ المالِ؛ قَرَنَ بِها ما يَلِيها في ذَلِكَ؛ وهو القِمارُ؛ ولَمّا كانَ المَيْسِرُ مَفْسَدَةَ المالِ؛ قَرَنَ بِهِ مَفْسَدَةَ الدِّينِ؛ وهي الأنْصابُ؛ ولَمّا كانَ تَعْظِيمُ الأنْصابِ شِرْكًا جَلِيًّا إنْ عُبِدَتْ؛ وخَفِيًّا إنْ ذُبِحَ عَلَيْها دُونَ عِبادَةٍ؛ قَرَنَ بِها نَوْعًا مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ؛ وهو الِاسْتِقْسامُ بِالأزْلامِ: ثُمَّ أمَرَ بِاجْتِنابِ الكُلِّ؛ إشارَةً وعِبارَةً؛ عَلى أتَمِّ وجْهٍ؛ فَقالَ: ﴿رِجْسٌ﴾؛ أيْ: قَذَرٌ؛ أهْلٌ لِأنْ يُبْعَدَ عَنْهُ بِكُلِّ اعْتِبارٍ؛ حَتّى عَنْ ذِكْرِهِ؛ سَواءٌ كانَ عَيْنًا؛ أوْ مَعْنًى؛ وسَواءٌ كانَتِ الرِّجْسِيَّةُ في الحِسِّ؛ أوِ المَعْنى؛ (p-٢٩٢)ووَحَّدَ الخَبَرَ لِلنَّصِّ عَلى الخَمْرِ؛ والإعْلامِ بِأنَّ أخْبارَ الثَّلاثَةِ حُذِفَتْ؛ وقُدِّرَتْ؛ لِأنَّها أهْلٌ لِأنْ يُقالُ في كُلٍّ واحِدَةٍ مِنها عَلى حِدَتِها كَذَلِكَ؛ ولا يَكْفِي عَنْها خَبَرٌ واحِدٌ؛ عَلى سَبِيلِ الجَمْعِ؛ ثُمَّ زادَ في التَّنْفِيرِ عَنْها؛ تَأْكِيدًا لِرِجْسِيَّتِها؛ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾؛ أيْ: المُحْتَرِقِ؛ البَعِيدِ؛ ثُمَّ صَرَّحَ بِما اقْتَضاهُ السِّياقُ مِنَ الِاجْتِنابِ؛ فَقالَ: ﴿فاجْتَنِبُوهُ﴾؛ أيْ: تَعَمَّدُوا أنْ تَكُونُوا عَنْهُ في جانِبٍ آخَرَ؛ غَيْرِ جانِبِهِ؛ وأفْرَدَ لِما تَقَدَّمَ مِنَ الحِكَمِ؛ ثُمَّ عَلَّلَ بِما يُفْهَمُ أنَّهُ لا فَوْزَ بِشَيْءٍ مِنَ المَطالِبِ مَعَ مُباشَرَتِها؛ فَقالَ: ﴿لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾؛ أيْ: تَظْفَرُونَ بِجَمِيعِ مَطالِبِكُمْ؛ رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - قالَ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الخَمْرُ وما بِالمَدِينَةِ مِنها شَيْءٌ؛ وفي رِوايَةٍ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وإنَّ بِالمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لِخَمْسَةُ أشْرِبَةٍ؛ ما فِيها شَرابُ العِنَبِ؛ وفي رِوايَةٍ عَنْهُ: سَمِعْتُ عُمَرَ؛ عَلى مِنبَرِ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: ”أمّا بَعْدُ؛ أيُّها النّاسُ؛ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ؛ وهي مِن خَمْسَةٍ: مِنَ العِنَبِ - وفي رِوايَةٍ: مِنَ الزَّبِيبِ -؛ والتَّمْرِ؛ والعَسَلِ؛ والحِنْطَةِ؛ والشَّعِيرِ؛ والخَمْرُ ما خامَرَ العَقْلَ“؛ وعَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: ما كانَ لَنا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكم هَذا؛ وإنِّي لِقائِمٌ أسْقِي أبا طَلْحَةَ؛ وفُلانًا وفُلانًا؛ إذْ جاءَ رَجُلٌ فَقالَ: (p-٢٩٣)حُرِّمَتِ الخَمْرُ؛ قالُوا: أهْرِقْ هَذِهِ القِلالَ يا أنَسُ؛ فَما سَألُوا عَنْها؛ ولا راجَعُوها بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ؛ وفي رِوايَةٍ عَنْهُ: حُرِّمَتِ عَلَيْنا الخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وما نَجِدُ خَمْرَ الأعْنابِ إلّا قَلِيلًا؛ وعامَّةُ خَمْرِنا البُسْرُ والتَّمْرُ؛ قالَ الأصْبَهانِيُّ: وذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ ”الأحْزابِ“؛ بِأيّامٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب