الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكم عن ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصَلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ ﴿وَأطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَسُولَ واحْذَرُوا فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنَّما عَلى رَسُولِنا البَلاغُ المُبِينُ﴾ اَلْخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا؛ لِأنَّ هَذِهِ الأشْياءَ شَهَواتٌ؛ وعاداتٌ قَدْ تُلُبِّسَ بِها في الجاهِلِيَّةِ؛ وغَلَبَتْ عَلى النُفُوسِ؛ فَكانَ بَقِيَ مِنها في نُفُوسٍ كَثِيرَةٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ فَأمّا الخَمْرُ فَكانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ؛ وأمّا المَيْسِرُ فَفِيهِ قِمارٌ؛ ولَذَّةٌ لِلْفارِغِ مِنَ النُفُوسِ؛ ونَفْعٌ أيْضًا بِوَجْهٍ ما؛ وأمّا الأنْصابُ فَهي حِجارَةٌ يُذَكُّونَ عِنْدَها لِفَضْلٍ يَعْتَقِدُونَهُ فِيها؛ وقِيلَ: هي الأصْنامُ المَعْبُودَةُ؛ كانُوا يَذْبَحُونَ لَها؛ وعِنْدَها؛ في الجاهِلِيَّةِ؛ فَإنْ كانَتِ المُرادَةُ في هَذِهِ الآيَةِ الحِجارَةَ الَّتِي يُذْبَحُ عِنْدَها فَقَطْ؛ فَذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ في نَفْسِ ضَعَفَةِ المُؤْمِنِينَ شَيْءٌ مِن تَعْظِيمِ تِلْكَ الحِجارَةِ؛ وهَذا كَما قالَتِ امْرَأةُ الطُفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَوْسِيِّ لِزَوْجِها: أتَخافُ عَلى الصِبْيَةِ مِن ذِي الشَرى شَيْئًا؟ و"ذُو الشَرى" صَنَمٌ لِدَوْسٍ؛ وإنْ كانَتِ المُرادَةُ في هَذِهِ الآيَةِ الأصْنامَ فَإنَّما قُرِنَتْ بِهَذِهِ الأُمُورِ لِيَبِينَ النَقْصُ في هَذِهِ إذْ تُقْرَنُ بِالأصْنامِ؛ ولا يُتَأوَّلُ أنَّهُ بَقِيَ في نَفْسِ مُؤْمِنٍ شَيْءٌ مِن تَعْظِيمِ الأصْنامِ؛ والتَلَبُّسِ بِها؛ حَتّى يُقالَ لَهُ: اِجْتَنِبْهُ. وأمّا الأزْلامُ فَهي الثَلاثَةُ الَّتِي كانَ أكْثَرُ الناسِ يَتَّخِذُونَها؛ في أحَدِها "لا"؛ وفي الآخَرِ "نَعَمْ"؛ والآخَرُ غُفْلٌ؛ وهي الَّتِي حَبَسَها سُراقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ؛ حِينَ اتَّبَعَ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في وقْتِ الهِجْرَةِ؛ فَكانُوا يُعَظِّمُونَها؛ وبَقِيَ مِنها في بَعْضِ النُفُوسِ شَيْءٌ؛ ومِن هَذا القَبِيلِ هَوى الزَجْرِ بِالطَيْرِ؛ وأخْذُ الفَأْلِ مِنها في الكُتُبِ؛ ونَحْوُهُ مِمّا يَصْنَعُهُ الناسُ اليَوْمَ؛ وقَدْ يُقالُ (p-٢٤٧)لِسِهامِ المَيْسِرِ "أزْلامٌ"؛ والزَلْمُ: اَلسَّهْمُ؛ وكانَ مِنَ الأزْلامِ أيْضًا ما يَكُونُ عِنْدَ الكُهّانِ؛ وكانَ مِنها سِهامٌ عِنْدَ الأصْنامِ؛ وهي الَّتِي ضُرِبَ بِها عَلى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؛ أبِي النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وكانَ عِنْدَ قُرَيْشٍ في الكَعْبَةِ أزْلامٌ؛ فِيها أحْكامٌ ذَكَرَها ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ؛ فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّ هَذِهِ الأشْياءَ رِجْسٌ؛ قالَ ابْنُ زَيْدٍ: اَلرِّجْسُ: اَلشَّرُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: كُلُّ مَكْرُوهٍ ذَمِيمٌ؛ وقَدْ يُقالُ لِلْعَذابِ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - في هَذِهِ الآيَةِ -: رِجْسٌ: سَخَطٌ؛ وقَدْ يُقالُ لِلنَّتِنِ؛ ولِلْعُذْرَةِ؛ والأقْذارِ: "رِجْسٌ"؛ والرِجْزُ: اَلْعَذابُ؛ لا غَيْرُ؛ والرِكْسُ: العُذْرَةُ؛ لا غَيْرُ؛ والرِجْسُ يُقالُ لِلْأمْرَيْنِ؛ وأمَرَ اللهُ تَعالى بِاجْتِنابِ هَذِهِ الأُمُورِ؛ واقْتَرَنَتْ بِصِيغَةِ الأمْرِ في قَوْلِهِ: "فاجْتَنِبُوهُ"؛ نُصُوصُ الأحادِيثِ؛ وإجْماعُ الأُمَّةِ؛ فَحَصَلَ الِاجْتِنابُ في رُتْبَةِ التَحْرِيمِ؛ فَبِهَذا حُرِّمَتِ الخَمْرُ بِظاهِرِ القُرْآنِ؛ ونَصِّ الحَدِيثِ؛ وإجْماعِ الأُمَّةِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ لَفْظَةِ الخَمْرِ ومَعْناها؛ وتَفْسِيرُ المَيْسِرِ؛ في سُورَةِ "اَلْبَقَرَةِ"؛ وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الأنْصابِ والِاسْتِقْسامِ بِالأزْلامِ؛ في صَدْرِ هَذِهِ السُورَةِ. واخْتَلَفَ الناسُ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ؛ فَقالَ أبُو مَيْسَرَةَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ «عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - فَإنَّهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عُيُوبَ الخَمْرِ؛ وما يَنْزِلُ بِالناسِ مِن أجْلِها؛ ودَعا إلى اللهِ في تَحْرِيمِها؛ وقالَ: اَللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا فِيها بَيانًا شافِيًا؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ؛ فَقالَ عُمَرُ: اِنْتَهَيْنا؛ انْتَهَيْنا.» وقالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ ؛ عن أبِيهِ سَعْدٍ ؛ قالَ: صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ طَعامًا؛ فَدَعانا؛ فَشَرِبْنا الخَمْرَ؛ حَتّى انْتَشَيْنا؛ فَتَفاخَرَتِ الأنْصارُ وقُرَيْشٌ؛ فَقالَ كُلُّ فَرِيقٍ: نَحْنُ خَيْرٌ مِنكُمْ؛ فَأخَذَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ لَحْيَ جَمَلٍ؛ فَضَرَبَ بِهِ أنْفَ سَعْدٍ ؛ فَفَزَرَهُ؛ فَكانَ سَعْدٌ أفْزَرَ الأنْفِ؛ قالَ سَعْدٌ: فَفِيَّ نَزَلَتِ الآيَةُ إلى آخِرِها. (p-٢٤٨)وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -: نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ في قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الأنْصارِ؛ شَرِبُوا حَتّى إذا ثَمِلُوا عَرْبَدُوا؛ فَلَمّا صَحَوْا جَعَلَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم يَرى الأثَرَ بِوَجْهِهِ؛ ولِحْيَتِهِ؛ وجَسَدِهِ؛ فَيَقُولُ: هَذا فِعْلُ فُلانٍ بِي؛ فَحَدَثَ بَيْنَهم في ذَلِكَ ضَغائِنُ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ في ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وأمْرُ الخَمْرِ إنَّما كانَ بِتَدْرِيجٍ؛ ونَوازِلَ كَثِيرَةٍ؛ مِنها قِصَّةُ حَمْزَةَ ؛ حِينَ جَبَّ الأسْنِمَةَ؛ وقالَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: وهَلْ أنْتُمْ إلّا عَبِيدٌ لِأبِي؟ ومِنها قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - في صَلاةِ المَغْرِبِ: "قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ"؛ فَنَزَلَتْ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣] ؛ اَلْآيَةُ؛ ثُمَّ لَمْ تَزَلِ النَوازِلُ تَحْزِبُ الناسَ بِسَبَبِها؛ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ؛ فَحُرِّمَتْ بِالمَدِينَةِ؛ وخَمْرُ العِنَبِ فِيها قَلِيلٌ؛ إنَّما كانَتْ خَمْرُهم مِن خَمْسَةِ أشْياءَ: مِنَ العَسَلِ؛ ومِنَ التَمْرِ؛ ومِنَ الزَبِيبِ؛ ومِنَ الحِنْطَةِ؛ ومِنَ الشَعِيرِ؛ والأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلى تَحْرِيمِ القَلِيلِ والكَثِيرِ مِن خَمْرِ العِنَبِ الَّتِي لَمْ تَمَسَّها نارٌ؛ ولا خالَطَها شَيْءٌ؛ وأكْثَرُ الأُمَّةِ عَلى أنَّ ما أسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرامٌ؛ ولِأبِي حَنِيفَةَ؛ وبَعْضِ فُقَهاءِ الكُوفَةِ؛ إباحَةُ ما لا يُسْكِرُ مِمّا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ؛ مِن غَيْرِ خَمْرِ العِنَبِ؛ وهو مَذْهَبٌ مَرْدُودٌ؛ وقَدْ خَرَّجَ قَوْمٌ تَحْرِيمَ الخَمْرِ مِن وصْفِها بِـ "رِجْسٌ"؛ وقَدْ وصَفَ تَبارَكَ وتَعالى في آيَةٍ أُخْرى المَيْتَةَ؛ (p-٢٤٩)والدَمَ المَسْفُوحَ؛ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ بِأنَّها رِجْسٌ؛ فَيَجِيءُ مِن ذَلِكَ أنَّ كُلَّ رِجْسٍ حَرامٌ؛ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وفي هَذا نَظَرٌ؛ والِاجْتِنابُ: أنْ يُجْعَلَ الشَيْءُ جانِبًا؛ أو ناحِيَةً. ثُمَّ أعْلَمَ تَبارَكَ وتَعالى عِبادَهُ أنَّ الشَيْطانَ إنَّما يُرِيدُ أنْ تَقَعَ العَداوَةُ بِسَبَبِ الخَمْرِ؛ وما كانَ يُغْرِي عَلَيْها؛ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ؛ وبِسَبَبِ المَيْسِرِ؛ إذْ كانُوا يَتَقامَرُونَ عَلى الأمْوالِ؛ والأهْلِ؛ حَتّى رُبَّما بَقِيَ المَقْمُورُ حَزِينًا؛ فَقِيرًا؛ فَتَحْدُثُ مِن ذَلِكَ ضَغائِنُ؛ وعَداوَةٌ؛ فَإنْ لَمْ يَصِلِ الأمْرُ إلى حَدِّ العَداوَةِ؛ كانَتْ بَغْضاءُ؛ ولا تَحْسُنُ عاقِبَةُ قَوْمٍ مُتَباغِضِينَ؛ ولِذَلِكَ قالَ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "وَلا تَباغَضُوا؛ ولا تَحاسَدُوا؛ ولا تَدابَرُوا؛ وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا"؛» وبِاجْتِماعِ النُفُوسِ؛ والكَلِمَةِ؛ يُحْمى الدِينُ ويُجاهَدُ العَدُوُّ؛ والبَغْضاءُ تَنْقُضُ عُرى الدِينِ؛ وتَهْدِمُ عِمادَ الحِمايَةِ؛ وكَذَلِكَ أيْضًا يُرِيدُ الشَيْطانُ أنْ يَصُدَّ المُؤْمِنِينَ عن ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصَلاةِ؛ ويَشْغَلَهم عنها بِشَهَواتٍ؛ فالخَمْرُ؛ والمَيْسِرُ؛ والقِمارُ؛ كُلُّها مِن أعْظَمِ آلاتِهِ في ذَلِكَ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ ؛ وعِيدٌ في ضِمْنِ التَوْقِيفِ؛ زائِدٌ عَلى مَعْنى "اِنْتَهُوا"؛ ولَمّا كانَ في الكَلامِ مَعْنى "اِنْتَهُوا"؛ حَسُنَ أنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ "وَأطِيعُوا"؛ وكَرَّرَ "وَأطِيعُوا"؛ في ذِكْرِ الرَسُولِ تَأْكِيدًا؛ ثُمَّ حَذَّرَ تَعالى مِن مُخالَفَةِ الأمْرِ؛ وتَوَعَّدَ مَن تَوَلّى بِعَذابِ الآخِرَةِ؛ أيْ: إنَّما عَلى الرَسُولِ أنْ يُبَلِّغَ؛ وعَلى المُرْسَلِ أنْ يُعاقِبَ؛ أو يُثِيبَ؛ بِحَسَبِ ما يُعْصى؛ أو يُطاعُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب