الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ .
اسْتِئْنافُ خِطابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تَقْفِيَةً عَلى الخِطابِ الَّذِي قَبْلَهُ لِيُنْظَمَ مَضْمُونُهُ في السِّلْكِ الَّذِي انْتَظَمَ فِيهِ مَضْمُونُ الخِطابِ السّابِقِ، وهو قَوْلُهُ (ولا تَعْتَدُوا) المُشِيرُ إلى أنَّ اللَّهَ كَما نَهى عَنْ تَحْرِيمِ المُباحِ، نَهى عَنِ اسْتِحْلالِ الحَرامِ وأنَّ اللَّهَ لَمّا أحَلَّ الطَّيِّباتِ حَرَّمَ الخَبائِثَ المُفْضِيَةَ إلى مَفاسِدَ، فَإنَّ الخَمْرَ كانَ طَيِّبًا عِنْدَ النّاسِ، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا ورِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٦٧] . والمَيْسِرُ كانَ وسِيلَةً لِإطْعامِ اللَّحْمِ مَن لا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. فَكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ كالِاحْتِراسِ عَمّا قَدْ يُساءُ تَأْوِيلُهُ مِن قَوْلِهِ ﴿لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧] .
وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ أنَّ المُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِن أقْوالِ عُلَمائِنا أنَّ النَّهْيَ عَنِ الخَمْرِ وقَعَ مُدَرَّجًا ثَلاثَ مَرّاتٍ: الأُولى حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ [البقرة: ٢١٩]، وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ نَهْيًا غَيْرَ جازِمٍ، فَتَرَكَ شُرْبَ الخَمْرِ ناسٌ كانُوا أشَدَّ تَقْوًى. فَقالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا في الخَمْرِ بَيانًا شافِيًا. ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ النِّساءِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣]، فَتَجَنَّبَ المُسْلِمُونَ شُرْبَها في الأوْقاتِ الَّتِي يُظَنُّ بَقاءُ السُّكْرِ مِنها إلى وقْتِ الصَّلاةِ؛ فَقالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنا في الخَمْرِ بَيانًا شافِيًا. (p-٢٢)ثُمَّ نَزَلَتِ الآيَةُ هَذِهِ. فَقالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنا.
والمَشْهُورُ أنَّ الخَمْرَ حُرِّمَتْ سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ بَعْدَ وقْعَةِ أُحُدٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ العُقُودِ ووُضِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ في مَوْضِعِها هُنا. ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مُلاحاةٍ جَرَتْ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ ورَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ. رَوى مُسْلِمٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ قالَ: أتَيْتُ عَلى نَفَرٍ مِنَ الأنْصارِ، فَقالُوا: تَعالَ نُطْعِمْكَ ونُسْقِكَ خَمْرًا وذَلِكَ قَبْلَ أنْ تُحَرَّمَ الخَمْرُ فَأتَيْتُهم في حُشٍّ، وإذا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ وزِقٌّ مِن خَمْرٍ، فَأكَلْتُ وشَرِبْتُ مَعَهم، فَذَكَرْتُ الأنْصارَ والمُهاجِرِينَ عِنْدَهم، فَقُلْتُ: المُهاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الأنْصارِ، فَأخَذَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ لَحْيَ جَمَلٍ فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ بِأنْفِي فَأتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَأخْبَرْتُهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيَّ ﴿إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ﴾ . ورَوى أبُو داوُدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنْتُمْ سُكارى﴾ [النساء: ٤٣] و﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩] نَسَخَتْهُما في المائِدَةِ ﴿إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ .
فَلا جَرَمَ كانَ هَذا التَّحْرِيمُ بِمَحَلِّ العِنايَةِ مِنَ الشّارِعِ مُتَقَدِّمًا لِلْأُمَّةِ في إيضاحِ أسْبابِهِ رِفْقًا بِهِمْ واسْتِئْناسًا لِأنْفُسِهِمْ، فابْتَدَأهم بِآيَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ولَمْ يُسَفِّهْهم فِيما كانُوا يَتَعاطَوْنَ مِن ذَلِكَ، بَلْ أنْبَأهم بِعُذْرِهِمْ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ [البقرة: ٢١٩]، ثُمَّ بِآيَةِ سُورَةِ النِّساءِ، ثُمَّ كَرَّ عَلَيْها بِالتَّحْرِيمِ بِآيَةِ سُورَةِ المائِدَةِ فَحَصَرَ أمْرَهُما في أنَّهُما رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ ورَجا لَهُمُ الفَلاحَ في اجْتِنابِهِما بِقَوْلِهِ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ، وأثارَ ما في الطِّباعِ مِن بُغْضِ الشَّيْطانِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ﴾ . ثُمَّ قالَ ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، فَجاءَ بِالِاسْتِفْهامِ لِتَمْثِيلِ حالِ المُخاطَبِينَ بِحالِ مَن بَيَّنَ لَهُ المُتَكَلِّمُ حَقِيقَةَ شَيْءٍ ثُمَّ اخْتَبَرَ مِقْدارَ تَأْثِيرِ ذَلِكَ البَيانِ في نَفْسِهِ.
وصِيغَةُ: هَلْ أنْتَ فاعِلٌ كَذا. تُسْتَعْمَلُ لِلْحَثِّ عَلى فِعْلٍ في مَقامِ الِاسْتِبْطاءِ، (p-٢٣)نَبَّهَ عَلَيْهِ في الكَشّافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ [الشعراء: ٣٩] في سُورَةِ الشُّعَراءِ، قالَ: ومِنهُ قَوْلُ تَأبَّطَ شَرًّا:
؎هَلْ أنْتَ باعِثُ دِينارٍ لِحاجَـتِـنَـا أوْ عَبْدِ رَبٍّ أخا عَوْنِ بْنِ مِخْراقِ
دِينارٌ اسْمُ رَجُلٍ، وكَذا عَبْدُ رَبٍّ. وقَوْلُهُ: أخا عَوْنٍ أوْ عَوْفٍ نِداءٌ، أيْ يا أخا عَوْنٍ. فَتَحْرِيمُ الخَمْرِ مُتَقَرِّرٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإنَّ وفْدَ عَبْدِ القَيْسِ وفَدُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ في سَنَةِ ثَمانٍ، فَكانَ مِمّا أوْصاهم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ لا يَنْتَبِذُوا في الحَنْتَمِ والنَّقِيرِ والمُزَفَّتِ والدُّبّاءِ، لِأنَّها يُسْرِعُ الِاخْتِمارُ إلى نَبِيذِها.
والمُرادُ بِالأنْصابِ هُنا عِبادَةُ الأنْصابِ. والمُرادُ بِالأزْلامِ الِاسْتِقْسامُ بِها، لِأنَّ عَطْفَها عَلى المَيْسِرِ يَقْتَضِي أنَّها أزْلامٌ غَيْرُ المَيْسِرِ.
قالَ في الكَشّافِ: ذِكْرُ الأنْصابِ والأزْلامِ مَعَ الخَمْرِ والمَيْسِرِ مَقْصُودٌ مِنهُ تَأْكِيدُ التَّحْرِيمِ لِلْخَمْرِ والمَيْسِرِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الخَمْرِ والمَيْسِرِ في آيَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الأنْصابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣]، والكَلامُ عَلى الأزْلامِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ﴾ [المائدة: ٣] في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وأكَّدَ في هَذِهِ الآيَةِ تَحْرِيمَ ما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ وتَحْرِيمَ الِاسْتِقْسامِ بِالأزْلامِ وهو التَّحْرِيمُ الوارِدُ في أوَّلِ السُّورَةِ والمُقَرَّرُ في الإسْلامِ مِن أوَّلِ البَعْثَةِ.
والمُرادُ بِهَذِهِ الأشْياءِ الأرْبَعَةِ هُنا تَعاطِيها، كُلٌّ بِما يُتَعاطى بِهِ مِن شُرْبٍ ولَعِبٍ وذَبْحٍ واسْتِقْسامٍ.
والقَصْرُ المُسْتَفادُ مِن (إنَّما) قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلى صِفَةٍ، أيْ أنَّ هَذِهِ الأرْبَعَةَ المَذْكُوراتِ مَقْصُورَةٌ عَلى الِاتِّصافِ بِالرِّجْسِ لا تَتَجاوَزُهُ إلى غَيْرِهِ، وهو ادِّعائِيٌّ لِلْمُبالَغَةِ في عَدَمِ الِاعْتِدادِ بِما عَدا صِفَةَ الرِّجْسِ مِن صِفاتِ هَذِهِ الأرْبَعَةِ. ألا تَرى أنَّ اللَّهَ قالَ في سُورَةِ البَقَرَةِ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ﴿قُلْ فِيهِما إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٩]، فَأثْبَتَ لَهُما الإثْمَ، وهو صِفَةٌ (p-٢٤)تُساوِي الرِّجْسَ في نَظَرِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأنَّ الإثْمَ يَقْتَضِي التَّباعُدَ عَنِ التَّلَبُّسِ بِهِما مِثْلُ الرِّجْسِ. وأثْبَتَ لَهُما المَنفَعَةَ، وهي صِفَةٌ تُساوِي نَقِيضَ الرِّجْسِ، في نَظَرِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأنَّ المَنفَعَةَ تَسْتَلْزِمُ حِرْصَ النّاسِ عَلى تَعاطِيهِما، فَصَحَّ أنَّ لِلْخَمْرِ والمَيْسِرِ صِفَتَيْنِ. وقَدْ قَصَرَ في آيَةِ المائِدَةِ عَلى ما يُساوِي إحْدى تَيْنِكَ الصِّفَتَيْنِ أعْنِي الرِّجْسَ، فَما هو إلّا قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ يُشِيرُ إلى ما في سُورَةِ البَقَرَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿وإثْمُهُما أكْبَرُ مِن نَفْعِهِما﴾ [البقرة: ٢١٩]، فَإنَّهُ لَمّا نَبَّهَنا إلى تَرْجِيحِ ما فِيهِما مِنَ الإثْمِ عَلى ما فِيهِما مِنَ المَنفَعَةِ فَقَدْ نَبَّهَنا إلى دَحْضِ ما فِيهِما مِنَ المَنفَعَةِ قُبالَةَ ما فِيهِما مِنَ الإثْمِ حَتّى كَأنَّهُما تَمَحَّضا لِلِاتِّصافِ بِـ فِيهِما إثْمٌ، فَصَحَّ في سُورَةِ المائِدَةِ أنْ يُقالَ في حَقِّهِما ما يُفِيدُ انْحِصارَهُما في أنَّهُما فِيهِما إثْمٌ، أيِ انْحِصارُهُما في صِفَةِ الكَوْنِ في هَذِهِ الظَّرْفِيَّةِ كالِانْحِصارِ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿إنْ حِسابُهم إلّا عَلى رَبِّي﴾ [الشعراء: ١١٣]، أيْ حِسابُهم مَقْصُورٌ عَلى الِاتِّصافِ بِكَوْنِهِ عَلى رَبِّي، أيِ انْحَصَرَ حِسابُهم في مَعْنى هَذا الحَرْفِ. وذَلِكَ هو ما عَبَّرَ عَنْهُ بِعِبارَةِ الرِّجْسِ.
والرِّجْسُ الخُبْثُ المُسْتَقْذَرُ والمَكْرُوهُ مِنَ الأُمُورِ الظّاهِرَةِ، ويُطْلَقُ عَلى المَذَمّاتِ الباطِنَةِ كَما في قَوْلِهِ ﴿وأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥]، وقَوْلِهِ ﴿إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ﴾ [الأحزاب: ٣٣] . والمُرادُ بِهِ هُنا الخَبِيثُ في النُّفُوسِ واعْتِبارِ الشَّرِيعَةِ. وهو اسْمُ جِنْسٍ فالإخْبارُ بِهِ كالإخْبارِ بِالمَصْدَرِ، فَأفادَ المُبالَغَةَ في الِاتِّصافِ بِهِ حَتّى كَأنَّ هَذا المَوْصُوفَ عَيْنُ الرِّجْسِ. ولِذَلِكَ أُفْرِدَ (رِجْسٌ) مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنْ مُتَعَدِّدٍ لِأنَّهُ كالخَبَرِ بِالمَصْدَرِ.
ومَعْنى كَوْنِها مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ أنَّ تَعاطِيَها بِما تُتَعاطى لِأجْلِهِ مِن تَسْوِيلِهِ لِلنّاسِ تَعاطِيَها، فَكَأنَّهُ هو الَّذِي عَمِلَها وتَعاطاها. وفي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ لِمُتَعاطِيها بِأنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الشَّيْطانِ، فَهو شَيْطانٌ. وذَلِكَ مِمّا تَأْباهُ النُّفُوسُ.
(p-٢٥)والفاءُ في فاجْتَنِبُوهُ لِلتَّفْرِيعِ وقَدْ ظَهَرَ حُسْنُ مَوْقِعِ هَذا التَّفْرِيعِ بَعْدَ التَّقَدُّمِ بِما يُوجِبُ النُّفْرَةَ مِنها. والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في قَوْلِهِ فاجْتَنِبُوهُ عائِدٌ إلى الرِّجْسِ الجامِعِ لِلْأرْبَعَةِ. ولَعَلَّكم تُفْلِحُونَ رَجاءٌ لَهم أنْ يُفْلِحُوا عِنْدَ اجْتِنابِ هَذِهِ المَنهِيّاتِ إذا لَمْ يَكُونُوا قَدِ اسْتَمَرُّوا عَلى غَيْرِها مِنَ المَنهِيّاتِ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] . وقَدْ بَيَّنْتُ ما اخْتَرْتُهُ في مَحْمَلِ (لَعَلَّ) وهو المُطَّرِدُ في جَمِيعِ مَواقِعِها، وأمّا المَحامِلُ الَّتِي تَأوَّلُوا بِها (لَعَلَّ) في آيَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ فَبَعْضُها لا يَتَأتّى في هَذِهِ الآيَةِ فَتَأمَّلْهُ.
واجْتِنابُ المَذْكُوراتِ هو اجْتِنابُ التَّلَبُّسِ بِها فِيما تَقْصِدُ لَهُ مِنَ المَفاسِدِ بِحَسَبِ اخْتِلافِ أحْوالِها؛ فاجْتِنابُ الخَمْرِ اجْتِنابُ شُرْبِها؛ والمَيْسِرِ اجْتِنابُ التَّقامُرِ بِهِ، والأنْصابِ اجْتِنابُ الذَّبْحِ عَلَيْها؛ والأزْلامِ اجْتِنابُ الِاسْتِقْسامِ بِها واسْتِشارَتِها. ولا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذا الِاجْتِنابِ اجْتِنابُ مَسِّها أوْ إراءَتِها لِلنّاسِ لِلْحاجَةِ إلى ذَلِكَ مِنَ اعْتِبارٍ بِبَعْضِ أحْوالِها في الِاسْتِقْطارِ ونَحْوِهُ، أوْ لِمَعْرِفَةِ صُوَرِها، أوْ حِفْظِها كَآثارٍ مِنَ التّارِيخِ، أوْ تَرْكِ الخَمْرِ في طَوْرِ اخْتِمارِها لِمَن عَصَرَ العِنَبَ لِاتِّخاذِهِ خَلًّا، عَلى تَفْصِيلٍ في ذَلِكَ واخْتِلافٍ في بَعْضِهِ.
فَأمّا اجْتِنابُ مُماسَّةِ الخَمْرِ واعْتِبارُها نَجِسَةً لِمَن تَلَطَّخَ بِها بَعْضُ جَسَدِهِ أوْ ثَوْبِهِ فَهو مِمّا اخْتَلَفَ فِيهِ أهْلُ العِلْمِ؛ فَمِنهم مَن حَمَلُوا الرِّجْسَ في الآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَمْرِ عَلى مَعْنَيَيْهِ المَعْنَوِيِّ والذّاتِيِّ، فاعْتَبَرُوا الخَمْرَ نَجِسَ العَيْنِ يَجِبُ غَسْلُها كَما يَجِبُ غَسْلُ النَّجاسَةِ، حَمْلًا لِلَفْظِ الرِّجْسِ عَلى جَمِيعِ ما يَحْتَمِلُهُ. وهو قَوْلُ مالِكٍ. ولَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ في قِداحِ المَيْسِرِ ولا في حِجارَةِ الأنْصابِ ولا في الأزْلامِ، والتَّفْرِقَةُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلاثِ وبَيْنَ الخَمْرِ لا وجْهَ لَها مِنَ النَّظَرِ. ولَيْسَ في الأثَرِ ما يُحْتَجُّ بِهِ لِنَجاسَةِ الخَمْرِ. ولَعَلَّ كَوْنَ الخَمْرِ مائِعَةً هو الَّذِي قَرَّبَ شَبَهَها بِالأعْيانِ النَّجِسَةِ، فَلَمّا وُصِفَتْ بِأنَّها رِجْسٌ حُمِلَ في خُصُوصِها عَلى مَعْنَيَيْهِ. وأمّا ما ورَدَ في حَدِيثِ أنَسٍ أنَّ كَثِيرًا مِنَ (p-٢٦)الصَّحابَةِ غَسَلُوا جِرارَ الخَمْرِ لَمّا نُودِيَ بِتَحْرِيمِ شُرْبِها فَذَلِكَ مِنَ المُبالَغَةِ في التَّبَرُّؤِ مِنها وإزالَةِ أثَرِها قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ النَّظَرِ فِيما سِوى ذَلِكَ، ألا تَرى أنَّ بَعْضَهم كَسَّرَ جِرارَها، ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِوُجُوبِ كَسْرِ الإناءِ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ. عَلى أنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ ولَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ . وذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى عَدَمِ نَجاسَةِ عَيْنِ الخَمْرِ. وهو قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، والمُزَنِيِّ مِن أصْحابِ الشّافِعِيِّ، وكَثِيرٍ مِنَ البَغْدادِيِّينَ مِنَ المالِكِيَّةِ ومِنَ القَيْرَوانِيِّينَ؛ مِنهم سَعِيدُ بْنُ الحَدّادِ القَيْرَوانِيِّ. وقَدِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ الحَدّادِ عَلى طَهارَتِها بِأنَّها سُفِكَتْ في طُرُقِ المَدِينَةِ، ولَوْ كانَتْ نَجَسًا لَنُهُوا عَنْهُ، إذْ قَدْ ورَدَ النَّهْيُ عَنْ إراقَةِ النَّجاسَةِ في الطُّرُقِ. وذَكَرَ ابْنُ الفَرَسِ عَنِ ابْنِ لُبابَةَ أنَّهُ أقامَ قَوْلًا بِطَهارَةِ عَيْنِ الخَمْرِ مِنَ المَذْهَبِ. وأقُولُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أنَّ الخَمْرَ لَيْسَتْ نَجِسَ العَيْنِ، وأنَّ مَساقَ الآيَةِ بَعِيدٌ عَنْ قَصْدِ نَجاسَةِ عَيْنِها، إنَّما القَصْدُ أنَّها رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ، ولِذَلِكَ وصَفَهُ بِأنَّهُ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، وبَيَّنَهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ﴾، ولِأنَّ النَّجاسَةَ تَعْتَمِدُ الخَباثَةَ والقَذارَةَ ولَيْسَتِ الخَمْرُ كَذَلِكَ، وإنَّما تَنَزَّهَ السَّلَفُ عَنْ مُقارَبَتِها لِتَقْرِيرِ كَراهِيَّتِها في النُّفُوسِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ﴾ بَيانٌ لِكَوْنِها مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ. ومَعْنى يُرِيدُ يُحِبُّ وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ كَوْنِ الإرادَةِ بِمَعْنى المَحَبَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ [النساء: ٤٤] في سُورَةِ النِّساءِ.
وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى العَداوَةِ والبَغْضاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وألْقَيْنا بَيْنَهُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ﴾ [المائدة: ٦٤] في هَذِهِ السُّورَةِ.
وقَوْلُهُ ﴿فِي الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾ أيْ في تَعاطِيهِما، عَلى مُتَعارَفِ إضافَةِ الأحْكامِ إلى الذَّواتِ، أيْ بِما يَحْدُثُ في شُرْبِ الخَمْرِ مِن إثارَةِ الخُصُوماتِ والإقْدامِ (p-٢٧)عَلى الجَرائِمِ، وما يَقَعُ في المَيْسِرِ مِنَ التَّحاسُدِ عَلى القامِرِ، والغَيْظِ والحَسْرَةِ لِلْخاسِرِ، وما يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّشائُمِ والسِّبابِ والضَّرْبِ. عَلى أنَّ مُجَرَّدَ حُدُوثِ العَداوَةِ والبَغْضاءِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ أرادَ أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُونَ إخْوَةً إذْ لا يَسْتَقِيمُ أمْرُ أُمَّةٍ بَيْنَ أفْرادِها البَغْضاءُ. وفي الحَدِيثِ «لا تَباغَضُوا ولا تَحاسَدُوا وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوانًا» .
و(في) مِن قَوْلِهِ ﴿فِي الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ أوِ الظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ، أيْ في مَجالِسِ تَعاطِيهِما.
وأمّا الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَلِما في الخَمْرِ مِن غَيْبُوبَةِ العَقْلِ، وما في المَيْسِرِ مِنَ اسْتِفْراغِ الوَقْتِ في المُعاوَدَةِ لِتَطَلُّبِ الرِّبْحِ.
وهَذِهِ أرْبَعُ عِلَلٍ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، فَلا جَرَمَ أنْ كانَ اجْتِماعُها مُقْتَضِيًا تَغْلِيظَ التَّحْرِيمِ. ويُلْحَقُ بِالخَمْرِ كُلُّ ما اشْتَمَلَ عَلى صِفَتِها مِن إلْقاءِ العَداوَةِ والبَغْضاءِ والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ. ويُلْحَقُ بِالمَيْسِرِ كُلُّ ما شارَكَهُ في إلْقاءِ العَداوَةِ والبَغْضاءِ والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ، وذَلِكَ أنْواعُ القِمارِ كُلِّها أمّا ما كانَ مِنَ اللَّهْوِ بِدُونِ قِمارٍ كالشَّطْرَنْجِ دُونَ قِمارٍ، فَذَلِكَ دُونَ المَيْسِرِ، لِأنَّهُ يَنْدُرُ أنْ يَصُدَّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ، ولِأنَّهُ لا يُوقِعُ في العَداوَةِ والبَغْضاءِ غالِبًا، فَتَدْخُلُ أحْكامُهُ تَحْتَ أدِلَّةٍ أُخْرى.
والذِّكْرُ المَقْصُودُ في قَوْلِهِ ﴿عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ يُحْتَمَلُ أنَّهُ مِنَ الذِّكْرِ اللِّسانِيِّ فَيَكُونُ المُرادُ بِهِ القُرْآنَ وكَلامَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذِي فِيهِ نَفْعُهم وإرْشادُهم، لِأنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلى بَيانِ أحْكامِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ فَإذا انْغَمَسُوا في شُرْبِ الخَمْرِ وفي التَّقامُرِ غابُوا عَنْ مَجالِسِ الرَّسُولِ وسَماعِ خُطَبِهِ وعَنْ مُلاقاةِ أصْحابِهِ المُلازِمِينَ لَهُ، فَلَمْ يَسْمَعُوا الذِّكْرَ ولا يَتَلَقَّوْهُ مِن أفْواهِ سامِعِيهِ فَيَجْهَلُوا شَيْئًا كَثِيرًا فِيهِ ما يَجِبُ عَلى المُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ. فالشَّيْءُ الَّذِي يَصُدُّ عَنْ هَذا هو مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ يَسْتَحِقُّ أنْ يُحَرَّمَ تَعاطِيهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ بِهِ الذِّكْرُ القَلْبِيُّ وهو تَذَكُّرُ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ ونَهى عَنْهُ فَإنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ هو ذِكْرُ اللَّهِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: أفْضَلُ مِن ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أمْرِهِ ونَهْيِهِ. فالشَّيْءُ الَّذِي يَصُدُّ عَنْ تَذَكُّرِ أمْرِ اللَّهِ ونَهْيِهِ هو ذَرِيعَةٌ لِلْوُقُوعِ في مُخالَفَةِ الأمْرِ وفي اقْتِحامِ (p-٢٨)النَّهْيِ. ولَيْسَ المَقْصُودُ بِالذِّكْرِ في هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرَ اللَّهِ بِاللِّسانِ لِأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنهُ بِواجِبٍ عَدا ما هو مِن أرْكانِ الصَّلاةِ فَذَلِكَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وعَنِ الصَّلاةِ.
وقَوْلُهُ ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ الفاءُ تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ﴾ الآيَةَ، فَإنَّ ما ظَهَرَ مِن مَفاسِدِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ كافٍ في انْتِهاءِ النّاسِ عَنْهُما فَلَمْ يَبْقَ حاجَةٌ لِإعادَةِ نَهْيِهِمْ عَنْهُما، ولَكِنْ يُسْتَغْنى عَنْ ذَلِكَ بِاسْتِفْهامِهِمْ عَنْ مَبْلَغِ أثَرِ هَذا البَيانِ في نُفُوسِهِمْ تَرْفِيعًا بِهِمْ إلى مَقامِ الفَطِنِ الخَبِيرِ، ولَوْ كانَ بَعْدَ هَذا البَيانِ كُلِّهِ نَهاهم عَنْ تَعاطِيها لَكانَ قَدْ أنْزَلَهم مَنزِلَةَ الغَبِيِّ، فَفي هَذا الِاسْتِفْهامِ مِن بَدِيعِ لُطْفِ الخِطابِ ما بَلَغَ بِهِ حَدَّ الإعْجازِ.
ولِذَلِكَ اخْتِيرَ الِاسْتِفْهامُ بِـ هَلِ الَّتِي أصْلُ مَعْناها (قَدْ) . وكَثُرَ وُقُوعُها في حَيِّزِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، فاسْتَغْنَوْا بِـ (هَلْ) عَنْ ذِكْرِ الهَمْزَةِ، فَهي لِاسْتِفْهامٍ مُضَمَّنٍ تَحْقِيقَ الإسْنادِ المُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وهو أنْتُمْ مُنْتَهُونَ، دُونَ الهَمْزَةِ إذْ لَمْ يَقُلْ: أتَنْتَهُونَ، بِخِلافِ مَقامِ قَوْلِهِ ﴿وجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠] . وجُعِلَتِ الجُمْلَةُ بَعْدَ ”هَلْ“ اسْمِيَّةً لِدَلالَتِها عَلى ثَباتِ الخَبَرِ زِيادَةً في تَحْقِيقِ حُصُولِ المُسْتَفْهَمِ عَنْهُ، فالِاسْتِفْهامُ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ، وأُرِيدَ مَعَها مَعْناهُ الكِنائِيُّ، وهو التَّحْذِيرُ مِنِ انْتِفاءِ وُقُوعِ المُسْتَفْهَمِ عَنْهُ. ولِذَلِكَ رُوِيَ أنَّ عُمَرَ لَمّا سَمِعَ الآيَةَ قالَ: انْتَهَيْنا انْتَهَيْنا. ومِنَ المَعْلُومِ لِلسّامِعِينَ مِن أهْلِ البَلاغَةِ أنَّ الِاسْتِفْهامَ في مِثْلِ هَذا المَقامِ لَيْسَ مُجَرَّدًا عَنِ الكِنايَةِ. فَما حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ مِن قَوْلِهِ: إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ فَقُلْنا: لا. إنْ صَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ. ولِي في صِحَّتِهِ شَكٌّ، فَهو خَطَأٌ في الفَهْمِ أوِ التَّأْوِيلِ. وقَدْ شَذَّ نَفَرٌ مِنَ السَّلَفِ نُقِلَتْ عَنْهم أخْبارٌ مِنَ الِاسْتِمْرارِ عَلى شُرْبِ الخَمْرِ، لا يُدْرى مَبْلَغُها مِنَ الصِّحَّةِ. ومَحْمَلُها إنْ صَحَّتْ عَلى أنَّهم كانُوا يَتَأوَّلُونَ قَوْلَهَ تَعالى ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ عَلى أنَّهُ نَهْيٌ غَيْرُ جازِمٍ. ولَمْ يَطُلْ ذَلِكَ بَيْنَهم.
(p-٢٩)قِيلَ: إنَّ قُدامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، ولّاهُ عُمَرُ عَلى البَحْرَيْنِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أبُو هُرَيْرَةَ والجارُودُ بِأنَّهُ شَرِبَ الخَمْرَ، وأنْكَرَ الجارُودُ، وتَمَّتِ الشَّهادَةُ عَلَيْهِ بِرَجُلٍ وامْرَأةٍ. فَلَمّا أرادَ عُمَرُ إقامَةَ الحَدِّ عَلَيْهِ قالَ قُدامَةُ: لَوْ شَرِبْتُها كَما يَقُولُونَ ما كانَ لَكَ أنْ تَجْلِدَنِي. قالَ عُمَرُ: لَمْ، قالَ: لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [المائدة: ٩٣]، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: أخْطَأْتَ التَّأْوِيلَ إنَّكَ إذا اتَّقَيْتَ اللَّهَ اجْتَنَبْتَ ما حَرَّمَ عَلَيْكَ. ويُرْوى أنَّ وحْشِيًّا كانَ يَشْرَبُ الخَمْرَ بَعْدَ إسْلامِهِ، وأنَّ جَماعَةً مِنَ المُسْلِمِينَ مِن أهْلِ الشّامِ شَرِبُوا الخَمْرَ في زَمَنِ عُمَرَ، وتَأوَّلُوا التَّحْرِيمَ فَتَلَوْا قَوْلَهُ تَعالى ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا﴾ [المائدة: ٩٣]، وأنَّ عُمَرَ اسْتَشارَ عَلِيًّا في شَأْنِهِمْ، فاتَّفَقا عَلى أنْ يُسْتَتابُوا وإلّا قُتِلُوا. وفي صِحَّةِ هَذا نَظَرٌ أيْضًا. وفي كُتُبِ الأخْبارِ أنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ نَزَلَ عَلى عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ في مَحَلَّةِ بَنِي زُبَيْدٍ بِالكُوفَةِ فَقَدَّمَ لَهُ عَمْرُو خَمْرًا، فَقالَ عُيَيْنَةُ: أوَلَيْسَ قَدْ حَرَّمَها اللَّهُ. قالَ عَمْرُو: أنْتَ أكْبَرُ سِنًّا أمْ أنا، قالَ عُيَيْنَةُ: أنْتَ. قالَ: أنْتَ أقْدَمُ إسْلامًا أمْ أنا، قالَ: أنْتَ. قالَ: فَإنِّي قَدْ قَرَأْتُ ما بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، فَواللَّهِ ما وجَدْتُ لَها تَحْرِيمًا إلّا أنَّ اللَّهَ قالَ: ﴿فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾، فَقُلْنا: لا. فَباتَ عِنْدَهُ وشَرِبا وتَنادَما، فَلَمّا أرادَ عُيَيْنَةُ الِانْصِرافَ قالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ:
؎جُزِيتَ أبا ثَـوْرٍ جَـزاءَ كَـرامَةٍ ∗∗∗ فَنِعْمَ الفَتى المُزْدارُ والمُتَـضَـيِّفُ
؎قَرَيْتَ فَأكْرَمْتَ القِرى وأفَـدْتَـنَـا ∗∗∗ تَحِيَّةَ عِلْمٍ لَمْ تَكُنْ قَبْلُ تُـعْـرَفُ
؎وقُلْتَ: حَـلالٌ أنْ نُـدِيرَ مُـدامَةً ∗∗∗ كَلَوْنِ انْعِقاقِ البَرْقِ واللَّيْلُ مُسْدِفُ
؎وقَدَّمْتَ فِـيهَـا حُـجَّةً عَـرَبِـيَّةً ∗∗∗ تَرُدُّ إلى الإنْصافِ مَن لَيْسَ يُنْصِفُ
؎ (p-٣٠)وأنْتَ لَنا واللَّهِ ذِي العَـرْشِ قـُدْوَةٌ ∗∗∗ إذا صَدَّنا عَنْ شُرْبِها المُتَكَـلِّـفُ
؎نَقُولُ: أبُو ثَوْرٍ أحَـلَّ شَـرابَـهَـا ∗∗∗ وقَوْلُ أبِي ثَـوْرٍ أسَـدُّ وأعْـرَفُ
وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُنْتَهُونَ لِظُهُورِهِ، إذِ التَّقْدِيرُ: فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ عَنْهُما، أيْ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، لِأنَّ تَفْرِيعَ هَذا الِاسْتِفْهامِ عَنْ قَوْلِهِ ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ﴾ يُعَيِّنُ أنَّهُما المَقْصُودُ مِنَ الِانْتِهاءِ.
واقْتِصارُ الآيَةِ عَلى تَبْيِينِ مَفاسِدِ شُرْبِ الخَمْرِ وتَعاطِي المَيْسِرِ دُونَ تَبْيِينِ ما في عِبادَةِ الأنْصابِ والِاسْتِقْسامِ بِالأزْلامِ مِنَ الفَسادِ، لِأنَّ إقْلاعَ المُسْلِمِينَ عَنْهُما قَدْ تَقَرَّرَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ مِن حِينِ الدُّخُولِ في الإسْلامِ لِأنَّهُما مِن مَآثِرِ عَقائِدِ الشِّرْكِ، ولِأنَّهُ لَيْسَ في النُّفُوسِ ما يُدافِعُ الوازِعَ الشَّرْعِيَّ عَنْهُما بِخِلافِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، فَإنَّ ما فِيهِما مِنَ اللَّذّاتِ الَّتِي تُزْجِي بِالنُّفُوسِ إلى تَعاطِيهِما قَدْ يُدافِعُ الوازِعَ الشَّرْعِيَّ؛ فَلِذَلِكَ أُكِّدَ النَّهْيُ عَنْهُما أشَدَّ مِمّا أُكِّدَ النَّهْيُ عَنِ الأنْصابِ والأزْلامِ.
{"ayahs_start":90,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ","إِنَّمَا یُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُوقِعَ بَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ فِی ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَیۡسِرِ وَیَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَیۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَـٰمُ رِجۡسࣱ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق